قرأت الحوار الذي أجرته مؤخرا صحيفة " أخر لحظة" مع القطب الاتحادي الشيخ حسن أبو سبيب، حول تراجع دور الحزب الاتحادي الديمقراطي في الساحة السياسية، حيث أشار إلي الأسباب التي أدت لتراجعات الحزب الاتحادي الديمقراطي، رغم إن كلماته كانت مختصرة دون تفاصيل مطولة، و لكنها كانت إشارات عميقة المعني و الدلالة، عندما قال ( حزبنا مأزوم و حالة حزبنا الراهنة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشاكل البلاد فهي تدور معها وجودا و عدما، فإذا حلت مشاكل الحزب الاتحادي فبالطبع ستحل مشاكل السودان في تقديري) و هي نظرة فكرية عميقة الدلالة، فالرجل ربط حل مشكلة البلاد بحل مشكلة الحزب الاتحادي الديمقراطي و ليس بالعكس، باعتبار إن القضية مترابطة و متداخلة من الناحية الاجتماعية و تفاعلاتها، فالحزب الاتحادي يمثل الطبقة الوسطي التي يقع عليها عبء التغيير في المجتمع، و هي الطبقة أيضا التي تحدث التنوير في المجتمع، لذلك ضعف هذه الطبقة هو الذي أثر علي دور الحزب، و إذا انتعشت الطبقة حتما سوف تلعب دورها التنويري في عملية النهضة. و معلوم تاريخيا، كان الاتحاديون يمثلون الطبقة الجديدة " الوسطي" في المجتمع، و هؤلاء جاءوا من خلفيات مختلفة، و أحزاب اتحادية مختلفة و متباينة في رؤاها، و هم أقرب لمفهوم الحركة عن الحزب، و كان المطلوب أن يؤسسوا لحوار فكري يؤدي لمقاربات بينهم، كما كان يقول الشريف زين العابدين الهندي إنهم في طور التخلق، إلا إن طور التخلق قد قطع بسبب التراجع و الضعف الذي واجهته الطبقة الوسطي، حيث إن الاتحاديين بمسمياتهم و مجموعاتهم المختلفة المتشظية باستمرار، يمثلون الطبقة الوسطي و هي طبقة قلقة، و تقوي الحركة الاتحادية كلما تعافت الطبقة، و تضعف عند ضعفها، و تبقي إشارة الشيخ أبو سبيب مرتبطة بهذه التحديات التي تواجه هذه الطبقة في المجتمع، خاصة إن البلاد في حكم الإنقاذ تعاني من أزمة اقتصادية حادة، تسببت في تراجع جزء كبير جدا من الطبقة إلي الطبقي الدنيا، حيث وصل دخل البعض إلي دون خط الفقر، الأمر الذي أثر تأثيرا كبيرا في ضعف دور هذه الطبقة في المجتمع، مما ساعد علي انتشار الحروب و النزاعات في البلاد، و معلوم إن الطبقة الوسطي كما قال عالم الاجتماع ماكس فيبر، إناه الطبقة التي تقع بين طبقتين في المجتمع العليا و الدنيا، و بالتالي يقع علي عبئها حفظ التوازن الاجتماعي، و هي التي تحدث التغيير. فهذه الطبقة تعاني الآن من ضعف مما نعكس علي دورها و أدائها، و بالتالي انعكس علي الحركة الاتحادية، مما سبب داخلها انقسامات عديدة، أدت لسيطرة الطائفة عليها. يقول الشيخ أبو سبيب لعدم المؤسسية و الانقسامات و التشققات التي أصابت الحزب الاتحادي ( إن مشكلة الحزب الأساسية تكمن في عدم وجود مؤسسات سياسية ديمقراطية منتخبة، و هذه مشكلة كبيرة، لذلك لا يمكن حل مشاكل الحزب إلا بقيام هذه المؤسسات. و ليس بمقدور أي تيار داخل الحزب من صناعة هذه المؤسسات إلا بقيام المؤتمر العام للحزب، و انتخاب المؤسسة من داخله) إن مشكلة الحركة الاتحادية إنها تجميع لقوي مختلفة، و لم يحصل لها انصهار، لغياب البرنامج السياسي، و الاتفاق علي مرجعية فكرية واحدة، هناك من يتبني الديمقراطية الليبرالية، و آخرين الديمقراطية الاجتماعية، و بعد حادثة معهد المعلمين، التي كان قد أثارها الإسلاميين بدأ يظهر الحديث عن إسلامية الدولة، و غيرها من المفاهيم التي لم يتم الحوار حولها داخليا، حتى يتفق علي مرجعية فكرية واحدة، و من ثم تتحول الحركة الاتحادية لحزب سياسي تحكمه هذه المرجعية الفكرية. كان علي نخبة الاستقلال التي أنجزت مهمتها بجدارة، أن تفطن لعملية الحوار الفكري الداخلي، و لكنها أهملته، حتى حصل الانشقاق في الحزب " وطني اتحادي و شعب ديمقراطي" و كان من المفترض أن يسير الوطني الاتحادي بالشعارات الديمقراطية، و أن تدفع النخبة القيادية في تأسيس القاعدة الفكري التي تتبني مسيرة دعم الديمقراطية، و ما يخدم ترسيخها في المجتمع، لكن حصل العكس بعد ثورة أكتوبر، سلكت الطريق السهل أن توافق علي رجوع الطائفة للحزب، لأنها فكرت في السلطة، و ليست في قضية تقوية العوامل التي تساعد علي بناء النظام الديمقراطي و المؤسسة الديمقراطية، فجاءت قضية وحدة الحزب من " الوطني الاتحادي و حزب الشعب الديمقراطي" و خرج الجنين " الحزب الاتحادي الديمقراطي" و الذي يعاني من تصدع في البنيان التنظيمي و الفكري من جانب، و الجانب الآخر دخول الطائفية بنظمها و ثقافتها، المغايرة لثقافة المؤسسة السياسية الديمقراطية، الأمر الذي حدث تنازعا داخليا بدلا عن الانصهار، إلي جانب أن الطائفة دائما تبحث عن مصالحها الخاصة، و لا تهمها المصلحة العامة، أو المصلحة الوطنية، لأنها تعتقد أن المصلحة الوطنية يجب أن تدور مع مصلحتها الخاصة، غير إن الطائفة تمارس السياسية من خلال ثقافتها و علي أن يكون الولاء للزعيم هو مفتاح التقدم و الترقي في الحزب، الأمر الذي جلب عناصر تنفيذية ضعيفة من الناحيتين الفكرية و التنظيمية، هذا الضعف مقصود، لكي يسيطر زعيم الطائفة علي الحزب سيطرة كاملة، بحكم تواضع المقدرات التي يمتلكها، و هو الأمر الذي لم يفصح عنه الشيخ أبو سبيب، و جعل الإشارة تقود لفهمه، و هي علة الحزب الاتحادي. و عندما يقول الشيخ أبو سبيب ( إن رئيس الحزب قابض علي السلطة كلها داخل الاتحادي، و لا فكاك منها إلا بقيام المؤتمر العام للحزب) و الشيخ أبو سبيب ليس لم يكن حوار شيخ الطائفة، يتعامل مع السياسة من خلال هذا الوصف، بل إن الرجل جاء للطائفة و للحزب بعد رحلة سياسية في صفوف الأخوان المسلمين، و هذه ليس خصما علي الرجل، بقدر ما هيه في مصلحته الذاتية، إنه يتعامل مع الأشياء من خلال نظرة موضوعية للأشياء، بعيدا عن العتبات المقدسة التي تفرضها الطائفة علي الآخرين، الأمر الذي يجعله يقدم رؤيته بما يعتقد هو ألصاح، و ليس ما يرضي زعيم الطائفة، و بالتالي يعرف أن السيد محمد عثمان الميرغني يتعامل داخل المؤسسة الحزبية بالطريقة التي يتعامل بها داخل الطائفة، الأمر الذي أدي لنفور العديد من مثقفي الحزب. و في بقية المجموعات الأخرى للحركة الاتحادية، أن كل قيادة في مجموعة لا تريد أن تتنازل عن القيادة لمصلحة وحدة الحركة، و انعقاد المؤتمر الذي يختار القيادة التي تريدها جماهير الحركة الاتحادية، فالقضية الديمقراطية و ضعف ثقافتها عند النخب الاتحادية، هي السبب الرئيسي وراء عدم وحدة المجموعات الاتحادية، و هي السبب أيضا أن تجعل هذه النخب تدخل في نزاعات وصراعات تستنزف طاقتها، الأمر الذي أضعف الإنتاج الفكري وسط النخب الاتحادية، و هي المعضلة التي تعاني منها كل القوي السياسية السودانية دون استثناء. إن قبضة السيد محمد عثمان الميرغني علي مفاصل الحزب كما ذكر الشيخ أبو سبيب، أيضا تعود إلي قوة المال، الموظف ليس من أجل تطوير و تحديث الحزب و دعم نشاطاته، إنما من أجل أن تحافظ الطائفة علي احتكارها للحزب، و أن تمارس من خلال المال عملية الترغيب للعناصر التي لا تبحث إلا عن مصالحها الخاصة، في الوقت الذي تخلت فيه البرجوازية الوطنية عن دورها في دعم الحزب، بعد ما مارست عليها السلطة الحصار و أرهقتها بالضرائب، و رفض تقديم التسهيلات لها، الأمر الذي جعل البعض يذهب للسلطة الحاكمة حماية لأعمالهم و مصالحهم، فهيئت الفرصة التي جعلت الطائفة هي المصدر الأساسي للتمويل، و الغريب في الأمر إن الطائفة لم تصرف علي الحزب من مالها الخاص، إنما من الدعم الذي يتحصل عليه الحزب من الدوائر الصديقة، و أيضا لسبب مكانته عند الجماهير السودانية. و الجانب الأخر الداعم للطائفة هو المؤتمر الوطني الحاكم، الذي يحتاج فقط لاسم السيد الميرغني، و ليس للحزب الاتحادي الديمقراطي، و تحالف الطائفة مع النظام الشمولي ليس هو التحالف الأول، بل الطائفة تحالفت مع كل النظم العسكرية الشمولية التي مرت علي البلاد، من نظام عبود إلي نظام نميري و أخيرا الإنقاذ، و كل هذه التحالفات الهدف منها هو حماية مصالح الطائفة الذاتية، و الحزب تستخدمه من أجل هذه الأغراض، و ليس من أجل مصالح وطنية و قضية ديمقراطية و غيرها، فإشارة الشيخ أبو سبيب صحيحة إن السيد الميرغني قابض علي مفاصل الحزب، و لن يسمح بقيام المؤتمر العام للحزب، حتى إذا كان صوريا، لأن المؤتمر سوف يعطي أية هيئة منتخبة شرعية يمكن أن تقرر داخل الحزب، و تتجاوز السيد الميرغني، باعتبارها قيادات منتخبة من المؤتمر، و لا يستطيع أية شخص عزلها أو إقالتها من مواقعها غير المؤتمر الذي انتخبها، و لكن الآن الكل يأخذ شرعيته من السيد الميرغني، الذي يعينهم في المواقع، و من حقه إقالتهم في أية وقت، و تحالفه مع السلطة سوف لن تجعل مفوضية الأحزاب تضغط عليه، أو تطالبه أن يجري أية انتخابات عامة تفقد السيد الميرغني قبضته علي الحزب، خاصة إن الحزب الحاكم يعلم إن جماهير الحزب رافضة تماما لأية تقارب بين الحزبين، أو المشاركة في النظام الشمولي، لذلك يأمر الحزب الحاكم مفوضية الأحزاب أن لا تبت في أية قضية تتعلق بالمؤتمر العام للحزب الاتحادي الديمقراطي، فقيام المؤتمر العام في يد النخبة الديمقراطية، علي أن تتمرد علي السيد الميرغني نفسه، و في نفس الوقت أن توفر الدعم المالي المطلوب، الذي يساعدها علي تحقيق أهدافها، و لكن محاولة بعض القيادات إقناع السيد الميرغني لكي يقيم المؤتمر، هو حرث في البحر، و في نفس الوقت هي قضية صورية لا تحدث إصلاحا حقيقيا ينهض بهذا الحزب. أما المجموعات الأخرى هي تمارس ذات نهج السيد الميرغني بطرق مختلفة، و لكنها لا تختلف عن طريقة الطائفة في شيء، و الملاحظ إن الشرعية في تلك المجموعات لا تعتمد علي عنصر الكفاءة و ديمقراطية الاختيار، إنما تعتمد علي الانتساب لقيادات الاستقلال، فالذي لم يتم اختياره ديمقراطيا يذهب و يؤسس حزبا أخرى، يأخذ فيه الرئاسة، و يمكن أن يساوم علي الوحدة لكي يرجع للقيادة من باب غير ديمقراطي، هذا الفهم في العمل السياسي، يؤدي إلي الانقسامات المستمرة في الحركة الاتحادية، و لا يؤسس علي قواعد الوحدة الناجحة. إن النخب الاتحادية التي تحاول أن تجعل هناك توافقا بين الحزب في مساره الديمقراطي و الطائفية، هؤلاء يتهربون من الطريق الصواب، باعتبار إن الديمقراطية و الطائفية خصمان لا يلتقيان، لاختلاف المصالح بين الجانبين، و أية نخبة اتحادية ديمقراطية تتطلع إلي الإصلاح في الحزب، و لا تفارق طريق الطائفة، هي تعيد إنتاج الأزمة بصور جديدة، و يحدث ذلك لآن النخب التي ترفع راية الإصلاح ليست عن قناعة و إرادة، إنما تبحث عن مواقعها برفع هذه الراية، إضافة إن الأغلبية غير مؤهلة من الناحية الفكرية و قوة الإرادة التي تجعلها في تحدي مع الطائفية، و هي معركة مرتبطة كما قال الشيخ أبو سبيب بقضايا الوطن، أي بانتعاش الطبقة الوسطي في المجتمع لكي تستطيع أن تحدث تغييرات جوهرية في مسار الحركة الاتحادية الفكرية و التنظيمية، و لكن في الظرف الحالي لا تستطيع النخبة الديمقراطية في الحركة الاتحادية أن تحدث أية إصلاح، أو تقصي الطائفة المتحالفة مع النظام، و أية تغيير في نظام الحكم سوف لن يكون في مصلحة الطائفة، التي بدأت تفقد مواقعها التاريخية. و نسأل الله التوفيق. نشر في جريدة إيلاف بالخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة