هناك شواهد عديدة تشير إلي ضعف العلاقة بين الدولة والفرد في الأونة الأخيرة ، كنتيجة لتراجع إهتمام الدولة بالمواطن وتقصيرها الواضح في حقوقه كمواطن ، وقد إنعكس ذلك بصورة واضحة على الإنتماء القومي على مستوى الأفراد والجماعات ، إذ سادت حالة من اللامبالاة تجاه كل ما يخص الشأن العام ، هذه الحالة يمكن ملاحظتها في نمط من السلوك بدأ شائعا بين الناس بصفة عامة ، وهو مسلك يلجأ إليه الناس تحت وطأة ظروف معينة مثل فقدان الثقة في الدولة ، أو ظلم وقع له من قبل الدولة ، أو غيرها من الأسباب التي تتمحور في العلاقة بين المواطن والدولة ، إذ يعتبر هؤلاء الناس أن الدولة كانت هي السبب فيه ، والأمثلة كثيرة لهذا النمط من السلوك ، مثلا ، السلوك غير المسئول في التعامل مع الممتلكات العامة الإنصراف وعدم الإهتمام بالأمور التي تخص الشأن الوطني ، الحديت المتكرر حول الهجرة والتذمر المستمر من البقاء في البلد ، ويصل الأمر إلي مدى بعيد حين يصل إلي السعي لاكتساب هوية جديدة بدلا من هوية الوطن الأم ، عن طريق اللجوء أو التوطين في بلاد جديدة ، أو تفضيل بعض المجموعات الحدودية لهوية البلاد المجاورة التي لها تداخل سكاني مع البلاد ، هروبا من الواقع ، ويدخل في ذلك الإتجاه نحو الإنتماءات الفرعية كالقبيلة أو الإقليم الجغرافي ( الجهة ) وهذه الظاهرة ليست قاصرة على فئة محددة من المواطنين ، إذ نجدها بصفة عامة لدى مختلف الشرائح والأفراد . أن معدلات هذا السلوك بصفة عاماة ترتفع بين الأجيال الجديدة التي لم تحظ بمؤسسات تربوية على المستويين الرسمي والمجتمعي تتولى غرس بذورالإنتماء وحب للوطن ، وغابت عنها دروس التربية الوطنية في الحياة العامة ، ومن سوء حظها أنها وجدت سلوكا وقيما لا تكترث لما هو عام ووطني وتختلف عما كان سائدا من قبل ، سواءً في الشارع العام ، أو في المؤسسات الاجتماعية والتربوية ، وحتى في البيت ، كما واجهت هذه الأجيال ظروفا دقيقة في فترة بدايات الإنقاذ حرب الجنوب ( الجهاد ) حيث كان التجنيد يتم قسرا لإلحاقهم بالمعارك وبعد ذلك الصعوبات التي واجهتهم في حياتهم اليومية كالمعاناة من البطالة ، والظروف الاقتصادية الضاغطة على أسرهم ، وبعض منهم شهدت مناطقهم ومجتمعاتهم فظائع الحروب من إقتتال وتشريد ونزوح وهجرة اإلي المدن وغيرها من الأسباب . على مستوى المجموعات والشرائح الاجتماعية شهدت الفترة الأخيرة ظهور متغيرات جديدة على المسرح السياسي في العقود الماضية ، مثل تراجع تأثير الطبقة الوسطى في المدن والتي كانت تجسد هذا الإنتماء القومي فكريا وثقافيا واجتماعيا ، فالإختلاط الاجتماعي للسكان في المدن يمثل سمة من سمات المجتمع القومي ، كذلك فإن هذه الطبقة هي التي نشرت الوعي بالقومية من خلال وجودها في مؤسسات الدولة المنتشرة في أرجاء البلاد ، وهي الطبقة التي أسست لفكرة الهوية المبنية على القومية الواحدة في بواكير ظهور الحركة الوطنية ، وكانت تمثل كل المكونات الاجتماعية في كل مناطق الوطن . أيضا ، من الظواهر التي عملت على إضعاف الإنتماء القومي في الفترة الأخيرة ، تفشي القبلية والجهوية في المجتمع ، حيث أصبحت القبيلة تلعب أدوارا سياسية لم تكن في السابق موكولة لها أو من شئونها ، فأصبحت لها مطالب مثلها مثل النقابات تتفاوض مع السلطات لتحقيق مكاسب سياسية للقبيلة خاصة في المناصب السياسية المحلية والقومية ، في مقابل تأييد القبيلة للحكومة ، وقد أستغل ذلك بعض المتعلمين من أبناء هذه القبائل المتطلعين لشغل مناصب في الدولة ، وأنشاءوا ما يعرف بمجالس الشورى في العاصمة بالرغم أن المكان الطبيعي لهذه المجالس هو حيث يعيش هؤلاء الناس وحيث توجد المشاكل التي تحتاج للعلاج .
الإنكفاء الذي حدث عند تطبيق أنظمة إدرارية لا مركزية دون مراعاة لحالة المجتمعات قلصت حركة آليات الإنتماء القومي بإلغاء ركائزها التي قامت عليها ، وجاء تطبيق هذه الأنظمة الإدارية لتحقيق غايات سياسية طغت على الأهداف الموضوعية لهذه الأنظمة الإدارية فالحكم الإقليمي الذي طبقه نظام مايو ، والحكم الفيدرالي في عهد الإنقاذ هياءا الفرصة لتمدد الإنتماء القبلي على حساب الإنتماء القومي ، وأسهما في إنحسار المد القومي ، ويبدو أن الأيديولوجيتين لهذين النظامين لتوجهاتهما الأممية لم يكترثا للإنتماء القومي القُطري . أن غرس الإنتماء القومي للوطن مسئولة عنه الدولة حيث تعمل كل أجهزتها ومؤسساتها وإداراتها من اجل هذا الهدف ، وإذا لم تستشعر الدولة هذه المسئولية وتبنت اجندة تعمل علي تفتيت الإنتماء لأهداف خاصة بمجموعة من المجموعات ، فإنها بلا شك تصبح أول يحمل معول لهدم الدولة نفسها .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة