بين علي بن الجهم الخراساني ، وهو شاعر فصيح لكنه كان اعرابيا لا يعرف من الحياة الا ما يراه في الصحراء ، فبينه والخليفة المتوكل خليفة الدولة العباسية وكان خليفة متمكنا ، قصة شهيرة مفادها ان علي بن الجهم نزل ذات مرة الى بغداد فقيل له : ان من يمدح الخليفة يحظى عنده ويلقى من الأعطيات ما يسره ، فاستبشر ابن الجهم بذلك وقصد قصر الخلافة ، فوجد الخليفة في مجلسه وبحضرته نخبة من فحول شعراء الدولة العباسية ينشدون ، فأنشد ابن الجهم في الخليفة قوله : انت كالكلب في الوفاء .. وكالتيس في قراع الخطوب .. أنت كالدلو لا عدمت دلوا .. من كبار الدلاء كثير الذنوب .. وهنا ثارت ثورة الحراس ، واستل السياف سيفه يريد ضرب عنق ابن الجهم واعد للقتل عدته ، فأدرك الخليفة ان عليا بن الجهم غلبت عليه طبيعته فأراد ان يغيرها ، فأمر بأن يسكنوه الرصافة حيث المياه الجارية والخضرة والحدائق والقصور المنيفة ، ذاق ابن الجهم النعمة بالرصافة فجالس ارق الشعراء وتمتع بخدمة الحشم له وظل على ذلك طيلة سبعة اشهر كاملات ثم عاد الى مجلس الخليفة مرة اخرى فأنشد في مجلسه قائلا : عيون المها بين الرصافة والجسر .. جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري .. أعدن لي الشوق القديم ولم اكن ... سلوت ولكن زدن جمرا على جمري ... ومضى يحرك المشاعر بأرق الكلمات ثم شرع يصف الخليفة بالشمس والسيف والنجم بعد ان كان قد وصفه بالتيس والعنز والبئر والتراب . فما كان بين الخليفة المتوكل وعلي بن الجهم ، هو الان بين الدولة والشعب في لغة الخطاب من حيث الخشونة ، فالدولة هي علي بن الجهم رغم الرصافة التي لم تفلح في تغيير مفردات الخطاب الموجه الى الشعب وهو ( المتوكل ) ويأبى غالبا الا ان يأتي على شاكلة ( السودان ظريف الا عايز مصاريف ، وعصر الزيوت ) .. في الوقت الذي تفرض فيه الحاجة الماسه نفسها الى تقريب وجهات النظر بين ( المتوكل وابن الجهم ) عبر خطاب يمنح ل ( المتوكل ) حقه في الاحترام ، وان ينظر اليه ( ابن الجهم ) بعين العناية والتقدير من خلال اختيار مفردات رشيقة وانيقة ومحترمة . ولعل الرصافة التي تجلس عليها الدولة كفيلة بيئتها بان تغير مفردات الخطاب بأخرى جديدة تسمو الى مكانة ( المتوكل ) لتصبح بها العلاقة بين الطرفين قوية تقود الى عناصر بناء انسان تحترمه الدولة عبر خطاب متزن يعتبر بمثابة اللبنة الاولى التي تؤسس عليها قواعد اصلاح الدولة والتي بموجبها يجب ان ترتكز على خطاب اعلامي متزن ومنضبط بالشكل الذي يحقق المقصد الاول منه وهو المؤسسات التي يخدمها ويخدم فيها ذلك الانسان المحترم ، لا انسان ( يطلعوا زيتو ) او انسان يتخاطب معه مسؤول بلغة ( السودان ظريف لكن عايز مصاريف ) . مسؤولية الخطاب الرسمي هي مسؤولية مشتركة بحيث يتبادل الجانبان منافعه( المتوكل وابن الجهم ) بما يؤدي الى التجاوب المنشود مع مضمون الخطاب او الرسالة الموجهة كما تقول لغة الاعلام والتي تأتي نتائجها مباشرة حسب لغة الخطاب . خلاصة القول انه يجب ان على الدولة ان تعيد صياغة خطابها حتى يخرج من بين مفرداته زرعا وخضرة ، وايمانا وبشرى ، وانسانا معطاء لا عنيدا سواء كان هذا الانسان موالي او معارض ، لانه في الاخر هو من تراب هذا الوطن ومفردات الرسالة الموجهة اليه هي التي تصوغه وتشكل طاقاته التي تحتاجها الدولة فهو محرك مؤسساتها وقانونها ...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة