بدأ الشتاء، هبت رياح الشمال الباردة فاكتسحت أوراق الاشجار المتكومة في الافنية ، فتطايرت في الفضاء مثل الفراشات. كان شيخ النور يجلس في الشمس أمام المسيد، تعوّد منذ وفاة والده المسن قبل أيام أن يقضي معظم وقته في المسيد، هرع الناس جميعا الي الحواشات فأصبحت القرية خالية وموحشة، جاء بعد قليل سليمان الاعرج وحاج سعيد وفارس المجنون، قال شيخ النور: وانت السنة دي ما ناوي تزرع؟ قال فارس: زراعة شنو السنة الفاتت شلت سلفية من البنك وزرعت يوم الحصاد جو ناس البنك شالوا المحصول كلو ووكت ما كفاهم ساقوني انا ذاتي معاهم! وضحك شيخ النور وقال : أخير ليهم كان يسوقوا حمارك يمكن يجيب أحسن منك في السوق ويتم ليهم قروشم الناقصة ! وقال الحاج سعيد: وداير تعمل شنو يا ولدي داير تمشي العمرة؟ قال فارس: السنة الفاتت مشيت حاولت العمرة قالوا تمشي في الاول تعمل الخدمة الالزامية في الجيش ، مشيت غيرت الجواز بعمر كبير برضو لقيتهم زادو سن الخدمة الوطنية. لكن السنة دي عندي فكرة جديدة. قال شيخ النور: أها ناوي علي شنو. قال فارس : داير أمشي أجاهد في الجنوب! ضحك شيخ النور واشار الي جركان العرقي الصغير الذي يحمله فارس المجنون في حله وترحاله وقال : انت جهاد نفسك غلبك ماشي تجاهد الناس التانيين! قال فارس : دة بزنس، قالو تمشي تقضي كم شهر هناك، طبعا ما تمشي تكابس قدام، تكون في الصفوف الورا، تجيب الموية للناس البيحاربو، تربط لي زول مجروح يدو، تعمل ليهو جبيرة لو اتكسر، بعد تكمل كم شهر يدوك شهادة مجاهد، دي لمن ترجع بتفتح ليك الدرب! سمعوا من علي البعد صوت عزف حزين علي الصفارة، تسرّب الصوت ببطء في خمول الضحي واختلط برائحة القهوة ودخان النار التي بدأت النسوة في اعداد خبز القراصة لطعام الفطور عليها. قال العم سعيد : دة باين عليه سيد قيلة! ظهر امامهم بعد قليل سيّد قيلة المتسول الموسمي، يظهر في القرية في مطلع الشتاء ويختفي فجأة ليظهر في نفس الوقت بعد عام، توقف سيّد وحياهم من علي البعد وطلب حسنة لوجه الله، كان ينادي بصوت جهوري ويتسوّل من موقف قوة وثقة وكأنه يطالب بحقوق له عندهم، وبدا في ضوء الضحى الفاتر، كأنهم هم الشحاذين وليس هو. كان يطالب في الغالب بمبالغ ضخمة ليستثمر الصدمة في الحصول علي مبالغ معقولة، أصدر أمره : شيخ النور داير لي مية ألف !. ضحك شيخ النور وقال : لو بعت الحلة دي كلها بناسها وبهائمها ما تجيب ليك ربع المبلغ دة! أصدر سيد قيلة أمره البديل : طيب أديني بطانية أبوك تبقي ليه صدقة جارية. ضحك شيخ النور وقال : يا اخوي ابوي لو كان عندو بطانية ما كان مات، أبوي مات بالبرد! قال مخاطبا شيخ النور وكأن فارس المجنون غير موجود: فارس دة ظروفو كيف داير لي منو عشرة ألف !. قال شيخ النور : فارس دة راسمالو الجركان دة، لو داير عرقي ممكن تتملي فل، لكن كاش والله اعلم ما عندو! ضحك فارس وقال : نتصدق بالعرقي كمان ولا شنو؟ واصل سيد قيلة مخاطبة شيخ النور وكأنه وكيله المعتمد للشحاذة: وعمك سعيد دة كيف، ولدو ما قعد يرسل ليه من السعودية ما يشوف لي مية ألف؟ قال شيخ النور: نقيت علي ولدو من السنة الفاتت قالو هسع طردوه، لم في الكفيل دقاهو دق الرخصة عملو ليه خروج بدون عودة! حتي الحج ذاتو ما يقدر يمشيهو تاني! وسأل سيد قيلة: وهسع شغال وين ولدو؟ قال شيخ النور : رجع قالوا شغال سمسار في السوق العربي. نفض سيد قيلة جلبابه الممزق وجيوبه المحشوة بالورق وقال: أحسن، بترولنا طلع .. بعد دة ممكن الناس يجوا يحجوا عندنا!. ضحك شيخ النور وقال : بترولك دة وينو أما ما شفنا منو التكتح، نفس الجوع والغلاء، أمبارح محمد علي ودا اولادو المستشفي عندهم اسهال، قبل ما يطعنوا الجلكوز للولد قالوا لي ابوه يدفع تمنو!وكت غلبو يدفع ساق الاولاد وشرد من المستشفي! واردف شيخ النور: انت بدل كدة ما تمشي مع فارس الجنوب تجاهدوا وتاخدوا شهادة الجهاد قالوا بتفتح ليكم الدروب يمكن بعد داك تلقوا ليكم قطعة واطة يا سلفية من البنك يسددوها اولادكم بعدين! عبر في تلك اللحظة حسن المجنون الذي يركب علي ظهر حماره طوال اليوم، يقف في مكان واحد ونادرا ما يتحرّك بحماره الى أية مكان، وأحيانا كان يتحدث مع حماره بصوت هامس مثل صديق عزيز، فاجأه سيد قيلة: أديني الحمار دة يا حسن بديك صفارة بوص! أثبت حسن المجنون أنّه يمكنه بيع صديقه وقت الضيق، نزل من على حماره علي الفور وسلّمه لسيد قيلة، وتسلّم صفارة البوص، ضحك سيد قيلة بصوته الاجش وهو ينفض الغبار بضربات يده القوية على السرج، وقال : والله المجانين في الحلة دي أحسن من العقّال! قبل ان يضرب الحمار ويمضي. نسي حسن حماره بسرعة وجلس بجانبهم يعزف علي الصفّارة، وواصل شيخ النور كلامه مع فارس: وانت هسّع ضامن تجي راجع من الجنوب حي؟ وقال فارس: ما قلت ليك انا ماشي أقيف بي ورا، أجيب الموية واعالج الجروح، ولو في زول إستشهد نستره!. وقال شيخ النور: طيب الضربة ما ممكن تجي من ورا. ولا يقوم بيك لغم يبقي بدل ما تلم قرشين وتجي تعرّس، يعرسوا ليك الحور العين. قال فارس : وعرس زي دة كويس معاكم هنا تمشوا تتملوا علي حساب الحكومة واكون انا رحت شمار في مرقة. وقال شيخ النور: ميزتو الوحيدة عرس الشهيد انو ما فيهو كشف! أخرج فارس المجنون ورقة وقلما ليحسب الارباح المحتملة من رحلة الجهاد، غفا شيخ النور قليلا ثم استيقظ علي صوت اذان الظهر، تساءل قائلا : يا اخوانا أنا فسيت؟ شميتو ليكم شئ؟ خايف يكون الوضوء اتقطع!. لم يجبه احد ، كان فارس مشغولا بحساباته، فيما مضي حسن المجنون بعيدا ونغمات صفارته تمزق صمت الحياة في الشتاء.
للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة