أحلام مهدرة (قصة قصيرة).

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 05:17 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2006م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-28-2006, 05:39 AM

أبوبكر عبد القادر العاقب
<aأبوبكر عبد القادر العاقب
تاريخ التسجيل: 08-03-2006
مجموع المشاركات: 348

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أحلام مهدرة (قصة قصيرة).

    عندما لمعت تلك الفكرة في رأسه قفز مثل من لسعته رتيلا ، كان وقتها يجلس على الرصيف مثل بلد بلا وجيع ، لم يكن يفكر في شيء محدد وإنما كان يقلب دفتر همومه صفحة صفحة ويتطلع فيه سطراً سطراً عله يجد رابطا بين تلك المشاكل التي تحاصره. حتى تلك الفكرة التي طرقت ذهنه لم يكن موضوعها ضمن الهموم التي كان يستعرضها.
    عندما قفز واقفا كان هنالك شخص آخر يجلس على مقربة منه مطرقاً إلى الأرض، رفع الرجل نظره بتعب، تطلع فيه برخاوة ثم رد عينيه كأنه تعب من رفع جفنيه إلى الأعلى ، أما هو فدون أن ينظر إلى أسفل بدأ يبحث عن فردة حذائه في الأرض ممرراً قدمه على المكان الذي كان يجلس فيه وعندما عثر عليها امتطاها وتحرك وفي رأسه تلتمع بعض الأشياء التي جلتها تلك الفكرة.
    إنسل من وسط تلك الزحمة راجياً أن يصل إلى مقصده بأسرع ما يمكن ، تعمد أن يسلك طرقات فرعية تفادياً للزحام وطمعاً في تقليب بعض الأفكار في رأسه. كانت قدماه تسيران بطريقة آلية والرأس طاحونة تدور وتدور وبين الفينة والأخرى يغمغم ببعض الكلمات غير المفهومة . تارةً تسمعه يقول "سبحان الله" وتارة أخرى "أبو الكلاب الزرق" . كان يتساءل بينه وبين نفسه من أين لماء النيل كل هذه القدرات . وإذا كان الماء قادراً على أن يغسل الغبار والعرق والأوساخ عن الأجساد ، فمن أين له القدرة على أن يغسل التعب وحراق الروح والضبلنة. من أين للماء كل هذا السحر الخلاب الذي يتبدل نوعاً وكماً بين الليل والنهار.
    زعقت مكابح سيارةٍ على أحد الطرقات القريبة فاندلق الماء من أفكاره وحلّ محله الإنسان الذي صنع السيارة ومكابحها وهبطت المدنيّة بكل لغطها على أعصابه فسمع صوتاً طفولياً يخرج من المذياع "بابا ما أبدع هذا المعجون المنقط " فيجيبه صوت أجش " هذا خردل تو بخلاصة اللالوب " . سبحانك ربي جمعت بين الخردل واللالوب كما جمعت بين الكاكي والسكروتة.
    ما بال المسافة أصبحت طويلة هكذا ، كنت أمشيها في أقل من هذا الوقت ، هل أنا تَعِبٌ لهذا الحد؟ لالا، لا أظن ، لعلها اللهفة فقط جعلت المشوار يبدو أطول مما هو في الواقع. إذن فالمسألة مسألة احساس بالوقت والمسافة لا غير ، الوقت هو الوقت والمسافة هي المسافة إنما تغير احساسك بهما. ترى هل سيأتي يوم يتغير فيه إحساسك تجاه ماء النيل ، تجاه تلك اللبخة الضخمة التي تراها في النهار القائظ مستودعاً للظل الرحيم وتراها في الليل رابضة مثل البعاتي أو ود أم بعلو. ضحك بأعلى صوته سراً حين تذكر ود أم بعلو وكيف أنه كان يخشاه في ليالي الخريف المظلمة ويقمع رغبات مثانته خوف الخروج في الظلام.
    لفحت أنفه رائحة طفحت من بعض المجاري المفتوحة ، تذكر مديره في الإدارة التي كان يعمل بها وفصل منها لغير ما صالح. مرّ ذلك المدير في رأسه بكلماته الرخوة وتفكيره المسطح ، كان شخصاً لزجاً وقذراً مثل جدران الحمامات العامة في سوق شعبي. ورغم أسفه على ضياع وظيفتة في ذلك الوقت إلا أنه كان يشعر بقدر من الراحة لكونه تخلص من ذلك الشخص الذي يناكف من أجل المناكفة.
    كاد ينكفئ على وجهه عندما تعثر في حجز منغرزٍ في الأرض، نظر إلى حذائه بعطف شديد ، خشي أن يكون قد أصابه الضرر فتوقف ليلقي عليه نظرة وبعد أن اطمأن واصل سيره وهو يعظ نفسه بضرورة الانتباه ويحاول استحضار العديد من العبارات المكرورة مثل " في العجلة الندامة " و " قدِّر لرجلك قبل الخطو ... " و ...
    آآآآآآه لقد وصلت أخيراً ، إنها ضفة النيل والشمس قد لامست الأفق محمرةً ليست كالدمعة الحمراء وإنما مثل الشمس عندما تميل للمغيب. عَبَر الطريق الفاصل بينه وبين النيل وتدحرج بين أكوام من مخلفات البناء التي تراكمت على الشاطئ شاقاً طريقه صوب الماء ، أحس بطعم الماء على جلده وهو يتجه نحوه وشعر بقدر كبير من الاسترخاء والراحة.
    عندما أصبح على حافة الماء خلع نعليه ووضعهما جانبا ثم خلع قميصه واختار له مكاناً لا يصله فيه البلل . تحركت نسمة رفيقة في الجو فارتعش قلبه مثل عصفور في بدايات الرُشاش ودون أن يشعر وجد نفسه يدندن لحناً فرايحياً . استرسل مع الأغنية فقرر أن يغنيها كلها قبل أن ينزل إلى الماء ، لكن شوقه للماء لا يقاوم ، خلع البنطلون ونزل إلى الماء حتى منتصف ساقيه ، لم يتمالك نفسه ، وجد نفسه يرفع صوته بالغناء شيئاً فشيئاً حتى خيل إليه أن هذا الصوت ليس صوته وإنما لأحد الجن الذين يخرجون مع الغروب كما كانت تحدثه جدته ، زاد صوته ارتفاعاً واللحن يزداد حلاوةً ودفئاً وحميميةً والماء الذي يغمره حتى منتصف الساقين يزداد تغلغلاً في مسام الجسد والروح.
    فجأة من بين طبقات صوته وصل إلى أذنه صوت لا يعرفه ، صوت أجش واستعلائي ، " إنت يا زول بتعمل في شنو؟ " ، " معاك منو ؟ " ، " بتكورك مالك نص الليل ؟ " ، انهمرت الأسئلة مثلما تنهمر الأسئلة غير المرغوب فيها ، فجةً ووقحة وعدوانية تبعث الضيق في النفس وتثير الرغبة في الشجار. حاول أن يتجاهل ذلك الصوت ، لكن ذلك لم يكن ممكناً إذ أن صاحب الصوت كان يتحرك ناحيته
    يا بشر إنت ، أنا بتكلم معاك " ، خرج من صمته
    معاي أنا ؟"
    ردّ الصوت " ومال مع حبوبتي؟".
    أيقن آنئذ أن أمسيته التي حلم بها أصبحت في عداد المفقودين ، جر رجليه خارجاً من الماء وعندما خرج تماماً من الماء كان صاحب الصوت في وجهه ، ملابس من الكاكي الأخضر تنم عن سلطة ما وحذاء أسود فاحم .
    شن صاحب الصوت هجوماً جديداً ،
    " وين البت الكانت معاك ؟"،
    ردّ
    " بت شنو يا زول ، أنا جيت أستحم براي وماشي " ،
    " بتنكر آآآ ، وديتا وين ، تعال هنا قريب شكلك كمان مسطول ، عيونك الصغار ديل "
    تساقطت عليه التهم كتلة لزجة شلت قدرته على التفكير أو رد الفعل ، شعر بالعجز الكامل جرجره صاحب الصوت دون أن يسمح له بأن يلبس قميصه ، جرجره مسافة طويلة حتى أوصله إلى القسم حيث سلمه إلى شرطي وقال له " بلاغ إزعاج عام "
    حشره الشرطي بين عدد من البشر لم يستطع أن يميز ملامحهم من شد ما كانوا متلاصقين في المكان الضيق ذاك، شبك يديه على ساقيه ضاماً فخذيه إلى بطنه ووضع رأسه على ركبتيه وعاد به ذهنه إلى الماء والنيل واعترته ضبلنةٌ نام على إثرها والبلاط الخشن يتعشي من إليته.

    (عدل بواسطة أبوبكر عبد القادر العاقب on 09-12-2006, 09:09 AM)

                  

08-28-2006, 09:52 AM

بابكر عثمان مكي
<aبابكر عثمان مكي
تاريخ التسجيل: 06-11-2006
مجموع المشاركات: 879

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أحلام مهدرة (قصة قصيرة). (Re: أبوبكر عبد القادر العاقب)

    ابوبكر ...

    النص يتوافق مع نكبات اغسطس

    سأرمى كل العتاب على النيل الذى لايحمينا حين نكون فى اشد الحاجة اليه ..

    لن اعتب على عسكرى ترك المدينة وجاء يتلصص على العشاق .

    فقد القمتنى امى فى تلافيف الرغيف الحنين بعض من صبر لتزيل عنى غبن العساكر والسؤال

    هنيئا" لعتبة السجن الغبشاء باليتين بريئتين .

    هذا زمن وئد الحريات فى وطنى

    فآخر الساحات قد ملئت وجعا" ولامتسع الا لوردة ملطخة مدم

    محظور فى بلادى كل اشكال التعبير دليلا" على احتجاجى

    فتقيئى المستمر فى جلابيبهم البيض مصدر ازعاجهم ومابين شاربى وشفتى


    غبار من الصمت المركب .


    الوم على قلمك الذى اجرى النص بعض التناقض فى الزمان بين (نص الليل) على لسان العسكرى والمغيب على لسان قلمك الا اذاكان الامر افتراء عساكر

    لك الشكر على النص

    (عدل بواسطة بابكر عثمان مكي on 08-28-2006, 09:57 AM)

                  

08-28-2006, 10:00 AM

bayan
<abayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أحلام مهدرة (قصة قصيرة). (Re: بابكر عثمان مكي)

    شكرا لك على هذه الاستراحة..
    انهم يسرقون الاحلام ويفتشون الضمائر

    مودتي وننتظر الجديد...يا ابي بكر
                  

08-29-2006, 00:59 AM

أبوبكر عبد القادر العاقب
<aأبوبكر عبد القادر العاقب
تاريخ التسجيل: 08-03-2006
مجموع المشاركات: 348

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أحلام مهدرة (قصة قصيرة). (Re: أبوبكر عبد القادر العاقب)

    أخي الفاضل بابكر ، شكر بريحة الدعاش في بلادي ، مرورك أسعدني وأضاف للنص دفعاً جديداً ،
    لا أدري إن كنا نحن الذين يجب أن نلوم النيل لأنه لا يحمينا أم أنه الذي يلومنا لأننا لم نحافظ عليه ورمينا في وجهه مخلفات البناء وقذارات مدنيتنا، ربما لو نطق النيل لسبنا
    ليس هنالك تناقض بين ما ورد في النص على أن الزمان هو وقت الغروب وبين ما قاله العسكري إذ أن العسكري عمد إلى المبالغة لتهويل الجرم ومن ثم تعميق حالة التشفي ،

    دمت لنا ولا تحرمنا من طلتك ،
                  

08-29-2006, 01:05 AM

أبوبكر عبد القادر العاقب
<aأبوبكر عبد القادر العاقب
تاريخ التسجيل: 08-03-2006
مجموع المشاركات: 348

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أحلام مهدرة (قصة قصيرة). (Re: أبوبكر عبد القادر العاقب)
                  

08-31-2006, 05:07 AM

ابي عزالدين البشري
<aابي عزالدين البشري
تاريخ التسجيل: 03-28-2006
مجموع المشاركات: 1178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أحلام مهدرة (قصة قصيرة). (Re: أبوبكر عبد القادر العاقب)

                  

09-06-2006, 01:51 AM

أبوبكر عبد القادر العاقب
<aأبوبكر عبد القادر العاقب
تاريخ التسجيل: 08-03-2006
مجموع المشاركات: 348

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أستاذي أبي (Re: أبوبكر عبد القادر العاقب)

    أستاذي الفاضل أبي البشرى،
    ألف شكر على اللحن وأشياء أخرى، لا عدمناك
    ودمت لنا.

    (عدل بواسطة أبوبكر عبد القادر العاقب on 09-06-2006, 01:53 AM)

                  

09-14-2006, 05:33 AM

أبوبكر عبد القادر العاقب
<aأبوبكر عبد القادر العاقب
تاريخ التسجيل: 08-03-2006
مجموع المشاركات: 348

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أحلام مهدرة (قصة قصيرة). (Re: أبوبكر عبد القادر العاقب)

    التقيت أستاذي الكريم أبي البشرى وأفدت منه الكثير في معرض تعليقه على هذا النص وعلى الكتابة بشكل عام بموسوعيته المدهشة وإلمامه بفنون الكتابة واللغات. وفي ما يخص هذا النص فقد أدخلت عليه بعض التعديلات وأورده هنا كاملاً بعد التعديل.




    عندما لمعت تلك الفكرة في رأسه قفز مثل من لسعته (رتيلا). كان وقتها يجلس على الرصيف مثل بلد بلا وجيع ، لم يكن يفكر في شيء محدد وإنما كان يقلب دفتر همومه صفحة صفحة ويتطلع فيه سطراً سطراً عله يجد رابطا بين تلك المشاكل التي تحاصره. حتى تلك الفكرة التي طرقت ذهنه لم يكن موضوعها ضمن الهموم التي كان يستعرضها.
    عندما قفز واقفا كان هنالك شخص آخر يجلس على مقربة منه مطرقاً إلى الأرض، رفع الرجل نظره بتعب، تطلع فيه برخاوة ثم رد عينيه كأنه تعب من رفع جفنيه إلى الأعلى ، أما هو فدون أن ينظر إلى أسفل بدأ يبحث عن فردة حذائه في الأرض مُمِرّاً قدمه على المكان الذي كان يجلس فيه وعندما عثر عليها امتطاها وتحرك وفي رأسه تلتمع بعض الأشياء التي جلتها تلك الفكرة.
    إنسل من وسط تلك الزحمة راجياً أن يصل إلى مقصده بأسرع ما يمكن ، تعمد أن يسلك طرقات فرعية تفادياً للزحام وطمعاً في تقليب بعض الأفكار في رأسه. كانت قدماه تسيران بطريقة آلية والرأس طاحونة تدور وتدور وبين الفينة والأخرى يغمغم ببعض الكلمات غير المفهومة . تارةً تسمعه يقول "سبحان الله" وتارة أخرى "أبو الكلاب الزرق" . كان يتساءل بينه وبين نفسه من أين لماء النيل كل هذه القدرات . وإذا كان الماء قادراً على أن يغسل الغبار والعرق والأوساخ عن الأجساد ، فمن أين له القدرة على أن يغسل التعب و(حراق الروح) و(الضبلنة). من أين للماء كل هذا السحر الخلاب الذي يتبدل نوعاً وكماً بين الليل والنهار.
    زعقت مكابح سيارةٍ على أحد الطرقات القريبة فاندلق الماء من أفكاره وحلّ محله الإنسان الذي صنع السيارة ومكابحها وهبطت المدنيّة بكل لغطها على أعصابه فسمع صوتاً طفولياً يخرج من المذياع "بابا ما أبدع هذا المعجون المنقط " فيجيبه صوت أجش " هذا (خردل تو) بخلاصة اللالوب " . سبحانك ربي جمعت بين الخردل واللالوب كما جمعت بين الكاكي والسكروتة.
    ما بال المسافة أصبحت طويلة هكذا ، كنت أمشيها في أقل من هذا الوقت ، هل أنا تَعِبٌ لهذا الحد؟ لالا، لا أظن ، لعلها اللهفة فقط جعلت المشوار يبدو أطول مما هو في الواقع. إذن فالمسألة مسألة احساس بالوقت والمسافة لا غير ، الوقت هو الوقت والمسافة هي المسافة إنما تغير احساسك بهما. ترى هل سيأتي يوم يتغير فيه إحساسك تجاه ماء النيل ، تجاه تلك اللبخة الضخمة التي تراها في النهار القائظ مستودعاً للظل الرحيم وتراها في الليل رابضة مثل البعاتي أو ود أم بعلو. ضحك بأعلى صوته سراً حين تذكر ود أم بعلو وكيف أنه كان يخشاه في ليالي الخريف المظلمة ويقمع رغبات مثانته خوف الخروج في الظلام.
    لفحت أنفه رائحة طفحت من بعض المجاري المفتوحة ، تذكر مديره في الإدارة التي كان يعمل بها وفصل منها لغير ما صالح. مرّ ذلك المدير في رأسه بكلماته الرخوة وتفكيره المسطح ، كان شخصاً لزجاً وقذراً مثل جدران الحمامات العامة في سوق شعبي. ورغم أسفه على ضياع وظيفتة في ذلك الوقت إلا أنه كان يشعر بقدر من الراحة لأنه تخلص من ذلك الشخص الذي يناكف من أجل المناكفة.
    كاد ينكفئ على وجهه عندما تعثر في حجر منغرزٍ في الأرض، نظر إلى حذائه بعطف شديد ، خشي أن يكون قد أصابه الضرر فتوقف ليلقي عليه نظرة وبعد أن اطمأن واصل سيره وهو يعظ نفسه بضرورة الانتباه ويحاول استحضار العديد من العبارات المكررة مثل " في العجلة الندامة " و " قدِّر لرجلك قبل الخطو ... " و ...
    آآآآآآه لقد وصلت أخيراً ، إنها ضفة النيل والشمس قد لامست الأفق محمرةً ليست كالدمعة الحمراء وإنما مثل الشمس عندما تميل للمغيب. عَبَر الطريق الفاصل بينه وبين النيل وتدحرج بين أكوام من مخلفات البناء التي تراكمت على الشاطئ شاقاً طريقه صوب الماء ، أحس بطعم الماء على جلده وهو يتجه نحوه وشعر بقدر كبير من الاسترخاء والراحة.
    عندما أصبح على حافة الماء خلع نعليه ووضعهما جانبا ثم خلع قميصه واختار له مكاناً لا يصله البلل . تحركت نسمة رفيقة في الجو فارتعش قلبه مثل عصفور في بدايات (الرُشاش) ودون أن يشعر وجد نفسه يدندن لحناً فرايحياً . استرسل مع الأغنية فقرر أن يغنيها كلها قبل أن ينزل إلى الماء ، لكن شوقه للماء لا يقاوم ، خلع البنطلون ونزل إلى الماء حتى منتصف ساقيه ، لم يتمالك نفسه ، وجد نفسه يرفع صوته بالغناء شيئاً فشيئاً حتى خيل إليه أن هذا الصوت ليس صوته وإنما لأحد الجن الذين يخرجون مع الغروب كما كانت تحدثه جدته ، زاد صوته ارتفاعاً واللحن يزداد حلاوةً ودفئاً وحميميةً والماء الذي يغمره حتى منتصف الساقين يزداد تغلغلاً في مسام الجسد والروح.
    فجأة من بين طبقات صوته وصل إلى أذنه صوت لا يعرفه ، صوت أجش واستعلائي ، " إنت يا زول بتعمل في شنو؟ " ، " معاك منو ؟ " ، " بتكورك مالك نص الليل ؟ " ، انهمرت الأسئلة غير المرغوب فيها ، فجةً ووقحة وعدوانية تبعث الضيق في النفس وتثير الرغبة في الشجار. حاول أن يتجاهل ذلك الصوت ، لكن ذلك لم يكن ممكناً إذ أن صاحب الصوت كان يتحرك ناحيته
    يا بشر إنت ، أنا بتكلم معاك " ، خرج من صمته
    معاي أنا ؟"
    ردّ الصوت " ومال مع حبوبتي؟".
    أيقن آنئذ أن فكرة الاستحمام في النيل التي سار كل هذا المشوار لينفذها قد ضاعت منه. جر رجليه خارجاً من الماء وعندما خرج تماماً من الماء كان صاحب الصوت في وجهه ، ملابس من الكاكي تنم عن سلطة ما وحذاء أسود فاحم .
    شن صاحب الصوت هجوماً جديداً ،
    " وين البت الكانت معاك ؟"،
    ردّ
    " بت شنو يا زول ، أنا جيت أستحم براي وماشي " ،
    " بتنكر آآآ ، وديتا وين ، تعال هنا قريب شكلك كمان مسطول ، عيونك الصغار ديل "
    تساقطت عليه التهم كتلة لزجة شلت قدرته على التفكير أو رد الفعل ، شعر بالعجز الكامل جرجره صاحب الصوت دون أن يسمح له بأن يلبس قميصه ، جرجره مسافة طويلة حتى أوصله إلى القسم حيث سلمه إلى شرطي وقال له " بلاغ إزعاج عام "
    حشره الشرطي بين عدد من البشر لم يستطع أن يميز ملامحهم في تلك العتمة والمكان الضيق، شبك يديه على ساقيه ضاماً فخذيه إلى بطنه ووضع رأسه على ركبتيه وعاد به ذهنه إلى الماء والنيل واعترته (ضبلنة)ٌ نام على إثرها والبلاط الخشن يتعشي من إليتيه.

                  

09-25-2006, 04:43 AM

ابي عزالدين البشري
<aابي عزالدين البشري
تاريخ التسجيل: 03-28-2006
مجموع المشاركات: 1178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رمضان كريم... (Re: أبوبكر عبد القادر العاقب)



    رمضان كريم

    تصوموا وتفطروا

    على خير
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de