|
|
 عطل مفاجئ لحاسة الاستطلاع السادسة لدى جرقاس كلب الحارة00قصة
|
عطل مفاجئ لحاسة الاستطلاع السادسة لدى جرقاس كلب الحارة
عند هبوط برشوت سواد الليل ، كان يحرس حارتنا، كلب ضخم ، شرس ، أحمر اللون ، كثير النباح 0 وهذه الخصلة الأخيرة ، هي كانت أفضل ما يميّزه 0أهمّ من ذلك كله، كان يقوم بأعمال الحراسة الليلية، بلا كلل أو ملل، قد يحدث بسبب الرتابة لدى أي فرد من أفراد الشرطة0 حتى أنّ هذا الأمرـ أمر الحراسة الليلية ـ صار شغله الشاغل 0فرغم الضجيج الصباحي، الناجم عن هرولة البحث الجماعي للحصول على لقمة العيش ، فقد شُوهد هذا الكلب المخلص ، بعد انتهاء وردية الحراسة الليلية ، مستلق على جنبه الأيسر وهو يهوهو :
ـ ((هوهوهو،هوهوهو ،هوهو هو))0
أثناء نومه العميق ، على قارعة الطريق ، في ظل الضحى ، قرب جزارة ود الريس0 وذلك من قبل النساء الأرامل بائعات الفطور، حين يحملن القفف على رؤوسهن ، متجهات صوب فناء أسوار المدرسة0 فقبل أن يطلقن حناجرهن متفوهات بآخر مانشيتات أخبار القرية الصباحية ، كُن حين يشاهدن ذلك الكلب الضخم ، النائم على قارعة الطريق، يشرن إليه ويكركرن قائلات :
ـ (( كُر عليهو يا يُمّه كُر!!،هذا المسكين ،البارحة سهر الليل كله وهو يهوهو ولم ينم ، يا له من كلب شجاع مخلص طيب القلب!!))0
أما المارة من العمال الكادحين ، المزارعين المتجهين صوب الحقول ،الموظفين ، البنائين ،الأعراب أصحاب عربات الكارو التي تجرها الحمير الهزيلة ، أو الخيول الهرمة0 فقد كانوا جميعا حين يعبرون ذلك الطريق المُغبَر كأنّهم البرق الخاطف ، يهزون رؤوسهم المثقلة بأطنان الهموم، ويرددون في سرهم عبارات أخرى مماثلة0
لا أحد من هؤلاء المسحوقين ، كان يشك مثقال ذرة أنّ هذا الكلب المخلص كان يهوهو أثناء النوم بسبب تنبؤات أمنية غيبية كانت تدور خلف كواليس عقله الباطن 0حقا لقد كان جرقاس كلب الحارة ، كلبا مخلصا جدا في أداء عمله، ومتطوعا لحفظ الأمن ، والدفاع الشعبيّ عن القرية بمحض إرادته 0فرغم مظاهر الفقر والبؤس، والظلام الدامس المحيط بأزقة وشوارع القرية ، واستحالة تواجد رجال الشرطة ، لم يشهد تاريخ حارتنا الليلي منذ نشأتها سوى حوادث قليلة(محلية) متفرقة من حوادث السرقة 0أمّا القتل، والنهب المسلح، فلم يشهد سجل تأريخها الناصع البياض، صفحة واحدة ملوثة ببقع الدم 0
لهذا السبب ، كان أهل حارتنا ، رغم جيوش الهموم التي كانت تطن داخل كهوف جماجمهم كطنين أنثى البعوض ، كانوا بالليل ينامون ملء أجفانهم ، وهم يعلمون علم اليقين أنّ أعراضهم، وممتلكاتهم، ودوابهم ، و كوارهم ، ودلاقينهم ، في الحفظ والصون0
وكما هو معلوم، فأهل القرية ، قبل أن يحل قطار النوم ،لا يتكدسون ليلا داخل الغرف المكندشة مثلما يفعل غالبية أهل المدن المترفهة 0بل أمام فناء البيت ،أو في ساحة الحوش ، يضعون سررهم المفروشة في الهواء الطلق ، ويلتحفون السماء ، ويتأملون النجوم وأسرار الكون0 وأخرى يسرحون بخيالهم هنالك في الأفق البعيد، حيث تختبئ الرفاهية الأبدية خلف مدارك الغيب0 وتارة يصيبهم السّأم من كثرة التحديق ، وحينئذ ينسجون خيوط أحلامهم من ضوء القمر 0لذا قبل أن يستغرق المرء في النوم ، بوسعه من خلف الغشاء الشفاف لهذا الكون الغارق في لجة السكون،أن يسمع بكل جلاء ووضوح،أصوات البهائم، شخير الناس ،هوهوة الكلاب الضالة، مواء القطط ، طنين الجنادب، نعيق البوم ، نقيق الضفادع ، طقطقة مكنات الماء على شاطئ النهر وهى تروى الحقول العطشى في ساعة متأخرة من الليل بعد إصلاح عطبها 0أو ثكيل نساء البكاء في جنح الليل، حينما يهبط عزرائيل فجأة على سطح الكوكب الأرضي، لينتزع خلسة روح شخص ما حان أجله، ثم يولى بها الأدبار صاعدا إلى معارج السماء 0وتارة أخرى ترى من البعد، أضواء السيارات القادمة صوب القرية، معلقة في ذرات غبار الفضاء الكوني كخيوط العنكبوت0
فكل صوت تسمعه من هذه الأصوات في ليل القرية ،لاشك أنّه يحمل إلى أذن السامع شحنة من المعاني والدلالات الصوتية الهامة0 ربما تعنى لك تلك الأصوات ، قدوم شخص ما بعد غياب طال، أو رحيل شخص ما بعد حياة حافلة بالمعاناة 0أضف إلى ذلك فوق كل هذه الأصوات التي قد تسمعها مجتمعة في لحظة من اللحظات ، بوسع المرء وسط هذه الضوضاء أن يميّز بكل يسر وسهولة،هوهوة جرقاس كلب الحارة المتميّزة الإيقاع 0تأتيك كأنّها صافرات إنذار تعلن عن قدوم خطر وشيك 0
حقا لقد كان لجرقاس كلب الحارة ، دورا مهما في الإيحاء لأهل الحارة بشيئين، إمّا بالبقاء يقظين على أهبة الاستعداد،أو بالشروع في النوم العميق 0حيث بالإضافة إلى حاسة استطلاعه السادسة الخارقة، كان يملك حاسة شمّ قوية تجعله يميّز من مسافات بعيدة ، ومن أول شمّة عابرة، رائحة اللصوص والغرباء ، والقطط والثعابين السامة ، والكلاب الضالة ، بل سائر أنواع الكائنات الحية الكاسرة القادمة من الغيط والغابة0 حينئذ كان يبدأ هجومه المباغت، بالهوهوة المتواصلة 0هذه الهوهوة المرعبة،المدعومة بحاسة الاستطلاع السادسة الفائقة الحساسية التي لا مثيل لها عند كائن آخر، كانت تمتد خارج نطاق الحارة إلي بضع كيلوهوهوات مربعة0
لهذا السبب ، كان أهل حارتنا ينامون بالليل في أمن وأمان واطمئنان، مادام جرقاس كلب الحارة لم يهوهو في تلك الليلة0 فهذا معناه ,أنّ كل شئ يسير وفق القانون، وأنّ الأمور تجرى في هذا الكون حسب النظام، وأنّ الأقدار تدور حول فلكها كالمعتاد دون أي مفاجآت0
عندئذ، كانوا يشرعون في النوم العميق، ويشخرون شخيرا عاليا ، حيث يطلقون العنان لحناجرهم ، وعوادم مناخيرهم طيلة الليل 0حتى أنّ صلاح ود حاج التوم الملقب بالبعشوم ، بسبب صوت شخيره العالي ،المتقطع، المخيف، الذي يماثل ذلك الشخير الذي يخرج وقت طلوع الروح ؛ من قاع صفصف حلقوم الثورالمذبوح0 كان في تلك الليالي البيضاء المقمرة، وقت اكتمال القمر بدرا، حيث يحلو السمر والسهر، يكون في قمة تألقه الشخيري0 عندئذ كان يعزف عزفا منفردا يكاد لا يجاريه فيه أمهر عازف لآلة الكمان في هذا العالم0
حقا ، كان أهل تلك القرية النائية، من شدّة رتابة الحياة و بؤسها ، يحرصون جميعا بدون استثناء كورالي،على الاشتراك في أوركسترا عزف مقطوعة الشخير الليلي على الهواء الطلق مباشرة، كأنّهم في ذلك الليل الطويل، يخوضون في غمار مسابقة حامية الوطيس، سوف يُسجل معدل أرقامها القياسية في موسوعة جينيس الشهيرة 0حتى تحسبهم أيقاظا وهم رقود أنّ حارتهم تلك قد تحولت بقدرة قادر إلى مستنقع نوم مليء بأطنان من الضفادع 0لاشك أنّ أصوات شخيرهم القوية تلك، كانت تذكر السامع بنقيق الضفادع،أو في أفضل الأحوال تذكره بأصوات أجهزة التنفس الصناعي المغروسة داخل أجساد مرضى الموت الدماغى بغرف العناية المركزة بالمستشفيات0
هذا المعدل العالي للشخير، كان كافيا لإثارة فضول حاسة السرقة لدى أخطر اللصوص 0إلا أنّ جرقاس كلب الحارة، بحاسة شّمه العالية ، وهوهوته المرعبة المتتالية ، وكفاءته الهجومية النادرة ، كان قادرا على بسط الأمن على كافة أرجاء الحارة ردحا من الزمن 0حقا كان هذا الكلب المخلص ، بدون أدنى مبالغة،أخلص من رجال الشرطة والجيش الذين كانوا يحرسون شوارع البندر في النصف الثاني من القرن الذي مضى ثم سرقوا السلطة في جنح الليل 0أمّا جرقاس كلب الحارة، فلم يشهد تأريخه الشخصي العلني أو السري الخفي ، أي خيانة للأمانة، أو اغتصابا للسلطة حتى لقى حتفه في تلك الليلة المشؤومة من ليالي أواخر القرن الذي مضى0
حيث اكتشف الناس صبيحة تلك الليلة المشؤومة، المليئة بالكوابيس المرعبة ،أنّ أكبر حادثة سرقة في تاريخ أحلام أهل القرية ، تمت على أيدي حفنة من اللصوص اقتحموا القرية فجأة في جوف الليل0 وعلى غير العادة ، لم يفق الناس يومها من ثبات نومتهم التاريخية العميقة التي تماثل نومة أهل الكهف،إلا وقت الضحى0 حيث كانت الشمس المشرقة ، قد طلعت منذ الصباح الباكر بأنوارها الباهرة ، وظلت ساطعة ، وهي تتمخطر في الأفق البعيد ضاحكة وشامتة وساخرة 0
عندئذ أفاق الناس من نومتهم مذعورين، وتساءلوا ما الذي حدث!!؟ وهل كان جرقاس كلب الحارة نائما مثلهم حتي تلك اللحظة ؟؟0أم أنّ ثمة ثغرة أمنية ما قد أحدثت خللا شاملا على المستوى الدفاعي للحارة في تلك الليلة المشؤومة!!؟0غير أنّهم فيما بعد0 وجدوا أنّ السرقة قد تمت بمنتهى السرية والذكاء والدقة ،إذ لم يترك اللصوص خلفهم أيّة بصمات ،أو أثر، أو إشارة تدل على الفاعل سوى كوابيس ذكريات تلك الأحلام الليلية المرعبة التي راودتهم أثناء النوم في تلك الليلة المقمرة 0لدرجة أنّهم جميعا، تركوا الأسرة ليلا خالية، وركبوا حمار وحش نومهم، وراحوا بعيونهم المغمضة، صم بكم عمى، يمشون في شوارع القرية كالأشباح بلا هدى ، ثم كالمشردين ناموا على الطرقات، وتوسدوا حجارة الأزقة والشوارع ، وأكوام التراب والحصى حتى الضحى، ولم يفيقوا من تلك النومة إلا حينما بدأت تسرى حرارة الشمس الحارقة في أجسادهم الملقاة كالجثث على الأرض0
حينئذ أيّها السادة ، بعد فوات الأوان ، أفاق الرجال من نومتهم 0وفورا، هبت جموعهم الساخطة، وانتشرت فرق بحثهم الغاضبة ، تجوب الشوارع والأزقة، بحثا عن ذبابة تسي تسي نومهم ، أوعن أية أثر يدلهم على الشيء الذي حدث، وفعل بهم تلك الفعلة الشنيعة المهببة0 وعن جرقاسهم الذي توارى عن الأنظار واختفى فجأة0
في الحقيقة ، لم يدم بحثهم طويلا حتى وجدوا جرقاس جثة هامدة ، ممددة على الأرض عند مشارف القرية 0كان مهشم الرأس، غارقا في الدماء، وعلى صدره كانت توجد آثار طلقات نارية اخترقت قفصه الصدري ، فيما يبدو للعيان أنّ تلك الرصاصات القاتلة استقرت داخل غرف القلب 0كان منظره مؤلما ، وكانت الجريمة بشعة0
هكذا أيّها السادة منذ تلك اللحظة أُخرس صوت هوهوة جرقاس آلي الأبد0 وما زال الناس في حيرة وصدمة ، وهم بين الفينة والفينة يتساءلون ، كيف تمكن هؤلاء اللصوص من تعطيل حاسة الاستطلاع السادسة لدى جرقاس كلب الحارة بكل هذه السهولة!!؟؟ وبدون مقاومة تذكر؟؟، وبدون أن يكتشف أمرهم أحد؟؟!0 بل وتنويمهم مشتتين في العراء بتلك الطريقة البشعة!!؟؟0
هكذا أيّها السادة ، لقي جرقاس كلب الحارة حتفه على مشارف القرية رغم أنفه ، وهو يؤدى واجب الحرسة الليلية0
أمّا في تلك الليلة التي جرت فيها حادثة قتل جرقاس المُروعة، ما زال الناس يتذكرون أنّ البدر كان مكتملا ، وأنّ ضوءه كان شفافا أبيض 0أمّا الناس فيما يبدو كانوا غارقين في أضواء أحلامهم ، و كانوا من شدة التعب، يشخرون شخيرا عاليا، لاشك أنّ جرقاس قبيل حدوث الكارثة كان يهوهو، والناس تشخر0
ـ جرقاس يهوهو0
ـ والناس تشخر
ـ جرقاس 000
ـ الناس 000
ـ يهوهو0
ـ تشخر0
ـ يهو0
ـ تشخ0
ـ يهـ 0
ـ تش 0
ـ تشـ 0
ـ تش00 تششششششش0
في تلك اللحظة الواقعة تماما بين الشخير، وموت الضمير، والهوهوة المتواصلة، حدث عطل مفاجئ لحاسة الاستطلاع السادسة لدى جرقاس كلب الحارة، لذا وقعت تلك الكارثة المروعة ، يا له من كلب مخلص طيب القلب!!0
عثمان عوض الكريم0
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: عطل مفاجئ لحاسة الاستطلاع السادسة لدى جرقاس كلب الحارة00قصة (Re: عثمان عوض الكريم)
|
للاسف لازال جرقاس يعيد انتاج نفسه رغم ما حل في القرية من خراب وبوار ولازال اهل القرية في سباتهم الابدي..بسبب الثقة الزايدة في مخلوق قابل للعطب لاسباب طبيعية او غير طبيعية
تشكر على هذه القصة الرمزية وكما يقولون القصة القصيرة جبل جليد عائم ما خفي منها اكثر من ما ظهر
والمعنى في بطن الكاتب
مرحب بيك اخي عثمان عوض الكريم
وناس البورد في سباتهم...توقظهم الفواجع ثم يختصمون ثم ينومون
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: عطل مفاجئ لحاسة الاستطلاع السادسة لدى جرقاس كلب الحارة00قصة (Re: عثمان عوض الكريم)
|
تحية بوردابي شاخر...
حيرني سردك اللطيف ...و اكتشفت انني من الشاخرين اياهم ...بل نحن السودانيين عامة مدمنين (شخير اليقظة) لاننا سرقنا اكثر من مائة مرة و قتل جرقاسنا اكتر من الف مرة وما زلنا نشخر ....
نستيقظ قليلا لنبحث عن قاتلنا ما نلبث ان نواصل شخيرنا و كوابيسنا المستمرة ...
تشكر لانك ايقظتني من شخيري ...مع وجه متثائب لانني ساعود الي غفوتي و غفلتي...
| |
|
|
|
|
|
|
| |
adil amin
bayan
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست