دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
فصل من رواية : عتبات سدرة المبتدأ
|
عتبات سدرة المبتدأ
فصل من رواية عتبات سدرة المبتدأ
بدأت السماء بلا أقمار، لا شيء يفرح الذات في شوارع ملطخة بالوجع والحنين إلى هناك، إلى هنا في عيون واجمة ترتقب المستقبل. هل هناك جديد؟. مسحت حذائي عند صبي الورنيش " قبوره "، اتجهت إلى محل العصائر، احتسيت الليمون، وسريعا ذبت في مهرجان السوق العربي. نعم كان هنا سوقا عربيا، وربما لا، قبل ربع قرن أو أكثر. الآن يكتسي المكان برائحة خط الاستواء، الملامح الزنجية، الأنوف الهاربة من العالم، الصبية المشردون القادمين من وطن الأماتونج، جنون الحرب وآفات الزمن القادم. سرقت مانشيتات صحف الخرطوم في الكشك، كعادتها لا تحمل ما يسعد والمواجع تتسع شرايينها، انتظرت طويلا أنظر في شارع الصبر أكحل عينيي بالدموع، قلبي يتزفر، هاأنذا أحرق دفتر الكلام وأهرب في خناجر الوجع أتأمل وجهي في مرآة بالوعة المياه في الزقاق المؤدي لشارع السيد علي " تبدو مرهقا ومتعبا.. عيناك غائرتان.. وفمك يقتلع الابتسامة للعابرين وشاربك لا يهتز مع رائحة القهوة والزنجبيل.. ما الذي يجري في الدنيا ؟". الشوارع الحزينة تجلس كعادتها فاتحة فخذيها بلحي مشرئبة للنجوم الباهتة، تقرأ الأكف الوسخة في الظهيرة باحثة عن وظيفة جديدة غير عبور الناس. تهتز قدماي، لا تقفان، فيّما يفكر الشارع؟. على جانب رصيف الظل تأملت وحدتي أخرجت مفكرتي الورقية أقرأ نتفا نطفا، متفرقة من غيابي : " يحرقون الأمل عاما بعد عام.. مجرمون جاءوا إليك من حيث أتيت إليهم". أقلب الصفحة للوراء " عقارب تتحرك للخلف عكس عقارب الساعة الصدئة، مشغولة بالجنون والهستريا اللذيذة تلوذ بالصمت تبحث عن العقرب الكبير". كانت هناك عيون تحدق فيّ من عصور الطين، لكن الطين ذاب في النار، تلاشي في قوارع الطرقات يحاول أن يتوضأ بالخوف من مجهول آتٍ وعذابات تحرض ضد معنى الوجود، قلتها في حزن شفاف " دائما ينزفون التلكؤ في زقاق بؤسنا". في ورقة غبشاء وتحت عنوان انكسار وخديعة بكاف منكسرة كتبت " تتجزأ الأشياء في سكونها، راهبة في الغيب تلون كيمياء الدنيا في أيام ترهلها الأخير، تبحث عن غياب". وقرأت لافتة لمحل تجاري " محل ود المساليت هنا يباع التمباك الأصلي " لم أسأل من هم فأنا لا أعرف من تكون جدتي لأبي – وهذا حقيقي – يا رب من هم المساليت هل دفنوا هناك وراء كتب التاريخ في سبورة المدرسة الأولية عند الخور الجاف؟. عبرت بكافتيريا أسواق الخليج ومطعم العديل والزين وكشك تصليح الساعات معرف بورقة بيضاء مسودة بعبارة هم يا محمد. فكرت في الكيف فتذكرت أن هناك من لا ينظرون إلى ذواتهم، لماذا تتكرر عيوبي وأنظر في جغرافيا الآخرين، لماذا قضيبي يرى عوجة رقبتي، تذكرت مفردة " التفاهة "، كثيرون في هذا العالم تافهون مثلي، التفاهة لا وطن لها مثل الإبداع، هي سمة الذي عجز عن أداء أدوار مهمة فصار سياسيا قاصر الظل. في ورقة أخرى تسألت " لماذا أكتب هذا ؟ " هل أنا أشعر بالمرارة هل هناك ما يقلقني ؟. أخذت طريقي إلى الجسر أتعذب من ألمي ورغبتي في إخصاء الآخر، جعلهم ينزاحون كالبلالي، يتدحرجون إلى الحفرة، فكرت هل أنا عديم الثقة بالذات. مزقت ذاكرتي أبحث عن لحظة صفاء مزقت صفائي اللازوردي أبحث عن ذاكرة لنج، لوني تشرد في المشاوير في الليل والنهار أبحث عن عمل، أبحث عن نجوم بعيدة أختبئ فيها تأخذني ترحل بي، أذوب في وجعي في غرفتي الصغيرة وأنا في مهجري بعيدا عن الوطن أتذكر تلك الأيام، قبل أن تدخل القافلة المدينة أول الفجر. من علٍ تبدو المدينة ثقبا صغيرا في كون أكثر اتساعا من معرفتي. ذاك الثقب هو أنا، أو المدينة ساعة تتجشأ حلمها مع أصوات الجمال الجالسة عند ناصية المسجد العتيق في الحي، في انتظار خروج المصلين إلى ساحة السوق. بدأت ذاكرتي صفراء كالموت، تقدم نحوي سعد الدين بإبريقه المزخرف المشكل على طراز أواني أهالي نبتة، بدأ يتوضأ هادي البال، مطمئن الأحوال، حسدته على زهده في الدنيا، ذاك كان يومه وموعد انتظاره المؤجل. خفق قلبي على مرمى حجر من رئة زمن ملون بدخان القهر. جلس سعد الدين وعلى جنبه جلست أيام الصحراء وأيام الجبروت، كيف أنصرم عهدها؟ هل ولد الزمن المنتظر بلا توقعات؟ لم يدر في بالي السؤال الأخير ولا في نفس سعد الذي استجاب لوميض برق الماء يتقطر أشبه بعرق الصيف من على يدين مشحونتين بغابة الشعر. خرج الضوء نادرا قلقا يتوضأ معه بحذر، ويخفق معه قلب الماء على عجل، أليس الماء سر الحياة، حرّك العبارة في خاطره وضحك من مكان غائص في روحه الجميلة، تنفس بعمق، ثم قام يتوكأ على عصاه إلى الساحة، يساوم في أسعار البضائع المحمولة على ظهور الجمال. بعد أن أفرغت الظهور بدأت الجمال ترضع الماء وتتقيأ لونا أصفرا من رهق السفر، لم يكن لون الموت كما تخيلت، كان يعني لسعد الدين خلاصة سفر طويل، أشبه بسفر الزمان في ثقب الكون، هذه المدينة التي ترسم وجعها على حائط القدر. تمطت الجمال واستسلمت للنوم مع دخول النهار، وراحت تحلم، لكل جمل منها حلمه. جمل سعد الدين رأى عياله يسودون الصحراء بسنامات مقوسة ذات لون برونزي مميز، أحيانا تستطيل السنامات لتكون موجة نهر هادر من قاع أفريقيا إلى أعلاها، كانت أفريقيا وقتذاك لا تزال نبت صغير ملائكي تحاول أن تتشبث بنخلة تلتقط ثمارها الناضجة. في نفس الليل سمعت في المذياع ما أعلنه المندوب الأمريكي في الأمم المتحدة. "أفريقيا مهمة " وقال " لابد من معالجة قضاياها وإلا أنها ستتفاقم " ودعم ريتشارد هولبروك تصريحاته بطرح برنامج غير مسبوق باسم " شهر أفريقيا ". أتذكر أن شيئا جديدتا لم يجري كما جرت العادة في شأن القارة العجوز. انقضى الشهر، مر عامان منذ ديسمبر 2000 ميلادية. بعيدا عن أفريقيا هناك أشياء مهمة تحدث في العالم، الحرب على الإرهاب مثلا، فكرت هل هناك إهتمام أمريكي حقيقي بأفريقيا، نعم يوجد ولكن إلى أي مدى. كان سعد الدين يقول لنا لا تفكروا كثيرا حتى لا تقلقوا، ولا تجلسوا وحيدين لتحلموا فالحلم آفة القلق. كان سعد الدين خبيرا باحلام الجمال، تدرب على هذه المهارة من رجل كان هنا قبل أربعين سنة عاث وفسد في الصحراء وذهب، كان داعرا ورجل دين، وكان يداوي جراح مرضى القلوب وجراح المساكين. يمضى الليل مخمورا في وسط ساحة السجن الوحيد في المدينة، يستأذن السجان في الدخول للمسجونين في حروب الصحراء، ليبدأ في رواية حكايات حمد الطير للمساجين هذا الذي غاب عن ذاكرة قوافل الصحراء في العتامير الموحشة عندما يموت القمر. غيابه جاء بمقدمة سكين حادة بعجت بطنه في مساء قرمذي تفتحت فيه أشجار المسكيت كغير عادتها في مواسم الصيف الحار، نزف الدم في الصحراء متدفقا على الرمال والتحم بماء النهر، سار حتى القاع يروي اسماك الصير العطشى، وما من صيرة في ذاك اليوم إلا وشبعت دما وسكرت طربا. لو كان الداعر محي الدين الغرباوي حيا لحى لسعد الدين عن حمد الطير قصصا أخرى، غير ما حدث في ذاك المساء، وليس مهما إن كانت واقعية أم ملفقة، فقد ظل سعد الدين يؤمن بأن حياة الناس تتشابه فيها الحقائق بالأساطير، ومن خلال محاوراته مع ود الغرباوي فهم أن جنون كل زمن يأتي على طريقة الزمن، ومن العبط أن يفهم أن التاريخ دائري، لكن حدسه أخفق يوم ولدت مبروكة بنت دلو، أو مبروكة العوزاء ذات النسب والحسب والفنون، أبوها من أهالي غرب السودان، وأمها من الأقباط الذين قطنوا أتبرة. تقول شريفة النعام أن مبروكة في خلاصة نسبها من بلاد البرنو جاءت مع حملات الحجيج مع أبيها وهناك استقر بها المقام قبل أن تدفن في رمال الصحراء التي فقدت نعومتها لأن الحياة تغيرت كثيرا. كل وجع يمس القلب فهو مقصود، وقد يكون له علاج، هذا ما أعتقده محي الدين عندما عافر وجع أبيه الغرباوي، لكن أبوه المتيم بفتاة جاءت من البرنو لن يستكين حتى تسكت أجراس الكنائس في أتبرة وكنيسة بربر الوحيدة التي وُجدت مهدمة ذات صباح، دون أن يعرف لهدمها سببا أو من فعل ذلك، ليقوم مكانها مركز للبوليس السري وبعد ثلاثة عقود تبدل المركز لمدرسة أولية، كانت أول مدرسة تحتضن البنات وهن يقفن في حوش في منتصفه جرس يدق ليعلن الطابور الصباحي. كانت ساحة الطابور أشبه ببهو مغطى بسماء من الأقواس القوطية الضاحكة والذي أكتشف ضحكتها الغرباوي، كان اكتشافا مؤقتا ضاع وسط تنهده بعد أن تعرف على مبروكة العوزاء ذات الطلاء المذهب في أظافرها بشعرها الزنجي في جسد روماني يضحك مع رنين جرس الطابور. أول تحدٍ واجهه كيف يمازح البنت، ويقول لها كلاما مختلفا يسر به حاله المحزون قبل حالها الذي لم يتعرف عليه بعد، لكنه عجز، وجد أن نجوم الظهر أقرب إليه من سعادته. لجأ إلى حمد الطير فما استطاع أن يجد مفتاح القلب، غير أنه نجح بعد مهمة صعبة كلفته حلم حياته أن يصبح سائحا في بلاده الله، فقيرا متواضعا، يرهن حركاته وسكناته لشيء غامض يسكن فيه، ويدفعه للحركة من هنا إلى هناك إلى تلك البلاد البعيدة. كانت رحلة عسيرة لو قدر له أن يجربها مثلي لعرف لماذا لم تعد المدرسة القروية على رونقها القديم، ولماذا ينزف الدم في النهر، ويموت حمد الطير قبل أن ينال مراده في الدنيا، نظر إلى نفسه في الماء المحُمّر وارتمى فيه يقاوم بقائه في الحياة. الغضب الجمّ الذي أنكوى به سعد الدين لم يقدر على مسح أطرافه سوى حمد الطير، دعاه بعد صلاة العشاء إلى الخلاء قريبا من المقبرة القديمة، تشهدا قبل أن يباشرا الحديث عن القلق ودروب الصحراء التي اعوجت. كان حمد يدرك بأن واقع العسر قد بدأ والرجل لا يبكي إلا بعد أن تحتضر دروبه. مد حمد كأس العرق لسعد فعافها، وحلف بأنه لن يذق خمر الدنيا مرة ثانية، ضحك حمد مفجرا ثقب الكون في المكان، كأن قافلة وصلت للتوّ عند حافة السوق، يدخل رجالها للصلاة في المسجد وتمارس جمالها أحلامها في طمأنينة يحسدها عليها الرجال في غياب خشوعهم في الصلاة. كم مضى من عمري وأنا مدوخ، وكم مضى من عمر سعد الدين وهو مدوخ بأحلام ترأس القافلة، لكل قافلة رجالها والشرط أن يكون قلب الرئيس مثقوبا، أما قلبه فكان لا يعرف الحسد، وقرر بعد أن قرر شراب الكأس أن يحسد ذاته على جراحها بعد أن خرج منها، يلعنها. ضحك يجاوب ضحكة حمد الطير وتناول كأسا ثانية باليد اليمنى مقرقرا، يدق بباطن قدميه على الرمل البارد في بداية فصل الشتاء، هذا الرمل لولاه ما طاق الحياة هنا، فهي تزحمه بالحزن وانكسار الخاطر كأنه لوري يغوص في الطين يحمل عرسا إلى مأتم. دائما ظل متوحدا حتى عرف حمد الطير ومنه ارتوى بحكمة العالم التي ظل يبحث عن أركانها السبع التي تشابه أوتاد الأرض كما حكى العارفون أمثال حمد هم يقولون أن كل وتد لا يشبه أخيه ولو تشابه الأخوان لحدث الاختلاف، هي سنة الله أن يكون الاختلاف سر وجودهم وصداقتهم. استغرقت في تأملاتي وأنا أجلس وحيدا في غرفتي، أفكر في غربتي، فيما استغرق سعد الدين في تأملاته وقد تعطرت رائحة المكان من حوله بهواء الزيفة مع نقاع المطر. وقبل أن يستمتع بالهواء المعطر شعر بأن ثمة وميض في جنوب غرب المقبرة، بعدها انشقت سماء الشرق وردة من برق عبادي يرسم ضحكاته النورانية في السماء. وضع سعد الكأس الثالثة فارغة، وهو لا يزال مكسور البال غير قادر على تمام الحسد، كانت صلاة العشاء منتفخة في عقله، صلى في الصف الثاني على اليسار المتأخر، وانشغل أثناء قراءة بركة الزاد لسورة مريم بتقليب دفتر الحزن في مدن سيدخلها أحفاده ذات يوم ورأى أمامه أباريق مطرزة بروح الأجداد. كل جد له خاصية تخصه وحده، إلا جدك يا سعد الدين، هل كان حمد الطير يكلمه أم كان يكلم هواء المطر، أم كان ينتظر ميلاد الفجر ليركل راحة البال بالتشاغل مع العمل في ساحة السوق مع الحمالين، يدخلون بالبضائع ويخرجون من سراديب تشبه سراديب مدن النحاس ببوابات عليها طيور بأسنة ومحرايب، كل محراب عليه نجمة ثمانية الشكل، في كل جزء من أجزائها صورة لطفل يتيم ولد بلا أب. نظرت حولي فرأيت أن الجسر تباعد ورائي بخمس كيلومترات لا أقل، كان الشارع مزدحما قبالة المحطة وكنت اضحك على مصيري، لم أتعود من قبل أن اضحك كنت أعتبر الضحك دليل الفراغ. تراجعت عن مبدئي يوم تعرفت على ماريا فمعها تغير كل شيء، حتى أنني نسيت من يكون حمد الطير أو سعد الدين ولم أعد أتذكر رحلات أبي في الصحراء وعودته في منتصف العام قبل الخريف. هل بدلت ماريا حياتي لجنون جديد، فجعلتني أكتشف أن في الحياة مساحات للضحك وفهم العالم بشكل افضل، وحفزتني للهروب من الوطن، وأن على المرء أن يتعلم من تجارب الأيام مهما كان شكلها، عليه أن يكرر المحاولة حتى ينجح. علمتني أن لا أؤجل الضحك، قالت لي " ليس صحيحا أن الذين يضحكون أخيرا يضحكون كثيرا، فالذي يضحك منذ البداية هو الفائز بتمرة الضحك". ولرجل مثلي تعود على الحزن العميق بلا سبب أو مبرر كان الضحك صعبا، ومزعجا، لكن كثير من معتقداتنا تتغير عندما نفهم الحياة بشكل أفضل، دائما نحن محتاجون لكي نعمق فهمنا لما يدور من حولنا والأصعب أن نعمق الفهم لما يدور في مغاراتنا الذاتية، المسكونة بالوحشة والحنين. قالت لي " اسمي ماريا .. أبي يعمل مديرا لبنك كبير في المدينة .. ويمتلك محلا لبيع المجوهرات في لندن " . لم أسالها من أين جاء أبوك بالثروة، فقد قالت لي أن الإنسان يحقق أحلامه بالحكمة والبصيرة برؤية العالم كما يتوقعه، لا كما يشاهده. كنت أريد أن أحدثها عن أبي الذي مات فقيرا، يمتهن السؤال في ساحة السوق، ويقرأ القران للتجار فيلقون بالجنيهات على رأسه الذي لا يحلم، كانت مناماته مطرزة بالكوابيس التي سرعان ما ينساها بعد يقظته ليواصل مهنة الشحاذ. السماء تمطر في الخرطوم في فصل الخريف، وثمة نجوم بعيدة وراء السحب المتقطعة في نهار المدينة الملونة بالفراشات النارية، أحس بالاختناق من القرف والحيرة، ورغباتي الجائعة في لقائها في كافتيريا ماريلاند. ماريلاند هذا الاسم سيظل في ذاكرتي إلى الآن، إلى هذه اللحظة التي أجلس فيها وحيدا لأكتب، لن يتسرب الاسم من أخرام الذاكرة الغربالية أبدا، لن يغيب عني، ربما غاب عنها، سأكتبه على الحائط خلفي وأمامي وكل آنية أحتسي بها وجعي لاستمر في مقاومة الحياة. سأشرب آخر هذا المساء كأسي وحيدا، لن يشربه معي سعد الدين ولا حمد الطير، ولا ماريا، سأغلق قلبي بمفتاح البصيرة، كذبت ماريا ولو صدقت فالبصيرة لا تقود للحقيقة. كانت لا تحب الليموندا وكنت أحبها، لكنها جربت شرابها في نهار خرطومي هرب فيله فضحكت، كنت اضحك واضحك واضحك، تذكرت شجرة الليمون في بيتنا البعيد، هناك في اللاوطن، وحدها الأشجار تقاوم الخراب ولا تقدر على الهجرة حتى تموت بعد أن يذهب الرجال والنساء وراء نوافذ الزمن المهشمة، وحدها الأشجار تبقى مخلصة للأرض، وتغضب وحيدة حتى تموت. ككل المهاجرين جئت إلى هناك ابحث عن عمل، في زمن صارت فيه الوظيفة وطنا، لم يكن هذا هدفي، كان هدفي بل أهدافي اكبر، كنت مفعما بالأحلام والطموحات والجنون أرى الوظيفة مجرد روتين يخنقني ليست الهدف الذي أرسم عليه مسار حياتي ومن أجلها خلقت. ودائما ما تبدو الأحلام كبيرة مثل فقاعات الصابون لكنها تتضاءل لنكتشف أنها لا وجود لها عندها تذوب في حلم كبير، الحياة التي دخلناها نائمين، " فالناس نيام حتى إذا ما ماتوا استيقظوا "، يتسع البحر فيخنقني جديدا، شئت أم رفضت، أحاول أن أمد يدي لبحر الموت لأهرب، أهاجر من جديد. لم يكن الموت يشكل لي هاجسا بعد أن كان لي مرعبا في طفولتي وشبابي، إنه لا يقتل الأغاني الجميلة التي أحب أن اسمعها في رماد المسافات التي أمشيها في هذه الحياة، لا يعلن الحرب على حبي لماريا ولا جنوني بحمد الطير، ولا يرهق شهر أمشير حب طفولتي ساعة أظل حبيسا في الحجرة اليتيمة في بيتنا أبحث عن نهاية لبرد مشبع بالغبار، ذلك الشهر القاسي على قلبي، يحرق لحن وجودي مزمجرا في روحي التعسة. غدا قبل أن تطفح الشمس في بركة النهار سأعود لوطني، سأغربل وجعي بماريا وشارع البرلمان والسوق الإفرنجي وعمارة شروني العتيقة وكازبلانكا وشركة الحبوب الزيتية والاتحاد التعاوني لولاية الخرطوم، كيف أصبحت الأشياء فجأة حلم قديم عابر، أتكون حياتنا مجرد أحلام يا ماريا، لماذا لم تعلميني كيف يكون السير في الدروب الوعرة، لماذا لم اجرب عشقا غيرك لأقتل غربتي وعذابي عندما عجزت. هل كنت أكابر بحلم أكبر منك، أيتها الهستيريا سأعود لك في الصباح فانتظريني، لن أذرف دموعي ولن اضحك، ولن أغرد وحيدا ...
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: فصل من رواية : عتبات سدرة المبتدأ (Re: emadblake)
|
Quote: القاسي على قلبي، يحرق لحن وجودي مزمجرا في روحي التعسة. غدا قبل أن تطفح الشمس في بركة النهار سأعود لوطني، سأغربل وجعي بماريا وشارع البرلمان والسوق الإفرنجي وعمارة شروني العتيقة وكازبلانكا وشركة الحبوب الزيتية والاتحاد التعاوني لولاية الخرطوم، |
ياعمده دي كتابه جميله فيها مغنطة غير عاديه كما ام العنوان غايه في الجمال الجاذب بالله كمل الروايه
| |
|
|
|
|
|
|
Re: فصل من رواية : عتبات سدرة المبتدأ (Re: emadblake)
|
سلام مربع
يا الهي ياعماد هاانت تاخذني الى اجواء السوق العربي وتزرعني هناك حيث احب الاماكن الى قلبي لا تعرف كم احب هذه المناطق على الارجح هنالك علاقة دم بالتقادم سلمت ياسيدي وفعلا اجواءها تحمل كل عبق التاريخ وعذوبته استمر نحن في شوق مسكر الى ماسياتي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: فصل من رواية : عتبات سدرة المبتدأ (Re: emadblake)
|
تحية أيها القادم بكل هذا الفن والابداع، نكاد نري خطاك الثابتة تخطو بقوة نحو المستقبل، الذي بدأت تشكّل ملامحه وترسم علي رمال أديمه (بكل هذه الاشواق)لوحة لعالم القرية المدهش، حين ينطلق الي افاق الدنيا،نري اشارات الحياة الطازجة تلك التي نشأنا عليها ورأينا امتدادا سحريا لها في بندرشاه، حين تمتزج بواقع الحياة الرتيبة القاسية في المدينة حيث كل شئ يخضع لحسابات واقع يومي جديد، لك التحية والامنيات الطيبة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: فصل من رواية : عتبات سدرة المبتدأ (Re: emadblake)
|
ولا تجلسوا وحيدين لتحلموا فالحلم آفة القلق
ودائما ما تبدو الأحلام كبيرة مثل فقاعات الصابون لكنها تتضاءل لنكتشف أنها لا وجود لها عندها تذوب في حلم كبير
هل ستجد العدل عند المبتدأ او المنتهى
ام هو الاخر حلم
| |
|
|
|
|
|
|
|