السجن الكبير - فصول من رواية

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-12-2024, 08:50 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-13-2009, 11:21 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
السجن الكبير - فصول من رواية




    1


    منذ متى ورائحة القطارات تطارده؟
    ليس هو حنين جارف، كذاب.. أو غضب على اللحظة، ورغبة في تمجيد الأمس، لأن الحاضر متعفن وقذر.. هي رغبة ملحة لا تفسير لها بدأت منذ سنوات بعيدة وما زالت تعيش في الدماغ، لا تملك الشجاعة الكافية لمغادرته، لأن صاحب هذا الرأس الكبيرة، عنيد جدا، مثابر، مخيف في بعض الأحيان، ليس له هدف محدد. لو تحدد هدفه لضاع.
    بعض الناس في هذه العالم، خلقوا لكي يعيشوا الحياة برغباتهم، وبعضهم تجرّه الحياة نحو رغباتها، ما تتمنى، وما تريد. فإلى أي الفئتين ينتمي صاحب الرأس؟
    سيكون مشغولاً بهذه الدوائر المتلاحقة من الأسئلة، قبل أن يسارع لأخذ موقعه في القطار، في الدرجة الثالثة. مظلمة بضوء شحيح. لا خيالات فيها للأشياء العميقة في الذهن. ثمة بصيص أمل ينسكب من وراء كل ما هو سطحي وعابر. لكن يبدو أن هذه الرحلة ستكون مختلفة.
    بعد دقائق، ربما أقل من ذلك.. فالزمن لا قيمة له هنا. سيكون الشاب صاحب المغامرات المدفونة في القلب، قد استغرق في النوم. ليبدأ في ترتيل سورة حزنه. حزن دفين وغريب ممزوج بذكريات غامضة، عذابات، وآهات مرة.
    سيرى في حلم عابر، أنه ركب قطاراً، شحيح الضوء كهذا القطار الذي يحلم داخله. ليس مهما إلى أين هو مسافر، أو ما هي المحطة التي انطلق منها. ففي عالم الأحلام العابرة لا توجد قواعد، هناك فقط صور تتركب بغرابة تجعل الحالم ينزف داخل نومه. نزيف التيه، الغربة، الانكسارات المتواصلة في حياة لم تبدأ بعد، كما يتصورها.
    ينطلق القطار كعاصفة وسط الثلوج..
    في حياته لم ير الثلوج وهي تتساقط على الأرض، على الأعشاب المبتلة ذات الروائح الذكية. فالثلوج التي يعرفها رآها في الأفلام الرومانسية، في السينما. قرأ عنها في روايات متناثرة لا يتذكر عناوينها الآن. ربما في أشعار قديمة، لتائهين مثله، أردوا أن يغيروا العالم بالشعر، ففشلوا. لكنه ليس شاعراً، إنه كاتب فحسب. كاتب يحلم أن يغير العالم برواية، بقصة، بكتاب، بحكاية عن الأجداد، أو عن ذاته على الأقل. لكن هل في حياته ما يستحق أن يحكى، أن يقال، ما يمكن أن يصبح رواية ممتعة يقرأها رجل تحت الظل في جلسة، رقدة واحدة؟
    الظل الذي يتخيله، وهو يحلم بالطبع.. ظل له صورة محددة في خياله الباذخ. ظل لا ينتمي للأشجار ولا المباني القائمة من الطين، أو حتى لكائنات غريبة الأشكال يمكن أن تهبط ذات يوم من السماء على الأرض، فتكون مثار لغز بشري على مدار التاريخ. إنه ظل صعب التوصيف، التحديد. يمكن تخيله، مراقبته، الاستمتاع به داخل حلم، أما خارجه فلا معنى له، لأنه لن يكون ممكن الحضور.
    في حياته، تتداخل الأحلام مع الواقع. الوقائع مع الأساطير. سنجد له العذر لأنه كاتب يعيش الحياة على أنها حلم. أو الحلم على أنه حياة. ليس ثمة فرق.
    بعد أن يستيقظ وسط الظلام، يتذكر بصعوبة أنه داخل قطار، وأن الليل يغلف الأشياء بالسكينة والخوف. لن ينظر من النافذة ليراقب أي شيء. يكفيه مراقبة ما رآه في الحلم. لقد كان يقرأ رواية داخل القطار الذي كان يشق دربه وسط الثلوج، فوق سكة من الحديد الصلب.
    كان البرد شديداً، لكنه لم يلبس معطفه الذي اشتراه قبل يومين، من تلك العاصمة التي لا يعرف اسمها. كان قد دخل المحل الجديد، دون أن يقرأ اللافتة. تنازل هذه المرة عن هوايته في مراجعة أسماء المحلات، لأن لكل جديد سحره الذي يجعل الإنسان ينسى.
    إذن كانت حكايته مع النسيان، فالتنازلات بالنسبة له مفردة لها مدلولات سياسية غبية. مرتبطة عنده بشروط ومصالح آنية ضيقة. بروتوكولات يوقع عليها أكثر من طرف على مضض. لا أحد يرضى بأن يخصم من أناه أو تعلقه بهذا العالم المثير للغرائز، غريزة البقاء، الانتماء، التعلق، الانتشاء، التأرجح بين أكثر من حلم، أو الموت.
    كيف سيقاوم الطقس الساخط؟ بعد أن نسي (النسيان أيضا).. كان قد نسي المعطف الراقي على أريكة خشبية في المحطة، قريباً من فتاة بشعر أشقر، كأنها فارسية. كانت تنظر إليه، كأنها تعرفه. هو لا يعرفها. ربما نسي. ليس بإمكانه أن يصل إلى قرار بشأنها.
    يركز النظر تجاهها. لا تهتم به. يزيد من مغامرته الهوجاء في التحديق، التلصص على جسد أبيض كالثلج. شعر منساب كالحرير. أرداف مصنوعة بآلة دقيقة، تبيّن دقتها بمجرد أن وقفت الفتاة ساعة سمعت صفارة القطار.
    لم تكتمل مغامرته، فكلما تمعن في جزء من أجزاء الكون الفارسي، رغب في رؤية مجرة أخرى. كوكب. نجم. سأل روحه، بصوت مسموع لمن حوله: "كيف هي روحها؟".
    مهتم بالروح. فالأرواح بالنسبة له مهمة، غاية. ولأن انكساراته في الحياة تسببت فيها الأرواح، فمغامراته الجسدية، كانت ناجحة دون فخر. قال لروحة مرة أخرى. هذه المرة بصوت غير مسموع: "لو عرفت اسمها لاستطعت أن أحدد هوية روحها". يعتقد ذلك، ويشك في اعتقاده. فأحياناً يفشل في التحديد، ومرات ينجح. ليست الحياة تأتي على قدر واحد.
    تخيلها تضحك. له هو وحده. تخيل أشياء أخرى. وتوقف عند خيال أخير.. رحلة بالقطار يأخذهما سويا من حدود بحر البلطيق، إلى مدينة بعيدة جداً.. مدينة لا يربطها قطار ببحر البلطيق. لكن الأحلام لا تعرف الشروط الرديئة التي يتمسك بها الواقع ويصرُّ عليها.
                  

01-13-2009, 11:25 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)

    2

    هربت منه الفتاة الفارسية، مثلما هربت فتيات أخريات عبر بهنّ. ليس متأكداً بدقة هل رآهن في الحلم أم في اليقظة. فالمساحات بين الاثنين تقاربت. تداخلت. أصبح من الصعب عليه أن يميز أين تقع مساحة الحلم، وأين تقع مساحة الواقع؟
    بعد قليل، سينسى كل تفاصيل حلمه (النسيان مجدداً). سيدخل إلى الواقع، فها هو القطار يتسكع ببطء بين سراديب الظلام، يتخذ طريقه تجاه الجنوب، إلى المدينة التي يحملها كخيال في رأسه، رغم أنه عاش فيها طفولته، صباه. دفن فيها أحلامه القديمة، تلك التي لم تتحقق إلى اليوم.
    بين بصيص من نور الشمس، وهي تلقي بأول أشعتها خلسة على الدرجة الثالثة من القطار، سوف يتذكر أنه كان يقرأ في رواية (السجن الكبير). رواية لا ملامح لها في ذاكرته الصدئة. من كان كاتبها؟. حاول أن يتذكر. لم يقدر. استنزف دماغه في محاولات عديدة: اسم الكاتب، ما تتحدث عنه الرواية، مناخها، شخوصها. غاب كل شيء إلا الاسم.. السجن الكبير.
    هل قرأ تلك الرواية، فعلاً ذات يوم من الأيام البعيدة؟. فقد قرأ الكثير، الكثير جداً من الروايات التي لا يحمل من ذكراها إلا العناوين، فالحياة في منظوره قادرة على نسف كل الأشياء، الحلوة والمرة. لن يتبقى سوى العنوان من كل حدث، من كل كتاب، من كل فيلم جميل، رومانسي..
    توقف عند فكرة الفيلم الرومانسي.. لأنه يكاد يكون قد اقترب من صورة الرواية، مشاهد مجتزأة منها، تحاول الذاكرة لملمتها بصعوبة.
    أيضا كان صعباً عليه أن يتذكر.. إنه كائن مدوخ بالنسيان.
    قرر مقاومة النسيان. استعان بما تبقى من ظلام الليل، في توحيد مشاعره، فالظلام كان قادراً على منحه دفء مفقود، نوع من الحنين لأمكنة مجهولة في أمسه. ربما لأنه في الأصل كائن تربى في الظلام. ولد في الليل، تحت ضوء فانوس بخيل الضوء. راجع دروسه في ليال شتوية عاثرة الحظ، تحت ضياء النجوم الغارقة في التيه. يكاد يرى الحرف ويتكهن بالحرف التالي.
    الأمس بالنسبة له، غيب كالمستقبل. الذي حدث كالذي لم يحدث. والذي سيحدث كالذي لم يحدث. ليس ثمة فرق، لكائن غريب الأطوار. كائن لا يمكن العثور على شبيه له إلا داخل رواية أو فيلم رومانسي، خيالي، يبدعه مخرج فنان، عرف كيف يفهم أسرار العالم الخفية، تلك التي لا يراها إلا قلة من الناس، الذين لا يطمعون في مجد.
    وسط أشباح ظلام الأمس التي حاصرته في هذه اللحظة وهو يحاول تذكر تفاصيل تلك الرواية التي شغلته، فهم أن عليه ألا يتمادى في التفكير، فكل أمر تطيل التفكير فيه يموت. عليه أن يترك الأفكار على راحتها، هانئة البال. لتنام إذن ومن ثم لتستيقظ مع الشمس. كل غائب سوف يفضح ذاته بمجرد أن يُهمل.
    الإهمال.. فلسفة يؤمن بها، يمارسها دون وعي كبير بها. حاول في مرات عديدة أن يجد لها أسس منطقية راسخة من خلال قراءاته. فشل. لم تكن هناك فكرة كبيرة قادرة على إقناعه، على تشكيل أساس منطقي لأي مبدأ. وصل إلى نتيجة ما زالت مثار شك عنده: (لا منطق يحكم الأشياء، إذا ما تحقق المنطق تحققت الجدوى، والعالم لا جدوى فيه).
    من يسمع مثل هذه العبارات الأخيرة، سيخاله متشائماً. لكنه على العكس تماماً. هو متفائل إلى أبعد ما يمكن تصوره. متفائل هكذا دون هدف. البحث عن هدف وراء كل فعل يقوم به الإنسان، يراه مضيعة للوقت.. اللاهدف في حد ذاته.. أن تحاول أن تجعل للحياة معنى، وهذا عبط. رغم ذلك فالحياة عنده قذرة وضحلة.
    دون أن ينتبه، عاد للغوص في بحيرة النوم.. ولكن بلزوجة، بطراوة.. فالنوم لا يأت على هيئة واحدة، هذا أيضا من فلسفته.
    بعد ساعتين كاملتين، ودقائق معدودات، استيقظ على صوت الكمساري، يطلب من كل راكب أن يريه تذكرته. وجهته. جاء الكمساري مع سطوع الشمس وبزوغ الحر، مع بدء رائحة العرق في الانتشار، فالأجساد كانت متكومة في المقاعد والممرات في الدرجة الثالثة من القطار، تبدو لمن يتأملها كأنها بقايا جثث في حرب أهلية أو مجاعة قاتلة.
    ضحك مع المشهد.. وتخيل القطار يحمل جثثاً بشرية لمن فقدوا حياتهم في مجاعة أو حرب أهلية، ليلقي بهذه الجثث في الصحراء، بعيداً عن أعين الناس.. الصحافة. الصحافة الأجنبية على وجه التحديد. محلياً لا توجد جرأة على القول.

    ي
                  

01-13-2009, 11:27 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)


    3

    أحياناً يتخيل الإنسان صوراً، أشياء، مشاهد. يظن أنها من قبيل الخيال فحسب. يضطهد قدراته في رؤية وقائع حدثت بالفعل، كان لخياله قوة النفاذ في الغيب ليراها حاضرة. لكن إذا ما علم هذا الإنسان أن الذي تخيله هو الحقيقة عينها، ماذا ستكون ردة فعله؟
    لم يكن يعلم إذن أن ما رآه في مخيلته، كان قد حدث بالفعل. في عام 83/ 1984 عندما ضرب الجفاف غرب السودان، واستشرت المجاعة تقضم كل حي. في ذلك الوقت كان في الحادية عشر من عمره. ولم يكن لديه كثير معلومات عن كيف يمكن أن تنشأ مجاعة في مكان ما، اعتقد مما سمعه في الإذاعة والتلفزيون (أسود وأبيض)، بعد أن أصبح المشهد واضحاً في عزّ الظهيرة، أن الذي جرى كان بفعل الطبيعة، التي ليس بإمكان الإنسان السيطرة على غضبها.
    قبلها، قال لهم معلم الجغرافيا، قليل الوعي في حصة ما بعد الفطور: "إنها دعاية إعلامية.. يريدون أن يشوهوا صورة النميري، بعد أن طبق الشريعة الإسلامية.. أي إنسان يلتزم بالدين لابد أن يواجه بالفتن.. هذا ما أكده الحق عزّ وجلّ في كتابه الكريم".
    كان المعلم، الغبي، محدود القراءات والرؤية، مشرفاً على طلائع الأشبال، الذين يكنون بالولاء للنميري، دون معرفة. يقضي النهار في المدرسة، يعلم الأطفال معلومات مغلوطة عن مواقع المدن، وعن المحاصيل التي تزرع في سهول السودان وهضابه. وفي المساء، يذهب إلى نادي المعلمين الذي كان حكراً لسدنة الرئيس. سدنة من الكبار الذين يبحثون عن مصالحهم، وسدنة من صغار السن الذين لا يفهمون شيئاً عن المؤامرة التي تحاك ضدهم. استيقظوا فجأة على صورة الرئيس في الصفحات الأولى من المقررات الدراسية. رأوا صورته في التلفزيون. سمعوا صوته في الإذاعة. ناموا. حلموا به يمنحهم الأوسمة على شاكلة الكبار.
    يتذكر يوم زار الرئيس البلد. كان في العاشرة. كانت الزيارة قبل شهور قليلة من إعلان الشريعة الإسلامية وتلك المحاكم المسماة بالعدالة الناجزة. كان هو، بوصفه الفتي الأوسم والأكثر جرأة وشجاعة، مكلفاً بمصافحة النميري، وقراءة قصيدة باسم الأشبال، طلائع مايو. قامت القصيدة المقفاة، على بحور الخليل بن أحمد، على اقتباسات متواترة من أناشيد "الثورة": (نحن من مايو وفي مايو بعثنا من جديد). واقتبس أيضا من قصيدة محمد محمد علي التي أنشدها في الأبيض سنة 1945 قبل فجر الاستقلال: لكأني بالعذارى نهضت وبناء الجيل أمسى شغلها - بهوى السودان غنت لحنها وأدارت باسمه مغزلها - نهضة نادت فتاة حرة وفتي كي يحملا مشعلها.
    كان مرتبكاً وخائفاً. لكنه تماسك، عندما صافح الرئيس المحروم من الذرية، ساعة منحه قُبلة دافئة. ذكّرته بقبلات مدرس الجغرافيا المزعجة. رأى الرئيس أباً حنوناً. قائداً فذاً. لسنوات ظل يحكي عن تلك القبلة التي لا تُنسى.
                  

01-13-2009, 11:30 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)


    4

    في دراسة منشورة على الانترنت، في مكتبة د.إبراهيم الكرسني على موقع (سودانيز أون لاين) تحت عنوان: (خواطر من زمن الانتفاضة.. المجاعة في غرب السودان 1984.. أزمة دارفور الراهنة و"القفص الأيديولوجي") يذهب إلى أن مجاعة 83/ 1984 حدثت "نتيجة للجفاف الذي ضرب دول الساحل الأفريقي وحزام شبه السافنا، بما في ذلك السودان".
    ويكتب الكرسني: "قد سبق ذلك زحف صحراوي أتى على المساحات المخضرة، من تلك المناطق نتيجة للسياسيات الزراعية الخاطئة، التي لم تراعي التوازن البيئي الضروري أو المحافظة على البيئة، والتي قضت على حزام الغابات الذي كان يسجل حماية طبيعية للمساحات الخضراء".
    " لقد كان من نتائج ذلك الجفاف فقدان أهلنا في غرب السودان لمصادر رزقهم الأساسية، الزراعة والثروة الحيوانية، وقد واجهوا ظروفاً حياتيه صعبة جراء ذلك، حيث جفّ الزرع والضرع، ثم تلت ذلك المأساة بعينها، وهو فقدان إنسان غرب السودان نفسه للحياة".
    لا يتعلق ما حدث بغضب الطبيعة، ثورتها. ولا بفتنة إلهية تختبر النميري. وإنما لسياسات خاطئة، كان بالإمكان السيطرة عليها عن طريق النظام والتخطيط.
    يقول (أمارتيا سن)، الباحث الهندي والناقد الاجتماعي والاقتصادي الذي نال جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1998: "إن أهم سبب للمجاعة في العالم، هو سوء أداء الترتيبات الاجتماعية والسياسية، لا الكوارث الطبيعية" ويذهب إلى: "أن البلاد التي ليس لديها ممارسات ومؤسسات ديمقراطية لائفة، بما في ذلك صحافة ووسائل إعلام حرة مستقلة وناقدة، ستكون عرضة لحالات جوع ومجاعات وسوء تغذية حادة".
    علقت غادة عبد العزيز خالد، على ما ذكره أمارتيا، في مقال من إعدادها نشرته جريدة الصحافة الصادرة في الخرطوم، جاء تحت عنوان (الإبادة الجماعية، التطهير العرقي، السود ضد البيض: تخفيف حدة غموض "الأزمـة" في السودان)، كتبت: "لقد عانى السودان من المجاعات في الثمانينيات، كما عانى منها مرة ثانية خلال التسعينيات. وعندما واجهت البلدان ذات المؤسسات الديمقراطية القوية نقصاً في الغذاء لم تحدث فيها المجاعة، والسبب هو أن مشاكل الفقراء وأولئك الذين قضوا أثناء المجاعات كانت تبث في وسائل الإعلام، ويحدد حجم النقص في الغذاء، فالطعام لم يحتكر ليحظى به أولئك الذين يدفعون مقابله فقط. لكن حكومة السودان المركزية لم تبد تعاطفاً مع أهل دارفور حينما كانوا يعانون من المجاعة".
    في مقابل ما جرى في السودان من تعتيم، ومتاجرة باسم الجوع الذي ضرب الغرب، فقد كان موقف دول الساحل الأفريقي عكس ذلك. هي الأخرى تأثرت بموجة الجفاف وواجه سكانها شبح الموت، لكن وفقاً للكرسني، فإن "رؤساء تلك الدول قاموا، وبالأخص الرئيس الأثيوبي، بإعلان ذلك على العالم أجمع، وطلبوا من المجتمع الدولي مدّ يد العون والمساعدة لإغاثة مواطنيهم من الموت جوعاً". يضيق الكرسني: "ماعدا السودان الذي ارتأى (إمامه المجاهد) وسدنته (تجار الدين) عكس ذلك تماماً، حيث وجدوا في موت مواطنيهم جوعاً فرصة لتعظيم أرباحهم، ربما لن تتكرر قريباً!!.. وهذا ما قاموا به على أكمل وجه".
    "لقد قضى العديد من سكان غرب السودان نحبهم جراء تلك المجاعة. وقد بدأ من بقى منهم على قيد الحياة في الزحف نحو أقرب مدينة بحثاً عن لقمة عيش تقيه شر الموت جوعا. بدأ النازحون من (الغلابة) والمساكين يضربون أحزمة حول تلك المدن بحثاً عن سبل كسب العيش، حتى وصلت طلائعهم إلى مشارف مدينة أم درمان، حيث تجمعوا في معسكرات (المويلح) و(الشيخ أبوزيد). ففي الوقت الذي بدأت فيه المنظمات الأهلية، المحلية والأجنبية، مدّ يد العون لهؤلاء النازحين، لم يتورع بنك (...... الإسلامي) من استغلال تلك المأساة لمزيد من التراكم البدائي لرأس المال في ممارسة منافية، ليس فقط لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وإنما منافية لأي خلق إنساني سليم!!"
    ببساطة يمكن الحصول على اسم البنك، في ثوان، بالرجوع إلى مكتبة الكرسني على موقع (سودانيز أون لاين) أو بكتابة جزء من المفردات – أعلاه – على موقع جوجل.
    "قام البنك المذكور بشراء كميات ضخمة من الذرة من مناطق إنتاجها بالدالي والمزموم، بأسعار زهيدة، ثم قام بتخزينها في مدينة كوستي، بواسطة فرعه في تلك المدينة. وعندما حدثت المجاعة في غرب السودان، قام بترحيلها وبيعها لمواطني تلك المناطق، الذين يموتون أصلاً من الجوع، بأسعار تقع خارج دائرة القوة الشرائية لمعظمهم، مما أدى إلى وفاة العديدين منهم".
    يسأل الكرسني: "هل لكم تخيل مثل هذه الفاجعة؟". يضع علامتي تعجب(!!). يواصل: "مؤسسات تعمل باسم الإسلام، دين الرحمة وإغاثة الملهوف، تستغل جوع البشر من المسلمين لتراكم عوائدها المالية!! إنه بالفعل تجسيد حي لتناقض الشعارات مع الواقع في أبهى صورة!! ألا يحتاج هذا السيناريو إلى فيلم سينمائي". يجيب: "كان سيحتاج، من غير هذا المشهد، إلى خيال خصب وخلاق ليصور وقائعه، ولكن رسالة رأس المال الطفيلي، ومؤسساته المالية، قد جعلت من ذلك ممكناً، دون كبير عناء!!".
    أما دوجلاس .هـ. جونسون، الذي ألف كتباً عديدة عن السودان، منها: "أنبياء النوير" (1994)، و"الأسباب الأصل لحروبات السودان الأهلية" (2004) فقد قال بلهجة واضحة: "إذا كانت الحكومة المركزية بقيادة النميري غير راغبة في إيصال الغذاء، فقد كانت أكثر رغبة في شحن الأسلحة إلى المنطقة".
                  

01-13-2009, 11:31 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)

    5

    انطلق قطار الغرب يحمل جثث موتى المجاعة، في رحلة ليلية. تم الترتيب للأمر على عجل وفي صمت. بما يشبه "فضيحة" ترحيل اليهود الفلاشا عبر مطار الخرطوم إلى إسرائيل. الاختلاف أن القطار كان يحمل موتى، في حين حملت شاحنات الموز القادمة من الشرق إلى العاصمة، أحياء، تم زجّهم تحت أكوام الموز.
    في واقعة الفلاشا، تمّ كشف الأمر عبر وسائل الإعلام الخارجية. فمحلياً لا توجد جرأة على القول، كما أن الصحافة في بلدان العالم الثالث متخلفة جداً. ففي السودان تصدر صحف يومية بالكيلو شأنها شأن الموز، لكنها صحف غير جديرة بالاحترام. ما يحترم منها – بحذر - الصحف الرياضية التي تتابع ترهات الوسط الرياضي. صراعاته التي لا تنتهي وأفقه الضيق. السودانيون فاشلون في كرة القدم مثلما هم فاشلون في السياسة. بعد تفكير وعندما ظهرت الرأسمالية الجديدة، في الألفية الثالثة، تم الاستعانة بلاعبين "أجانب" لتطوير الكرة. حدثت انتصارات. تأهل الفريق القومي لنهائيات الأمم الأفريقية.. السودان مؤسس للاتحاد الأفريقي لكرة القدم.. لكن شيئاً لم يتغير.
    في واقعة الفلاشا، كان العزاء أنه تم إنقاذ بشر، بنقلهم إلى دولة أكثر تحضراً. الذين قاموا بالفعل "الدنيء" وهم يخونون القومية العربية، والقضية الفلسطينية، لم يكونوا يفكرون أنهم يقومون بواجب إنساني. لعلهم لو أدركوا ذلك لما فعلوا. لكن الذي يفكر في المال، لا يرى شيئاً آخر، غيره، في العالم. فهو يغامر، يقتل، يضطهد، يبيع، يشتري، يفعل كل ما لم يمكن تصوره، وما لا يمكن تصوره، بهدف أن يجنى مطامع صغيرة، تافهة.
    ثمة صورتين من الجوع في المشهد. جوع أولئك الذين ماتوا في المجاعة، والفلاشا الذين كانوا سيموتون لو أنهم عاشوا في بلدان لا تحترم حقوق الإنسان، تحترف إهانة كرامتهم بحرفية تامة. الجوع الثاني، أناني، غبي، لأنه جوع لا حد له ولا ضمير إنساني يوقفه.
    في القطار كان إذن هناك جائعون، ما يزالون أحياء. هم الكتيبة السرية المكلفة بحمل الجثث والتخلص منها في صحراء العتمور، بعد أن يكون قطار الإكسبرس الليلي، قد تجاوز مدينة أبوحمد، أقصى نقطة في الشمال تصلها العربات الغير خاضعة للتفتيش والمحروسة بشكل مشدد غير مرئي. فالسرية هي ما يغلف المؤامرة في العالم. بعد هذه النقطة، سيدخل القطار في صحراء جرداء. لا حياة فيها. صحراء جائعة. ليتم إخراج الجثث المتعفنة وقذفها داخل حفر عميقة تم إعدادها سلفاً.
    كان القطار يتوقف في محطات، ويعبر بأخريات دون أن يتوقف. يتوقف ليتزود بالوقود. يراجع "السدنة" الماكينة العملاقة. تصدر الأوامر من قائد المؤامرة السرية في القطار:"كل شيء على ما يرام.. واصلوا الرحلة".
    يصفّر القطار، حتى ينذر البشر والدواب. ثمة قطار قادم. تراجعوا حتى لا تموتوا. يصفّر حتى لا يشك أحد في الخديعة.
    "رائحة القطارات عفنة"، يقول لنفسه سراً.. الآن يكاد يشتم الرائحة، قبل أن يرى الكمساري يقف أمامه بالتحديد، يسأله عن التذكرة. كانت معه تذكرة اشتراها قبل أن يصعد. كان قد وقف في الصف ووصل إلى الشباك الصغير. قدّم ما تبقى معه من نقود واستلم الورقة التي يبحث عنها الآن. لا يجدها.
    قال للكمساري: "كانت معي.. لكن يبدو أن أحدهم سرقها".
    نظر إليه الكمساري الطويل. الطويل جداً مثل نخلة تسلقها في طفولته في حوش بيتهم. نظراته مخيفة. كأنه واحد من كتيبة الرعب التي سافرت في قطار الغرب. قال له:
    "أنت كذاب.. إذا كان الواحد منكم شجاعاً بالصعود إلى القطار دون تذكرة، فعليه أن يتحمل تبعات ذلك".
    فهم ماذا يعني الرجل النخلة. فقد اعتبره في عداد المسافرين الهاربين من دفع ثمن الرحلة، في قطار كان من المفترض أن يدفع لمسافريه ثمن صبرهم على بطئه، عرباته المظلمة. تعثراته المتكررة. سائقه قليل الذوق. مراحيضه الغارقة بالبراز المتحجر.
    كان الذين يعتصرهم البول من الرجال يتبولون بجرأة عند الباب. يقف الواحد منهم، يعطي ظهره للركاب مرسلاً البول إلى الخلاء. يكون الهواء قوياً في الخارج. لكل فعل ردة فعل. يعود البول مجدداً في شكل قطرات مالحة، تستقبلُ باللعنات في وجوه الركاب المتكومين قريباً من الباب، جوار المرحاض، في ردهة لا تتجاوز مساحتها (متر x متر).
    يستقبل طفل رضيع في حضن أمه قطرة من تلك القطرات. يتذوقها. عمره شهران وأيام. يتذوق طعم الملح لأول مرة في حياته القصيرة. يراه لذيذاً. ينظر إلى الرجل الذي تبول واقفاً، بابتسامة مشرقة، تُفسّرها والدته على أنها مُوجهة لأحد الملائكة المتخفين في مكان ما في القطار.. لا يراهم غير طفلها.. الذي كان في الواقع، يبتسم متمنياً أن يعاود الرجل الكَرة مرة أخرى. أن يتبول.
    ثمة سيدة متقدمة السن، اعتصرها البول. لكنها امرأة.. كيف لها أن تتبول؟ وأين؟. لا سبيل إلى المرحاض، فالدخول إليه مغامرة لا تحمد عقباها. كانت عنيدة. قررت التجريب. التجريب فعل "حداثوي"، حتى لو قامت به عجوز تنتمي لجيل ما قبل الحداثة. انتهت المغامرة المرهقة بتلطيخ قديمها بما لا يمكن وصفه.
    لم يتابع ما جرى بعدها للسيدة، وهي تستعد لاستقبال الشتائم، وهي تطأ الناس بقدمين مقززتين. فقد سارع الكمساري لمناداة الشرطي الذي كان يقف وراءه تماماً، قائلاً: "خذه إلى (الكركون).. إنه هارب من القانون.. النظام".
    في تلك اللحظات، كان هناك العشرات ممن سافروا بلا تذاكر. ينتظرون دخول القطار المحطة القادمة، لينزلوا سراعاً من سطوح العربات التي كانت تسير باهتزاز شديد كأنها فوق بحر هائج. هؤلاء "الهاربون من القانون" - أيضا - عليهم أن يعجّلوا هروبهم، قبل أن تقبض الكلبشات على أياديهم المرتجفة.

                  

01-13-2009, 11:35 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)

    6

    بعد عدة ساعات من تطويق الشرطة الألمانية، لمحطة مدينة كيل للقطارات، الميناء الواقع على بحر البلطيق، وعاصمة ولاية (شليزفيج هولشتاين). كان أن استؤنفت حركة القطارات.
    صوّرت كاميرات الأمن رجل أسود الشعر، في العشرينات من عمره. رجل أسمر البشرة بشعر أسود مجعد. لم يتعرف المحققون على هويته. هو كان يعرف أنه سوداني جاء إلى هنا، قبل عدة سنوات باحثاً عن عمل. وصل (كيل) بعد رحلة استغرقت خمس سنوات بدأها من مدينة مغمورة في شمال السودان، في مغامرة تشبه رحلة بطل رواية (مدن بلا نخيل) لطارق الطيب. سوداني يحلم بأن يكون كاتباً معروفاً ذات يوم. حلمه لم يتحقق إلى اللحظة التي رأى فيها الفتاة الفارسية.
    لديه عشق خفي للشيعة. لأنه سبق له أن تشيع لأهل البيت ضمن مغامراته الفكرية الفاشلة. التقى طائفة تعمل بالسر في الخرطوم. كان ما يزال طالباً بالجامعة. حدثوه عن فكرة الخلاص البشري. لابد من مهدي يحرر العالم من العشوائية والفوضى. أعجبته الفكرة "اليوتوبية". أمتعته فكرة زواج المتعة، رآها نوع من الفكاك من أسطورة "الزاني والزانية". كان لا يزال مدوخاً بمشاهد "العدالة الناجزة" في طفولته، في الـ (أسود وأبيض) الذي اشتراه أبوه بالأقساط من جاره الذي كان يسدد الدين الذي سافر به لأداء فريضة الحج.
    كم من الساعات جلسها أمام التلفزيون. يقارع روحه. بين أن يكون طلائعي "شبل" مرغوب فيه في المستقبل كأحد "الأسود/السدنة".. أقصر طريق لكي تتفوق في الحياة وتحقق حلم أهلك الفقراء.. وبين أن يكون صاحب مبادئ. فالمشروع الذي بدأه مدرس الجغرافيا بتجنيده ليكون طليعي مميز، كان مدرس الفنون المتنوّر يعمل على هدمه بشكل سري. أقنعه بأن: الشريعة لا تصلح للقرن العشرين، وأن النميري مخادع وكذاب حتى لو كانت قُبلته دافئة.
    كان محتاجاً لمذهب فكري ينتشله من ضياع، من توتر نفسي وقلق يلازمه. في التشيع يوجد نوع من الراحة التي تحققها شخصيات الأئمة. الإمام علي على وجه التحديد.
    أخبره المرشد الذي قاده إلى المقر السري للطائفة، في البيت المكون من طابق واحد في حي منسي وسط الخرطوم: "على مدار التاريخ ثمة شخصية واحدة جديرة بالاحترام، هي الإمام علي".
    قضى ليلة طويلة، كأنها من ليال التكوين الأولى للوجود. كان البرق يشق سماء الخرطوم. الرعد يقصف بالسكينة. الملائكة تسحب أجنحتها الكبيرة الحجم مسافرة إلى الأفلاك العلية. تراءت له بين الحلم واليقظة. قوارب محمولة على أنهار الجنة. رياح ترابية كالتي تأتي في شهر أمشير في الشمال، والتي عايشها في زمن كأنه لم يأت ذات يوم في عالم يشرع نوافذه للنسيان. رأى الإمام علي يحدّثه بحنان وعطف، بلغة تفوق المجازات والاستعارات، دون استعارة أو مجاز واحد.
    في الفجر، كان قد غادر الفراش المرمي على الأرض بجوار مكتبة عريضة من الخشب الرديء، احتشدت بمجلدات ضخمة الحجم، تتناول تاريخ التشيع. كربلاء. جراح الشيعة المضطهدين في الأرض. تاريخ الأئمة وعذاباتهم. عاشوراء. الحسن والحسين. فاطمة الزهراء. قرآن فاطمة. كتاب الكليني للأحاديث التي أغفلها البخاري ومسلم. مؤلفات محمد باقر الصدر، المدرسي، محمد حسين فضل الله،، وغيرها.... أسرع لتناول كتاب منها، دون أن ينظر إلى عنوانه. بدأ في القراءة. لغة حداثوية، غامضة، وملغزة، تحاول أن تقترب من العلم. لا مجال للفكاك من هذا الثراء الفكري.
    رأى مرشده قد غادر الصالة التي تتوسط البيت إلى الحمام. ربما تبول أو توضأ دون أن يغسل قدميه. الشيعة يتمسكون بالمسح. خرج الشاب القادم من غرب السودان إلى الصالة مجدداً، كان قد عبأ أبريق الشاي الكهربائي بالماء من حنيفة الحمام. يرغب في تعديل مزاجه في انتظار مقدم صديقته. زوجته التي تزوجها من أجل المتعة، والتي سوف يتزوجها بعقد لاحقاً بعقد رسمي، وينجب منها.
    اقترب من المرشد ليخبره بأنه رأى الإمام علي في رؤية منامية. قال له المرشد: "رؤيا الأئمة حق، فالشيطان لا يتمثل بهم".
    ظلت تلك الليالي في ذاكرته أشبه بأضغاث الأحلام. يسترجعها اليوم على رصيف المحطة في (كيل)، وهو ينتظر أن تعود الفتاة الشيعية التي هربت منه. لم يكن يعلم أن تلك الفتاة كانت "إرهابية". كانت تحمل قنبلة لتفجر القطار. خلعت حجابها من أجل الشهادة. لم تكن فارسية كما تمنى، كانت سنية من فلسطين.

                  

01-13-2009, 11:39 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)

    7

    لو كان يعلم أنها كانت تنوي تفجير القطار. هل كان سيثيره جمالها، جسدها؟. فشلت العملية لأن القنابل التي كانت تحملها، رديئة الصنع. قالت الشرطة: "إن السبب وراء عدم انفجار القنابل، هو خطأ قام به صانعها".
    في اليوم التالي، كانت تطالع الصحف بشيء من الاستهزاء. تتأمل صورة الشاب الأسمر التي وضعت على الصفحة الأولى من الجرائد الألمانية. وفي أغلب جرائد العالم. استطاعت أن تقرأ وهي تقف أمام بائع الصحف، أكثر من مانشيت: "القبض على مدبر عميلة تفجير القطارات في (كيل). "إرهابي سوداني أراد تفجير القطارات". "الإرهاب السوداني يصل إلى بحر البلطيق".
    صرح مسئول في الشرطة الاتحادية الألمانية لأكثر من جريدة: "إن احتمالات وجود خلية إرهابية وراء المجرم، تفوق احتمالات عدم وجودها". هو، لم يكن قادراً على الدفاع عن نفسه أمام المحققين. ليس لديه المنطق الكافي لإقناعهم بأن الكاميرا أخطأت. في حياته لم يجرب أن يحمل قنبلة. لم يسبق له أن التقى بأي واحد من هؤلاء الذين يُطلق عليهم الإرهابيين.
    رد عليه المحقق الألماني بغضب: "لا تحاول إقناعنا بأنك برئ.. أنت جئت من بلد لا يمكن تبرئة أهله أبداً". سأله: "أين كنت في النصف الأول من التسعينات في القرن الماضي؟". ردّ: "في السودان.. كنت طالباً بجامعة الخرطوم أدرس الهندسة". سأله مرة أخرى: "يعني في ذات الفترة التي كان بها أسامة بن لادن بالخرطوم.. كنت أنت هناك؟".
    حاول أن يقنع المحقق أن هناك أكثر من سبعة مليون شخص كانوا موجودين في الخرطوم، في تلك الفترة. الآن تزايد الرقم إلى حوالي 10 مليون. هل كان هؤلاء السبعة ملايين، كلهم، يعرفون أسامة بن لادن؟!. ضحك المحقق، أجابه بسخرية: "لكن لا أحد منهم حاول تفجير القطارات في كيل، غيرك!".
    ماذا لو كان القدر قد أخطأ، وقتذاك. وبدلاً من أن يكون هو في الخرطوم، يكون في مكان آخر. أي مكان. المهم ألا يكون هناك؟. أو ماذا لو حدث العكس.. ألا يكون أسامة في الخرطوم؟. لكن القدر لم يخطئ. أخطأ اليوم بتصنيفه كمجرم، سيحاكم عمّا قريب، بعد أن تم تحويل أوراق القضية إلى المحكمة، وبات الأمر واقعاً بما يشبه الحلم.
    في تسعينات القرن الماضي، جرت أحداث كثيرة في السودان. على الأغلب كان معظمها سلبي لا يخدم مستقبل البلد. تحولت الخرطوم إلى مدينة الهاربين من العدالة في عواصم الدنيا. كارلوس جاء متخفياً إلى هناك.. تخفي معلوم للبعض بالطبع.. لاحقاً تم تسليمه للحكومة الفرنسية في صفقة كبرى. كان يعيش في الخرطوم كـ (مواطن) من الدرجة الرفيعة، في واحد من أرقى الأحياء. حي العمارات. في فيلا مكونة من طابقين على الشارع الرئيسي المؤدي إلى المطار.
    أسامة بن لادن وأعوانه، اتخذوا الخرطوم مركزاً لإدارة عملياتهم الإرهابية في العالم. حاولوا اغتيال زعيم القاعدة في حادثة مشهورة، عندما قام مجهولون بإطلاق النار على المصلين الخارجين من المسجد بعد أن أدوا صلاة الجمعة. مات العشرات في الحال. لم يكن أسامة بن لادن بين الذين التهمهم الرصاص. فرّ الرجل. لاحقت الشرطة الفاعلين، قبضت عليهم. وتسربت خيوط الحكاية، رغم الإدعاءات الإعلامية الرسمية.
    في الخرطوم، وفي تلك الفترة ليس مهماً كيف تنتهي القصص. ولا كيف تبدأ. الوسط هو المهم. مثلاً في قصة كارلوس، فإن الجزء المشوق يتعلق بطريقة عيشه وسط السودانيين. يقال أنه ارتدى عمامة كبيرة ذات مساء، لم يحسن لفها على الطريقة السودانية. كان معجباً بعمامة الفنان كمال ترباس. أيضا عمة الصحفي حسين خوجلي، رئيس تحرير صحيفة ألوان. حاول التقليد. فشل.
    في مطعم بحي (الخرطوم اثنين)، دخل بعمامته العجيبة، تناول دجاجتين مطهوتين على إيقاع موسيقى أثيوبية صاخبة، تنبعث من مكان مجهول داخل الصالة التي كانت تعج بالصحفيين الرياضيين، الذين جاءوا بعد سهرة في بيت أحد زملائهم، اجتمعوا فيها مع رجل مستجد النعمة، كان يحاول إغواء الصحافة بأي شكل كان ليصل إلى رئاسة أحد الناديين الكبار في كرة القدم، المريخ والهلال.
    لم تواجههم مشكلة في دفع تكلفة العشاء. لأن مستجد النعمة كان كريماً معهم، بعكس ما جرت العادة مع أمثال هذه النوعية من البشر. كانوا حوالي عشرة صحفيين إذن، ربما أقل أو أكثر. كارلوس لم يحسبهم جيداً. ولم يكن يدرك هويتهم. لو كان يعلم أنهم صحفيين، لغادر على الفور. لكن لو كان يدرك أنهم يمكن أن يبيعوا ضمائرهم مقابل المال، لعكس اتجاه قراره بالمغادرة. ولو كان يدرك أكثر أنهم مشحونون بالجهل والسذاجة في تقدير الأمور، لتريث.
    دون أن يستمع جيداً لما كانوا يتندرون به. دون أن يفهم ما قيل بالضبط، لحاجز اللغة. استوعب أن النكتة التي أضحكت أفواههم المعبأة بلحم الدجاج، كانت ذات علاقة وطيدة بعمامته الكبيرة، غير متقنة الهندمة. لم يطق المكان. دفع فاتورة الدجاجتين. أسرع للخروج بين عدد من الزبائن الذين كانوا يقفون عند المدخل بالضبط، غير آبهين بمن سيدخل أو من سيخرج. بعدها لم يلبس عمامة قط. لم يقلد السودانيين.
    كارلوس كان شجاعاً. وكان عاشقاً للسير لمسافات طويلة، في آخر الليل وأول الصباح. هل كان يمارس رياضة المشي؟ أم يتأمل؟ أم يفكر في الخطوة القادمة؟. هو وحده يعرف. مرة استوقفته دورية ليلة عند إشارات المرور التي تقود إلى حي الرياض، الذي ينافس حي العمارات في الرقي. قدم لهم بطاقة هويته السودانية، المزيفة. طالع شرطي الدورية البطاقة بضوء بطارية كبيرة الحجم. أعادها لكارلوس، محذراً له من التجوال في مثل هذا الوقت المتأخر، بعد أن وجه له مجموعة من الإهانات التي لم يستوعبها كارلوس. الحوار بين الطرفين دار بالأيدي والإشارات. برع كارلوس في تمثيل دور الرجل الأصم، الأبكم.
    بعكس كارلوس، كان أسامة لا يتجرأ على السير وحيداً في الليالي أو مع أول الصباح. دائماً كان يصحبه حرسه السوداني الخاص. في سيارة ماركة (لاندكروزر)، والتي يستعين بها في رحلاته الخلوية في براري السودان وسهول البطانة والعتامير، وهو يقضي الوقت في مطاردة الغزال ببندقية صيد لا يجيد تصويبها. مرة رأى غزالاً سميناً. حاول التصويب فشل. تناول الحرس الشاب، البندقية، من يده. برصاصة واحدة كان الغزال قد سقط على الرمال الساخنة. أسرع لالتقاطه وهو يلفظ أخر أنفاسه. ذبحه حتى لا يأكل "سيده" لحماً غير حلال. أشعلوا النار في ذات المكان. وجلسوا على الأرض، بعد أن نصبوا خيمة "عربية" صغيرة تحت الشمس الحارة، في انتظار أن ينضج لحم الغزال.
    سأله أسامة: "من أين لك بهذه المهارة العجيبة في التصويب؟". شعر الشاب بالفخر، ردّ على زعيم القاعدة قائلاً: "في العراق.. هناك تم تدريبنا. كنّا مجموعة مكونة من خمسة وعشرين مجنداً ذهبوا لتعلم فنون حراسة الشخصيات الهامة. للأسف عدنا إلى السودان ثمانية عشر. سبعة منا لقوا حتفهم في العمليات التدريبية الشاقة.. ترحمنا على زملائنا الذين رجعنا بدونهم. لكننا لم نحزن كثيراً، فقد نالوا الشهادة".

                  

01-14-2009, 00:24 AM

سفيان بشير نابرى
<aسفيان بشير نابرى
تاريخ التسجيل: 09-01-2004
مجموع المشاركات: 9574

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: emadblake)

    تحية طيبة
    وسلام علي سبيل المتابعة
    واصل يا رجل
    سعيك واصل
                  

01-17-2009, 11:21 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السجن الكبير - فصول من رواية (Re: سفيان بشير نابرى)

    العزيز سفيان

    ليس على عجل تجري كل الأشياء
    طالما نحن في حياة معلقة على نواصي الصبر

    أشكرك
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de