يجلس شابان على مقعدين متجاورين تماما أو مقعد يتسع لإثنين. الصمت يطبق عليهما، شانهما شان بقية الجالسين على المقاعد الأخرى. الأطول قامة منهما ينظر إلى الأشياء من حوله بنوع من الاستعلاء لا يحاول مواراته. أما الندبة الممتدة من أسفل خده و حتى الذقن فتؤكد ما يذهب إليه الناظر تجاهه من أنه خاض معارك ربما لم تكن ضرورية. على أية حال، كان وسيما أنيقا لا يضع ذيل قميصه داخل بنطاله.
الآخر ذو البشرة الداكنة كان يمسك صحيفة و مظروفا بني اللون و بحجم كبير. لم يكن يكترث للأشياء من حوله. فيما عدا ذلك يديم النظر إلى الصبايا الجميلات و غير الجميلات اللائي يعبرن في الجوار أو يقفن. لم يقم بفرد الصحيفة و تصفح محتوياتها على العكس مما يوحي به مظهره. فالذي يرتدي قميصا بنيا و حزاما بلون الكبد المحروقة فضلا عن الحذاء البني الذي لم تتردد إيطاليا في تصديره إلى العالم، يتعين عليه أن يفعل ذلك سيما و أن شاربه رفيع كشارب مجاوره.
قال أحدهما لأحد المنضمين حديثا إلى المجموعة مشيرا إلى شخص أخذ يبتعد:
_ أيعرفك ذلك الشخص؟
_ لا!
_ كانت يده في جيبك.
انتفض الرجل متلهفا إلى إدخال يده في جيب بنطاله الخلفي. عاثت يده طويلا و بتسرع، ثم قال بطمأنينة أكيدة:
_ لا أعرفه.
03-11-2006, 02:02 PM
ابوعسل السيد احمد
ابوعسل السيد احمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2005
مجموع المشاركات: 3416
(2)هأنت تجمع أوراقك المهمة في هذا المظروف الكبير. تحاول ملء عينيك من هذه الحياة التي تستعذبها؛ الوطن، الناس، الشمس الأكثر سطوعا، و هذا التعرق الذي يغرقك طوفانه. ما أجمل الفتيات و كل النساء في عينيك اليوم! هل لأن ذلك الهرمون مرتفع النسبة في دمائك هذه الأيام؟ أم لأنهن فعلا كذلك؟ أم الاثنان معا؟ لا تهمك الإجابات بقدر ما يبدو كل شيئ مسترعيا الإنتباه و جميل التفاصيل.
في مظروفك يرقد خطابها الأخير إليك. كتبته بعناية رغم عدم وضوح خطها. هل تراها كلماتها بذات الوضوح المتخفي بين ثنايا السطور؟ حتى اسمك لم تكتبه في صدر الخطاب. أما توقيعها فلم تكتحل عيناك بمرآه قط. لقد كانت تحرص في أوقات تواجدكما معا في المدينة على أن تظهرا كثنائي معظم الأوقات، و على مرآى من الجميع. الكثيرون ربطوا بينكما. حتى أنت كنت تحسها عالقة تماما. أحيانا تبوح لك بسر معاكسات الآخرين لها، و عروض العشق و الزواج التي تتلقاها، و في كل مرة تقول لك:
_ لا أدري لماذا أخبرك بهذه الأشياء، فأنا لا أخبر بها أحدا و بخاصة شقيقيّ.
عندها كنت تستمع إليها فقط و لا تعلق بشيئ. و مع ذلك تجد نفسك مرتاحا بحضرتها و لا تشتهيها.
في مظروفك الكبير، أيضا، تتمدد شهاداتك الأكاديمية و المهنية بتعدداتها و نسخها. هي ما بقي لك من سلاح مثلوم تواجه به الحياة التي أمست لا تعترف بمؤهل أعلى كعبا من الحظ الحسن و التوفيق و المحسوبية. هذا عدا عن معايير ربما لا تعرفها أو تغض الطرف عن تذكرها لبشاعتها. هل ستلاحقك تلك المحسوبية في غدك الذي تستشرفه مشرقا؟
لتعد إلى فتاتك –بالأحرى سابقا- و لتستخرج خطابها المزعوم أخيرا، و تفتحه، و تقرأه. هل ستستبقيه ذكرى لتلك الأيام التي كنت تجدها حلوة؟ تلك الأيام التي يسرق فيها القمر أضواء المدينة ليظل وحده متربعا على قبة العشق مدعيا الإمساك بمقاليد النفوس؟ أم تلك الأيام العذبة التي كانت تجلس فيها إليك تحدثك عن كل شيئ بدءًا بأحاسيسها و صغائر أحلامها، و حتى لون أطفالكما و عدد الإناث فيهم؟ ذات مرة قالت لك إنكما سترقدان منفصلين، كلاً في غرفة، بعد زواجكما. أجبتها بأنك ستتزوجها و تظل مقيما مع أمك كشأنها في بيت أبيها. حتى جاءت تلك الأوقات التي حدثتك فيها عن قريب أبيها و غيرته الأخوية، و أرتك صوره ببزاته العبقرية و وسامته. كنت تعجب أنه لم يتقدم للزواج منها تبعا لما أخبرتك به! لكن ثمة أناس يؤمنون ألا كرامة لنبي في أهله. أما هي فتؤكد أنها لم تعرف العشق قبلك. فلتحتفظ لها بذكرى قرصاتها لك في فخذك عندما تداعبها بأنك على غير استعداد لتدليل شخص أكبر منك سنا هو هي. و المدينة المشتغلة بالناس تنقل إليك أن قريبها ذاك يريد زواجها. فلربما رفضته و ظل على وفاء القربى و بقية من حب ظن أنه سينتصر. ثمة أناس يستهويهم الرفض و يظنونه تمنعا. فليهنأ بها، أو فليفعل غيره! أما أنت فالحياة الجديدة تناديك، و الصبايا أرتال.
تجري عيناك على السطور و الكلمات من خطابها، لكنك تغرق في جداول أفكارك الجامحة، و تعرف أن الحب عندما يتحول إلى شفقة يضحي مناحة في عرس. فلتمنحها صكا بالحب؛ حبك و للحب؛ حبها، لتظل هي سمكة ظمأى للعشق و للرجال.
هيا، أعد خطابها المتوسل ذكرى جميلة إلى المظروف، و لتخرج جواز سفرك ذا الخضرة و الزهاء، و تتملّى من تأشيرة الدخول إلى تلك البلاد البعيدة لتتنسم عبير حياة لم تجربها! هل هي الحرية، أم التحرر، أم الإيغال في التمدن؟ لتؤجل الإجابة ريثما تكتشف كل شيئ بنفسك!
تلحظ أن شريكك في المقعد يحاول استراق النظر إلى ما بين يديك، فتلتفت لتراه لأول مرة. هل هي فعلا لأول مرة؟ كأنك رأيته من قبل. نعم.. هو قريبها ذو البذات و الحلل. ما باله شاحب و ناحل؟ أم هي الصور خدعتك؟ يتململ في جلسته و يتنحنح. هل هو الفضول؟ لا تأبه له. هو جزء شاحب من ماض أكثر طيفية. تحبط كل محاولاته جرك إلى الحديث. لعله لمح الخطاب، و عرف الخط. لكن سيَان الآن.
نعم، أنت لست روميو و لا جميل. من اللاشيئ الراقد، هناك، في قلبك تستنبط لها صورا شتى ليس كما تتمنى بل كما بدت في المرة الأخيرة التي إلتقيتها فيها. كانت متسخة يعلوها زبد العاطفة. و أنت، ستنتظر المخاض و فينوس الخارجة من ثبج البحر.
03-12-2006, 08:52 AM
ابوعسل السيد احمد
ابوعسل السيد احمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2005
مجموع المشاركات: 3416
(3)هأنذا أتعافى أخيرا من جراحي. رصاصة في الساق و خمسة عشر يوما ثم يجيئون لنقلنا إلى العاصمة بتموضعها البعيد. عذاب لا يطاق كابدته، و انتهى بي الحال إلى أن أسعى بساق أقصر من رفيقتها. ما أيد شفائي السريع زياراتها المتكرة لي في المشفى البغيض. دموعها التي تذرفها عند مرآي كانت دليل محبتها برغم رفضها غير الصريح لي. هل رفضتني حقا ذات يوم؟ في الواقع، هل طرحت عليها فكرة الإقتران بي فعلا؟ كانت لقاءاتنا مزيجا من إمعانها في التهرب كلما تجاسرتُ على إثارة موضوع ثنائية الرجل و المرأة و نظرات مترددة البوح.
كلما أحسستها قريبة مني أشعر بها تفر عن عمد، و هو ما كان يحبط محاولاتي طرح سؤال الإرتباط. في كل مكان قدمتني إلى صويحباتها على أنني قريب أبيها. ألا تعلم أن أباها يعود بجذوره فقط إلى منطقتنا؟ هكذا صرت معروفا في تلك المدينة حيث تقيم و أهلها و حيث ذهبت أعمل بشعور المنفي إلى فصول الجحيم. و هكذا ربطت المدينة المشتغلة بالناس بيني و بينها لدرجة أن زملائي سالوني عن موعد الزواج و أجبت بأنه سيكون قريبا.
اليوم، و قبل رحيلي إلى مدينة أخرى في الأقاصي، أذكر جيدا أنني عندما كنت أرقد في المشفى سألتها إن كانت تقبل بي زوجا و أجابت بأن عليَ أن آخذ الدواء في مواعيده و آكل جيدا حتى أشفى بسرعة و عندها سنتحدث في كل شيئ. كانت محاولة مني لإنتزاع نصر عسير في حالة ضعف بينما تقمصت هي دور طبيبة ناجحة. إن أجمل انتصاراتنا هي التي تتحق و نحن في وضع ضعيف. ثم جاء يوم أشد وقعا في نفسي من الجراح و الشظايا السبع التي تستقر في جسدي. علمت أن آخرا في حياتها. أو هكذا خمن الكثيرون، فقد شاهدوا شابا أنيقا لا يفوقني في شيئ يكثر الظهور معها. ربما ما يحمل من درجة علمية مؤهله الوحيد لإجتذابها، و لكن لي مركزي المتميز. تُرى هل كان يقف طوال الوقت بيني و بينها دون أن أعلم؟ أم قفز إلى حياتها بعد رحيلي من تلك المدينة إلى أحد "المنافي" البعيدة؟ آه لو ألتقيه و استنطقه، أو أعرف منه الحقيقة! لا.. بل سأكتفي بأن أطلق عليه رصاصة واحدة من مسدسي الكبير.
أحس الجالس إلى جواري يتصفح الكثير من الأوراق. فلألق نظرة لن تقتل غزالا على أي حال. يا لطيف الألطاف، نجنا مما نخاف! أرى خطها على الورقة التي بين يديه محدقا فيها لفترة طويلة! نعم.. أجزم أنه خطها. و لكن من هذا الرجل؟ و من أين له هذه الورقة؟ لأكن حذرا و أحاول استراق النظر إلى الورقة. "احتكمت عواطفي إلى أنبل احساس فاخترتك شريكا لروحي توءما لحياتي في الابدية و في هذه الدنيا الفانية." يا للهول! هو أسلوبها عينه. إذن فهو غريمي! الرجل الذي نجح في ما لم أنجح فيه قط. لكن لأستوثق منه. أعرف كيف أجره إلى محادثة عابرة يعقبها تعارف. هيا.. عليَ أن أسرع!
_ الجو حار جدا هذه الأيام.
_ ...........
ما باله يصمت؟ هل هو مستغرق أم متصامم؟ لأجدد المحاولة:
_ الناس في هذه الأيام لا يعرفون الإتيكيت..
_ ..........
هو صامت كأبي الهول يعبث بأوراقه و يطوي الخطاب بعناية و يضعه في مغلفه الذي يحمل، أيضا، خطها الواضح ثم يدخله في المظروف البني الكبير. ها هو يسد النافذة الزجاجية دون أن ينظر إليَ، بعد أن طلبت منه ذلك.
هل سأرضى أن ينتصر مثل هذا الذاهل عليَ؟ لماذا لا أكون واقعيا، فهناك ألف فتاة تتمناني و هي لا تصل عشر معشار إحداهن. إذن، فهنيئا له بها!
03-12-2006, 10:06 AM
bayan
bayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417
شكرا على أنك تكبدت عناء قراءة ما أكتب هنا..... و لعمري إنها لقلادة ثمينة ترصع نصوصي إلى الأبد.. و ليس في وسعي أن أقتبس بعضا من مداخلتك هنا لأنها في نظري جديرة بإقتباسي لها كاملة إذ أنها شهادة (لها وزنها) الكبير جدا لما تتوفرين عليه من (معرفة) و (رؤى) و ( تجربة) سواء أكان في مضمار الكتابة أو مجال النقد. ما أشرت إليه من ناحية أسلوبي أو تقنياتي في الكتابة يظل جزءا أصيلا في تجربتي ككاتب. لكن لندع رؤيتي لكتاباتي لمراحل لاحقة. المهم الآن عندي في المقام الأول هي رؤاك أنت الناقدة المتضلعة، لأنها، أي الرؤى، حتما ستنير تجربتي في كتابات قادمة. كم أسعدي أنك ستمرين (برواقة).. و أرجو صادقا أن تكتبي وجهة نظرك إن رأيت في ما أكتب من إعوجاج .. ولك ودي و احترامي
03-16-2006, 05:25 PM
ابوعسل السيد احمد
ابوعسل السيد احمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2005
مجموع المشاركات: 3416
Quote: هل سأرضى أن ينتصر مثل هذا الذاهل عليَ؟ لماذا لا أكون واقعيا، فهناك ألف فتاة تتمناني و هي لا تصل عشر معشار إحداهن. إذن، فهنيئا له بها!
(4) توقفت الحافلة عند محطها الأخير عند وسط المدينة. دفع أولهما نزولا قيمة تذكرتين دون أن يتم التعارف بينهما. ترجل الآخر بعده، و كذلك دفع قيمة تذكرتين للسائق فنبهه إلى أنها مدفوعة. اندهش! سأل عمن فعل، فأشار السائق إلى جهة ما. عزم أن يتعرف إليه و يشكره. لكنه عندما إلتفت وجد أن الآخر كان يركض بكل ما أوتي من حُلم.
03-24-2006, 05:10 PM
ابوعسل السيد احمد
ابوعسل السيد احمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2005
مجموع المشاركات: 3416
كانت هذه الجملة هي الأخيرة في نص الركض إلى الشمس و مدائن بعيدة القصصي. لعلنا في تراكضنا ضمن هذا الشتات الكبير و المنافي المستحيلة الممكنة نتمثل بعضا من تلك الحياة و هاتيك الأحلام أيضا، بعد أن، قسرا، تمثلنا أجزاء من واقعها الحارق بشموسه الملهمة و عذاباته الجميلة.. نعم عذاباته الجميلة و شموسه الملهمة. فهو الوطن.. لكن هل سيعود وطننا سيرته الأولى؟ ماذا حل به هذا الوطن؟ هل سيصح فيه: "حنبنيه حنبنيه البنحلم بيهو يوماتي"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة