الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 04:08 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة ابراهيم على ابراهيم المحامى(ابراهيم على ابراهيم المحامى)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-23-2007, 06:54 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها

    بسم الرحمن الرحيم

    رواية الحيطان

    (1)

    الضاحية

    الآن أتذكر كل شيء عن حياتي الماضية في الضاحية قبل خروجي منها. في زحمة الحياة والأحداث في الخرطوم كنت موقناً أنني لن أستطيع الكتابة عن الضاحية وأنا بعيد عنها، وكنت أتخيل أنني ربما أتمكن من ذلك إذا عدت إليها مرة أخرى، رغم أن شكوكاً كثيرة كانت تظلل عودتي. الآن فقط صدقت نبوءة أمي ورهانها على عودتي، لعلّها لا زالت تحتفظ بحفنة التراب التي أخذتها من تحت موطئ أقدامي لحظة خروجي لسفريتي الأولى، فها أنا أعود إليها بعد غياب طويل. كنت أفكر.

    انحرفت سيارة التاكسي من الشارع السريع الذي يربط مدينة مدني بالضاحية، وسلكت طريقاً جانبياً.
    جاءني صوت السائق مستفسراً ليتأكد من مدخل الضاحية:
    - نحو اليسار؟
    قلت
    - نعم.
    فولج التاكسي نحو الضاحية.

    نظرتُ في قلق إلى المرآة الصغيرة المثبتة في أعلى سيارة التاكسي لأتأكد من هيئتي وهندامي. كان بوجهي حزناً لم اخلعه منذ شهور، ولم اعد ذلك الشاب الصغير الذي خرج من الضاحية قبل سنوات طلباً للعلم. تغييرات كثيرة اعترت الجسد والروح، تحسستُ ساقي الصناعية، فكنت قد عدت إلى الضاحية بساق بلاستيكية. هذا ما نلته من وليمة السياسة في جمهورية العاصمة المثلثة.

    هل أستطيع أن احكي لأهلي وجميع سكان الضاحية كل شيء ؟ هم يحبون معرفة التفاصيل، مغرمون بمعرفة كل صغيرة وكبيرة، ولا يحبون الاختزال، إن أكثر ما يكره أهل الضاحية هو الغموض. ستكون المفاجأة شديدة عليهم، وسأكون وجبة ساخنة لأحاديثهم، يلوكونني لسنوات قادمة، سيلحون على معرفة كل شيء، كل ما حدث منذ أن تركت الضاحية، سوف يسألون بشدة عن تفاصيل ما حدث، وكيف فقدتُ ساقي هناك.

    الضاحية تمثل عالم وفكرة في أذهان سكانها، وخيال طاف بعقل زائريها وذكريات حلوة تخلد في عقول الذين عسكروا يوماً في حدائقها الغناء. الحيطان في الضاحية قصيرة وشفافة، يمكنك أن تسمع ما يدور بداخلها، وتستطيع أن ترى الأحداث تعتمل أمامك وتشاهدها، و تسمع الناس بكل وضوح وهم يحكون أدق أسرارهم. في الضاحية كل الحكاوي طيارة، أي لها قدرة على الطيران حتى ولو كانت سخيفة، تصل الجميع قبل أن يفرغ راويها من وضع فصول ختامها. وفيها يمكنك إيجاد حل لجميع مشاكلك بسهولة، وحين يجبرك اهلك على الانتماء لأفكارهم التقليدية، فيمكنك الهروب منهم نحو الأفكار العقائدية اليمينية أو اليسارية التي تكثر في الضاحية.

    أزحتُ المرآة جانباً لأرى الطريق واشم الهواء النقي، السيارة تسرع والضاحية بكل تفاصيلها تزحف نحوي مسرعة، بعباءتها القديمة، وبنيلها وغاباتها وجروفها، ومزارعها وأزقتها الضيقة التي طالما تجولت فيها، تلبس حلتها الخضراء دوماً، وتكشف ما بداخلها من غير حياء.

    صور كثيرة تمر بي و أنا أدخل عبر البوابة الغربية الوحيدة من ناحية طريق المرور السريع، وكانت بيوت الضاحية مرتبة كشتول حقل البرسيم، وأشجار النيم الكثيفة المتشابكة تعلو سقوف المنازل كأنها سحابة خضراء، وسطح النيل الأزرق يظهر عند انحنائه المقوس ليتجه شمالا ناحية المدينة، ماراً بمنعطف بحيرة “بجيقا" المرفقة به.

    سور المدرسة المتوسطة المنهار منذ السبعينات، وبيوت المُدرسين التي تحن إلى طلاء جديد، وجنائن المانجو وأشجار الليمون تبدو متضجرة بوضوح من شارع الإسفلت الهزيل الذي يقود إلى داخل الضاحية. في كل عام يتآكل جسد الضاحية الأخضر، وتختفي أشجارها القديمة الشامخة لصالح الشوارع والمباني الجديدة المنتشرة في كل اتجاه.

    كان هذا هو الشارع الوحيد المعبد في الضاحية، يسير من الشرق إلي الغرب موازياً لامتداد النيل من الجهة الشمالية للضاحية، ضاعت ملامحه من كثرة الرتوق والحفر التي غطته. الإضاءات تلمع بين الأشجار من بعيد تحت سقوف المنازل المنخفضة، والضاحية ترقد وادعة على الشاطئ، يمتد جسدها كحورية مع امتداد تقوس النيل. زفير ساخن وروائح مختلطة تخرج وقت المغيب من كائنات الضاحية، ومن الأشجار، والحيوانات والنيل، وحكايات تنثر في كل ركن من أركان الضاحية.

    عادة ما تدب الحركة في الضاحية قبيل الغروب، وتمارس الأشياء اختلاطها العجيب، كأنها تعبر عن آخر لحظة في اللقاء أو أول لحظة في الوداع، فيختلط الضوء بالظلام، والروائح بالأصوات. وتشتد حركة العائدين من السوق في سيارات الأجرة أو سياراتهم الخاصة، ولاعبو الكرة انتشروا في الميادين، وعمال ورشة السيارات في تقاطع شارع الإسفلت لا زالوا في مكانهم يختمون يوماً آخر، والبهائم في حالة إياب من المشروع، تعبر شارع الإسفلت محدثة إيقاع غريب لم يألفه الناس، يتعالى خوارها وثغاءها ورغاءها، وأصوات الصيادين من ناحية النيل، تداخلت هذه الأصوات مع أصوات الناس والسيارات الفارهة التي يقودها المترفون من أهل الضاحية مسرعة نحو المدينة القريبة التي لا تبعد سوى نحو خمسة أميال فقط، يمنون النفس بسهرة ممتعة. كان إيقاع الضاحية نفس الإيقاع ولكنه زاد قليلا عما كان عليه منذ سنوات.
    كل شيء في الضاحية يتجه شمالا.
    النيل بصفحته الهادئة على يساري يظهر بوضوح هنا، لا يزال يتجه شمالا كما هو، وبينه وبين الضاحية يمتد شريط الغابة الطويل المقوس مع انحناءة النيل، وبين النيل والغابة ترقد جنائن المانجو والليمون والموز التي ترمي بظلالها على مياه النيل فتحيل لونها إلى الخضرة الداكنة، ودخان قمائن الطوب يتصاعد ويتجه شمالاً أيضا.

    عندما حاذيته كانت أشعة شمس المغيب الحمراء مسلطة على قمة مبنى "بجيقا" الغائص في الماء. أشعلتُ سيجارة وأنا أتابع مجرى النيل المحاذي لشارع الإسفلت الرقيق. عاودتني رغبة وقتية ظلت حبيسة في صدري لسنوات، وهي أن اطفي عقب سيجارتي في طمي النيل. النسيم في هذه الناحية بدا نقياً ولطيفاً، فجأة شعرتُ أنني قادر على تحريك الأحداث والأمنيات القديمة بين حيطان الذاكرة بعد أن خمدت طويلا. وهناك بقايا من أحداث لن اقدر على اجترارها الآن، فهي من نوع تلك الأحداث التي يصير مكانها في الذاكرة مسطحاً دون نتوءات مثل صفحة هذا النيل الهادئ.

    تتبعثر الذكريات سريعاً أمامي كرذاذ مطر مشاكس. بعضها استرجعته مراراً، وبعضها يعود إلى سنوات طويلة مضت يوم خرجتُ من الضاحية التي ولدتُ وعشت فيها، انشد تعليماً جامعياً في العاصمة الخرطوم، وبعضها يخرج الآن لأول مرة، إلا انه ما زال حياً يوخز بالألم.

    بدأت حيطان الذاكرة في الانهيار، الواحدة تلو الأخرى، وبدأتُ أستبين الأحداث أمامي مثلما حدثت تماماً، بترتيب دقيق يشبه إلى حد كبير ترتيب الأمواج في الأنهار. كانت الذكريات تنهال عليْ دون مراوغة أو تجميل، عارية من كل الألوان. كم مرعبة مثل هذه الذكريات التي احملها، خاصة عندما تجد طريقها للخروج ليتناقلها أناس شرهون كسكان الضاحية. كنت أرى نفسي بوضوح وأنا أتجول بين أنقاض هذه الحيطان وأرى التاريخ بصورة محايدة تماماً. الآن أدركت خطأ أفراد الأمن الذين تولوني بالرعاية في تلك الفترات التي نزلت فيها ضيفاً على المعتقلات، وبيوت الأشباح، فمن يقوى على إفراغ الذاكرة ومحوها، خاصة عندما تكون ذاكرة وطن بأكمله ؟ ومن يضمن عدم روايتها وتفشيها بين الناس كمرض معدي، هم حاولوا محوها وفشلوا، وحاولتُ مراراً أن أفرغها على ورق ابيض فأحترق الورق، ونأت بحملها تقارير المنظمات الدولية.

    يحتد بصري وأنا أحاول أن أرى الضاحية من جديد. تمتد الأشجار أمامي وتصطف على جانبي الطريق، منحتني الإحساس بأنني أسير بسرعة شديدة نحوها، تزحف الضاحية نحوى بنفس السرعة وهي تكتسي حلتها القديمة، الخضرة نفس الخضرة، لم يتغير شيء. بعض الجروف تتوسط المسافة بين ضفة النيل وشارع الإسفلت، والمزارع تسد الأفق على الناحية اليمنى. أشجار النيم تتشابك، كنت اعرفها شجرة شجرة، الآن تزداد كثافتها وتحول الضاحية إلى مغارات وكهوف داكنة. كثافة الأشجار أصبحت تزيد من خوفي.

    سألت نفسي وأنا على حافة الارتباك:
    "هل ستمنحني الضاحية فرصة أخرى للحب والتواصل؟"
    "هل ستحبني وأنا بساق واحدة؟"
    وأنا في غمرة هذا، سمعت صوت صبي يقول وهو يؤشر علينا " لقد عاد راشد"
    ابتسمت. فقد عرفتني الضاحية إذن!

    الآن تنهار حواجز وتتدفق الذكريات بصورة لم أتوقعها من قبل، هجمت عليّ كشلال منجرف. وأحسستُ أن الوقت والمكان أصبحا مناسبين لأفرغ ذاكرتي.
                  

04-23-2007, 06:58 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها (Re: ابراهيم على ابراهيم المحامى)

    (2)


    خرجت حشرة صغيرة من بين أضلاع الصندوق الخشبي القابع في أحد أركان الغرفة التي كنت أنام فيها مع إخوتي الصغار. كان شكلها غريب كأنها منبطحة على الأرض، وكانت تبدو جذلة رغم وحشة الليل التي أحس بها، اقتسم الأحمر والأسود تلوين جسدها القشري اللامع الذي تحمله ست روافع تجعل متابعة حركتها أمراً مشوشاً وصعباً. رأسها وعنقها اتشحا بالسواد، في حين كسا اللون الأحمر ظهرها المقوس. خرجت الحشرة تجري في نشوة غريبة دون ما هدف واضح بالغرفة. فجأة توقفت عن الجري والحركة، وتسمرت أرجلها الست عند قدمي فأر صغير دقيق الحجم، قابع على قطعة خبز يقضمها في زاوية الغرفة. انتبه الفأر إلى وجود هذه الحشرة العجيبة فتسمّر في مكانه أيضا، واخذ جسمه يرتجف من الخوف. ودون أن يدري، صعد الفأر إلي أعلى قطعة الخبز التي كان يقضمها علّها تعصمه من هذه الحشرة المفترسة الصغيرة. كنت على هذه الحال أياماً أتابع حركة الحشرات والفئران التي تشتد ليلا عندما ينام شقيقاي اللذان يقتسمان الغرفة معي. كنت انتظر كل ليلة يقظاً لأتابع هذا الصراع الصامت، وأنا لم ابلغ السادسة من عمري بعد. في البدء تخرج الحشرات الملونة، ثم تعقبها الفئران الصغيرة الحجم، ثم تبدأ المعركة، ولكن دون صدامات تذكر، وبعدها يكون النوم قد غلبني في سريري الصغير المجاور لباب الغرفة التي تقع في أقصى فناء منزلنا الصغير.

    شعور غريب ينتابني في هذه الحالات التي تداهمني أحياناً في وقت ما بعد منتصف الليل في هذه الغرفة، تهويمات، وأحلام فظيعة، ومطاردات لا تنتهي. اشعر بأنني على حافة ما، على وشك فعل ما، ثم أرى توهجاً لأضواء بيضاء وزرقاء وخضراء تخرج من بين الحيطان والسقف، يتجمع الإشعاع في وسط الغرفة الصغيرة، ثم يتحول إلى ضوء هوائي أو سراب خفيف مصوب إلى عيني. يدخل الشعاع عبر عيني إلى مخي مباشرة، اشعر بأن الهواء يملأني من كل ثقب ومسام في جسمي، ثم أصير خفيفاً لدرجة الطفو في الهواء. وتمر لحظة أدرك فيها أنني لا زلت على فراشي، ثم فجأة تنكتم أنفاسي وأصبح مخنوقاً إلى حد الموت. صرخة حادة تقطع أوصال الليل وصمت الظلام، انتصبت معها واقفاً أمام زر النور، و إذا بالغرفة يملأها الضوء من كل جانب، لأرى أمي تقف أمام باب الغرفة، حينها أدرك أن تلك الصرخة كانت تطلع مني أنا.

    لم يكن ثمة شيء يميز منزلنا عن بقية بيوت الضاحية إلا ديوان جدي الملتصق به. كان منزلنا يتكون من غرفة كبيرة وأخرى صغيرة تستخدم لغرض الطبخ نهارا، ولمأوانا مساءً، وتقع الغرفتان في فناء كبير اقتطعه لنا جدي من أرضه الشاسعة، وكان والدي قد خصص جزءا منه لزراعة الخضار وأشجار الفواكه. باب السور الذي يطل شمالا كبير يسع لدخول سيارة صغيرة الحجم، تم طلاءه باللون الفضي الذي يشبه الألمنيوم، وفي قمة أقسامه الثلاثة تتربع حلقات وأقواس متداخلة. أشجار النيم الضخمة الخضراء تكثر في فناء الدار، كانت تصطف طولياً بصورة صنعت لنا ملعبا ظليلا لكرة القدم التي كنا نصنعها من الجوارب القديمة بعد أن نحشوها بالقطن وخرق القماش.أشجار الليمون والجوافة والمانجو اتخذت مكاناً قصياً من الدار.

    في وسط هذه الدار الواسعة يقع الديوان ذي الأقواس الكبيرة والأعمدة الإنجليزية المفتولة، تم بناءه من الطوب الأحمر وتم تكحيله بالاسمنت بصورة هندسية رائعة تأخذ شكل خطوط تتبع مجرى البناء لتبينه للناظرين. الصالون الكبير تتقدمه فرندة ذات أعمدة طويلة مفتولة ونوافذ مقوسة بصورة جعلت المارة يخلطون بينه وبين المسجد الصغير الذي يقع في أقصى غرب الضاحية. وكانت غرفة جدي قد ألحقت به، وكان بداخلها دولاب خشبي إنجليزي الصنع يضع فيه جدي ملابسه البيضاء وعباءاته الملونة التي يلفها بورق السوليفان، وكانت عصاته المرصعة بالعاج تتدلى من أعلاه ، وفي الجانب الآخر من الحائط علقت مرآة كبيرة نحتت من خشب الأبنوس الداكن اللون على هيئة نسر ضخم. لكل من هذه الأشياء قصص مختلفة وتاريخ طويل كان يحلو لجدي ترديدها لزوراه.

    كان الديوان يتوسط مملكة جدي. وكانت بيوت أولاده وبناته تحيط به من كل النواحي، منازل خالاتي وأخوالي تقع ناحية الغرب والجنوب والجنوب الغربي للديوان، أما منزلنا فيجاور الديوان من ناحية الشرق، كانت جميع المنازل تحتفظ بباب صغير "نفاج" لها يطل على الديوان.

    كان جدي طويل القامة، قمحي اللون، عريض الكتفين، ذو وجه حاد الفكين، وكان يبدو ناعم الجلد لأنه لم يسبق له أن عمل بالزراعة أو تربية المواشي، رغم انه يمتلك مزرعة كبيرة بالضاحية تنتج المانجو والجوافة والموز والليمون، فكان يبدو كشجرة مانجو كبيرة طويلة القامة، وارفة الظلال، تنم أوراقها العريضة عن ري جيد وارض خصبة المنبت. وكان دائماً يرتدي نظارة طبية سميكة يثبتها بسلسلة لامعة على رقبته. ورغم انه كان مبتسماً وحميماً إلا انه لم يسبق له أن عانق أي شخص، أو على الأقل لم أره يفعل ذلك. تراه دائماً يمد يده الطويلة لتحية ضيفه وكأنه لا يريد الالتصاق به.

    في ذلك اليوم من الخريف وقف جدي بملابسه البيضاء وعباءته المقصبة وعصاه اللامعة يشرف على ملابسي وهندامي استعدادا للذهاب للمدرسة الابتدائية لتسجيلي في الفصل الدراسي الأول. كانت الدراسة قد بدأت قبل شهر تقريباً، وأنا لا زلت بالبيت لأن ناظر المدرسة قد رفض قبولي بحجة صغر سني مما اغضب جدي العائد لتوه من رحلة تجارية طويلة في غرب السودان. لم أكن قد بلغت سن الدراسة بعد، إلا أن جدي كان يرى غير ذلك لسببين، أولهما أنني طفل ذكي، والثاني هو أن ناظر المدرسة لا يرفض له رجاءا.

    قال جدي دلالة على بدء التحرك:
    - هل انتم جاهزون؟
    أجابت أمي وهي تتأكد من هندامي:
    - دقيقة واحدة أسوي له أزرار قميصه.

    تبسمتُ وأنا انظر إلى جدي، رغم أنني كنت خائفاً ومرعوباً من فكرة أن أصبح تلميذاً في مدرسة لها نظام ومدرسين وناظر طويل القامة. كان جدي يراقب أمي مقطباً جبينه كالذي يقبل على موضوع مهم للغاية، وكان ممتعضاً لتأخيرنا عن الموعد. وكانت أمي منهمكة بإصلاح حالي ولا تعيره اهتماماً. كانت تبدو كعصفور صغير، كتفاها مرتفعان إلى رأسها، وكوعاها ظاهران كجناحين، ينعكس ضوء سنها الذهبية على حذائي الجديد.

    قالت أمي موجهة حديثها لي وهي منحنية تجاهي:
    - سوف تذهب إلى المدرسة الأولية اليوم، وسوف تصبح تلميذاً يا ولدي لأول مرة، فكن مهذباً وهادئاً.

    كانت حقيقة بدء الدراسة منذ شهر ونيف تربك أمي قليلا، ولكن رغبتها في هزيمة ذلك الناظر النحيل الطويل الذي رفض تسجيلي مستخفاً بها، وإيمانها أنه لن يرفض لها طلباً الآن في حضور والدها، ثبتا قلبها في هذا الموقف.

    كان والدي مشغولا بأمور تنظيم المزارعين، وكان كثير السفر والتجوال في قرى المشروع الكبير، وبين الضاحية والخرطوم للضغط على الإدارة لإعطاء المزارعين حقوقهم المسلوبة لوقت طويل. لم يجد وقتاً للذهاب معي لتسجيلي في المدرسة.

    لم تكن أمي تجيد التجاوب مع أسئلتي، وكانت دائماً تقول ما يجري في خاطرها نحوي دون فهم لسؤالي أو استفساري. كان مشهد أمي وجدي وهما في ثوب الخروج معي كفيل بأن يجلب لي فكرة واحدة: وهي أنني بصدد مقابلة أناس غرباء. كان مجرد التفكير في هذا من شأنه أن يثير الرعب في نفسي ويضعف ركبتيّ.

    كانت المدرسة الأولية بالضاحية التي تم بناءها في زمن الإنجليز، عبارة عن مباني صفراء مسورة بأشجار الكتر الشوكي التي يكسوها الغبار، فتبدو كأنها عطشى. في داخل فناء المدرسة انتشرت أشجار النيم و السيسبان ذات الأزهار الحمراء والصفراء، تلقي ظلا خفيفاً مفرقاً على الأرض. وكانت مباني الفصول تصطف في صفين متقابلين دون شكل هندسي ظاهر. كانت مكاتب المدرسين مقرونة مع الصف الشمالي من المباني الذي كان يتميز بفرندات دون الصف الجنوبي.

    حين ولجنا سور المدرسة، دلف جدي مباشرة نحو اليمين إلى مكتب الناظر الذي كان يقع في ناصية المبنى الشمالي. انتظرت مع أمي في الكنبة التي تقبع خارج مكتبه مباشرة. لم يطل الوقت حتى خرج إلينا الناظر ينعكس ضوء ابتسامته على إطار نظارته اللامعة، ودعانا إلى الدخول مرحباً. رفضت أمي أن تدخل، خجلا أم كبرياء، لا ادري، واكتفت بأن ربتت على كتفي ودعتني مشجعة للدخول وحدي.

    افتتح جدي الحديث مستعيداً ما قاله من قبل للناظر ومستفسراً عن إمكانية قبولي لهذا العام الدراسي الذي بدأ منذ أكثر من شهر.
    تظاهر الناظر بعدم المتابعة، وقال:
    "دعني أوجه له بعض الأسئلة، إن أجاب عليها، هذا يعني انه مستعد وهذا هو الأهم."

    قام الناظر بتوجيه بعض الأسئلة العادية لي، فأجبت على جزء منها. عندما لا أجد إجابة كنت استنجد بالنظر باتجاه جدي الجالس على الكرسي. فما كان من الناظر إلا أن ينتقل إلى السؤال الذي يليه برفق شديد ملحوظ. بعد أن فرغ الناظر من توجيه الأسئلة هلل لمستوى ذكائي وبدت عليه علامات الرضا. عندها هب جدي واقفاً وقال:
    "على بركة الله إذن".
    وهكذا انتهى الأمر بانصراف جدي دون أن يحدثني بشيء. في هذه اللحظات أخذني الناظر ليرشدني لمبنى الصف الأول. بكيتُ بكاءً شديداً بخوف وحرقة، في الوقت الذي كان جدي و أمي في طريق عودتهما إلى المنزل لأول مرة بدوني بعد أن تركاني خلفهما أواجه مصيري وحدي.
    *******

    عندما زار الضاحية إمبراطور بلاد الحبشة بصحبة الرئيس، خرجنا من المدرسة جميعاً في أزهى ملابسنا لتحية الزائرين. كان تقليداً أن تستضيف الضاحية كبار الضيوف الذين يزورون المشروع الزراعي الكبير الذي ينتج الأقطان والفول السوداني. تحرك الموكب المهيب من إدارة المشروع نحو الضاحية، تتقدمه السيارات السوداء والموترسايكلات التي يقودها رجال الشرطة في ملابسهم البيضاء كطيور الرهوْ. كنا نبدو كالحمائم الزرقاء في زينا المدرسي، قصاراً لا تتعدى قاماتنا قامة ذلك الإمبراطور القصير الواقف على ظهر السيارة ماداً يده لتحيتنا. كنا صغاراً أمام الضيوف الكبار، واحتشدت حناجرنا باللحن المرحاب نغني جذلين:

    "إلى ضيوفنا الكرام نهدي
    أزاهر الحب والورود"

    تعلو الموسيقى وتنخفض تتبعها أصواتنا الغضة في هارموني مميز وضعه معلم الرياضة والموسيقى، وتدربنا عليها أياماً وليالي حتى يليق اللحن بضخامة الموقف وعظمته. فجأة توقف الموكب المهيب، وحدثت فوضى وجلبة لم تكن في حسبان رجال الأمن الذين لم يعبئوا بنا أو يكترثوا لابتساماتنا البيضاء. كنا لا نخيف الرؤساء في شيء.

    فجأة انبرى سليمان المجنون من بين الجمهور وهو يلملم أسماله بيد وماداً يده الأخرى نحو الضيوف. تقدم وحيا الضيفين الكبيرين في أيديهما رغم أنف رجال الأمن، وتسلل كخيط ضوء خفيف، مخلفاً وراءه ابتسامة كبيرة ضجت لها أركان الضاحية في ذلك اليوم المشهود.

    أما كيف فقد سليمان عقله، فتختلف الروايات في تفسير ذلك، فلا أحد يستطيع أن يحدد على وجه الدقة كيف حدث ذلك. ما تزال الظروف التي أحاطت بجنونه غامضة جداً، وهناك تناقضات في إفادات الشهود، وتفاصيل غير معقولة حول الأيام التي قضاها نوماً قبل استيقاظه الأخير، كما لا يوجد تأكيد على الساعة والمكان اللتين حدث فهما ما حدث. ولكن تتفق جميع الروايات حول شيء واحد هو أن ما حدث كان فجأة وبسرعة دون سابق إنذار، وأن الزمان ذات خريف صاخب قبل أكثر من ثلاثين عاماً، زمان الإخصاب البشري والحيواني والنباتي في الضاحية، زمان يترقب فيه الكل بتفاؤل للغد الآتي.

    تقول إحدى الروايات إن التقليد السائد في الضاحية كان يلزم بأن تمر زفة العريس بترعة "حفص" في طريقها للنيل لتبريك العريس بعد أن يلقي بأغصان النخيل في مياهه حتى يبعد الشياطين عن حياته الزوجية. في ذلك المساء كان سليمان عريساً يزفه أهله لعروسه "الروضة" على صهوة جواد ابيض مزين ومحفل بالحرير الأحمر القاني حسب عرف أهل الضاحية.

    وكانت ترعة حفص القريبة من النيل الأزرق في ذلك العام مليئة بماء الخريف، وكانت تنضح بفائضها على النيل كزجاجة عطر مكسورة. عندما اقتربت الزفة منها، فجأة جفل جواد سليمان وكبا كبوته الأخيرة. صهل الجواد وهو يقفز عالياً، وأسقط سليمان على الأرض مغشياً عليه. وعندما اقتربوا منه وجدوه ملقياً على بيت نمل كبير، وكان الوقت قد اقترب من الغروب، فلم يتحرك ولم يفق، و ظن الناس انه قد كسر عنقه ومات.

    إلا أن بعض الروايات تقول أن سليمان دخن حشيشة البنقو السودانية المشهورة مع أصدقاء له قبل يوم واحد لزواجه، وعندما انصرف الأصدقاء نام سليمان استعداداً ليوم عرسه، إلا انه لم يفق من نومته تلك، واستمر نائماً لأيام ولم يستيقظ إلا وقد ذهب عقله وكل شيء معه، وتلاشت أحلامه.

    ورغم أنه لم يكن بإمكان أي شخص أن يجزم بصحة أية رواية، إلا أن ما يهم في الأمر أن سليمان عندما استيقظ من غيبوبته كان قد فقد كل شيء، عقله وعروسه، وفشلت محاولات الأطباء والشيوخ في علاجه، وعندما فقد أهله الأمل في شفائه تركوه وشأنه يهيم في الطرقات لا تفارق وجهه الابتسامة، فأصبح معلماً من معالم الضاحية.

    عند إعلان جنونه في الصباح التالي لم يبد أهل الضاحية اهتماماً علنياً بالحادثة، رغم أنهم ابدوا اندهاشاً سرى في أوساط الرجال حول قدرة هذا المجنون الجديد على تحريك الأحداث في الضاحية. لم يتعرّف سليمان على نفسه تماماً، ورغم ذلك فقد كان رواحه وغدوه، واختفائه وظهوره يعني استمرار الحياة في الضاحية. كان يجوب الطرقات، ويتعقب ماضيه مغتبطاً، ويحلم بعروسته الروضة. لا احد يعرف عن حياته الأولى شيئاً، ولكن من المرجح أنها كانت عادية مثل بقية أهل الضاحية. ولم يكتشف احد قدراته الخارقة إلا حين اكتشف الناس انه قد فقد عقله.

    وبفعل ذلك القدر تيسرت لسليمان معرفة أدق أسرار الضاحية، فعرف أخيارها وأشرارها، وعرف أسيادها وعبيدها، أغنياها وفقراءها، محسنيها وشحاذيها، شريفها و وضيعها، الزانيات والزانين، والحشاشون وأبناء الحرام، وهذه حالة لا تتوفر لشخص غيره.

    *******

    عادة ما يكون النصف الثاني من الخريف من اشد الفترات صخباً وهياجاً وترقباً في الضاحية، حافلا بالفيضانات وبالهزات الاجتماعية. في تلك الليلة من ليالي الخريف المشهودة في عام 1988م كانت السحب تتحرك وتتجمع في سماء الضاحية، داكن لونها، تزيد الظلام عتمة. اشتدت الرياح السوداء الباردة تهب من كل صوب تحمل معها ذرات الغبار الرملية التي تتغلغل في كل شيء وتدخل في مسام الجلد. ولمعت بروق كثيرة واختفت ملامح الضاحية تحت وطأة الغبار الكثيف.

    لم تكن الضاحية هادئة كعادتها وقت العشاء. كان الناس يؤدون الصلاة في المسجد الصغير الذي لا تزينه أية مئذنة، وتكاد نوافذه القصيرة أن تلامس رمل الأرض. وكان ثمة رجال آخرون منشغلون بإحضار مشروب العرق الكحولي من تلك المنازل التي تراصت حول محالج القطن الخاصة بالمشروع الزراعي الكبير. وكانت أصوات الحيوانات تتعالى متقاطعة، بين ثغاء وخوار وعواء، وأمست الضاحية مفتوحة على نوافذ الغيم والسحب، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الطوفان.

    فجأة شق صوتُ حلك الغبار والظلام، يعوي كأنه ذئب جريح. لم يتعرفوا عليه في أول الأمر، ولكن الصراخ المتكرر كان يلحُّ على آذان المصلين داخل المسجد الصغير فيخرجهم من خشوعهم وإنصاتهم للإمام وهو يقود الصلاة. اخترق صوت سليمان وقار المكان. أصاخ أحد المصلين السمع وقد الصق أذنه بزجاج نافذة المسجد المصبوغة بغبار العاصفة السوداء، وقال:
    - صراخ شديد....
    "الحقوا ....يا أبو مروءة ...يا ناس ...يا ناس....."
    تعالت الأصوات من خارج المسجد. أنهى المصلون صلاتهم على عجل، و أصاخوا السمع جماعة، وفُتحت أبواب المسجد لتصل إليه نهايات كلمات محبوسة، أطلقها سليمان فاحتشدت حروفها في آذان المصلين مع ذرات الغبار الكثيف:
    " البحر ....يا ناس الـ ...بـ ...حـ.....ر البحر زاد .... و دفق..."
    عندما اكتملت الكلمات كانت جميع أبواب الضاحية مفتوحة ومشرعة للريح والرمل والمياه والعويل.
    - معقول البحر زاد. تقاطعت الأصوات.
    - لا ، يقولون فاض ودفق.
    عندما اخترق سليمان وقار المكان بظهوره كأنه صاروخ منطلق، كان الجميع مأخوذين بالمفاجأة. كان يمهر الأرض بقدمين حافيتين لا يكاد يظهر لهما اثر وقد تسربلت ثيابه وتغطى جسده بالطين. التف الجميع حوله وشبكة من الألغاز برزت أمامهم. لم تكن هناك حقيقة واحدة غير سليمان نفسه الذي كان قابعاً ومطروحاً على الأرض، ممزوجاًُ بأعبائه وشروده الأبدي، يسوي سرواله الممزق محاولا أن يواري سوءته. كان يجيب على أسئلتهم اللاهثة بإجابات بعيدة عما يتوقعون.

    أصغت له الآذان، بينما ألقى هو كلماته كالحجارة. أوضح لهم انه وحده قد شهد بداية الفيضان، شهد المياه وهي تمور وتمور وتفور وتفور وتنفلت من بين ضفاف النيل إلى أن سالت أودية باتجاه ترعة "حفص" التي تحيط بها أشجار الحراز. قال انه "لم يعر الأمر في الأول اهتماماً، بل وجده أمراً مقبولا في مثل هذه الأيام من الخريف، ولكنه حين امتلأت ترعة حفص راح يجري ويعدو على طول مجرى النيل شرقاً وغرباً ...إلى أن أصبح الأمر بالنسبة له مؤكد ولابد واقع". الكل كان يعلم أن جريان المياه بصورة عكسية في ترعة حفص يعني أن فيضانا قد حدث.

    قال سليمان أنه صعد إلى أعلى المبنى فوق بحيرة "بجيقا" واخذ يتصنت، فسمع الأصوات الهادرة من مصادرها السحيقة التي لا يستطيع تحديد مكانها، وأحياناً خيّل إليه أنها تخرج من أذنيه، جرى وصرخ وجرى. و هاهو قابع في وسطهم ينظرون إليه ككلب جاء بصيد خائب. لم يفق أحد من دهشته إلا عندما أضاف مرة أخرى:
    " البحر جاءكم ...... يا ناس".
    و انهمرت عليه الأسئلة تجلده كرذاذ لذيذ.
    كان سليمان يضيف أحياناً تفصيلات أخرى غير مفهومة ولا تهم التحقيق في شيء. فعندما سألوه عن سبب خروجه في تلك الليلة قال انه خرج كي يوقف البحر عند حده، وقال إن الأحباش قد فكوا التروس وحرروا قيوده.
    قال صوت رجل غاضب من حقيقة الأمر:
    - وهل تقوى أنت على إيقافه ؟
    أومأ سليمان برأسه مرات عديدة. وقال انه يعرف مفاتيح البحر والمياه العالية، ولكن جنيّات البحر منعته من الوصول إليها.
    - أين هو هذا المفتاح ؟ قال صوت هازئاً.
    - "تحت بجيقا تحرسه الجنيات". قال سليمان وهو يبتسم.

    هوّم سليمان بوجهه بعيداً عنهم، إلا انه لم يغب عن وعيه المحدود مطلقاً، بل ظل يسمع ما يقولون، ويرى ما حوله من جلبة لا يخطئها مجنون، ومع ذلك بقي ساكناً في مكانه وطعم الغبار المختلط بنشوة غريبة ينعشا فمه. ثم راح المصلون في باحة المسجد يتحدثون عن الفيضان الذي حدث في الأربعينات، وكيف هدد الضاحية بالزوال، وتصاعدت الأصوات هنا وهناك، وبدا الخوف يتزايد من أن تصدق الأسطورة ويعيد النيل فيضانه بعد مرور أربعين سنة على الفيضان الماضي. كان الخوف يسيطر على الجميع من أن يعيد التاريخ نفسه.

    تعالت أصوات أخرى من شمال وشرق الضاحية في محاذاة النيل حذرت من الفيضان القادم ومن الغرق والدمار، أجفل الجميع وتفرقوا في كل اتجاه نحو منازلهم وتركوا سليمان قابعاً في باحة المسجد الصغير. لم يكن أحد مستعداً لمواجهة الإدانة في حقيقة الأمر، فلم يكلف أحدهم نفسه لينظر وراءه ليرى ابتسامة سليمان اللاذعة.

    أسرع الجميع نحو آفاق مليئة بالسحب والخوف وقد ملأ الرعب نفوسهم، وزادت دموعهم الطين بلة. وكانت تنتظرهم مفاجأة أخرى فقد غدت السماء سوداء بالسحب ناشرة رائحة المطر، وغطى الضاحية ظلام دامس، وبعد دقائق راحت الأمطار تثقب ما تبقى في الضاحية من ارض جافة لم يصلها الفيضان.

    لم يشعر سليمان بأهمية ظهوره في تلك الآفاق المليئة بالمياه والعطن، فهو لا يشعر بأدنى قدر من الهلع في داخله، فهذا كان أمراً محتوماً في نظره، فمن شهد الفيضان الأول في الأربعينات لابد أن يشهد الفيضان الثاني، هكذا حدثته أمه.

    في ذلك اليوم المشحون نهض واقفاً بحزم، كأي رجل مهم في الضاحية، نظر إلى من تبقى حوله نظرة الصوفي الورع العارف ببواطن الأمور والعالم بالقوى الغيبية، واخذ يصافحهم في أيديهم الواحد تلو الآخر وهو يمشي بعيداً منهم. أعطاهم ظهره وهو يلملم أسماله، وتوارى عن الأنظار.

    منذ سنوات كان لسان سليمان قد التوى في زاوية من فمه، لا يستخدمه أبدا، على الرغم من هول الكارثة ووابل الأسئلة التي أمطروه بها، حيث اكتفى بإجابة واحدة سمعها منه الجميع بوضوح شديد : "البحر زاد..... يا ناس". منذ ذلك اليوم ازداد نشاط سليمان في الضاحية، وأخذت ضحكاته تسمع في كل مكان. كان أحياناً يتجول في الأمكنة مفككاً ومهزوماً، و أحياناً يجوب الطرقات على الأقدام كمن يتعقب شيئاً، يسير خلف كل من يصادفه، ويلوذ بين الحيطان والظلال كلما أحس بوجوده شخص ما.

    وحينما حاصروه في تلك الليلة، كانت أمامه مجموعة من الأسئلة المفككة، عجز أن يكتشف ما بينها من روابط. وفي المقابلات التالية معه كانت الصورة تتضح له مشهداً فمشهدا، فيعود إلى ذلك المكان وذلك الزمان، إلى ترعة "حفص" والي بحيرة "بجيقا"، حيث تبدو المشاهد بالنسبة له ذات زوايا حادة وقاسية غير واضحة المعالم.

    وفي الصباح غمر الماء اغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وبيوت الضاحية من الناحية الشمالية والشرقية، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء. وفي المساء غرقت بيوت الضاحية، وتساقطت حيطان وجدران، وخرّت عزائم الرجال، وحلّ الخراب محل العمار، واختفت الأشجار، وتحولت الضاحية إلى مربط للقوارب. وصدق خبر سليمان.

    قالت جدتي:
    - إن مثل هذا الفيضان لم يحدث منذ أربعين عاماً.
    وقال جدي محذراً:
    - لا تعبروا ذلك الجسر الذي تعمل على بنائه آليات وزارة الري مستعينة بعدد كبير من المساجين تحرسهم بنادق شرطة السجون.

    كانت أصوات الرجال مهمومة وعالية، تسمعها هنا وهناك، وأضواء الكشافات تنطلق من القوارب التي انتشرت على سطح الماء.
    أضاف جدي بحزن عميق:
    - قيل أن الفكي الصديق مات غرقاً، و ربما غرق ثلاثة أو أربعة آخرون في الليلة الماضية.

    في اليوم السابع اجتازت المياه الجسر الترابي العالي من ناحية الغابة في الشرق، كما دفقت المياه من ناحية جناين المانجو في الشمال، وغمرت الضاحية حتى وصلت شجرة الدوم المجاورة للمسجد الكبير. أما من ناحية "بجيقا" العالية فلم يجد الماء طريقه إلا عبر الخيران والمجاري التي غمرت مياهها حي الديم الذي انهارت منازله بسهولة مذهلة.

    خرج الناس من بيوتهم متفقدين ما حل بمنازلهم ومزارعهم وماشيتهم، كانت المنازل مدمرة وغائصة في الماء، وجيف الحيوانات تراكمت على شاطئ الضاحية. وهرعنا إلى بعض المنازل التي بدأت في الانهيار نحمل الأثاثات المنزلية على سيارات النقل، والكارو وظهور الحمير، وعلى أكتافنا أيضا. نقلنا كل شيء إلى الجانب الغربي والجنوبي من الضاحية. انهارت مئات من المنازل، وغاصت في الماء مئات أخرى، و حوّل الفيضان مكونات الضاحية إلى شيء واحد: هو الماء.

    لم ينتبه احد وسط هذه الفوضى إلى غياب سليمان، فلم يظهر على مسرح الأحداث بعد تلك الليلة التي لا تشبه الليالي. و في المساء التالي تجمع حشد كبير من الناس في ساحة المسجد يتحدثون عنه وعن اختفائه المثير. اتفق الجميع بشكل تراجيدي على أن أقدار سليمان المجنون كلها تشير إلى ربطه ربطاً محكما بهذا اليوم الهادر، وقد آمن الجميع بأنه قضى نحبه غرقاً.
    قال رجل:
    - إنه رجل مبروك، فقد تحاشى وداعنا.
    - أنا اعلم انه مجنون إلا انه في الحقيقة قد تغير ولم يكن طبيعياً في الأيام الأخيرة، فقد اعتزل الناس ومتابعتهم ومصافحتهم في أياديهم، كما عودنا. قال رجل ثاني.
    - كان قد رفض أن يزور تلك المنازل التي لم تستطع مقاومة المياه ثم انهارت وتهدمت. قال رجل ثالث.

    و في الأيام التالية امتلأ جو الضاحية بالسخرية والتندر من قصة اختفائه، مثلما امتلأ بالغيوم وبخار الماء والرطوبة. وعندما انتصف نهار اليوم التالي، تأكد الناس من أن غياب سليمان ليس مجرد إشاعة، و إنما حقيقة ماثلة كالمياه المتدفقة في كل مكان في الضاحية. وعلى عادة أهل الضاحية في ملء أوقات فراغهم بالسوالف و الحكايات، انتشرت فيها إشاعات وتفسيرات عدة وخرافات وخزعبلات حول غيابه فقالوا ساخرين انه ذهب إلى مرتفعات الحبشة ليوقف انهمار المياه نحو الضاحية. وأكد العم يوسف نور صاحب الدكان القديم في وسط الضاحية، والذي اشتهر أيضاً بمحاولات ناجحة في معالجة الأمراض التي يسببها الجان واللوثة:
    "انه ذهب للقاء هام للجن يعقد في قاع بحيرة "بجيقا" في أوقات الفيضان، حيث يلتقي بنفس الجن الذين سلبوا عقله وصادروا عروسه في يوم زفافه، في مثل هذا اليوم قبل سنوات طويلة"، و قال انه سيعود حال ما ينتهي الأمر، ولا داعي للقلق، ولكنه أشار إلى أن سليمان ربما فضل عدم الحديث عن هذا الاجتماع الهام، وطواه سراً في قلبه إلى يوم الدين.


    أما جفّال المسطول فقد ذكر:
    "أن سليمان قد رأي شبيه أو قرين لعروسه "الروضة" تخرج مع الجن الذي طلع من قاع "بجيقا" إلى البر في لحظة فوران وغليان المياه التي سبقت الطوفان، وقد قرر سليمان أن يداهمهم ليظفر بعروسه الهاربة من قبل أن تفر منه مرة أخرى".

    بعد أن أفاق الناس من هول الكارثة، و أخذت المياه في الانحسار قليلا عن منازل الضاحية، ظهر سليمان فجأة دون مقدمات. أسبوعين كاملين من الصخب الممزوج بالشك مر على غيابه. كان الوقت صباحاً، وكان شيخ مالك الجزار، شيخ جزاري الضاحية قد فرغ لتوه من الذبيح. وكانت الخراف ما زالت معلقة في الهواء على شعاب السنط، تتأرجح في المسلخ البلدي وقد بدت وكأنها نصف عارية. كان شيخ مالك يشرب الشاي في ذلك الصباح العطن، وكنت اشتري منه لحماً. رأيت سليمان جالساً أمام الجزارة صامتاً ومولياً ظهره لعم مالك، ونظراته مثبتة ناحية النيل. كان كمن يحاول استعادة ما حدث على طريقته الخاصة، وهو يبتسم. أو ربما كان يحاول إعادة تفاصيل تلك الأيام ليطبعها على شريط حتى لا ينساها أو يعفو عليها الزمن.
    جلست بجواره وأنا أتنحنح بصوت عال علّه ينتبه إلى وجودي، ولكن صوت عم مالك قاطعني قائلا وقد بدأ محرجاً قليلا:
    "انه ليس من المناسب أن اعمل في مثل هذا اليوم، ولكن لابد من إطعام أهل الضاحية، لا بد لأهلها المنهكين أن يأكلوا شيئاً حتى يقووا على مقاومة هذا المارد، فقد ظلوا يعملون طيلة أيام الفيضان".

    وأضاف بنفس نبرة الأسى:
    " لقد ظلوا يعملون في ردم المياه والبرك، وبناء الجسور والسدود، وتقديم يد العون للمحتاج، وتقويم المنازل والحيطان التي بدأت في الغوص داخل الأرض المرتوية".

    كنت أتمنى أن يصمت عم مالك الجزار للحظات قليلة حتى يتيح الفرصة لسليمان الذي ظهر وكأنه مليء بالكلام والحديث. لم ينتبه سليمان إلى وجودي، ولم يشعر بقلقي وخوفي وتلهفي لسماع صوته، فقد واصل سهوه وشروده ناحية النيل وهو يخفي بيده اليسرى ضحكة خفيفة تنفلت منه بين الفينة والأخرى.

    لم يكن سليمان يسمعني أو يعير وجودي اهتماماً،بل تناول كوب شاي الحليب مني وهو يسألني مزيد من السكّر بابتسامته التي طالما عهدناها فيه. تقدمتُ منه وأعطيته السكرية ليضيف ما يريد من السكر. أدخل كفة يده كلها داخل السكرية وملأها سكراً، إلا أنها احتبست داخل السكرية ولم يستطع إخراجها منها. كان يحاول وانأ أراقبه، وكلما رفع يده ارتفعت السكرية معها. شدني هذا الموقف أكثر إلى سليمان لأنني تيقنت انه سيطلب مساعدتي، نظر إلي وهو يبتسم ابتسامة من يطلب معروفاً أو خدمة لإنقاذه من موقف محرج. تقدمت منه وانأ اهمس شيئاً لا ادري كنهه الآن بعد كل هذه السنوات، ولكن اعتقد أنها كانت كلمات لتهدئته وإقناعه ببساطة الأمر. شرحتُ له بحركة من يدي كيف يفرغ السكر من قبضة يده ثم يمد أصابعه ويسحب يده إلى أعلى، ثم أقنعته بعد محاولة فاشلة بأنه يستحيل عليه أن يخرج يده وهي مليئة بالسكر من عنق تلك السكرية. عندما خرجت يده أخذ يتمتم بعبارات من الشكر. منذ ذلك اليوم نمت بيننا علاقة حميمة وصامتة.


    *******
    في ذات ليلة شتوية عاصفة بعد خريفين من تلك الأحداث حلمت: "أنني اجري في ممر طويل يكسو جدرانه التراب والغبار من كل جانب. كنت خائفاً ومرعوباً اجري للأمام ثم أعود للخلف، كمن يسعى بين الصفا و المروة. اخفي في جيب سروالي شيئاً ما، شيء لا اعرف كنهه بالضبط. وكانت مجموعة من الناس تطاردني، وتريد اخذ هذا الشيء مني عنوة، وكان هذا ما كان يخيفني أكثر. فجأة انهارت الحيطان التي تحيط بالممر، ثم ظهرت فتاة صغيرة، قصيرة القامة، صفراء، فاقع لونها. كانت تربط ضفائرها بشريط احمر قاني، وتجري نحوي تحاول إدراكي، وعندما اقتربت مني فتحت يديها لاحتضاني، وكنت أريد ذلك وارغب في تقبيلها، لكنني كنت ارتجف من الخوف. كنت موقناً انه لا يجوز لي تقبيلها، ولا يجوز لي أن ألمس أية فتاة على هذا النحو، وعندما احتضنتني وبدأت في دعك جسمها عليّ ، شعرت بفقاقيع دافئة أسفل رجلي. وحين نظرت إليها كانت ملامح وجهها قد اختفت حتى صار مسطحاً لا اثر فيه لامرأة، و رأيت سكيناً تلمع في يدها، تصوبها نحوي وهي تركض، وحاولت الصراخ و أنا اجري باتجاه الناحية الأخرى، إلا أن الصوت أبى أن يخرج من حلقومي، وبحثت في جيوبي لأستبين ما فقدته، و لأستبين ما كان في جيوبي، وعندما أخرجت يدي كانتا ملطختا بالدماء."

    في تلك السنة أقامت العائلة رحلة ترفيهية وغداء في حديقة المانجو التي تمتلكها الأسرة بالضاحية. في تلك الرحلة التقيت للمرة الثانية باحدي قريباتي ، وكانت فرصة أن نتحدث لوقت طويل، وظهر بيننا انجذاب غير منكر. كان اسمها أمينة وكانت تبدو كثمرة ناضجة ملقية على جدول مياه مهمل.

    كانت خطانا أنا و أمينة تتحسس بدايات الحياة دون طقوس أو نواميس. كنت احمل لها أحلاماً وأفراحاً ورؤى وردية، ليس من بينها رغيف خبز أو شرائح لحم. وكانت هي تمثل مستقبل الذاكرة العائلية، معتقة بتباريك الأسرة الكبيرة، و تمنيات قلبي الغض. لعل أمينة كانت تنتظر مني وضع عتبات الحياة أمامها لتسير عليها مطمئنة. وكنت ارتبك من بياض وجهها، كلما وقفت أمامي، ارتباك ماء النيل الأزرق حين يرتطم بصخرة ملساء. تختفي الكلمات التي أعددتها للقاء، وتتبخر دواوين الشعر التي كتبتها فيها، فقط كنت أحافظ على ابتسامتي، وأنا واقف أمامها كتلميذ نسى حفظ النشيد.

    ألقيت عليها التحية، وتبادلنا أطراف الحديث، ثم انسحبنا بهدوء مخلفين وراءنا حفيف أوراق الأشجار الخشنة. كانت متوهجة كشعلة تكللها البراءة من كل اتجاه. قصدنا ناحية النيل الذي بدا كصفحة رقيقة تحرسها الرمال البيضاء، وبدأنا نلهو في المياه، أصابعي تتابعها محذرة وهي تغوص بساقيها في المياه الشفافة التي تغسل الرمال، وكانت تبدو كمن تحرر من أسره. كان قلبي يزداد نبضاً، لا ادري إن كان وجلا أم خوفاً من دنو اللحظة القادمة ؟. قامت بالكشف عن ساقيها وهي تقفز فوق المياه، اقتربت منها و مسكتها كمنقذ مدعي، وضممتها إلىْ. انفرط وجدانها حد البكاء.
    قلت:
    "اشتقت لك يا أمينة".
    توهجت خدودها بحرارة جسدي المتصاعدة في تلك اللحظة المسروقة. انزلقت ضاحكة من قبضتي كسمكة لامعة لزجة، وذهبت بعيداً في الماء كما لو كانت تلاحق أطيافاً من السعادة والبهجة. وكانت وديعة تنعكس ضحكاتها وابتسامتها وتجلجل على سطح الماء. تغرف الماء بكفيها المرتبكتين وترشه علي قميصي المبتل، وتدعوني إلى مشاركتها امتلاك اللحظة المائية معها. قلت لها وأنا اقترب منها:
    - سأحبك إلى الأبد يا أمينة.
    - تعال اشرب معي ماءا . قالت، وهي تسقيني من كفها شربة ماء، وجسدها يتوثب من العطش، وهمست في أذني بلا كلمات، وهي تواصل لعبها، تجذبني نحوها بقسوة حينا، وبحنان دافق أحيانا أخرى. كانت تتجاهل كلماتي وعطشي المتنامي لها، ونحن في عرض النيل.

    عندما مسكتُ بتلابيب اللحظة، أزحت أزرار قميصها العليا، وتساقطت حبات عرقي المختلطة بالماء على صدرها، عملت أصابعي برقة بطول عنقها، وانزلقت إلى أسفل، وساد الصمت بيننا وأنا افعل ذلك باضطراب ظاهر. لم يتحرر لسانها عن أي كلمة قبول أو رفض. وغرقنا في لجة النيل الأزرق، وتوغلنا في مغامرة اكتشاف حبق الجسدين الشابين. فجأة نهضت من أعلى الرمال المبتلة واقفة منتبهة ، حذرتني من خطورة اللحظات المسروقة، ونادت بأوان ساعة العودة. خرجنا من الماء و نحن نأتلق، وعجنتُ قليلا من الرمل المبتل القي به ناحيتها وأنا أطاردها نحو الشاطئ، وحقول المانجو تزغرد لدهشتنا وفرحتنا.

    بعد تلك الرحلة سكنت أمينة ذاكرتي ومخيلتي، وساحت لها عظام ظهري، ومعها عرفت معنى آخر للمرأة.

    في تلك الليلة كانت أمينة تزورني في منامي وتستلقي بجانبي في سريري الصغير، وكانت تحدثني بغنج وفرح صبياني لا يخفى، وكنت ألمسها وهي تتمايل، تارة أراها في وسط الماء، وتارة بجواري في الفراش، كانت نافرة حتى في الأحلام، وكان جسدها معجون بالماء وتبدو لزوجتها ولجة فخذيها الاملسين. وأنا أهم بمتابعتها في نفورها داهمتني عاصفة دافئة حملتني إلى أعلى، وعندما توقف صعودي إلى أعلى ووصلت إلى لحظة لا شيء بعدها إلا السقوط، انفجر الماء الدافئ بين فخذي، وصحوتُ على بلل في لباسي وفرشتي.

    بعد هذا الحلم تم عزلي من أخوتي الصغار و تم تحويلي لأنام في ديوان جدي مع أبناء خالاتي الكبار.
    *******
                  

04-23-2007, 07:08 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها (Re: ابراهيم على ابراهيم المحامى)

    الفصل الثالث
    (3)


    في نهار يوم قائظ من أيام العطلة الصيفية كنت ألعب الكرة مع بعض الصبية في فناء دار جدي الظليلة، وكان الصمت عادة ما يخيم على الضاحية في مثل هذا الوقت من النهار، ولا تكاد تسمع إلا أصوات وابورات المياه المتناثرة على شاطئ النيل وهي تسقي المزارع والجنائن. فجأة شق عنان النهار الصامت صوت صراخ قادم من اتجاه النيل، جلجل في فضاء الضاحية، وتعالت على إثره صيحاتٌ تطايرت لها أوراق أشجار المانجو وصفق لها النيم والليمون، و ناحت طيور الغابة. توقفنا من اللعب وجلين. دخلت علينا أمي كالملسوعة، وكانت تبكي وتولول، ونظرت إلينا نظرة فاحصة، وسألتني عن بقية إخوتي وانصرفت. تبعتها وأنا ألاحقها بالأسئلة عن ما حدث. أصابني منظر أمي وهي تبكي بالرعب، فأيقنت أن مصيبة ما حلت بنا، وأحسست بجزع رهيب سكن في داخلي مدة من الزمن، واضطرب قلبي و زادت دقاته حتى كاد أن يقفز من جنبي.

    بدأ الناس يخرجون من كل صوب من الضاحية، رجال ونساء، شباب و كهول وأطفال، وكانوا يسرعون الخطى نحو النيل وقد ارتسم الرعب على وجوهم، وأسئلة كثيرة تبحث عن إجابات: من هو الغريق، ومن كان يسبح معه، وكيف حدث ذلك، وفي أي جزء من النيل حدث الغرق. ومع تقاطع أصوات الناس واختلاطها بنحيب بعض النساء، اتضحت الإجابة. الغرقى ثلاثة صبيان، منهم اثنين كانوا زملائي في الفصل الثالث في المرحلة المتوسطة. كانت أعمارهم مثل عمري، أما الغريق الثالث فكان هو ذلك البقال الذي جاء للعمل في الضاحية منذ سنوات. غرقوا جميعاً عندما كانوا يسبحون في البحيرة الملحقة بالنيل والتي تسمى محليا بـ "بجيقا".

    هدأ روع أمي تماماً، بعد أن تلقت إجابات لجميع أسئلتها، فلم يكن أحد هؤلاء الغرقى يمت لنا بصلة القربى. في هذه اللحظة انتبهت أمي إلى أنني لا زلت اتبعها وان الخوف بدأ يتسرب إلي.

    كان الذهاب إلى البحر ( هكذا يسمى أهل الضاحية النيل) هو إحدى المحرمات في منزلنا، ولا استثناء في ذلك إلا تلك السانحات النادرة عندما يتعطل وابور المياه الجوفية الذي يسقى الضاحية بمياه الشرب. عندها تضطر أمي إلى اصطحابنا إلى النيل للاستحمام ولمساعدتها في نقل الماء إلى المنزل. فالنيل يعني بالنسبة لي مجموعة من الألغاز الغامضة والمغامرات المخيفة.

    كان الجميع يتجهون نحو النيل باتجاه بحيرة بجيقا، بعضهم راجلا، وبعضهم تكدس في سيارات. حافلات المواصلات غيرت خط سيرها لينتهي عند شاطئ النيل. عندما وصلنا إلى ضفة النيل، اتجهنا شمالا حتى نتفادى صعود الهضبة التي تقع تحتها بحيرة "بجيقا"، لنصل إلى الشاطئ من الناحية الغربية عند المنحنى. كان الناس قد اصطفوا على طول الشاطئ، بعضهم يروي كيف غرق الصبيان، وبعضهم يستمع. كانت الرواية تنتقل وتسري بين الناس في ثواني كما تسري النار في الهشيم ، فيصدقها الجميع. تمر دقائق وتسمع رواية أخرى، ويصدقها الناس أيضا. كثرت الروايات أم اختلفت كثيرا، لا يهم. ما يهم هو أن الناس متفقين على أشياء محددة هي أسماء الغرقى، و الخوف من عدم العثور على جثثهم لمكوثها في قاع بحيرة "بجيقا" العميقة في اغلب الظن.

    لا أحد يدري على وجه الدقة من أين جاء اسم "بجيقا" الذي يقصد به تلك البحيرة الصناعية الضخمة العميقة الملحقة بالنيل الأزرق عند منحناه تحت تلك الهضبة العالية التي تمثل أعلى نقطة في شاطئه. ومهما تختلف الروايات حول حقيقة الاسم، إلا أنها تتفق حول مرجعيته التاريخية لزمن الإنجليز عندما كانوا يجهزون لقيام المشروع الزراعي الكبير في المنطقة المروية. فقد تم حفر هذه البحيرة كامتداد للنيل، لتدور حولها المياه في دوامة "شيم" تشكل دوائر ظاهرة تتسع الدوائر وتختفي كأنها دميرة دائمة، لتصبح اكبر مخزون لمياه النيل في المنطقة. وربما يكون الاسم مصدره اسم الخواجة الذي بدأ الحفريات في هذه البحيرة في بداية القرن الماضي.

    كان المبنى الضخم الذي يعلو البحيرة مشيدا على أربعة طوابق تحتوى على غرف كثيرة رُكبن فوق بعض، كأنه مبنى لفندق غائص في الماء. أبواب الغرف الحديدية تفتح وتقفل من تلقاء نفسها في خفقان مرتب ومتناسق مع حركة الأمواج، دخولا وخروجاً.

    في أعلى الهضبة تم تركيب الماكينات الضخمة التي ألصقت على قواعد أسمنتية تغوص في باطن الأرض. تخرج من هذه المضخات مواسير ملتوية كأنها أمعاء ضخمة لغول كبير، تنزل المواسير إلي أسفل المبنى مخترقة الغرف إلي أسفل، ثم إلي أسفل ثم إلى أسفل، لتخترق الطوابق الأربعة. في كل غرفة من الغرف ينتهي عدد من المواسير بفوهات مفتوحة كبيرة شرهة لابتلاع المياه الكثيرة التي بداخل الغرفة. ثم تقوم هذه المواسير الملتوية بضخ المياه إلى أعلى، حيث يجري حملها بعد خروجها من بحيرة "بجيقا" على ركائز تم بناءها من الحجر الصخري، كانت متراصة ومتوازية في ثنائية عجيبة، متجهة جنوباً. كانت الركائز تحمل المواسير وتشق الضاحية وتمتد إلى بضعة كيلومترات تنتهي خارج حدود المنازل عند هضبة عالية تطل على سهول خصبة، ومن أعلى هذه الهضبة العالية تنهمر المياه التي تحملها المواسير من بجيقا لتصب في ترعة كبيرة لتسقي أولى مزارع القطن في المشروع الكبير.

    لم يعد الآن من "بجيقا" نفع يذكر بعد أن تخلى عنها المشروع الزراعي و فضل عليها نظام القنوات والترع التي تحمل الماء من خزان سنار. أصبحت مسكناً للثعابين وحشرات الليل والبوم والطيور الغريبة. خرافات كثيرة تروى حولها، وذكريات غامضة كتبت على جدرانها.

    في ارتطام كل موجة بحائط المبنى تسمع صوتاً، وفي كل صوت نذر بالخطر. تتقاطع المياه بين غرفها المختلفة، و تجري دماً على جدران "بجيقا". ولكن أكثر ما ينبعث منها صخباً هو صوت الليل وهو يلملم نعش النهار.
    تبدو بحيرة "بجيقا" في الصيف هادئة و مياهها شفافة تماماً بحيث يخيل إليك انك تستطيع أن ترى ما يدور في أعماقها. في الصيف وفي هذا المكان بالتحديد تكثر حوادث الغرق في الضاحية حيث تكون المدارس في عطلتها الصيفية وينحسر النيل إلى أقصى مداه مخلفاً بساط من الرمال البيضاء المموجة التي تبدو كالسجاد الفارسي الموشى، حيث تظهر آثار الأمواج والمد والجزر، وتصير المياه اكثر شفافية. يقول بعض مواطني الضاحية الساخرين واصفين حالة الطقس، أن بالضاحية فصلين في السنة: فصل للزراعة و فصل للغرق.

    في كل عام يأخذ النيل معه زهرتين أو ثلاثة من صبيان الضاحية، يغوصون في أعماقه، ويتحولون إلى ذرات تختلط في تناغم غريب مع ذرات مياهه، ويختفون إلى الأبد. إن كان هناك خيار في الموت فان أهل الضاحية يفضلون الحصول على جثث غرقاهم بدلا من هذا الغياب الأبدي في غياهب المجهول المخيف في أعماق البحيرة السحيقة.

    بعد ساعات من الانتظار والغوص اليائس حان وقت العصر وصلى الناس في جماعة كبيرة على رمال الشاطئ، وكانت دموعهم قد أحالت النيل إلى بحر مالح. كان الوجوم يكسو وجوههم، وقد اعتراهم الخوف من صدق مخاوفهم في عدم العثور على الغرقى رغم محاولات البحث المستمرة التي استمرت طول النهار من بعض السباحين الشباب.

    بعد أن نزلت الشمس قليلا وبرد الجو، تكوم الناس في حلقات على ضفة النيل يرون قصص الغرق الكثيرة كما هي عادتهم في كل حادثة. كانوا يتحدثون عن الرمال الغائرة في قاع النيل والجنيات اللاتي يسكن قاع بحيرة "بجيقا"، وقام بعضهم باسترجاع ذكرى أولئك الذين أخذهم النيل ولم يعودوا أبدا، وذكروهم اسماً اسما فازداد خوفنا وتوترنا. كانوا يختلفون في الكيفية التي يأخذ بها النيل الصبية وهو في هذه الحالة من الشيخوخة والموات في أشهر الصيف، ولكن ظل عدم العثور على الجثث دائماً لغزاً محيراً لهم. يعتقد فريق منهم إن حركة الأمواج الرملية الفوارة التي تستمر في قاع النيل هي التي تدفنهم بعد أن تكون أجسامهم قد امتلأت بالماء. وقال البعض أن رؤوس الغرقى تصطدم بحجر السار في قاع النيل فيفقدون الوعي وهم داخل المياه ثم يموتون.

    وكان صوت جفّال المسطول قد خفت قليلا بعد نشاط طول النهار. كان يتوسط مجموعة كبيرة من الصبية الذين كانوا يجلسون في حلقة كبيرة على رمال الشاطئ، يحكي لهم بلذة غريبة فيزداد احمرار عينيه واتقادهما وهو يوصف ما يجري في قاع النيل، كان حديثه مثل حديث الخبير العارف ببواطن النيل، وكان يعلم انه أصبح يشكل رأياً مهماً وسط هؤلاء الصبية في هذا اليوم العصيب.

    قال جفّال:
    "إن الجن يتخذ من "بجيقا" مسكناً له، وانه كثيراً ما شاهد الجنيات الحسناوات وهن يمشطن شعرهن الطويل خارج البحيرة عند المساء".
    و أضاف مؤكداً حديثه:
    "إن أبو زعبل الذي غرق قبل سنوات ولم يعد حتى الآن، لا يزال يعيش معهن في قاع البحيرة بعد أن أعجبن بجماله الساحر".
    وأضاف شخص جالس وهو يسابق الآخرين في فرصة للكلام:
    "إن أبو زعبل قد روى لي مرة انه شاهد جنية حسناء وقد خاطبته عندما كان يجلس في أعلى قمة "بجيقا" وقالت له إنهن يمارسن حياتهن بصورة عادية في أسفل قاع البحيرة، فلم يصدق أحد أبو زعبل، وبعد أن غرق واختفى حبس الناس أنفاسهم في انتظار عودته التي لن تحدث أبدا. "

    وروى ثالث كيف انتحر حرّان بعد أن ألقى بنفسه من أعلى قمة بجيقا، استقرت جثته النحيفة في قاع البحيرة ولم تخرج منها أبدا. ما زال الناس يرددون محاولات حرّان المتكررة ليختبر قاع بجيقا، وكيف انه كان يعزي اختلال عقله إلى علاقته بكائنات بجيقا التي كان يحاورها ليلا أثناء جلوسه في قمة الهضبة بعد أن تكون الكائنات البشرية قد غطت في نوم عميق.

    انتهى اليوم الأول للبحث عن الجثث بانتهاء صلاة العشاء، و نادى المنادي بانصراف الجميع إلا قلة من السباحين تقوم بواجب وردية الحراسة الليلية.
    في رحلة العودة إلى البيت في ذلك المساء سألت أمي قائلاً:
    - كيف يغرق الناس ؟
    قالت أمي:
    "إن الأولاد عندما يسبحون في البحر يغوصون في الداخل تمتلئ بطونهم بالمياه فيصبح رأس الغريق إلى أسفل فلا يستطيع الخروج، ويبقى مثبتاً في هذا الوضع لدقائق طويلة إلى أن تخرج روحه من منخريه في شكل سلاسل بيضاء تلتصق بقاع البحر فلا يستطيع حراكا، ويظل على هذا الوضع حتى تتحلل أعضاؤه وتتلاشى مع المياه المسافرة".

    لم انم تلك الليلة، أصابني الرعب وسكن الخوف جوانحي واستقر البرد الشديد في عظام ظهري السفلى. زارتني الهواجس في تلك الليلة ولازمتني طويلا. "شعرت بأنني في حالة بين الموت والغيبوبة، وكانت أنفاسي تتقطع و شيء ما يسد حلقومي ". عندما عدت من عالم الهلوسة والاختناق قفزت كالمجنون إلى زر النور بحثاً عن الإضاءة حتى تعود الطمأنينة إلى قلبي برؤية معالم الغرفة، فعلت ذلك وأنا اردد كلمات مبهمة و أتلمس جسدي لأتأكد من أنني لا زلت حياً. كنت أشعر بانتفاخ في بطني وفقاقيع تجوب أمعائي، وامتلاء في مثانتي.

    *******
    في اليوم الثاني لحادثة الغرق اشتدت حركة الناس جيئة وذهاباً، وكنا ننقل الأواني المليئة بالأكل والشرب للناس الذين عسكروا ونصبوا خيامهم على شاطئ النيل في أعلى هضبة بجيقا. تحولت حياة أهل الضاحية إلى النيل، فعسكروا فيه لعلهم يظفرون بجثث غرقاهم. وكان العائدون من العمل يتجهون مباشرة إلى النيل، والمعزين توافدوا من المدينة والقرى المجاورة، وكانت السيارات تنقل الطعام ومزيداً من الكراسي. وكانت عملية البحث عن الغرقى تستمر من الصباح الباكر حتى وقت العشاء حيث يصلي الناس جماعة وينصرفون معلنين انتهاء يوم من أيام البحث الثلاثة حسب العرف الجاري.

    كنت أتجول بين الناس وأشم رائحة الماء من خلف الشفق، عندما يزداد الحر وتقوى أشعة الشمس تنتشر هذه الرائحة في كل مكان. هناك في سطح تلك المياه المموجة بلفح الهواء حيث تلقي أشجار المانجو الضخمة بظلالها، لا احد يستطيع إدراك القاع والأغوار البعيدة، حتى الغريق يتحول إلى ورقة من أوراق أشجار المانجو تتحلل خلاياه وأنسجته وتتلاشى مع الزمن، لن يبقى منه إلا خيوط رفيعة من الذكريات نقوم بسردها عند واقعة غرق أخرى. ولكن ليس مستبعد أن تطفو جثة غريق محظوظ لتتلقفه الأيدي المثابرة مرة أخرى ليحظى بشبر في أرض الضاحية بدلا من التوهان الأبدي في تلك المياه الهادرة.

    في اليوم الثالث، لم يكن هناك ثمة تقدم، ولا شيء سوى السماء الصافية، نصف المحترقة بلون الغروب. كانت الشمس قد هوت إلى الجانب الغربي من النيل، تقاوم أشعتها الذهبية الأشجار الضخمة التي تكاثفت على الضفاف الغربية. توجس الجميع خيفة أن تزول شمس هذا اليوم دون ظهور لجثث الغرقى.

    كنت أتمشى على الشاطئ وقت الترقب. وجدت لنفسي طريقاً في الرمال المبتلة لأقف قبالة المياه. نظرتُ إلى “بجيقا"، ذلك المبنى العملاق ذو الطوابق الأربعة. كان المبنى يشغل جانباً كبيراً من البحيرة المرفقة بالنيل عند المنحنى، تغطي المياه نصفه ويتصاعد منه الرمق الأخير لدخان الأمواج القادمة من أقصى الشرق. وكان الجميع في حالة هدوء، فمنهم من اتخذ الرمال مرقداً، ومنهم من جلس في حلقات يتداولون موضوع الغرق في الضاحية، ويسترجعون ذكرى أولئك الذين ماتوا غرقاً ولم يعودوا على مر التاريخ. لم استطع تبين ملامح وجوههم، ولا الدموع التي كانت تبلل آثار أقدامهم في الرمال. كنت أراقب قسمات مجلسهم وهي تتغير، و أحياناً يجفل بعضهم واقفاً إذا ظن انه رأى شيئاً يتحرك في سطح الماء.

    انتهى الآن ذلك المشهد الذي ألفناه طيلة النهار ونحن نرقب الغطاسين يحاولون إنقاذ جثث الغرقى من التوهان الأبدي. في هذا الوقت يتنفس النيل أنفاسه الحارة التي ظل يكتمها طيلة النهار، ومعها تخرج الأشياء الكامنة فيه. وكانت أيدي الغطاسين تتشابك قبل النزول إلى قاع النهر وهم يهمهمون بأشياء غير مفهومة، كنت أحاول فك طلاسمها.

    قال صوت مُدرَّب:
    "أيها الغطاسون بإمكانكم أن تستريحوا الآن، لقد أوشك المغيب، وسوف تلفظ المياه كل ما بداخلها من جثث في هذا الوقت مع تصاعد الأمواج الحارة المندفعة من الأعماق".
    وقال غطاس نيجيري الملامح بلهجة مكسورة:
    "لقد انتهي دورنا، ولن نغطس بعد نزول الظلام على أية حال، لأن قاع بحيرة "بجيقا" مسكون بالجن والشياطين".
    و قال غطاس آخر خارج لتوه من الماء، محاولاً مواراة فشله:
    "نعم بعد المغيب يسرح الجن والشياطين بين يدي الليل، وتزداد الخطورة علينا في المياه المظلمة في القاع".

    كان وقت السحر ذهبياً، مترعاً بهواء حار عطن يخرج من سطح الماء من ناحية البحيرة، يزيد قرار الغطاسين غموضاً ويملأ النفوس بالوجل. وكان النيل يجري لا يعبأ بشيء، وأمواجه المندفعة تفور عند قوس "بجيقا" تحدث أصواتاً تزيد المكان رهبة وتحيل حديث الغطاسين إلى حقيقة مفزعة.

    بعد أن اكتمل نزول الظلام انضممتُ إلى مجموعة من الصبية والشباب كانوا يجلوسون على الشاطئ، وكنا نراقب أضواء الفوانيس القلقة التي تناثرت هنا وهناك على سطح الماء، كان أصحابها لا يرغبون في تفويت فرصة لرؤية أي شيء يخرج من سطح الماء. وكان الرجال يشمرون عن سواعدهم، وبعضهم قد ربط عمامته حول وسطه استعدادا لأي طارئ، و ترقباً لأي قادم من رحم المجهول. وكان أهل الغرقى وذويهم يتمنى كل واحد منهم أن تكون الجثة الأولى الخارجة له حتى يرتاحون من عناء الانتظار ويتحللون من هول فكرة عدم عودة جثة ابنهم الغريق وتوهانها الأبدي في مياه النيل.

    ازدادت الهمة وظهرت قوارب خشبية صغيرة تتصاعد منها صيحات، وثمة أصوات متوجسة ومترقبة تضع الخطة وتقول:
    - يا إخوان ... قاربان يقفان على قبالة أبواب "بجيقا" ..... وقاربان يسدان الاتجاه الشمالي لخط سير الأمواج المندفعة.
    قال رجل آخر:
    - أرجو أن يكون حديث ذلك الخبير الذي أنهى مهمة الغطاسين صحيحاً.

    وقف الجميع في ترقب وحذر مشوب بالتوتر، تثقل قلوبهم وطأة الانتظار، والصمت الرهيب يلف المكان عدا همهمات باهتة. فجأة شق الصمت صوت طيور بلون الليل، خرجت من البرج الثالث لبجيقا وحلقت في الظلام تولول، فزادت الموقف تشاؤماً. اشرأبت الأعناق وخفقت القلوب، وكاد قلبي أن يسقط مني وأنا انهض مع الناس وقوفاً على اثر الصراخ المتعالي. بعدها انطلق جسمٌ داكن خرج من اتجاه "بجيقا" واندفع مسرعاً على سطح الماء كأنه سهم منطلق. اتجه الجسم مع مجرى النيل شمالا بعد أن لف ودار حول نفسه دورة كاملة مع دائرة من الشيم الفوارة.
    صرخ رجل:
    - طلعت جثة واحدة .....انفلتت باتجاه الموج ..... اقطعوا عليها الطريق... يا جماعة.
    تعالت الأصوات من كل جهة محذرة ومرشدة. وقال الذي كان يقتفي أثرها وهو ممسك بحبال وشباك لصيد الأسماك، ناهضاً على قاربه الصغير في حالة تأهب تام للانقضاض على تلك الجثة الهاربة:
    "سوف أتمكن منها".
    القارب يبدو حاداً ومدبباً، ينطلق كالسيف في الظلام.
    أصوات الموجهون تعلو و تتقاطع، تسابق الجثة المنفلتة:
    "هنا ....... هناك .... يسارا ......يميناً ...تقترب منك.....أحذر ....أحذر لا تمسكوا بها في تلك الشيمة الفوارة فقد تفلت أو تتفسخ منكم فلن تستطيعوا الإمساك بها.."
    نزل عدد من الذين يجيدون السباحة إلى الماء وهم يحملون شباكاً طويلة، وشكلوا مثلثاً داخل الماء، وكانت القوارب تحوم حولهم في تشكيلة هندسية غريبة. وفي اللحظة التي أصبح فيها الجسم داخل هذا المثلث، تلقفته الشباك، وشكلت سدا منيعاً أمام حركته. تعثرت الجثة وأبطأت حركتها القيود التي تلفلفت حولها، أحاطت بها من كل جانب، وصمت الجميع في ترقب لإعلان النتيجة. اقترب القارب الثاني الذي كان مرابطاً في رأس المثلث في حركة تقاطعية حتى تمكن من حصار الجثة المنتفخة ووضعها في مسافة صغيرة بين القاربين، وتم رفع الجثمان بحذر شديد إلى داخل القارب.
    "لقد وقعت في الفخ".
    قال الذي نال منها بعد أن احتواها بشباكه بمهارة فائقة وخبرة ظاهرة:

    كاد قلبي أن ينزلق ويسقط في أعماقي، وأطبق علي حزن مخيف وأنا انظر إليهم وهم يقتربون نحونا يجرون غنيمتهم .... تلك الجثة الهاربة. عند الشاطئ توقفت حركة التدحرج ، واستقرت الجثة عند الرمال المبتلة.
    - جنازة من ؟ .... تعالت بعض أصوات الذين كانوا جلوساً وهم ينهضون.
    قلت في سري:
    "ماذا يفيد الأمر" !

    التف الجميع في ذهول حول الجسم المنتفخ المسجي على الرمال. رهبة الموت تسيطر على المكان، وطائر الليل يزيده ردحاً وعويلاً. انهمر ضوء البطاريات جميعها وتركز على هذا الجسم المسجي على الرمل.
    شق الصفوف رجل احدودب ظهره من كثرة البكاء والنحيب على ابنه الغريق، يكسو وجهه أمل طفيف في أن تكون الجثة لولده، عله يستريح من هذا العناء القاتل.
    قال لهم:
    "أستميحكم العذر في العجلة".
    وأحس بعد ذلك بأن تلك الحشرجة التي خرجت بها كلماته كانت مثل خروج الروح منه. فجأة، تملكه هدوء ووقار وهو يقف أمام الجثة المتقيحة.
    كانت الجثة تبدو وكأنها لشخص هارب من هول مصيبة ما. كانت ساقاها قد تقشرت بشرتهما فاستحالت معرفة لونه، ولم يكن ثمة ملابس تغطيه سوى سروال قصير ستر ما كان من عورته.
    قال الرجل الأحدب:
    - ولدي !
    أجابه الجمع:
    - لا ... ليس هو ولدك....بل هو الفاضل، التاجر البقال الغريب ....
    هزمت الإجابات المتسرعة آخر آمال الرجل الأحدب في هذه الحياة، فازدادت انحناءة ظهره تحت وطأة الهزيمة، وانسحب من المشهد.

    لما رأيت الجثة، تذكرت أنني قابلت هذا التاجر البقال الغريب عدة مرات منذ أن حط برحاله في الضاحية عاملاً بإحدى البقالات. نمت بيننا إلفة ومودة من نوع تلك التي تنشأ بين تاجر وزبون، كان في مثل عمري. حدثني عن منطقته وأهله الذين يعملون في تربية الخراف والماعز بكردفان وكيف انه هجر موطن أهله وحرفتهم. قال لي منشرحاً ذات مرة أنه لا يشعر بغربة في الضاحية، بل يرى أن الجميع أهله وأسرته حيث عاملوه بمودة وحب. ومرة روى لي بأنه مسرور لحقيقة وجوده بالضاحية.
    كان اسمرا ووسيماً وبشوشاً، وعندما انتشر خبر وسامة طلعته ازداد رواج بضاعة تلك البقالة التي كان يعمل بها وكثر عدد الفتيات المشتريات منها.

    بدأت الخيبة على الجميع وهم يتراجعون، والجثة قابعة وسطهم على الأرض لا يرغب فيها أحد. كان الجميع يبحث عن جثة ضائعة في هذا اليوم الحاسم، انه اليوم الثالث ولا أمل بعده في العثور على شيء حي أم ميت. لم يكن أحد يتوقع خروج جثة الغريب أولاً.

    قام الرجال الحادبون بلف الجثة بقماش من التيل القوي أحضروه خصيصاً لهذا الغرض، ودفنوها في حفرة كبيرة في "مقبرة حمدان" الصغيرة التي يدفن فيها الغرباء وأموات أبناء حي "الديم" الذين لا يمتون لغالبية أهل الضاحية بصلة قرابة. وضعوا على القبر كمية من الأشواك وقطع من الحديد القديم حتى لا تجذب إليها حيوانات الليل والكلاب الضالة. لم يكن أحد من أهله حاضراً، ربما لا يعلمون بمصيره بعد. لفظه البحر كالغريب الذي لا يرغب فيه. إن الانتماء مهم حتى في الموت ! لم تخرج جثة الغرقى الآخرين وخابت توقعات وآمال أهل الضاحية في تلك الليلة الثالثة، وانصرف الجميع إلى بيوتهم والي حزنهم الأبدي.. وبنهاية اليوم الثالث تم الإعلان عن وقف المحاولات ووقف الانتظار طبقاً لنواميس النيل الأزرق.

    رجعت إلى المنزل وانأ أحاول ترتيب ذكريات تلك الأيام الثلاثة المأساوية الماضية. استلقيت على فراشي في الفناء تحت أشجار النيم، وداهمتني الحمى، بدأت كإحساس بالبرودة كأنه ثلج وضع في مؤخرة ظهري، ثم ما لبث البرد أن تمدد إلى أعلى حتى غطى رأسي وصدري وصرت ارتجف من البرد في تلك الليلة الصيفية الحارة.
    وحلمتُ:
    " كنت اهوّم في فضاءات ومجالات غريبة، و أرود آفاق بعيدة لم اخبرها من قبل، و ما أكاد أفيق منها حتى أعود ثانية لذلك الهذيان الذي يقع في مكانة وسطى بين النوم والموت والصحو. لم أكن استقر على مكان في فراشي، فكنت امسك بلحافي حين اشعر بأن أعضائي تنشفط مني و أكاد اسقط و اغرق في قاع بحيرة بجيقا. اختلط الأمر علي بادئ الأمر، ثم اتضح لي أن الذي سقط هو شقيقي الأكبر. كنت أراه وأراقبه برعب شديد وهو يمضي نحو القاع بشكل عمودي غائصاً على رأسه وقدماه لأعلى، ورأيت سلاسله البيضاء تخرج مثل عظام من منخريه وتستقر في قاع البحيرة، وتلتف حول شعابها المرجانية وتربطه بقاع النيل ليثبت هناك، رأسه إلى أسفل ورجلاه تتأرجحان إلى أعلى، تماماً كما حدثتني أمي. سيطر على كياني الرعب وشعرت أن أعصابي وعظامي تسيل كماء. غمر الماء المكان، أحسست به في كل مكان، خارج الغرفة و داخلها، وقبل أن أتيقن من حقيقة المشهد، انطلقت صرخة مدوية مني أيقظتني كآلة للتنبيه."
    قفزت إلى أعلى ناحية مفتاح النور وضغطت عليه، ومع انبثاق النور الذي ملأ الغرفة، ظهر وجه أمي وهي تنظر إليْ في أسى بليغ، فتلاشت تلك الصور المرعبة، و لم أتذكر تفاصيل ذلك الحلم، ولكنني كنت متأكدا من حقيقة واحدة هي: أن لحافي كان مبتلا حين صحوت من نومي.
    ********
                  

04-23-2007, 07:09 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحيـــــطان ......رواية بها اسراركم فلا تفشوها (Re: ابراهيم على ابراهيم المحامى)
                  

04-30-2007, 08:24 PM

ابراهيم على ابراهيم المحامى

تاريخ التسجيل: 04-19-2011
مجموع المشاركات: 126

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحيـــــطان ......مهداة الى ضحايا التعذيب في السودان (Re: ابراهيم على ابراهيم المحامى)

    الفصل الرابع:::::


    مرت الآن خمس سنوات على تلك الأحداث، لم اعد ذلك الصبي، وكنت على موعد آخر مع القدر، قدر من نوع آخر، أن أسافر إلى الخرطوم لدراسة الجامعة إذ لا توجد جامعة في مدينتي. لم انتبه إلى حقيقة مغادرة الضاحية إلا عندما أذيع قرار قبولي في المذياع الحكومي الوحيد. كنت أقاوم هذه الحقيقة المرعبة لشهرين، وكانت الخرطوم تمثل لي عالماً مجهولاً ومخيفاً. الآن تحاصرني الفكرة وتخيفني أكثر، وتلاحقني العيون الكثيرة التي جاءت لوداعي.

    لم يعد ممكناً لذلك السهم الذي انطلق فجأة من أعماقي أن يعود إلى قلب أحداث الضاحية المتكررة، ومع ذلك لا سبيل لنسيان مذاق وطعم الحياة فيها أبدا. أدركت أنني لا اسكن الضاحية فقط، وإنما تسكنني هي كذلك. كان ذلك كفيلا بأن يصيبني بالتوتر.

    فرحة عارمة اجتاحت البيت عندما أقبل يوم سفري، وقفتُ انظر إلى منزلنا وأشجار الليمون واللارنج المثمرة المزروعة خلف الصالون الجديد، ودعت الجميع كأنني لن أعود أبدا. كنت انظر إلى الناس والأشياء بدهشة صبي يسافر لأول مرة خارج إطار مدينته وقريته.

    وددتُ إلقاء نظرة على أبي الذي وقف بعيداً خلف الجمهرة، وان تلتقي أعيننا في لحظة درامية ما، شيء أشبه بما أشاهده في السينما الغربية، عندما تحين لحظة الوداع يبتسمون ثم ينظرون إلى بعضهم تلك النظرة المعبرة، ثم يلوحون بالوداع وينصرفون. كان الجو مفعماً بالمشاعر وكانت العاطفة مشحونة وصامتة على وشك الانفجار.

    كانت أمي تعلم حقيقة هذا الأمر فاستعدت لهذا اليوم منذ أيام حين زارت الضاحية تلك العرافة. طلبت أمي من العرافة أن تقرأ لي طالع أيامي القادمة. رمت العرافة بأحجارها و أصدافها على الأرض، وسهت قليلا وسرحت بأفكارها في الأفق البعيد.
    قالت العرافة وهي تكب بوجهها على الأرض وتنظر إلى أصدافها وأحجارها الساكنة:
    "إن أيامك مليئة بالعقبات والعراقيل. ستمر عليكم أيام يكثر فيها المطر الأسود، و أن مصيرك معلّق بدلو ثبت في إحدى الكهوف التي تكثر في قاع بحيرة "بجيقا" العميقة، وان روحك صدفة ملقية بالقرب من الجرف فوق رمال الشاطئ ".
    شعرت برعشة وخوف، وطلبتُ منها أن تدع مستقبلي وشأنه و أن تقرأ لي حكمة الماضي حتى أستطيع أن أحدق في مستقبلي بطريقة أثق فيها، لأرى لماذا ينهار حظي ويتفرق مثل كومة قش.
    قالت العرافة:
    " إني أراك تطاردك كلاب الضاحية، فتنجو منها، ثم تمر بحائط عال وأنت تعدو، وتحاول أن تقفز فوق الحائط مرارا وتعجز، حتى إذا ما نجحت في ذلك وتجاوزته وتركته خلفك، تمر ببركة ماء آسن تعبرها بعد جهد مضني، يا بني انك لن تستطيع قضاء أمر من أول وهلة أبدا، هذا هو قدرك". ثم قرأت " لقد خلقنا الإنسان في كبد" واستعاذت بالله وانتفضت كأنها جان عربيد.
    بعد أن فرغت العرافة من قراءة طالعي، نقدتها ثمناً بخساً، ملاليم معدودات دستها أمي المتوجسة في كفي كي اجزيها ثمن تطفلها على مستقبلي.

    كانت أختي التي تكبرني بربيعين تقف بقربي وهي تبكي، و كان أخي قد انشغل بحمل حقيبتي للسيارة بالخارج، وأبناء خالاتي تجمعوا بالخارج لوداعي. كنت أحبهم جميعاً دون أن يشعر بي أحد، وبحبهم وصلت إلى نفسي وتعرفت عليها. كسر هذا الصمت صوت أمي وهي تدعو لي بسلامة السفر وسلامة الرجوع غانماً.

    لم يستدع سفري مرافقة أحد من أهلي لي ضمن المودعين في المحطة رغم أنها رحلتي الأولى خارج الضاحية. كان وداعاً قصيراً وسريعاً. كان أبي لا يزال بعيداً يرقب الزحام الصغير الذي بدأ في التجمع عند الباب الرئيسي للمنزل، لم يحتضنني أو يقبلني، بل اكتفى بمراقبتي محتفظاً بعواطفه ومشاعره لنفسه كما هي عادته دائماً، لا يعبر عنها مهما بلغت أهمية الحدث. كان والدي مشغولا لدرجة كبيرة بهموم تنظيم المزارعين والعمال في المشروع الكبير، وكان يقضي جل وقته في إدارة أمورهم، ولكنه في نفس الوقت كان حريصاً على إكمال تعليمنا الجامعي، رغم انه لا ينتبه كثيرا لدروسنا.

    في ذلك الصباح عندما نهضت واقفا معلناً ساعة الوداع كان وجه أمي يختلط بمشاعر عديدة وملونة، احتضنتني وركعت على الأرض من خلفي تأخذ حفنة من التراب الذي تطأ عليه قدماي في خطواتي الأخيرة لرحلتي الأولى. كان ذلك تقليد قديم حافظت عليه العائلة عله يوازن قلب الأم، ويضمن عودة الابن المسافر.

    موقف البصات الكبيرة يقع في أقصى غرب مدينة مدني، وكان عبارة عن ساحة ترابية كبيرة تقع في محاذاة الترعة الرئيسية لمشروع الجزيرة، تم تشييدها وردمها بالتراب الأحمر. تاريخ المحطة يقول أنها لم تستقر في مكان واحد قط. ....فبعد أن كانت تجاور المستشفى في وسط المدينة، تم نقلها إلى السوق الصغير الواقع بين أحياء المزاد والحلة الجديدة والمنطقة الصناعية، ثم تم نقلها أخيرا إلي المكان الحالي الذي يقع في أقصى غرب المدينة ويلاصق تخوم الزراعة والمقبرة الكبيرة.

    كانت الرحلة من مدني إلى الخرطوم تستغرق ثلاث إلى أربع ساعات – رغم قرب المسافة- وذلك لوعورة الشارع وضيقه وخطورته لكثرة الحوادث التي تقع فيه. وكان سائقو البصات الكسالى يفرضون على الركاب توقف إجباري في مدينة الكاملين التي تنتصف الطريق وذلك في سبيل وجبة مجانية يمنحها لهم أصحاب المطاعم الشاحبة التي تراصت على جانبي الطريق.

    عند وصولنا للمحطة اشتريت تذكرة، وصررتُ باقي أوراقي النقدية وحشرتها في حقيبتي اليدوية في حرص غير مدرب. تناولت الشاي الأخير مع أصدقائي و أقراني: حسن عمر، وسيف الدين، ومحمد صديق، الذين جاءوا إلى وداعي، نشئنا سوياً، واخضرت بيننا السنون. وحدتنا كرة القدم وقوت شوكتنا قضايا الضاحية الكثيرة. وقفنا سويا سداً منيعاً ضد اتحاد كرة القدم الخاص بالمدينة لرفضه ضم فريق الضاحية ليلعب ضمن دوري المدينة. كان رفض الاتحاد يجسد هذا الوضع الغريب الذي فرضته حقيقة أن الضاحية تلاصق مدينة مدني من الناحية الجنوبية الشرقية في محاذاة النيل الأزرق ومع ذلك لا يعتبرها اتحاد الكرة جزءا من المدينة، كما أن الضاحية ظلت دوماً ترفض الذوبان في المدينة ، فهي تعيش في حالة وسطى بين المدينة والقرية. كان الرفض متبادلاً.

    اذكر ذات عصر جاءني حسن عمر ليزورني في المنزل، كنت استذكر دروسي استعداداً لامتحانات الثانوية القادمة، وكان حسن يكبرني قليلا، ويتمتع بقوة بدنية هائلة رغم نحافته الظاهرة للعيان، وكانت قواه تتركز في يديه وقبضته الحديدية وساقيه النحيفتين، وقلبه الحار الذي لا يخشى أحدا، و اشتهر بأنه عداء الضاحية، لا ينافسه أحد ولا يسبقه في الركض كائن من كان بالضاحية. كنا نسميه "كلب الحر"، و رجل المهمات الصعبة خاصة إذا استدعى الأمر بعض المواجهة واستعمال الأيدي والعنف. اشتركنا سوياً في إدارة نادي كرة القدم الذي يحمل اسم "الغابة" تيمناً بغابة الضاحية الكبيرة التي اشتهرت بها الضاحية، حيث كانت كظل يستظل به أهل المدينة في أوقات الحر الشديد بإقامة الرحلات والحفلات الترفيهية. كنا نقوم بالتطوع لمساعدة ضباط الغابات في شتل الأشجار الجديدة قبيل الخريف، وكنا نقوم بحراستها من اعتداءات الحيوانات والبشر أحياناً. كثيرا ما أنفقنا الأيام سوياً داخل الغابة أثناء العطلات أو في جنائن المانجو الموازية لها على النيل. ترعرعنا فيها و أكلنا من ثمرها وخيراتها، واستظلينا بظلها من هجير الصيف واستنشقنا هوائها النقي.

    "جلس حسن عمر في ذلك اليوم واطرق برأسه على الأرض وقال أنه يطلب مساعدتي وكل الشباب في أمر جلل.
    قلت:
    - ابشر اليوم قبل غد، ما الأمر؟
    قال:
    - يجب أن نتوحد ونعمل معا لأيام قد تطول، إن الأمر معقد هذه المرة يا راشد.
    قلت:
    - ادخل في الموضوع مباشرة يا حسن.
    قال وهو ينظر إلى أعلى مغاضباً:
    - شيخ الأمين احضر مهندسين من وزارة الزراعة ووفدين من اتحاد الخضر والفواكه بالمدينة، جاءوا هذا الصباح في عربات كثيرة ودخلوا الغابة وعملوا معاينات ومسوحات وامضوا وقتاً طويلا هناك. ناس الضاحية يقولون إن الحكومة تنوي قطع الغابة وإزالتها من الوجود لتعمل في مكانها مشروعاً لزراعة الموز بغرض التصدير.

    دفع بنا حب الضاحية و بيئتها إلى الوقوف ضد قيام مشروع الموز فيها منذ أن كان الأمر مجرد فكرة. تكاتفنا وعملنا سويا في تنظيم الأهالي في صف واحد ضد المتآمرين مع حكومة الولاية ووزير الزراعة الذين كانوا يرغبون في إزالة الغابة التي تطوق الضاحية من اجل إقامة مشروع الموز. قلنا للوزير في الاجتماع الذي عقد داخل المسجد "إن الغابة هي روح الضاحية واسمها، وخصوبة الحياة فيها، وسر الوجود لأهلها، وتلطف جوها، وإزالتها تعني موت الضاحية، مما يفقدنا جميعاً مبرر وجودنا." قام وزير الزراعة باتهامنا بالفلسفة الرعناء وانصرف غاضباً، ولكننا نجحنا في إيقاف عملية إزالة الغابة ومنع قيام مشروع الموز في النهاية."

    ودعتُ أصدقائي وصعدت إلى الباص الذي أوشك على التحرك. جلستُ على مقعدي داخل الباص بعد أن سويّت من حالي وتأكدت أن حقيبتي قد استقرت في مكان آمن في الرف الذي يعلو المقعد. ما أن تحرك الباص حتى تعلّق بصري بطفل رضيع كبير الحجم والرأس في المقعد الذي يجاورني من ناحية اليمين. كان الطفل يمسك بثدي أمه بيديه الاثنين كأنه خائف من انفلات الثدي من بين أصابعه الصغيرة، و أمه نائمة يتدلى رأسها ناحية جارها. وكان يخرج أصواتاً غريبة من حركة المص المُلح التي يقوم بها. بدأت أراقبه، وتخيلت أن رأس الطفل يكبر مع كل مصة يقوم بها في الوقت الذي يصغر فيه جسد الأم. كان الطفل يحتلب اللبن إحتلاباً عنيفاً يبدو واضحاً من حركة يديه القلقتين وعضلات وجهه العصبي، يتمايل رأسه الضخم فيهتز جسد الأم النحيل اهتزازا خفيفاً. لم يعد هنالك من لبن يكفي هذا الحجم المتنامي لجسد الطفل. أثار فيَ مشهد الطفل المعلق على صدر أمه أحاسيس غامضة بأحداث قديمة تبدو الآن كضباب:

    " في خريف كل عام وبداية موسم اللقاح تكثر ذرات الغبار الأخضر الذي تفرزه أشجار الليمون والمانجو و السنط و النيم التي يكثر نموها في بيوت الضاحية ، وفي الغابة والمزارع التي تحيط بها من كل صوب. في موسم اللقاح هذا وبداية الإزهار تنضح الأشجار غبيرات من مادة خضراء طيارة تملأ المكان والفراغ. حدثت ولادتي في ذلك الخريف المبكر من ذلك العام الذي شهد صعود جحافل أول دكتاتورية عسكرية لسدة الحكم في السودان، وعقب الموت الجماعي لأشجار الليمون التي كانت تحتل جزءاً كبيراً من بيتنا. كان لهذه الحادثة اثر مخيف على نفوس أفراد عائلتي.
    قالت حليمة التي كانت تبيع الفطور لتلاميذ المدرسة الأولية:
    "إن الموت الجماعي لأشجار الليمون لهو نذير شؤم بالموت المبكر لأفراد تلك العائلة".

    "كان عمري لم يتجاوز الشهرين عندما تسربت ذرات الغبار الأخضر إلى مسام جسدي الصغير. ملأ الغبار الأخضر رئتي وكياني، فارتعدت نفسي الطفلة من هول تأثيره. ترنح جسدي تحت وطأة هذا المرض الغريب، وأبت نفسي كل شيء، وخاصمتُ ثدي أمي خصاماً أبديا. نحل جسمي من الجوع والمرض، واصفر لوني، وانكمش جلدي من كثرة البكاء. وفقدت أمي رجاء الحياة فيّ، وأعياها الذهاب إلى الأطباء بحثاً عن استشفائي. أحسستُ بفقاقيع هوائية شفافة تحوم حول قلبي الغض، وضغط غير محبب على جانبي الأيسر، تطير الفقاقيع وتحلق داخل القفص الصدري الصغير، تعروني رعشة كلما لامست سطح قلبي فقاعة. ترنحتُ ثم ترنحتُ ، و هوّمتُ حتى رأيتُ نهايتي الدانية. ظن الجميع أنني قد فارقت الحياة، إلا جدتي التي حملتني ووضعتني على حجرها و تولتني بالرعاية، لم تصدق قصة موتي، كما لم تصدق أكذوبة الموت المبكر، كذبت كل ظنون الناس وبدأت تغني لي و أنا قابع في حجرها. غنت أغنية لا زال صدى كلماتها المبهمة يلامس أذني كنسمة صيفية رقيقة ....( توتو .....توتو .... قالوا متوا...توتو....ـوتو....قالوا انتو متوا...) طربت لحلاوة صوت جدتي، وتبسمت لأغنيتها ابتسامة العائد من موته الأول. وهكذا بدأت جدتي إرضاعي تفاصيل حياتي المبكرة".

    انتزعتُ نفسي انتزاعاً من تلك المشاهد، و أشحت بوجهي إلى الناحية الأخرى من نافذة الباص. كان وجه المدينة يطل من النافذة مسرعاً نحو الوراء، رحتُ أتخيل أصوات الطيور وهي تأوي إلى أغصانها، غثاء الماعز العائدة من المرعى، وخوار الأبقار، رائحة الغروب الممزوجة بأريج زهر الليمون ورائحة المانجو، وروث البهائم وزفير النهر. واختلطت الذكريات بالواقع.

    النيل يمارس لعبة الظهور والاختفاء بين الأشجار التي تبدو مسرعة للوراء بفعل حركة الباص، كان ينبعث منه شعاع الثقة والخلود. القرى هنا بين النيل والمشروع الكبير ظاهرة الفقر والعناء، والباص لا يبالي بالمطبات والحفر، يشق الفضاء المفتوح و يتقدم ناحية الشمال في سباق مع النيل. مدينة الحصاحيصا تقبع عند المنحنى، هنا يرتبك النيل قليلا مع الباص، وتصبح صورة السباق أكثر غموضاً.

    سرحتُ بخيالي وأفكاري بعيداً استعيد بعض تفاصيل ما حدث:
    " استعيد تفاصيل واقعة الفيضان، وثمة غيوم وظلال كثيفة تحوم حول تجاويف الذاكرة، تفصل بينها حيطان وجدران ، تتشابك مع صور مموهة ، وإيحاءات خرافية تثير في النفس خوف غريب. رمال خشنة تداعب أرجلي، مفتوحة على خضم من المياه المنحدرة من الأعالي، من آفاق بعيدة، لا ترسى على بر. ينحدر النيل الأزرق بغليانه وعنفوانه المعروف، لا يأبه بشيء، أمواجه تتقاطع، ورياحه تتعالى و أصوات حذرة تصدر من جوفه. لا اختزال في مسيرته من مرتفعات الحبشة، يمر على كل ذرة من تراب الأرض، يشهد على كل شيء بتعال غريب. يشهد على الزمان في الضاحية، ويصافح عبر امتداده الطويل وجوهاً و أشخاصاً منها، يحفظ ملامحها، ويحتضن أركانها الثلاثة، وحدائقها بروائحها العبقة المميزة بزهر الليمون و نكهة المانجو. تلامس مياهه أحضان فتياتنا الغضة وهن يرتمين بين أحضانه، ليعمدهن بطميه الطاهر. كنت أحاول استعادة صوره البعيدة، من زمن الطفولة، وأناجيه: كنا في كل صيف في زمان الصبا نصغي إلى همس الجنيات الجميلات اللاتي يسكن في قاع "بجيقا" ، نغوص في أعماق ذاكرتنا الطفولية بحثاً عن أسرارك و حقائقك التي تكتنز بها حكاوي المساطيل والمروجين التي لا تنتهي، ونقرأ الرسائل المنسوبة للغرقى الذين لا يعودون إلينا. أصغى وابحث عن حقائق لا توجد، وعن صوت لا يجئ، لن أصبح أسيراً لميتافيزيقيا الخرافة والقوى الغريبة التي تسكن قاعك. ولكن أيها الوحش المفترس الأليف، الصاخب صيفاً، والهادي شتاءً، ها أنت تبدو هزيلا ومكسورا عند دخولك بوابات “بجيقا"، كأنك مكبلا بهذه الأبواب الحديدية الضخمة، محاصراً بغرفها العالية، تعلو مياهك صافية شفافة عند الدخول إليها، وعند الخروج تزول مفاتن بهجتك و ألقك، وقد تجدد عنفوانك وشبابك وقوتك. تمور مياهك وتفور عند منعطف "بجيقا"، و أنت تغادرها لتنفتح على منافذ الحياة من جديد مثل صبي خرج من الحبس واكتشف بهجة الحياة فجأة بعد حرمان طويل. لا تأبه بالصيادين ولا بشباكهم المنثورة والمشرعة في قاعك، تتعارض خيوطها الطويلة المثقلة أطرافها بقطع الحديد، كما لا تأبه بأحلامهم التي تدور مثل "شيمك"، و أمواجك العاتية."

    قبل أن استعد للسفر كنت قد تعلمت السباحة و أجدتها، هزمت فكرة الغرق ونزعتها من داخلي. سبحتُ في ذلك اليوم الأخير سباحة استمرت عصر كل اليوم. حاولتُ أن أتوحد مع الماء، وأحسستُ أنني انبثق من مركز النبع لتتدفق روحي وأفيض فوق كل الأشياء، تغلبتُ على الخوف..... ألقيتُ بنفسي إلى الماء وتغلبتُ على كل الأشياء: الأحجار، الشيمة، جذوع الأشجار المتناثرة حولي، ورحتُ انشد واغني كي تسمعني جنيات البحر، مستلهماً أسطورة أبو زعبل. غطستُ إلى القاع، وطفوتُ كورقة مانجو، وسبحتُ بنشوة غريبة. هكذا هزمتُ الغرق.

    بعد ثلاث ساعات من السير توقف الباص عند محطة "سوبا" العسكرية للتفتيش وغاب وجه الضاحية من ذاكرتي فجأة دون إشارة أو وداع. الخرطوم تنصب لنا شراك الشك في بوابات الدخول. وقرية "سوبا" الكائنة الآن ليست بها أية آثار تدل على أنها كانت آخر معاقل الحضارة النوبية في أواسط السودان. من هنا بدأ فعل التخريب، خربّها تحالف العبدلاب والفونج قبل عدة قرون، و الآن أصبحت "سوبا" بوابة للخرطوم من الناحية الجنوبية، منها تبدأ رحلة الشك في القادم من الريف. مزارعها شاحبة يكسوها الغبار، لم تعرف الاخضرار، ولم تشهد موسماً للإزهار منذ أن سكنها الهوس و الإرهاب، أصبحت كوخاً تخرج منه وطاويط الليل لتمتص دماء الأبرياء، وملجئاً لتدريب المجاهدين العرب الهاربين من ويلات حكوماتهم العربية الإسلامية. وكانت الحكومة الإسلامية الجديدة قد أعلنت الجهاد الإسلامي لتوها ضد شعب الجنوب المسيحي.

    صعد الباص شاب صغير صارم القسمات، حرقت وجهه أشعة الشمس الحارة فزادته سوادا على سواد. أمرنا الجندي الشاب بالنزول من الباص والوقوف صفاً واحدا أمام أحد الخيام العسكرية التي نصبت في العراء. كان هناك عدد من العساكر يجوبون داخل البصات الأخرى التي اصطفت خلفنا وأمامنا يبحثون في حقائبهم عن دليل للإدانة بعدم الوطنية أو عدم التدين، ويفتشون في قلوب الأطفال عن شرور مستقبلية قد تكون كامنة فيهم. زاد دخان البصات حرارة الجو فأصبحت تتصاعد على الأرض وكأنها سراب.

    نزلنا حسب التعليمات التي أملاها علينا الجندي. وقفنا في طابور طويل تصحبنا حقائبنا استعداداً للتفتيش الشخصي الذي سيقوم به رجال الأمن. خيام متناثرة، ورجال ملتحون ومسلحون، غابت عنهم الابتسامة منذ أزمان سحيقة. أمرونا بالوقوف قروناً طويلة في هذا الجو الحار الذي يزيده لهيباَ هدير ماكينات البصات المتراصة والأبخرة التي تخرج منها، حرارة يفور لها المخ. وكان هناك صبية صغار متسخي الثياب يحملون صفائح من الماء البارد، يتبعهم سرب من الذباب الذي يكثر هذه الأيام. كان الباعة يرددون: "برِّد ...برِّد ...جوفك " عبارات سليمة في موقف غير سليم. كانت أصوات تتصاعد الصبية يعرضون علينا الماء للبيع ونحن عنهم مُعرضين.
    قلت في سري:

    "ربما أرادوا بهذه الإجراءات أن يشعرونا بأننا لا ننتمي إلى هذه المدينة النخبوية التي تسمى "العاصمة المثلثة"."

    مرت لحظات من الترقب والاغتراب وعدم الانتماء كأنها أجيال من الانتظار. كل المتاعب بدأت من "سوبا" هكذا يقول التاريخ، منذ أن استكانت لفعل التخريب والهزيمة. اعتنقت "سوبا" الآن التطرف و أصبحت مأوى له، يأتيها من كل حدب وصوب.

    اقترب منا جنديان، أحدهما بدأ بالتفتيش والآخر اكتفى بمراقبتنا خوف أن نفلت منهم. كان الجندي يفتش في كل ما نحمله من متاع وكتب و أوراق والآخر يقوم بتوجيه الأسئلة. عندما أتى دوري، انهمك الجندي في تفتيش حقيبتي الصغيرة، تغوص يداه المدربتان في أعماق الحقيبة، كأنه يبحث عن شيء معين. كان يبحث عن دليل إدانة يواجه به هذا الريفي القادم إلى الخرطوم!

    وحين لم يعثر على ضالته و"دليل الإدانة"، سألني عن بطاقتي الشخصية وهو يبحث في جيوبي.
    ناولته بطاقتي الجديدة التي استخرجتها لإثبات شخصيتي عند امتحان الشهادة الثانوية قبل شهور قليلة. أخذها مني وبدأ يقرأ بصوت عال ليملي على زميله الآخر الذي كان يدوّن بياناتها:
    الاسم: راشد عبد الرحيم حمد الله.
    المهنة: طالب.
    تاريخ الميلاد: 15/10/1972.
    مكان السكن: الضاحية/ مركز مدني شرق.

    سألني الجندي الذي كان يدون البيانات:
    - لماذا أنت ذاهب للخرطوم؟
    - للدراسة الجامعية. أجبت وأنا أريه خطاب قبولي.
    - أي كلية ؟
    - لدراسة الآداب.
    - ماذا يعمل والدك؟
    - مزارعاً بالمشروع الكبير. قلت.

    بعد أن انتهت عملية التفتيش صعدتُ للباص مرة أخرى، وما أن اكتمل عددنا حتى بدأ الباص يشق الطريق عبر مزارع متآكلة وشاحبة وأسوار مغبرة ، وبدأنا نقترب.

    وما انقشعت ظلال الأشجار القصيرة حتى لاحت لنا الخرطوم من قريب ينبعث منها غبار السنين. ارتبك قلبي قليلا وأنا أترجل من الباص لألج فيها لأول مرة. كانت المدينة تئن من قبضة العسكر الإسلاميين، وترزح من ثقل أوزارهم.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de