يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-11-2024, 03:51 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-16-2003, 03:21 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس

    Quote: وادونيس الذي اهدى سلاما ووردا لبيروت في ختام قصيدته الرائعة "قبر من اجل نيويورك" كان يؤمل منه ان يرشق الذين احتشدوا لسماعه في "مسرح المدينة" بوردة مماثلة لا ان يعدهم بقبر آخر!

    شكرا عمر على ايرادك لما قاله ادونيس في محاضرته عن بيروت
    حقيفة حزنت لماقاله لانني كنت في بيروت , واعرف انها مدينه متعددة
    مرفق رد الشاعر شوقي بزيع وبعدها سانشر رد الشاعر عقل العويط
    لك صادق مودتي
    المشاء
    يـا أمَــةَ الـدنـــيـا يـا بـيــــروت!

    شـوقـي بـزيـع



    لا اعرف لماذا ذكّرني وقوف الشاعر الصديق أدونيس على منبر "مسرح المدينة" في بيروت، بوقوف انبياء العهد القديم على أنقاض المدن المضروبة بلعنة الآلهة بفعل ما اقترفته من شرور وآثام. ففي المحاضرة، خلافاً للكثير من نصوص أدونيس وأفكاره الاشكالية، جنوح واضح الى التعميم واطلاق الاحكام النهائية بقدر ما فيها من التأبين الممزوج بالغضب والرثاء المفعم بالهجاء والسخط. ثمة ما يذكّر بمراثي إرميا لاورشليم او نبوءة أشعياء لصور "المسكتة في قلب البحر" والتي لن تقوم لها قائمة الى الابد. كأن ادونيس متماهياً مع عنوان محاضرته، آثر هذه المرة، ولسبب غامض لا أعلمه، ان يغلّب اسمه التاريخي على اسم الولادة ليسقط على المدينة التي منحته، باعترافه، ولادته الثانية، كل ضيقه وسخطه وقرفه من الواقع السياسي والاجتماعي المهترئ في لبنان ودنيا العرب.

    ليس من قبيل المصادفة على الارجح ان يبدأ أدونيس محاضرته بالاشارة الى الجذر اللغوي لكلمة "مدنية" التي تعني "الأمَة" او المرأة المملوكة في "لسان العرب". فهذا المدخل الذي لا يتصل من قريب او بعيد بمتن المحاضرة نفسها يمكن ان يكون، ولو بغير قصد رداً متأخراً على قصيدة نزار قباني "يا ست الدنيا يا بيروت" والتي كتبها الشاعر الراحل في مطالع الحرب الاهلية اللبنانية. كأن لا مكان وسطاً بين مديح المدينة المفرط وهجائها المفرط، او بين ان تكون بيروت سيدة الدنيا او جاريتها. واذا كانت المدينة من جهة ثانية قد تعمدت بدم أهلها المتقاتلين لسنين طويلة، فهي لا تختلف كبير اختلاف عن مدن اخرى كأثينا ومدريد ودبلن وغيرها من المدن التي مزقتها المذابح قبل ان تنهض. لقد سبق لأحد الفنانين العرب لدى سؤاله عن معنى بيروت أن اجاب: "بيروت بالنسبة اليّ تعني شهوة الحياة". لكن شهوة الحياة، بحسب فرويد، هي الوجه الآخر لشهوة الموت. وكلتاهما معاً تجسد، كما اسم أدونيس نفسه، المعنى الحقيقي لجدلية الفناء والانبعاث او جدلية الموت والقيامة.

    لا تعني هذه التوطئة بالطبع رفضاً لمعظم المقدمات التي سردها أدونيس في تشخيصه لواقع الحال اللبناني والعربي. فالحديث عن الطائفية والتفكك وسيادة الاستبداد وتغييب العقل والحرية وانعدام القراءة واستشراء الرقابة والغاء الآخر، هو من قبيل تحصيل الحاصل في وصف حال الأمة وتسارع انهيارها المطرد في العقود الاخيرة. ولكن ذلك كله يتم في ظل نوع من الكليشيهات المعروفة والتعميمات المطلقة التي لا تعير انتباهاً للفوارق بين بلد عربي وآخر من جهة او بين بيروت ومثيلاتها من العواصم العربية المختلفة من جهة اخرى. وهي تعميمات تدحضها آراء سابقة لأدونيس نفسه حول الفوارق بين العواصم المنتهية والعواصم التي لا تزال وعداً قيد الانجاز كما هي الحال مع بيروت.

    ان مشكلة المحاضرة الاساسية لا تكمن في المقدمات بل في الخلاصات والنتائج. فقد يكون ادونيس محقاً كل الحق في حديثه عن افتقار بيروت الى الفضاء والهندسة الجمالية وتحوّلها غابة مخيفة وفظة من الاسمنت، لكن هذه الخاصية لا تتصل بالعاصمة اللبنانية وحدها بل بالكثير من عواصم العالم الحديث ومدنه وحواضره. لكن تلك الفوضى العمرانية وذلك الاكتظاظ العشوائي للمدينة لم يمنعاها في الستينات واوائل السبعينات من تجاوز "بشاعتها" الظاهرة في القوالب والاشكال واكتشاف جمالها على الرصيف وفي المقهى وداخل المعارض ومنتديات الحوار وفي تظاهرات الاحتجاج وفي الحرم البائس للجامعة الوطنية التي اختار ادونيس مسكنه بجوارها مطلقا هتافه الجميل: "إن رأيتِ على مدخل الجامعة/ كوكبا عانقيه/إن رأيتَ على مدخل الجامعة/ نجمة خذ يدها...". واذا كانت هندسة المدن معيارا لحيويتها وثقافتها النشطة فهل تكون مدينة جميلة ومصنوعة من الحجر الصخري الطبيعي وذات فضاء مفتوح كالعاصمة الاردنية عمان اكثر حيوية وتفتحاً من بيروت؟

    لا احد بالطبع يختلف مع ادونيس حول اعتبار الطائفية والتنابذ المذهبي المرض الاشد استشراء في جسد المدينة كما في لبنان بأسره. ولا احد يختلف معه حول المحاصصة والفساد وتناهب الثروة وسيادة نظام العصبية والارث، لكن تلك الظواهر السلبية كلها لا ينبغي لها ان تحجب صورة التنوع والغنى الثقافي والاجتماعي الذي ابعد بيروت عن الوقوع في شرك الواحدية والتماثل المضجرين وحوّلها الى مختبر دائم للبحث عن معنى الاقامة في الارض وعن حقيقة لا يستطيع ان يدّعي امتلاكها احد في عينه. والديموقراطية، على تشوهاتها، لم تكن نعمة خالصة انزلتها السماء على اللبنانيين، بقدر ما كانت الممر الاجباري الوحيد الذي يتيح للأقليات اللبنانية المتنوعة امكان الانضواء في نسق او نظام. اما ان تكون الاشرفية اقرب الى باريس او لندن منها الى الضاحية، وان تكون الضاحية اقرب الى طهران منها الى الاشرفية فهذا لا يوضع بشكل مطلق في خانة التذرر اللبناني، الذي لعب زياد الرحباني طويلا عليه، بل يمكن فيما لو احسن استثماره ان يكون مصدرا للتفاعل والتلاقح والثراء الثقافي. ان قدر لبنان بفعل تنوعه الفسيفسائي الفريد ان يقف دائما على الشفير بين الوعد المتجدد والتنابذ الكارثي، بين نعمة الحرية والحلم والحوار الدائم وبين نقمة التجييش الطوائفي المفضي الى الحروب الاهلية الدموية. ومن الظلم ان نرى احدهما دون الآخر وان نستبدل بتمام الصورة نصفها الكسيح والمعتم.

    لقد بدت صرخة ادونيس، على صدقها وبلاغتها، اكثر قسوة مما يجب. كما ان رغبته الخالصة في احداث صدمة عميقة ترجّ صمت المدينة وتخرجها من سباتها المقيم، لا تبرر تسويتها بالارض وحشر الجلادين والضحايا في خانة واحدة. ففي هذه المدينة المرفوعة على صليبها منذ اكثر من ربع قرن، ثمة ثقافة للنخاسة والاستتباع والترويج الطائفي والتعهير ولعق احذية السلاطين، وثمة ثقافة اخرى للاعتراض والرفض والممانعة والدفاع عن ثمالة الروح. وادونيس الذي اهدى سلاما ووردا لبيروت في ختام قصيدته الرائعة "قبر من اجل نيويورك" كان يؤمل منه ان يرشق الذين احتشدوا لسماعه في "مسرح المدينة" بوردة مماثلة لا ان يعدهم بقبر آخر!


























                  

11-16-2003, 03:35 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    Quote:
    أما أنكَ تلتقي معنا، فلأننا السبّاقون ــ لا كلبنانيين، وسوريين، وسوريين ولبنانيين في آن واحد، وعرب، وإنما ككتّاب ومثقفين أولاً بأول ــ في أننا نعيش "هنا" ونتألم "هنا" ونيأس "هنا" ونموت "هنا" ونحلم "هنا" ونكتب "هنا" وننهزم "هنا" ونُحتل "هنا" ونخترع الضوء "هنا" وإن بصيصاً. وفي أننا، "هنا" نُعمِل عقولنا وووجداناتنا وضميرنا وطاقاتنا ومواهبنا. وفي الـ"هنا" نستولد الرؤى والأفكار والمشاعر والأمل ونتمرد على الموت والقتل لمناقشة واقع هذه المدينة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولطرح الأسئلة عليها وإدارة النقاش معها وحولها ومحاولة خلقها من جديد

    وهذا رد الشاعر عقل العويط
    أدونيس يلفـظ أحـكام الإعـدام ويـمـحـو ثقافة بـيــروت وشـــعـبـهـا

    مـن فـمــكَ أديـنــكَ قـبـــل أن أغــفــر لـكَ

    عـقـل الـعـويـط



    حسناً فعل الشاعر أدونيس بطرح السؤال الآتي: "هل بيروت، اليوم، مدينة حقاً، أم هي مجرد إسم تاريخي؟"، في محاضرته التي ألقاها في "مسرح المدينة" ضمن إطار مهرجان "أشكال ألوان" ونشرتها له الزميلة "السفير"، السبت في الأول من تشرين الثاني .2003 فالإيجابية الصحيحة جداً والمشروعة جداً التي نفترضها في "مبدأ" السؤال كانت تقتضي منه في "التطبيق" أن يحمّل الأجوبة التي اقترحها، "معرفة" داخلية ملموسة وعميقة بـ"المكان" و"أهله"، مشفوعةً بـ"ثقافة" واقعية وعملية مكينة، إبداعياً وأنتروبولوجياً ومجتمعياً وسياسياً ومعمارياً، لا الكتفاء بالتعميم، مثلما كانت تقتضي منه وبالمستوى نفسه بعداً "إنسانياً" و"أخلاقياً" يجنّبه إغفال الوقائع النوعية المضادة أو الوقوع في ما يشبه قطع يد الحقيقة. فأين أصاب أدونيس وأين أخطأ؟







    سأخاطبكَ وجهاً لوجه أيها الشاعر، لأنكَ أستاذي الجامعي في ذاك الزمان الأول، ولأني لا أزال صديقكَ وقارئكَ وعارفكَ قليلاً أو كثيراً. ولأني أحبّكَ أيضاً.

    لقد أحسنتَ فعلاً في إثارة مسألة هذه المدينة التي وفدتَ إليها في أحد الأيام الغابرة، وفيها ولدتَ ولادتكَ الثانية، مثلما ظللتَ تعتبرها حتى الأمس القريب حين استقبلتكَ في أمسية صاخبة في قاعة "الإسمبلي هول" في الجامعة الأميركية، مساء ذاك الأربعاء التاريخي في 16 كانون الأول 1992وقلتَ فيها ما يأتي: "ثمة مدن تسكنكَ، عندما تغيب عنها أو لا تعود قادراً على السكنى فيها. بيروت، بالنسبة إليَّ، أولى هذه المدن، ولعلها، على المستوى الحميم الأخير، أن تكون المدينة الوحيدة".

    وقد أحسنتَ حقاً حين تحدثتَ عن ليلها الذي أصيبت به، وحين أثرتَ الأسئلة "القاتلة". فأنتَ تعرف معرفة أكيدة أنكَ لن تجد "مكاناً" آخر ولا "مناخاً" (ولا ساحة!) في البلدان العربية أو الناطقة بالعربية تستطيع أن تطرحها فيه وتردّ عليها بالأجوبة اليقينية الماحقة. يتراءى لي أنكَ إذا سوّلت لكَ نفسكَ أن تطرح البعض القليل مما يوازي هذه الأسئلة ــ الأجوبة فإنكَ لواجد حتماً ما لن يرضيكَ. أما بيروت فأنتَ تعرف أنها رحبة ومختلفة ونقدية، وأنها تحبكَ، وستظلّ، وأن الهامش فيها يتحمل النقد ويريده، مثلما تعرف في الوقت نفسه أن الذين انتهكوها واغتصبوها (وهم متعددو الجنسية)، جعلوا قدرتها على "التخويف" أقل من أن "تخوّفكَ" فتردعكَ عن ارتكاب الخطأ الجسيم في حقها وفي حقّ نفسكَ أولاً بأول.

    ربما كان ينبغي لكَ أولاً أن توجه التحية الى هذا المنبر ــ المسرح الذي يستقبلكَ، وهو المهدَّد بالإقفال، وأن تحيي صموده الثقافي ومحاولات إقفاله، وأن ترى في كفاحه علامة تمرد ورفض للوضع القائم.

    ربما كان الكثيرون يتوقعون منكَ أن تبدأ محاضرتكَ بتوجيه تحية "مجاملة" الى روح المقاومة اللبنانية الثقافية التي حاولت (وربما فشلت) ولا تزال تحاول المحافظة على "مناخ" بيروت و"روحها" كي تظلّ تستطيع أن تولد من جديد كلما قُتلت أو ماتت، وأن تستقبلكَ دائماً وتصفق لمحاضرتكَ عنها، وإن كنتَ تجزم بمقتلها وتتشفى أو... تحتفي به.



    للتذكير بحقائق التاريخ فقط

    ليس من ضرورة لتذكيركَ بأن المستبيحين كانوا كثراً وبأن الجيش الإسرائيلي اجتاح لبنان وهذه البيروت التي تحاضر فيها، ليقاتل الفلسطينيين واللبنانيين دون غيرهم.

    ليس من ضرورة لتذكيركَ بأن الجيش العربي السوري، ومخابراته وعسسه وأزلام نظامه البعثي، السوريين واللبنانيين، يحتلون لبنان واللبنانيين وبيروت والبيروتيين، ويصادرون كل "حقيقة" أخرى مضادة ويمسكون برقبتها. فقد بدا جلياً في كلامكَ عن بيروت، كأنكَ تتكلم عن مدينة ليست موجودة تحت الاحتلال الروحي والجسدي، ولا مصادرة ولا ممصوصة الضوء ولا منوَّمة على فراش الانتهاك الدائم ولا مسجونة في إقامتها الجبرية المرعبة.

    ... أما كانت هذه المدينة المجاهدة ــ وهامشها الثقافي المقاوِم ــ يستحقان منكَ أن تدل عليهما ولو بتحية!

    لكن، ما لنا ولهذا التذكير، فمن حقّكَ أن تسأل ما تريد وأن تبحث عن الأجوبة التي تريد. بل من واجبكَ أن تفعل ذلك، كشاعر ومثقف و"هامشي". فأنتَ من أهل هذا البيت المعنوي أصلاً وفي الأساس. فضلاً عن كونكَ مواطناً سورياً ولبنانياً وعالمياً.

    فإذا كانت محاضرتكَ هذه حقاً وواجباً أدبيين وثقافيين و"وطنيين" و"قوميين" و"إنسانيين"، فمن ضمن هذين الحق والواجب أن تكون مقاربات الرأي فيها جذرية وتحتية ومتمكنة ودقيقة كي تكون على "المستوى" وكي يفضي الكلام الى غاياته المنشودة.

    إذاً، لن يكون ثمة إحساس لديّ ولدى غيري من أهل الهامش الثقافي اللبناني بالغبن من جراء ذلك. ولن يكون ثمة عيب البتة إذا كان تحليلكَ سيفضي الى تقديم صورة سوداوية ومتشائمة وقاسية عن هذه المدينة. لن يكون ثمة عيبٌ البتة في هذا المجال. فنحن وإياكَ في خندق واحد وإن كنا سبّاقين في هذا الباب. ولا تشاوف.

    تلتقي معنا أيها الشاعر في المبدأ حول هذا الشأن. لكننا نختلف معكَ في الموقف الجوهري من الهامش. وفي الكثير من الوقائع والأوصاف والاستنتاجات.

    أما أنكَ تلتقي معنا، فلأننا السبّاقون ــ لا كلبنانيين، وسوريين، وسوريين ولبنانيين في آن واحد، وعرب، وإنما ككتّاب ومثقفين أولاً بأول ــ في أننا نعيش "هنا" ونتألم "هنا" ونيأس "هنا" ونموت "هنا" ونحلم "هنا" ونكتب "هنا" وننهزم "هنا" ونُحتل "هنا" ونخترع الضوء "هنا" وإن بصيصاً. وفي أننا، "هنا" نُعمِل عقولنا وووجداناتنا وضميرنا وطاقاتنا ومواهبنا. وفي الـ"هنا" نستولد الرؤى والأفكار والمشاعر والأمل ونتمرد على الموت والقتل لمناقشة واقع هذه المدينة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولطرح الأسئلة عليها وإدارة النقاش معها وحولها ومحاولة خلقها من جديد.



    أتكون "عابر سبيل" في بيروت أم مقيماً في جحيمها؟!

    نحن سبّاقون طبعاً. ولا منّة في ذلك، ولا فضل ولا موهبة. لكننا سبّاقون إيضاً لأننا "موجودون" في جحيم "الحقيقة" ولسنا "عابري طريق" أو "نازلي فنادق" أو "مستأجري بيوت مفروشة" أو "مقيمين على السطح"، فلا نرى ما يعتمل في باطن الجحيم البيروتية واللبنانية. وجودنا هذا، داخل "الحقيقة"، يمنحنا أن نحاول معرفتها. أن نعيشها. وأن نحاول إعادة خلقها باستمرار. لا أن ننظر (وننظّر) إليها من خارج ومن فوق. كما لو أنها محض "مشهد لا مدينة"، على قولكَ في محاضرتكَ التي لم يجفّ حبرها "القاتل" بعد.

    وقد تطلّب هذا "القَدَر" منا على الدوام أن ننأى عن التنظير والإسقاط والتعميم، وأن نحترق وأن ننغمس في دم هذه "الحقيقة"، في جسدها وروحها، في عذريتها وعهرها وموتها وجنونها وعبقريتها ووهمها. وفي الهلمّ كلها. لكن أن ننغمس أيضاً وخصوصاً حتى القعر، حتى القعر الأخير، بحثاً عن الماء الحيّ لهذه "الحقيقة" وإن كان دمعةً أو بصيصَ ضوء أو حتى... سرابَ بصيص.

    ونحن نفعل ذلك مع القلة القليلة النادرة من اللبنانيين والسوريين والعراقيين والفلسطينيين والعرب الآخرين و... كل مَن يشاء من مواطني العالم، ممهورين بـ"شرعية" المواطنة الإنسانية الحقة ومدموغين بـ"معمودية" نار العيش في جحيم هذه "الحقيقة" ــ المدينة التي لم تتورع، أمس، عن وصفها، بخفة غير مقبولة من شاعر عربي كبير، بأنها "تعيش خارج الزمن الإنساني الخلاّق، زمن الحضارة".



    لا امرأة لا وردة لا نقطة ماء قصيدة...؟!

    ها أنا أخاطبكَ أيها الشاعر الكبير وجهاً لوجه، وأسألك الآتي: ما أدراك بـ"حقيقة" المدينة وبما يعتمل في جحيمها السرية لكي "تقرر" أن "تلغيها" و"تمحوها" و"تدمّرها" بقلمكَ وصوتكَ، وأنتَ... "المتغيّب" و"الغائب" عنها، المرشِّح نفسكَ دائماً والمرشَّح الدائم للفوز بجائزة نوبل للآداب، مشغولاً بذاتكَ الأدبية وبشهرتكَ ونجوميتكَ الاجتماعية لا بها، غافلاً عما يصيبها. أو متغافلاً عن ذلك. والله أعلم!

    أسألكَ وأنتَ "جاهلها" و"خارجها" روحياً وجسدياً، والخارج عليها بما يتناقض تناقضاً مرعباً مع أقوالكَ السابقة وقصائدكَ عنها والتي لم يجف حبرها بعد بالتأكيد، بدليل أني أذكّركَ بها (هل تتذكر أمسيتكَ الصاخبة في "الإسمبلي هول مساء ذاك الأربعاء في 16 كانون الأول 1992 وأيّ الأوصاف استخدمتَها لتتحدث عن بيروت؟ هل تتذكر مقالاتكَ وقصائدكَ عن لبنان وبيروت منذ ذاك الزمن حتى كتابكَ الحواريّ الذي أنجزه لكَ زميلنا صقر أبو فخر؟ هل تتذكر كتابكَ الشعري الأخير؟)، أسألكَ الآتي: عندما تقول ما تقوله عن هذه المدينة، أيها المفكر الباحث المتأمل، وعندما تفعل ذلك بلغة تعميمية قاطعة جازمة، وعندما تطلق الأحكام القاتلة عليها، ألا يتراءى لكَ أنكَ "تنضم" "موضوعياً" الى جميع الذين يريدون الانتهاء من هذه "الحقيقة البيروتية" (اللبنانية)، مرةً واحدةً والى الأبد؟ ألا تكون "تشارك" "موضوعياً" أيضاً، جميع الذين شاركوا ــ ولا يزالون ــ في الحرب التي "تفضل" أن تختار لها بين الأوصاف كلها تسمية "الحرب الأهلية" اللبنانية؟!

    ترى، ألم تجد بصيص ضوء واحداً في بيروت، زهرةً، نبعَ أمل، قصيدةً، روايةً، لوحةً، وجداناً مصلوباً، ضميراً مبكِّتاً، فلاّحاً، أستاذَ جامعة، مواطناً عادياً،... يجعلكَ تركب مركب الأمل المستغيث المستنجد المستجير، وإن يائساً؟ أم أنكَ استحسنتَ التعامي (بل القتل) هذه المرة، مثلما تحسن على الدوام التعامي عن الموهوبين والكتّاب والشعراء الذين اعتبرتَهم جميعاً "غابة أصداء" في أحد الأيام، حتى وإن كانوا مريدين وأتباعاً؟!



    هل تتذكر "حرب الآخرين على أرضنا"؟

    كان عليكَ أن تعرف أن أهل بيروت ــ أي اللبنانيين ــ بعضهم غير طائفي وغير مشارك في الحرب التي هي أيضاً "حرب الآخرين على أرضنا". كان عليكَ أن تعرف كم عدد الناس الذين هُجِّروا من مناطقهم ومن طوائفهم ومن لبنانهم لأنهم لا ينتمون الى الطوائف والمناطق. وكم الذين قُتلوا من جراء ذلك.

    نعم، هي كانت حرباً أهلية. لكنها كانت أيضاً حرب الصهيونية على معنى لبنان (هل من الضروري أن أذكّركَ بهذا؟!). وكانت حرب الفلسطينيين و"ساحتهم". وكانت حرب النظام السوري الذي أراد أن "يخلّص" لبنان. وها هو يكاد يكون قد أجهز على روحه لولا ضوء التمرد الذي لن تستطيع قوة في الكون أن تخمد أنفاسه وبروقه، وإن كانت أكثر هذه الأنفاس والبروق تحت الأنقاض.



    المتن والهامش

    منذ زمن لبناني طويل، آلينا على أنفسنا أن ننتمي الى الهامش. ثمة في بيروت ولبنان، على ما تعلم، مناضلون ورافضون ومتمردون وأحرار و... كتّاب ومثقفون ومفكرون وشعراء وشعراء حياة وفنانون وهامشيون وبشر عاديون وأهل رأي وموقف. وهؤلاء وغيرهم يقيمون في هوامش المدينة والبلاد وهم قتلى وليسوا موتى، مثلما تزعم في وصفك لأهل بيروت عندما تعتبرهم في تعميمك المخيف و... الفاشي جداً أنهم "بشر موتى". هؤلاء أيها الأستاذ والصديق الدائم ــ وصديقكَ من صَدَقَكَ لا من صدّقك ــ مزيج روحي عميق وغير مفتعل من الحالمين والهامشيين والمتألمين والجحيميين والملعونين والأحرار والديموقراطيين والعلمانيين وربما من المؤمنين وربما من اللامؤمنين أيضاً، وقد أخذوا على أنفسهم، كل على حدة، أن يسبحوا عكس التيار وأن يتولوا، كل من جهته وعلى طريقته، مهمة البحث في معنى الحياة والإنسان وفي معنى المدينة وفي معنى لبنان. بل مهمة اختراع الحياة القتيلة وإنهاضها من قبرها، والتي تمعن لا في وصفها فحسب بل في التنكيل بها. لقد أخطأتَ خصوصاً لأن سؤالكَ الذي هو عنوان محاضرتكَ، والذي يتلاقى مبدئياً ونظرياً وعملياً مع بعض العمل الثقافي والأدبي والنقدي المتواصل الذي آلينا على أنفسنا أن ننصرف إليه، يتناقض جوابه الحازم الصارم النهائي التعميمي الشمولي مع ما يجري على أرض الهامش في بيروت.

    فالأحرى أن نسمّيه سؤالاً إنكارياً. بمعنى أنكَ جعلتَه نوعاً من الجواب المسبق، المتعدد والمحصّن بسيل من الأوصاف انتهيتَ فيها الى نزع الصفة المدنية ــ المدينية عن بيروت نزعاً تبسيطياً، من دون براهين واقعية، جاعلاً إياها "مدينة ميتة" وأهلها "بشراً موتى"، بما يذكّر تماماً بمنهجية الفكر الفاشي الإلغائي التوتاليتاري الإسقاطي والقمعي في الوصف والاستنتاج.

    أريدكَ أيها الشاعر أن تعرف أن هذا الردّ، ردّي، متألم شديد الألم وصادق شديد الصدق، لأني أحبّكَ وأقدّركَ، شخصياً وثقافياً. وردي، هو على هذين الألم والصدق، لأن بيروت حقاً قتيلة وكذلك بشرها. لكنها ليست ميتة ولا بشرها وأهلها موتى.





    أدونيس في "مسرح المدينة" ملقياً محاضرته وأمامه بعض جمهوره اللبناني "الهامشي".(الأرشيف)



    ليتكَ قرأتَ وسمعتَ ورأيتَ

    وإذا كنتَ ارتأيتَ أن يكون موقفكَ على هذا المنوال فسأنصت إليه لكني سأقول لكَ ما يأتي: "الحقيقة" الجوهرية موجودة لا في المشهد العام فحسب، بل في الهوامش المتواضعة أيضاً وخصوصاً. وهي "حقيقة" مركّبة ومعقدة ومتنوعة وداخلية وليست كتلةً جامدة ومرئية كلها أمام العين. فيا ليتكَ تواضعتَ قليلاً ونزلتَ من عليائكَ اللاهوتي والشعري والاجتماعي والتنظيري والتبسيطي. يا ليتكَ كلّفتَ نفسكَ عناء القراءة قليلاً، قراءة الشعر، والروايات، والآداب الأخرى، وقراءة الفنون وإشكاليات الهندسة والعمارة، والإنصات الى الأفكار والنقاشات التي تجري في هامش بيروت، والنزول الى الشوارع الأخرى لا الاكتفاء بالكنيسة والمسجد والدكان السياسي ــ الاقتصادي وشارع المعرض،... لكنتَ وفّرتَ على نفسكَ وعلى قارئيكَ ومحبّيكَ ومريديكَ أن تتشبه بصورة "الجلاّد" "القاتل" في محاضرتكَ هذه.

    وما دمتَ قد كتبتَ عن الهندسة والفن المعماري وأحببتَ أن تتحدث عن بشاعة بيروت ــ وهي بشعة للغاية وفاسدة وملوّثة وعشوائية ولا قوام لها ووعاهرة إذا شئتَ ــ، يا ليتكَ كنتَ استقيتَ العلم الأكيد من مصادره "الحديثة" والموثوق بها ومن مقالات المعماريين وأبحاثهم ودراساتهم التي صدرت في كتب ومراجع وفتحنا لبعضها الصفحات الرصينة. يا ليتكَ أيضاً كنتَ مررتَ بالنبع القريب، هنا حيث أصدقاؤكَ جميعاً، لكنتَ وفّرتَ أيضاً على ثقافة صورتكَ الكونية أن تتشوّه بهذه الترّهات والتبسيطات التنظيرية التي عفا عليها الزمن.

    وما دمتَ قد تحدثتَ عن الموت، أما كان سيكون من الأجدى و"الأشرف" لنا ولكَ أن لا تكتفي بوصف المشهد العام، مشهد "المتن" السياسي والمجتمعي والثقافي والديني والطائفي والأهلي، وأن تعرّج قليلاً على مشهد "هوامشنا" التي يُفترض بكَ نظرياً ومبدئياً وعملياً أن تكون منتمياً إليها وعارفاً بها ومتحدثاً عنها؟

    لقد فضّلتَ أيها الشاعر الصديق أن تتلبس لبوس "العابرين" و"الزوّار" و"السيّاح" الذين يكتفون بالسطح دون الجوهر ولا "ينتقلون" الى الضفة الأخرى حيث يمكنهم رؤية الجانب غير المرئي من جبل النار اللبناني. لقد فضّلتَ أن تنظر الى "المتن" وتكتفي به وتتعامى عن غيره، فإذا بكَ تشبه ــ أكثر ما تشبه ــ لا الهامشيين ولا الشعراء والمثقفين، بل الحكّام، فتلفظ أحكامهم التعسفية الإلغائية الديكتاتورية. كان عليكَ أن "تتدروش" قليلاً وأن تنزل لا الى الكنيسة والجامع والدكان بل الى "الهامش". أتكون قد نسيتَ "الهامش" يا أدونيس؟! أتكون قد فضلتَ أن تصير شبيهاً بأهل التاريخ والسلطة، مثقفاً الى الحدّ الذي لم تعد تشعر معه بضرورة أن تزورنا في جحيمنا أو أن تقرأ كتاباً من كتبنا وقصيدة من قصائدنا ورواية من رواياتنا، أو أن "ترى" وهماً من أوهامنا وبصيص ضوء من آلامنا و"انبعاثنا" (لا بعثنا!) من موتنا؟

    لا تربّت على كتفي أيها الأستاذ الصديق. لأني لن أقبل منكَ هذا التربيت. لأنه سيكون نوعاً من الالتفاتة المخزية و"المصالحة العروبوية القوموية". وقد تلقينا منكَ الإهانة الكاملة وهي فائضة وتغني عن الباقي.

    كان عليكَ أن تعرف أننا نقيم في الموت الآخر. في الموت المتمرد على الموت. كان عليكَ أن تعرف أننا لا نزال نحيا تحت سماء الهامش، وفي جهنمه، حيث أقمتَ طويلاً. لكن، كان عليكَ أن تظل في الهامش لكي تظل تراه وتحسه وتشمه وتتذوق طعمه المضني وتنام على مخدته. لكنكَ فضلتَ، على ما يبدو، ريش النعام المعنوي. فضلّتَ أن تنتقل الى الضفة الأولى، الى هناك، حيث يقيم الحكّام والأباطرة والديكتاتوريون، وأهل السلطات، أكانوا في الطائفة أم في السياسة أم في المال أم في العمارة أم في... الأدب.

    طبعاً، أنا لا أتحدث عن مناصبكَ في السلطة ولا عن أموالكَ المادية، بل عن القيم النقدية التي خوّلتكَ ــ وأنتَ الأستاذ الجامعي من زمان بعيد (هل تذكر!) أن تطلق الأحكام التي تشبه أحكام الإعدام.

    كان عليكَ أن تعرف أن المشهد الذي وصفتَه والتقطتَ صورته هو مشهد "المتن" لا "الهامش". كان عليكَ أن تعرف ــ وأنتَ عارف بالتأكيد ــ أن هذا المشهد يدل على صورة بيروت وهي في أيدي سلاطين المال والعسكر والسلطان والدين، مخفورة ومغسولة الدماغ ومصادَرة ومحتلة وممصوصة الروح. وكان من الطبيعي جداً أنه تصف هذا المشهد بأنه "مدينة ميتة" وتصف المتسلطين عليه بأنهم "بشر موتى". لكنكَ آثرتَ أن تكتفي بهذه الحقيقة الحقيقية جداً، وأن "تخفي" المشهد الخلفي حيث نقيم، فتخلط الحابل بالنابل، وقصدكَ أن تصف الجميع بأنهم موتى: بيروت المتن + أهلها المقيمون في المتن + بيروت الهامش + أهلها المقيمون في الهامش.



    البيت لقاتليه أيضاً

    لقد علّمنا هذا المنبر ــ وهو بيتكَ وبيت كل الخلاّقين والمتمردين والموهوبين العرب من زمان والى آخر الزمان ــ ما علّمنا إياه لبنان في بيوتنا وأريافنا ومدننا: لقد علّمنا الحرية، حتى وإن كانت ضدّنا. لهذا نحتضن رصاصتكَ القاتلة لنظلّ نعرف أن طريق النهوض من القبر سيظلّ صعباً جداً، وبعض صعوبته ناجم عن مواقف وكلمات تشبه مواقفكَ وكلماتكَ القاتلة هذه.

    شرف لبنان وبيروته أنهما "يستقبلان" هذا الكلام ــ الرصاصة ويفتحان له القلب المليء برصاصات كثيرة وفادحة، وينشرانه على الملأ. ولو لم تكن بيروت فريدة من نوعها وتقدّس الهامش، هامش الحرية، الى هذا الحد، لما كانت تصفق لكَ وقوفاً وهي تضع يدها في الوقت نفسه على موضع الرصاصة كي تحمي بعض نزيفها المتألم من لوثة التراب.

    لكن رصاصتكَ أخطأت أهدافها، حين سدّدتَ أيها الصياد صوب الهامش الذي عشتَ في كنفه، فطعنتَه في صدره وحاولتَ اغتياله. لقد وقعتَ أيها الشاعر في الغلط الماحق، فصرتَ في التاريخ. وصرتَ خارج "الحقيقة". "حقيقة الهامش" الذي نذرنا ــ ولا نزال ــ حياتنا وأيامنا وكفاحنا وثقافتنا وشرفنا وتحصيلنا العلمي (بعضه على يديكَ) ومواهبنا... المتواضعة (!) للحفاظ عليه وتجديده ونقده والقسوة عليه بهدف أن نخلقه باستمرار (أليس هذا معنى لبنان وبيروته يا أستاذ؟!)

    قد يسرّ أحدهم في أذنكَ ما يأتي: ما بال "تلميذك" يتراجع الآن عما كان كتبه قبل أسبوعين وطوال السنوات السابقة؟

    فحسماً لأي جدالات سخية وخبيثة ودنيئة من هذا النوع، سأسارع الى تذكيركَ وتذكير الجميع بأني وصحبي الهامشيين في "الملحق" وخارجه، لا نفعل سوى البحث عن "الحقيقة" وإن ضدّنا أحياناً. وسأذكركَ، إذا أحببتَ أن تقرأ، بمقالي في هذا المجال بعنوان "الموت الرحيم" ("الملحق" عدد ،606 18 تشرين الأول ،2003 الصفحة 14) الذي خصصته للجامعة اللبنانية المستفحل داؤها ودعوتُ فيه الى قتلها رحمةً بها وبأهلها، وذلك (إنتبه جيداً. وبروحكَ وحواسكَ جميعها)، بهدف البحث الحقيقي المجدي في وسائل توليدها من جديد بما يجعلها صالحة للعيش الحضاري في المستقبل. وقد رأيتُ الفرصة سانحة في المقال نفسه، للتحدث عن الحالة اللبنانية الراهنة بما فيها من أهوال العيوب كلها، ومن يأس وتيئيس، ووجهتُ الاتهام الى نفسي أولاً والى الأيدي جميعها التي تمارس التيئيس، الأيدي اللبنانية وغير اللبنانية، ودعوتُ الى ممارسة أعجوبة القتل الرحيم نفسه، بغية الحفاظ على ما تبقّى من أكيد "الروح" المضيء داخل هذه الحالة، وبغية صون الجوهر المكافح رغم كل أشكال القمع والإرهاب والتنكيل و"التعريب"، الظاهرة والخفية، بهدف توليد هذا الجوهر الروحي ليعمّ ضؤوه في الليل اللبناني و"العربي" البهيم. وهكذا فعلتُ في مقالي الأحدث عهداً منه، "بيروت يا بيروت" ("الملحق" عدد ،607 25 تشرين الأول ،2003 صفحة 5).

    وإذا كنتُ قد ذهبتُ بعيداً جداً في دعوتي الى "الموت الرحيم"، فإني ذهبتُ بعيداً جداً وأيضاً، بالقوة نفسها وباليأس نفسه، لكن وبالإيمان نفسه، في تأكيد حضور التمرد على هذا الواقع وفي إعلاء شأن هذا الجوهر الذي هو روح "الحقيقة اللبنانية" وسبب وجودها العميق في هذه المنطقة المحكومة بالليل.



    هل تتذكر كلية التربية؟

    سأذكّركَ إذا كان ينفع التذكير بأن علاقتي بكَ تعود الى ذكرياتي طالباً متدرجاً لديك وصديقاً دائماً لكَ وقارئاً لشعركَ وفكركَ، يوم كنتُ طالباً في كلية التربية وقائداً متواضعاً من قادة الحركة الطالبية في الجامعة اللبنانية آنذاك. يوم أعدناكَ بقوة "الهامش" الذي ننتمي إليه منذ ذاك الزمن، وبقوة "لاطائفية" لبنان ــ الوعي والهامش والحرية والعلمانية والتنوع الثقافي والرحابة الفكرية...ــ لتعود أستاذاً في ملاك كلية التربية بعدما طُرِدتَ طرداً حقيقياً من الجامعة اللبنانية على أيدي "أهل المتن"، ونُبذتَ منها نبذاً فكرياً وثقافياً وطائفياً فعلياً وحقيقياً على أيدي أصوليي ذاك الزمن، في عشيات الحرب التي تفضّل أيها الشاعر الكبير أن تسميّها الآن "الحرب الأهلية" لتأكيد حصولها بين الأهل اللبنانيين دون غيرهم. وأنتَ كنتَ قد صرتَ، على ما أذكر، من هؤلاء الأهل اللبنانيين بحكم الهوية اللبنانية الثانية التي تحولت أيضاً، رويداً رويداً، بفضل النظام البعثي السوري وجيشه ومخابراته و"علمانيته" و"عروبته" و"مشروعه القومي" و"لاطائفيته" و"ديموقراطيته" و"تعدد الأحزاب" فيه، لتصير هوية عروبوية قوموية مسورنة طاغوتية طائفية توتاليتارية حيث لا محلّ فيها للهامش، أيّ هامش. كمثل جيفة دولتية عربية. ولا جدال.





    يوقّع لقرائه "تنبأ أيها الأعمى".



    ... ولبنان ميشال أسمر؟

    كان ذلك، للتذكير، يوم كان "هذا المكان"، مكان ميشال أسمر و"ندوته اللبنانية"، لا يزال بيروتاً مدنية ومدينية وعاصمة تحلم بأن تتسع للجميع، وتحلم بأن تتسع في المقدمة لكَ ولكثر غيركَ، فتمنحكَ جمهوريتُها العزيزة (القائمة على صيغة 1943 "الطائفية") الجنسيةَ اللبنانية، وذلك قبل أن تتحول تلك البيروت "مأوى" ودكاناً سياسياً ــ اقتصادياً وكنيسة وجامعاً فحسب، على وصفكَ لها حصراً والآن بالذات.

    لم تكلّف نفسكَ عناء أن تسجل للتاريخ لماذا (وكيف) "اختارت" (؟!) مدينتكَ اللبنانية هذه أن تنحاز الى هذين الوصف والمصير فحسب. ولم تتجشم عناء أن تذكر بالإسم (فضلاً عن اللبنانيين والبيروتيين أنفسهم، وهذا أكيد)، على أيدي مَن (وبجيوش مَن) "اختارت" بيروت هذا "الاختيار الحر والديموقراطي" لكي تنتهي "إسماً تاريخياً" بحسب ما ذكرتَ في محاضرتكَ!

    لم تصف لنا الوقائع التاريخية الفعلية في "الحرب الأهلية" اللبنانية التي جعلت بيروت ــ ولبنان بالطبع ــ تؤول الى هذا المصير وتفقد صفتها المدنية ــ المدينية. لم تسمِّ لنا جميع "الأهل" غير اللبنانيين الذي شاركوا في صناعة هذه "الحرب الأهلية" اللبنانية.



    "الأهل" عرباً وإسرائيليين

    لم تسمِّ بالطبع "الأهل الإسرائيليين" و"الصهاينة". فهل نسيتَ، أو تناسيتَ، أن الجيش الإسرائيلي اجتاح بيروت في أحد الأيام ودمّرها وعاث فيها فساداً؟ هل سينبري أحدهم ليقول في قرارة نفسه أو بصوت مهمهم: ربما لا مصلحة "موضوعية" لكَ في التشهير بذلك.

    لم تسمِّ بالطبع "الأهل البعثيين" في الوحدة والحرية والاشتراكية وفي النظام وفي حزب البعث العظيم وفي الجيش العربي السوري وفي المخابرات. وقد يقول أحدهم وهو يستمع إليكَ وأنتَ تغفل إشهار هذه الحقيقة: ربما لأنكَ لا ترى سبباً "موضوعياً" يدعوكَ الى ذكر مثل هذه الأسباب والوقائع. أو أنكَ لا تتذكر أن هؤلاء صنعوا مع "أهل المتن" من اللبنانيين (لا مع "أهل الهامش" أيها الصديق. أما زلتَ تتذكر الهامش البيروتي واللبناني؟!) لبناناً يشبه الى حدّ صاعق بلاد "الحرب الأهلية" التي وصفتَها أحسن وصف، وامتنعتَ فيها عن وصف جميع "الأهل" السوريين والعرب والصهاينة الذين شاركوا فيها. وأنتَ منهم في "هويتيكَ" السورية واللبنانية... فضلاً عن هويتكَ الثالثة: الهوية العالمية، بما "يجب" أن تنطوي عليه هذه العالمية من "أوصاف إنسانية متسامحة " ينبغي لكَ دائماً أن تحرص على عدم تلوّثها بشبهة "اللاسامية" خشية أن تعرّض بعض طموحاتكَ للارتجاج!

    لكنكَ فعلتَ حسناً. فقد قلتَ بعض ما نقوله. وأقلّ منه بكثير (راجع مقالاتنا ومواقفنا وأدبنا). بفارق أننا نقول ذلك تحت خطر الملاحقة والتكفير والتنكيل والتجويع. في حين أن لا خطر يتهددكَ من أحد وخصوصاً من "الأهل اللبنانيين" الذين "صنعوا" وحدهم، في رأيكَ، "الحرب الأهلية". اللهم سوى الخطر المتمثل في أنكَ ربما لم تعد تجد في "لبنان الشاعر" و"لبنان النقدي والثقافي" مسنداً "ناعماً" تسند إليه رأسكَ الأدبي والحسابي والمصلحي جداً.

    لكنكَ مع ذلك فعلتَ فعلة جيدة وحسنة. فقد قلتَ أيضاً ما تريد أن تقوله وأن تقوّله (وهذا حقّكَ الى الأبد). وبالفم الملآن. وبدون عاطفة تقريباً. على غرار المخترعين أو المحاضرين من أهل العلم. أو على غرار أولئك الرابطي الجأش الذين يصدرون أحكام الإعدام. ولا فرق في هذه الحال، أكانت أحكام إعدام أدبية شعرية أم فنية أم معمارية أم هندسية أم ثقافية أم وطنية أم مدنية، أم دولتية، أم طائفية أم عسكرية وأمنية.

    ترى، ألا يذكّّر مضمون محاضرتكَ وأحكامها المطلقة، بنموذج الخطاب الديكتاتوري في أرجاء هذا "الوطن" العربي البهيم؟!



    لماذا؟

    بصرف النظر عن مقولة "المدينة الميتة" وعن "طائفية" بيروت وأهلها "البشر الموتى"، وعن المدينة ــ الكنيسة والجامع والدكان، وهي الأوصاف التي أحببتَ أن تختصر بها بيروت، ترى ألم تعد تعثر أيها الشاعر والصديق أدونيس، اليوم، على بقايا رماد يذكّركَ بذلك "الفينيق" الذي لطالما تحدثتَ عنه ،عن رماده؟

    ترى، لماذا لم تعد ترى في بيروت وشعرائها ومثقفيها وأهلها سوى الكنيسة والجامع والدكان؟

    أيكون ذلك سببه أن هؤلاء لم يعودوا "غابة أصداء" مثلما وصفتَ الشعراء الذي جاؤوا من بعدكَ؟

    ترى، أيكون ذلك سببه أن بيروت لم تعد "تتداولكَ" في "شعرها" و"قيمها" و"أحكامها" و"أخطائها" النقدية؟

    ترى، ألم تعد تعثر في بيروت على تلاميذ ومريدين ومتحلقين حولكَ؟

    كنا نودّ فقط أن تقول لجمهور المستمعين إليكَ في "مسرح المدينة" ما هي الحجج التي تتسلح بها لكي تسمح لنصكَ أن تهيمن عليه الأوصاف والأحكام والاستنتاجات المطلقة والمدمِّرة التي لا يستطيع إستخلاص مثلها إلاّ ثلاثة: أهل الحقائق العلمية أو الآلهة أو المنتمون الى الديكتاتوريات التوتاليتارية؟ وكيف تعطي نفسكَ الحق، وأنتَ الأستاذ الجامعي منذ قديم الزمان وحامل شهادات جامعية عليا، أن تخاطر بسمعتكَ العالمية كمحاضر مقنع ومنطقي وكمثقف ديموقراطي وغير إلغائي، فتطلق مثل هذه الأوصاف ومنها ما يلغي شعباً برمته ومكاناً برمته، فتصف الشعب بأنهم "بشر موتى" والمكان بأنه "مدينة ميتة"؟

    لقد أحسنتَ صنعاً عندما تحدثتَ عن الطائفية اللبنانية. نحن أيضاً، ــ لكن باستمرار وعلى الدوام وبدون تغيير جلودنا وفق الحاجات والظروف الموضوعية ــ نفضح هذه الطائفية منذ أوائل حياتنا الجامعية وبعناد خطير وبفروسية مغامرة وبدون أن نكون مسلحين بأي "عباءة" واقية، دينية كانت أم اجتماعية أم سياسية أم إقليمية (ومن الجهتين "المتعاديتين") أم عالمية. وقد كنا نفعل ذلك منذ الجامعة ــ وأنتَ تتذكر هذا بالتأكيد ــ وقد فعلنا ذلك خلال "الحرب الأهلية" كلها وبدون هوادة وأياً تكن الأخطار الناجمة عن هذا الموقف، ثم فعلنا ذلك منذ ألقت الحرب سلاحها الطائفي واستبدلته بسلاح "الطائف" الملبنن الذي بُلِّع للبنانيين (نسبة الى اتفاق الطائف السوري ــ العربي ــ الأميركي)، ولا نزال نفعل ذلك في الحياة اليومية ومن على صفحات هذا المنبر الذي لا يزال يشكل منارةً متواضعة من المنارات النادرة في بيروت التي تصف أهلها بأنهم "بشر موتى" ــ ونحن منهم ــ وبأنها "مدينة ميتة" وبأن فضاءها "مكان مقدس لا بوصفه متحداً وطنياً واحداً، بل بوصفه متحدات طائفية" وبأن أهلها لا يقيمون فيها "بوصفها مدينة. إنهم يتحركون على أرضها، غير أنهم يقيمون، عمقياً، في الكنيسة وفي الجامع، وفي مكان آخر هو الدكان السياسي ــ الاقتصادي. لهذا يبدو الزمن في بيروت كأنه، حصراً، زمن هذه الأمكنة الثلاثة، لا زمن ثقافة مدينية. كأن بيروت، في ذلك، تعيش خارج الزمن الإنساني الخلاّق، زمن الحضارة...".

    أخي الحبيب أدونيس،

    عود على بدء، ربما كان الكثيرون يتوقعون منكَ أن تبدأ محاضرتكَ بتوجيه تحية "مجاملة" الى الذين عملتَ معهم في الأدب والنشر والمجلات، ووقفوا الى جانبكَ وروّجوا لكَ وحملوكَ على أقلامهم. تحية "مجاملة" ربما كانت كافية، كـ"اعتراف" منكَ بـ"وجودهم" على الأقل.

    لكنكَ لم تفعل. وهذا شأنكَ. أما شأننا نحن فإننا سنظلّ أوفياء لكَ وسنظلّ نحبّكَ ونستقبلكَ أكثرَ مما تحبّنا وتستقبلنا. لكن، ربما لم نعد نعرف هل تحبّنا حقاً.



    حتى أنتَ يا بروتوس

    لقد أحببتَ نفسكَ هذه المرة أكثر من اللزوم وتوهمتَ أن الفكر التبسيطي، فكركَ، يستطيع أن يشطح بكَ الى هذه الحدود القصية من الغلط والإغفال والتعميم والفاشية. لقد أعمتكَ نرجسيتكَ عن رؤية بعض الحقائق. فكان لا بدّ من أن أريكَها وأن أقول لكَ: حتى أنتَ يا بروتوس!

    لم تبالغ فحسب في "قتل" بيروت الآن، بل بالغتَ أيضاً وخصوصاً في تسخيف دورها "التاريخي" الكبير في الستينات.

    لكن حذار. فقد يذهب سيىء الظن الى حد طرح السؤال الآتي: إذا كانت بيروت مجرد إسم تاريخي، أيكون أدونيس هو أيضاً صار مجرد إسم تاريخي فيها و... في غيرها؟!

    وما دمتُ أذكّركَ بتاريخ بيروت، ربما كان ينبغي لكَ أن "تصحح" بعض ما جاء في الكتاب الصادر تحيةً لكَ لدى معهد العالم العربي في باريس عام ،2000 وخصوصاً سكوتكَ وتغاضيكَ عن "تزوير" بعض الحقائق فيه: كأن يقال في الكتاب إنكَ أنتَ الذي أسستَ مجلة "شعر"... و"معكَ" يوسف الخال! وكأن "يسقط سهواً" في الكتاب نفسه أسماء كل الذين كانوا "شركاء فعليين" لا إسميين في صناعة المجلات والمنشورات التي أصدرتَها أو أشرفتَ عليها.

    أعود الى بيروت ولبنان واللبنانيين.

    فقد كنتَ في أوصاف محاضرتكَ أسوأ من إله التوراة حيالهم. فهذا الإله كان أكثر رأفةً منكَ حين طلب الى نوح أن ينقذ الحياة البشرية والحيوانية وأن يختار من كل نوع زوجين كي يحافظ على الجنس. أما أنتَ، في "انتقامكَ التوراتي" هذا، فلم تجد نوحاً واحداً ولا عصفوراً ولا امرأة ولا وردة ولا بحراً ولا سفينة في بيروت. ولا حتى... قصيدة واحدة!ا

    ... وهذا شأنكَ بالطبع. لكني لن أتيح لكَ في كلامي هذا أن تكون ضحيةً.

    لا. لن تعطيكَ بيروت ــ الهامش أن تكون شهيداً فيها. فقد "تكرّمتَ" عليها ببراهين "القاتل". القاتل فحسب.



    يد القاتل

    للختام، ولا ختام في هذا الشأن، أستلّ منكَ أيها الشاعر الكبير كلامكَ الآتي: "... إنه عصر بيروت، كما خُيِّل إليّ. لكن، منذ أن أخذت بيروت ــ الواقعُ والفعلُ تضع يدها على كتف العصر، لم تبقَ يدٌ إلاّ تقدمتْ لكي تقطعها" (أدونيس، في الإسمبلي هول، 16 كانون الأول 1992).

    هل تتذكر كلامكَ هذا؟! أم أنكَ ستتنكر له؟!

    أمس، عجباً، في "مسرح المدينة"، انضممتَ الى الجلاّدين أيها الشاعر. فقد مددتَ ــ يا لهول ما فعلتَ ــ لقد مددتَ يدكَ "الشعرية" لتقطع يد بيروت الموضوعة على كتف العصر.

    فبيدكَ هذه أقبض عليكَ بالجرم المشهود. ومن فمكَ أدينكَ يا أدونيس.

    و... من فمي سأظلّ أغفر لكَ.












                  

11-16-2003, 05:17 PM

omar ali
<aomar ali
تاريخ التسجيل: 09-05-2003
مجموع المشاركات: 6733

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    شكرا للمشاء علي هذه النصوص
    بيروت هل هي حقا ( جميلة و مستحيلة) ام كما وصفها ادونيس مؤخرا قبيحة مهزولة...بالفعل هي مكان الميلاد الحقيقي لادونيس..عاش فيها دهرا..ولكنه انتقل الي باريس ابان الحرب..وعندما عاد اليها نظر اليها بعيون باريسية..ربما اذا عدت اليها يوما ايها المشاء ستنظر اليها بعيون فيلادليفية وليست بعيون يمنية او ليبية.
                  

11-16-2003, 11:46 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    ياعمر
    يديك العافية
    يبدو ان ادونيس تعامل مع بيروت كمستشرق باريسي في مرحلة ما قبل " الاستشراق" لطيب الذكر المشاء الاكبر ادوارد سعيد والذي احدث رجة عنيفة في مناهج الاستشراق
    لقد كان هنا, ونجمه سطع من هذه المدينة التي عاد اليها كي يشتمها وهو يقفز في خفة لا تشبهه خارج اسوار السوسيولوجيا والتاريخ
    لقد كنت هناك عندما عاد محمود درويش الى بيروت بعد خروجه منها عقب حصار بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية منها
    لم يشتم درويش بيروت وانما شكر اهلهافي مبنى اليونسكو الذي تمت خصصته في هذا العام
    بيروت كما قلت لك من قبل متعددة
    وهنالك الكثيرون من البيروتيين الذين هم ضد الطائفية والعنصرية ويحاولون ان يجعلوا من بيروت مركزا للحداثة والعقلانية والديمقراطية
    ولن اقع يوما في الفخ الذي نصبه ادونيس لنفسه بان اتعامل مع بيروت كما اتعامل مع صوفيا او فيلاديلفيا
    مع خالص التقدير
    المشاء
                  

11-17-2003, 00:03 AM

Hussein Mallasi
<aHussein Mallasi
تاريخ التسجيل: 09-28-2003
مجموع المشاركات: 26230

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    الاستاذ اسامة تحياتي و تقديري
    تري هل من تشابه بين ادونيس وبيروت ومحمد الواثق وامدرمان

    حسين ملاسي
                  

11-17-2003, 00:17 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    سلامات حسين
    شكرا على طرحك عن امكانية مقارنة هجاء ادونيس لبيروت في محاضرته بهجاء محمد الواثق لامدرمان والتي يعتبرها الكثير من السودانيين رمزا تاريخيا مهما ولذلك كانت تسميتها بالعاصمة الوطنية
    ليس معي الديوان
    لكن اعتقد ان المقارنة بين محاضرة ونصوص شعرية تبدو بعيدة وان كان ذلك ممكنا ضمن نظرية الخطاب
    مع الفارق بين الشاعرين لكن يمكن ان نطرح سؤالك المهم بطريقة اخرى هل يمكن المقارنة بين النص الاشهر لادونيس " قبر من اجل نيو يورك" و"امدرمان تحتضر" لمحمد الواثق؟
    مع شكري
    المشاء
                  

11-18-2003, 10:17 PM

omar ali
<aomar ali
تاريخ التسجيل: 09-05-2003
مجموع المشاركات: 6733

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    بيروت بين استفزاز أدونيس واعتزاز درويش
    المؤسف أن مغتربينا يظنون أنهم يفهمون أسرار دقائق المتغيرات من خلال زياراتهم القصيرة لبلدانهم

    بيروت: سوسن الأبطح
    أساء أدونيس فهم أهمية السياق، حين جاء إلى بيروت مؤخراً، وألقى محاضرته الهجائية فيها وعنها، فكانت النتيجة غضباً وهجوماً عنيفين على الشاعر، لأنه بدا جافاً، غريباً عن المدينة، ينتقدها كطبيب شرعي يعاين جثة ويحاول كتابة تقرير في أسباب موتها. وعرف محمود درويش كيف يستفيد من خطأ أدونيس، ويوظف السياق العام بمنتهى البراعة و«البراءة» ـ أو هكذا أراد ان تبدو الأشياء ـ إذ جاء بعد أدونيس بأيام، وقّع ديوانه الجديد يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، وألقى كلمة مادحاً المدينة ومنجزاتها، لتتصدر عباراته واجهات الصحف، لا احتفاء به، وإنما ثأراً، مضمراً، من أدونيس و«إساءاته» بالدرجة الأولى. ولو أن درويش قال قولته نفسها من دون الاستفزاز الأدونيسي الذي كان قد سبقه لما كان لزيارة درويش من رهج أو صدى كبيرين، باستثناء إقبال قرائه ومحبيه المحموم على شراء ديوانه. فدرويش يذكّر في كل مرة يزور فيها بيروت بحبه لها والتباس مشاعره نحوها، ولا جديد هذه المرة سوى ذاك الكلام المبطن الذي يبدو عفوياً للوهلة الأولى، لكنه يضمر رداً محبوكاً على أدونيس، خاصة وان العلاقة بين الشاعرين ملتبسة هي الأخرى وليست، بالضرورة ودية.
    فقد رأى أدونيس، خلال محاضرته، ان هاجس الإبداع الحضاري بدأ يختفي أو يتراجع في بيروت، ليس اليوم أو منذ عشر سنوات، ولكن «منذ ظهور الأديان الوحدانية»، ان ليس في الثقافة اللبنانية حوار حقيقي بين أطرافها بل هو مدح أو هجاء أو مجرد ضوضاء. ووصل به الحال حد القول «ان النظام يحكم مدينة ميتة، وبشراً موتى، وهو ليس إلا قناعاً من أقنعة الموت». أما رد محمود درويش اللامباشر ـ أو هكذا يفهم ـ فكان انه يحب بيروت ويرى فيها ما يريد و«أن يرى المرء ما يريد ليس خداعاً للنفس بل هو موقف». ورأى درويش لبيروت «القدرة على تجديد حيوية الأسئلة والنقد والنقد الذاتي» و«فيها صناعة الكتاب الأرقى في العالم العربي» و«منابر الحوار وهوامش الاختلاف.. وتمكن ثقافة الديمقراطية على المشترك وتعايش الأضداد.. وتعايش الماضي مع المستقبل، وسجال التعددية مع الحصرية»، هكذا يرى درويش بيروت غامزا من قناة أدونيس حين يذكّر ان بيروت «لا تحب المديح الذي يضعها والمرتبة السماوية الأعلى، ولا تحب الهجاء الذي ينزلها إلى الدرجة الأسفل». وبكلام آخر، فإن لدرويش في بيروت رأياً يناقض وجهة نظر أدونيس الذي اسقط عنها كل فضيلة واختزلها في «كنيسة وجامع»، ورأى مقتلها في المحاصصة والطائفية، لا بل «كأنها تتحرك على نحو تبدو فيه غير موجودة إلا بلاغياً بوصفها مجرد ألفاظٍ ضخمة».
    صحيح ان اللبنانيين هجّاءون لبيروت من الدرجة الأولى، يوظفون مواهبهم في كل فن للسخرية من أنفسهم ومعايبهم، ويعرفون جيداً انهم غارقون في قاع لا قرار له. إلا ان أدونيس الهابط من مهجره الأوروبي لم يقرأ جيداً، خريطة السياق الذي وجد فيه ذات مساء في «مسرح المدينة» حيث المثقفين اللبنانيين يجاهدون دفاعاً عن مسرح وكتاب ومعرض رغم شراسة الوضع الاقتصادي، هو المغترب، الغائب، السائح، الذي شارك هؤلاء يوماً معركتهم ونضالهم ثم اختفى طويلاً ليعود ذات أمسية، ويلقنهم درساً في الحضارة والحرية والمدنية، ويخبرهم انهم باتوا محض موتى. فهل ما يزال هو على قيد الحياة؟ قد يكون غالبية ما قاله أدونيس صحيحاً، والذين هاجموه يقولون في بيروت ما قاله ويزيد، إلا ان علامة الاستفهام ولدت من حكمه المبرم بالإعدام على المدينة وأهلها، وجفاء اللغة التي استخدمها، وقسوة العبارات التي لم تشر إلى أي حنين أو حب أو عاطفة من الرجل للمدينة التي حضنته يوماً.
    وكان من الصعب على المثقفين اللبنانيين الذين قرأوا غزليات أدونيس في قريته السورية قصابين ان يتقبلوا قوله ان مدينتهم «إن نظرنا إليها كلاً، فسوف نرى أنها قد تكون بين أسوأ المدن في العالم العربي»، وهذه مقولة متحاملة، موضوعياً، إلى حد لا يطاق. ومع ذلك كان يمكن لمحاضرة أدونيس ان تأخذ مثقفي لبنان إلى نقاش يرتفع عن المستوى الذي انحدر إليه، في الأحيان، بسبب انتفاخ الذات اللبنانية. وكان من المفيد ان يناقش الكلام بصرف النظر عن تاريخ أدونيس الشخصي وما قدمته له بيروت من جنسية أو شهرة أو ولادة ثانية وما أشبه. ولم يكن من مدعاة لأن ينحرف الجدال عن بيروت ليتناول شخص أدونيس. والغريب ان أكثر المستغربين والغاضبين من أدونيس هم تلامذته أو معارفه. وهنا لا نفهم كيف غاب عنهم، وهم أقرب الناس إليه، ان فلسفة أدونيس ورؤاه الشعرية هي في نهاية المطاف هدّامة وعدمية، وتأخذ قارئها إلى طريق مسدود. وهو في محاضرته السوداوية عن بيروت لم يفعل سوى سحب عموم أفكاره القديمة على مدينة جاء يزوروها، وكان لا بد من إعداد كلام يحدث وقعاً، ولربما لم يجد فكرة أفضل من الذهاب بعدميته الى أبعد نقطة يستطيعها.
    فهل نكتشف، للمرة الأولى، ان أفكار ادونيس قائمة أصلاً على إغلاق أبواب الأمل؟ بالتأكيد لا، فهو ان مدح بيروت مرة أو مرات سابقة، لأسباب ذاتية أو موضوعية، فإن عموم ما كتبه هو بمثابة قراءة الفاتحة على روح الأمة برمتها، وكان حينها ما يزال في كنفها. فما بالك اليوم وهو يصل اليها قادماً من إقامة طويلة قي باريس أو جنيف ليعقد المقارنات البديهية التي تفرض نفسها على أي سائح أو زائر يحط في بقعة لم يعد يعتادها. بإمكانك ان تفهم أدونيس من دون غيظ لو نظرت إلى كلامه من هذه الزاوية. وقد كان من الصدق بحيث لم يقدم نفسه كجزء من المدينة أو ابن لها. أما درويش فهو قادم من عمان ورام الله. انه كما قال سعد الله ونوس، «محكوم بالأمل»، ومرغم على رؤية النصف المملوء من الكأس، كي يستمر، كأي مخلوق ينتمي جسداً وروحاً إلى هذه المنطقة المتألمة، الشديدة التعقيد، السريعة التغير (على عكس ما يبدو الحال للبعض). والمؤسف ان مغتربينا من المثقفين والكتاب ـ وهذه ظاهرة باتت متكررة ـ يخدعون كثيراً حين يظنون أنهم يفهمون أسرار دقائق المتغيرات، من خلال زياراتهم القصيرة. وصرنا نرى روايات وأفلاماً وقصائد ومحاضرات تتحدث عنا على اعتبار أنها تستلهمنا أو تنتمي إلينا، لكنها في الحقيقة لا تستلهم غير أخيلة أصحابها وتصوراتهم غير الواقعية عن بلدانهم، أو هي، في أحسن الأحوال تصور الواقع بلغة تستفز الناس أكثر مما تمس وجدانهم. وحين سألنا محمود درويش أثناء زيارته الأخيرة إلى لبنان، وقبل دقائق من إلقاء كلمته التي أنعشت قلوب اللبنانيين، ان كانت الحياة في رام الله سهلة؟ أجاب: «انها سجن». إذاً، لماذا اخترت العيش متنقلاً بين رام الله وعمان ما دام الأمر كذلك، أوليس الأفضل ان تبقى في مكان يسهل العيش فيه؟ سألنا لنفهم. فكانت إجابته: «هذا واجب، وأنا أقوم بواجبي». ولعل محمود درويش لا يقوم بواجبه فقط، لكنه بخياره هذا، ينقذ نفسه من أزمة ادعاء الكتابة عن أناس أو بلسان أناس يجهل معاناتهم، أو الأسلوب الأقرب لمخاطبتهم، ومع ذلك يبقى يصر على انه أعلم الناس بهم وأجدر خلق الله في كتابة آلامهم. هذه ليست دعوة لإخراس كل من تسول له نفسه الكتابة عن بلده من دون أن يعود إليه أو يطلّق غيره طلاقاً بائناً. لكن المبدع يكون أصدق وألصق بالحقيقة، وأقدر على تلمّس تفاصيلها، حين يكتب ما يعيش ويعايش ويتنفس، وهذه مسلمة لا تحتاج عبقرية استثنائية لإثباتها
                  

11-19-2003, 03:39 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    شكرا عمر علي على ايراد راي سوسن الأبطح في محاضرة ادونيس
    لقداخطأ ادونيس
    وعليه ان يعتذر عن جرحه لمشاعر اللبنانيين
    لقد تغيرت بيروت لكن تاريخها لم يتغير
    ارقد عافية
    المشاء
                  

11-20-2003, 00:04 AM

omar ali
<aomar ali
تاريخ التسجيل: 09-05-2003
مجموع المشاركات: 6733

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)


    ليس لأحدٍ أن يعلّمني حبَّ بيروت
    ادونيس الحياة 2003/11/20
    - 1-

    قرأت, بحرصٍ شديد, ما كتب حول: "بيروت اليوم, أهي مدينة حقّاً أم أنها مجرّد اسْـم تاريخيّ؟" (*).

    حَفِلَتْ بعض المقالات بأشياء كثيرة غير لائقة, وهي إهانة للحقيقة وللّغة, ولبيروت نفسها. لذلك أهملها ترفّعاً وعلوّاً. وحفل بعضها الآخر بأفكار وآراء أفدت منها كثيراً, غير أنني لا أقدر أن أناقش كتّابها, واحداً واحداً, في هذه المقالة, لا لضيق المجال وحده, وإنما لضيق الوقت كذلك.

    وأودّ أن أشكرهم جميعاً بأسمائهم, وفقاً لتسلسلها الأبجدي: عباس بيضون, شوقي بزيع, محمود حداد, الياس خوري, أنطوان الدويهي, جهاد الزين, طلال سلمان, وضاح شرارة, محمد علي شمس الدين, سمير عطالله, حسام عيتاني, عيسى مخلوف, عبده وازن.

    وسوف أعود في مقالاتٍ لاحقة إلى مناقشة بعض القضايا المهمة التي أثاروها.

    - 2 -

    لم تكن هذه المحاضرة عن واق الواق, أو عن مدينةٍ لا عمرَ لها, أنشأها المقاولون والتّجار. لا قضية لها غير مجرّد السكن. لا أفق غير مجرّد الاتّجار. كانت المحاضرة حول مدينةٍ عريقة. مدينةٍ لا أرى نفسي, بِصحّتها الكاملة, إلاّ فيها, عندما أتمرأى في مرايا العالم. مدينةٍ أعشقها. وبقوّة هذا العشق وسيطرته, لا أقدر أن أراها إلاّ جميلةً وكاملة. لا أقدر أن أتحمّل ما يُضفي عليها البشاعة, أو ما يحيل جسدها إلى مجموعةٍ من الركام. مدينةٍ لم يكتب عنها أحدٌ من أبنائها, كمثل ما كتبت عنها, شَغْفاً, وتولّهاً, واستشرافاً. فبيروت كمثل موسيقى خافته حيناً, جهيرة حيناً, تتغلغل في جميع ما كتبته, نثراً وشعراً, منذ ولدتُ فيها, كما كرّرتُ مراراً, ولادتي الثانية - شعريّاً وثقافيّاً. وباسم هذا العشق أرفض, قطعيّاً, أن يعلّمني أحدٌ, أيّاً كان, حُبَّ بيروت. إنّها وجهيَ - كلّما نهضت, صباحاً, ونظرت في المرآة, أسألها عِبْرَ وجهي: كيف أنتِ, كيف أصبحت, وماذا ستفعلين, اليوم؟ وباسم هذا العشق أرفض, قطعيّاً, أن يذكّرني بها أحدٌ أيّاً كان.

    وباسم هذا العشق نفسه, حاولت أن أشعل "حرباً" ثقافيةً, لعلّها تساعد في جلاء صورتها, وفي جلاء العلاقة بينها وبين أبنائها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

    - 3 -

    أعرف أن في بيروت شعراء وفنّانين وكتّاباً ومفكّرين - نساءً ورجالاً, بارزينَ, مبدعين. أعرف أنّ فيها مهندسين ومحامين وقضاةً كباراً. أعرف أن فيها سياسيين بارعين. أعرف أنّ فيها صحافيين ورجالَ إعلام تزدهي بهم حياتنا اليوميّة. أعرف أن فيها رجالَ دينٍ يتمنّى الفضاء أن يكون شريكاً دائماً لهم في توجّههم إلى الله. أعرف كذلك أنّ في بيروت نساءً هُنّ بين أعمق نساء العالم, وأكثرهنّ بهاءً.

    بهذه المعرفة نفسها ساءلت بيروت - ساهراً عليها, مستيقظاً فيها, معرّياً إيّاها لكي أحسن رؤيتها, كما هِيَ, خارج التوهّم "اللبناني", وخارجَ اللّبْنَنَةِ البلاغيّة. لكي أرى كيف ولماذا سكتت على قتل أبنائها: أنطون سعادة, رياض الصلح, كمال جنبلاط, موسى الصّدر, بشير الجميّل, رنيه معوّض, رشيد كرامي, صبحي الصّالح, إدوار صعب, يوحنّا مارون, حسن خالد, كمال الحاج, حسين مروّه, حسن حمدان, ابراهيم مرزوق, توفيق يوسف عوّاد, سامية توتونجي, وعدد آخر كبير, يعرفهم الجميع, ويشكّلون جزءاً ضخماً من تراث لبنان, قتلوا بالرصاص, وقتل غيرهم بالهجرة, أو بالإهمال.

    وبهذه المعرفة ساءلت ثقافة بيروت لكي أتفهّم كيف ولماذا هي كذلك "تقتل" يوميّاً مبدعيها - جبران خليل جبران, جورج شحادة, يوسف الخال, فؤاد غابريال نفّاع, سعيد تقي الدين, ناديا تويني, ميشال شيحا, عبدالله العلايلي. "تقتلهم" بإهمال إبداعاتهم وأحلامهم: لا تحتضنها, لا تحتفي بها, كما يجدر بمدينة عظيمة. وكيف ولماذا انطفأت الشُّعَل الثقافية الخلاّقة التي مثّلتها مجلّة "المكشوف" ومجلة "شعر", ومجلّة "مواقف" ومجلّة "آفاق" ومجلّة "الآداب" وغيرها. وكيف ولماذا تواصل قتل المسرح ومؤسساته وقتل الموسيقى والفنّ إلى جانب الجامعة الوطنية والمدرسة الرسمية والعلم, في عزوف كلّي عن توفير المناخ الضروري للبحث والإبداع في مختلف الميادين, الإبداع الذي لا معنى لبيروت إلاّ بدءاً به, ومنه, وفيه, لأنه هويتها وأفقها. وكيف ولماذا تناهبَتْ ثرواتِ أهلها, في حربها الأهلية, في المصارف والأسواق - وتوحّدت فيها, في هذا كلّه, "الثورة" و"الرّجعة" في ثوب واحد. ثمّ كيف لم يُنظّم بعد نهاية تلك الحرب الطويلة المعقّدة أي مؤتمر وطنيّ لبحث أسباب قيامها وظروفها ونتائجها, ولاستخلاص العبر والدروس ورؤية المستقبل؟

    وبهذه المعرفة كنت أسأل نفسي دائماً: كيف يمكن لمن يحب بيروت الكريمة, أَلاَ يزلزل ما يشوهها؟

    - 4 -

    مع ذلك, يبدو أنني أشعلت حرباً أهليّة ثقافيّة. سوء نيّة؟ سوء تفاهم؟ أم ماذا؟

    ما يمكن استنتاجه, وهذا هو الفاجع, أنّ حرية الرأي والنقد ليست مهدّدة من قبل السلطة بقدر ما هي مهددة من المواقع التي يُفترض فيها الكفاح من أجل حرية الاختلاف وحرية النقد.

    مع ذلك لن أقول: "لهم بيروتهم, ولي بيروتي". سأقول على العكس: لنا جميعاً بيروت واحدة.

    ربّما فهُم نقدي لبيروت فهماً تقليديّاً. ليس النقد, في تقاليدنا, أن ترجّ الأسس ذاتها, أن تَعيد النّظر جذريّاً, توكيداً لاهتمامكَ وارتباطكَ بما تنقده, ولأهميّة ما تنقده. هكذا لا تزال بيروت, كمثل شقيقاتها العربيّات, توحّد النّقدَ بالهجاء والذمَ والشّتيمة, وبالتّحقير والنّبذ. وهذه نظرةٌ ثقافيّة تصدرُ عن نظرةٍ دينية: لا يُنقَد المقدّس. وللمقدّس الغيبيّ انعكاساتٌ وصورٌ في الحياة وفي الأشياء المرئية. هكذا لا يجوز نقد المقدّس الوطني, أو الاجتماعيّ أو الأخلاقيّ أو السياسيّ. وكما أنّ النبوّة لا تُنقَد, فالمَلِكُ هو كذلك, لا يُنقَد. والسؤال هو: كيف يتبنّى هذه النّظرة تقدميو بيروت وعقلانيّوها, كما يتبنّاها رجعيّوها, تماماً؟ لكنه سؤال يقودنا إلى مشكلاتٍ أخرى, ليست هذه المقالة مكاناً لها.

    أن تنقد الواقع أو "الشر", وفقاً لهـذه النظـرة, هو أن تمدحَ المُرتجَى, وتمجّد "الخير": ذهنيّة دينيّة - إيديولوجيّة. لا يجوز أن تُرى الأشياء, في حقيقتها الواقعيّة, إلاّ عِبْر "حقيقتها المأمولة". لا بُدّ من الرّبط بين الكائنِ وما ينطـوي عليـه, أو مـا نسقـطُه عليـه من الجمال والخير والأمل. خصوصاً أن الواقع "هنا" عندنا, جنَّةٌ, قياساً إلى الواقع "هناك", عند "غيرنا"! أيكون هذا نقداً, أم يكون نوعاً آخر من الصَّلاة؟

    بالنّسبة إليّ, لا أنقد إلاّ المُهمَّ وما يَهمُّني. ولن أكون في نقدي لحاضر بيروت أقلّ جذرية من نقدي للحاضر العربي في "بيان 5 حزيران 1967". وقد نقدت بيروت لسببٍ أساسٍ أصوغه كما يلي:

    أينما ذهبت في العالم كلّه, أقرأ أوّلاً كتاب بيروت, وأتكلّم أوّلاً لغة بيروت.

    ولقد نقدتُها كأنني أنقد نفسي.

    "الآخر" - وهو هنا بيروت وغيرُها - هو الوسط الذي يتكوّن فيه "الأنا". ويحسُنُ ويستقيم تكوّنُ الأنا, ويزدهر ويعلو ويمتدّ, بقدر ما يكون هذا الوسط ميداناً حيّاً له, للتّساؤل, والبحث, والرّفض, والتمرّد. بقدر ما يكون ميدانَ صراع خَلاّقٍ, وخصام حميم عظيم, بين هذا الأنا, وهذا الآخر.

    عَرّف "لا كان" نفسه مرّةً, بقوله: "أنا قارئ فرويد". والمعنى العميق وراء هذا القول البسيط هو أنّ فرويد لم يُقْرَأُ حَقّاً, أي لم يُنقد, قبل "لا كان".

    كم لبنانيّاً يمكن أن يقول بتواضعٍ وصدقٍ, وبهذه الدّلالة اللاّكانيّة: "أنا قارئ بيروت"؟

    بلى, إن ثمّة محنةً هائلةً في قراءة بيروت, ليس لأنّها غامضة, عصيّة, وإنما لأنّها محجوبةٌ بمختلف أنواع "المقدّسات". وما يقال هنا عن بيروت, يقال كذلك عن شقيقاتها - المدنِ العربية, ويُقال عن العرَب أيضاً.

    - 5 -

    في بعض النّقد السائد ما يصدر عن عقدةٍ أسمّيها "عقدةَ الانتماء". الانتماء المذهبيّ السياسيّ الإيديولوجيّ. والنّاقد هنا يتقمّص شخص العلاّمة الطّاغية الدّاعية. ويصل هذا الوضع النقديّ إلى مستوىً موغلٍ في التعفّن:

    شخصٌ يقوم بعملٍ أو بكتابةٍ فَيُدان حَتّى درجة التّخوين.

    شخص آخر يقوم بالعمل نفسه وبالكتابة نفسها, لكن لا تقال ضدّه أيّة كلمة. على العكس, يسري "تعليمٌ" بضرورة التكتّم الكامل عليه.

    الانتماء؟ يُسعدني ألا يكون لي انتماءٌ إلاّ للإنسان في ذاتهِ, ولذاتهِ. إلاّ لِلّغة التي أكتب بها, والنصّ الذي أكتبه, والعمل الذي أقوم به. يسعدني ألاّ تكون لي هويّة مسبقة, جاهزة, مختومة, ونهائية. أن تكون هويّتي صيرورة مفتوحةً بلا نهاية. أن تكون مزيجاً مركّباً من الثقافات كلّها. يسعدني ألا تكون حياتي شجرةً, بل غابة. ألاّ تكون بحيرةً, بل محيطاً. ألاّ تكونَ هَبّةَ ريحٍ, بل وردةَ رياح.

    وما يضير "هويّة" بيروت, إن قلتُ إن وضع "التّعليمَ" فيها عقبةٌ هائلةٌ في وجه العلم؟ إن قلت لا هويّة لها إلاّ بِقدْر ما تعرف كيف تجعل من تراثها موجةً حيّةً في خِضمّ حياتها الزّاخرة, وكيف تخلصُ من سِجْنِ "الجْمع" إلى فضاء الفرد, وكيف تخرج من المؤسّسة الدينيّة المغلقة إلى الإيمان الحُرّ الطّليق, وكيف تَتجاوَزُ الشَّرْعَ إلى الشعر؟

    بلى, بيروت "هويّة" - نَصٌّ لم يقرأ حتى الآن إلاّ قراءة مذهبيّةً - فما يضيرها إن قلت: حان الوقت لكي تُقرأ ثقافيّاً. لكي تُقْرَأ لا بوصفها "جوهرةً", بل بوصفها كوكباً من البشر والحجر والتراب يدور في فلك التّاريخ, وفلك العالم الرّاهن؟

    - 6 -

    الطائفة, اليوم, في بيروت, تخرج من "دِينيّتها" وتصبح حزباً سياسياً. إنها ظاهرةٌ تُضْمِرُ تطوّراً يقلب جميع الأسس التي قام عليها لبنانُ - البدايات. بل يمكن القول إن لبنانَ هذا مهدّد بخطر الانتهاء.

    وكانت الطائفيّة في لبنان تملك عَقْلَ الإنسان, واليوم أخذت تملك جسمَه كذلك. أصبح اللّبناني أسيرَ طائفته على نَحْوٍ كامل, عقلاً وجسماً. صار مستعبَداً في عمق أعماقه. مجرّدَ رَقْمٍ, مجرّدَ شيء. وفي هذا تلتقي البنية الطّائفيّة بالبنية الفاشيّة.

    ومَن المواطِنُ البيروتيّ, اليوم؟ إنه عامُلٌ في بنيةٍ هي التي عَملته. إنه يتحرك داخلَ سجنٍ لا وجودَ له إلاّ فيه وبه. السجن الطّائفي هو الذي يكوّن المواطنَ: كيف يُمكنه, والحالة هذه, أن يكونَ حُرّاً؟

    وهذه البنية إيّاها هي التي تُسهِّل على القوى الخارجية "سَرِقَة" لبنان. بل يمكن القول إن لبنان "مسروقٌ" سَلفاً, بفعل هذه البنية.

    والمفارقة أنَّ القوى الثقافيّة اللّبنانية التي تصدّرت الدّعوة إلى الوحدة العربية العَلمانية, تخلّصاً من العثمانيّة - الدّينية, تُخلِّف لوارثيها ضَياعاً مزدوجاً:

    ضياع "الوحدة" في عودةٍ طاغيةٍ للنزوع الدّيني المسيّس, وعلى نحو أكثر تشدّداً,

    وضياع "الوطن" اللبنانيّ في تَفتُّتٍ لم يُشْهَد له مثيلٌ من قبل.

    وتكاد "اللبنانويّة", اليوم أن تُصبح كمثل "الوحدويّة": طمْساً كاملاً للوعي: وعي الذّات, ووعي العالم.

    ولئن كانت "الوحدوية" في أساس المسؤوليّة عن كارثة فلسطين, فإنّ "اللّبنانويّة" تغامر بأن تصبح مسؤولة عن "إنهاء" لبنان بالمعنى الذي اعتنقناه.

    المفارقةُ الأكثرُ دلالةً هي أَنَّنا نرى, اليوم, داخل كلّ بلدٍ عربيّ "شَعْبين": شعب النّظام, وشعب الشّارع, ونجد في لبنان شعوباً عديدةً لا ترتبط بالنّظام, بل بالطّائِفة.

    هكذا نرى أنّ الخطاب "اللبناني", اليوم, بمعناه الوطني الواسع, يخفي تصدّعاتٍ وانشقاقاتٍ كبيرة. وهو, في ذلك, يشبه خطاب "الوحدة العربية": ألفاظ تخرج من الأفواه مشحونةً بالأمل, لكي تطنَّ فارغةً في فضاء الواقع.

    وأعرف أن هناك أفراداً لبنانيين (وعرباً) متفوّقين في جميع الميادين, وقد يبزّون أندادهم في العالم. لكن لا يجوز أن ننسى أمرين: الأوّل هو أنّ هذا التفوّق لم يَحصل بفعل الدّاخل اللبنانيّ (أو العربي), وإنما حصلَ في شروط "الخارج" وبنية العلم "الخارجيّ".

    والثاني هو أنّ الأفراد المتفوقين في المجتمع لا يشكّلون معياراً لتقدّمه. إنما يتمثّلُ المعيار في البنية - المؤسسة: العائلية - التربويّة التعليميّة, الفكريّة, الاجتماعية, الاقتصاديّة. وعلى هذا لا يتغيّر المجتمع بمجرّد تقدّم عددٍ من أفراده. لا يتغيّر إلاّ بتغيّر مُؤَسّساته.

    ـ 7 ـ

    لا بُدّ, بعد الحرب الأهليّة, من أن نفـتح أفقـاً آخر للكلام, لِلّغة" أفقاً لا يفارق الجذر والأساس. أفق يَمّحي فيه "غير ملائمٍ, الآن", أو "ليـس هـذا هو الوقت", أو "يبلبل الجوّ", أو "يخدش المشاعر"" إلخ. إذا لم نفتح هذا الأفـق الكلامـيّ الرّحـب, الحرّ, الشامل, يتعذّر علينا أن نفتح الأفق الآخر - أفقَ العمل. ومثل هذا الكلام هو الذي يفتح النّوافذ في الاتجاهات كلّها. ويتيح لنا أن ننتصر على أنفسنا - لأنه يساعدنا على تجاوز الأضاليل التي تحيط بهذه الحرب. وفي الداخل والخارج معاً" وربما في الداخل قبل الخارج. ويساعدنا على تجاوز أوهامِنا. ويتيح لنا أن نفكّر ونعملَ بحيث يقاتل كلٌّ منا من أجل الآخر أوّلاً: عندما يقاتل كلٌّ منّا من أجل الآخر, يكون مقاتلاً حَقّاً من أجل نفسه.

    وفي مثل هذه اللّغة نتعلّم, أَلاّ قضيّة أكثرُ قيمةً من الحياة" أنّ القضيّة التي لا تعلّم إلاّ الموت هي نفسها قضيّة ميّتة. نتعلّم أَلاّ نتحّدث عن العنف الظاهر في حياتِنا, ونسكتَ على العنف الآخـر المقنّع المبطّن, العنف الذي يكاد أن يصبح شِرْعةً وحياةً يومية. نتعلّم أن الصّراع ليس صراعاً فيما بيننا من أجل الغَلبة والرّبح, وإنما هو صـراعُنا معـاً لكي نبقى معاً, ولكي نصيرَ معاً سواسيةً وأحراراً. نتعلّم كيف ينتظمُ وعينا الجمعيّ في تعدّديّة متآلفةٍ, متخالفةٍ, وخَلاّقة. نتعـلّم كيـف نُخـرج قناعاتِنا من أصداف الصّمت أو اللاّمبالاة, وكيـف نحطّـم ســلاسـل التّكتيـك المـداور, لكـي نفتحَ استراتيجيات الهجوم الذي يحبّ ويحتضن ويبتكر.

    وكلّنا يعرف السّهولة, وكيف تؤخذ, وأين, ومتى. غير أنّ السّلالم التي يصعد عليها الخلاّقون لا ترضى إلا بتسلّق الجبالِ العُليا.

    نتعلّم في هذه اللّغة كيف نؤسّس لفكر آخرٍ, ولطرقٍ أخرى من التّفكير, بعيداً عن الاجترار التكراريّ الذي يعذّب الذات ويُلغيها. لبنان, لبنان, لبنان, سورية, سورية, سورية. وماذا بعد ذلك؟ فاصِلٌ كبيرٌ بين الفكر والشعور: فكرٌ لا شعور فيه, وهو لذلك نوعٌ جامِدٌ وصغيرٌ من الإيديولوجية. وشعورٌ لا فكر فيه, وهو لذلك نوعٌ من ردود الأفعال المَرضيّة. ولا حوارٌ حقيقيّ. الذّات مغلقّةٌ. والأنا والأنت - كلٌّ في بئرٍ مشيّدةٍ بإسمنت المسبّقات, إسمنتِ العداء والكراهية.

    نتعلّم أن بيروت, اليوم, في أمسّ الحاجة إلى نبوّاتٍ فكريّة وسياسية واجتماعيّة كبرى. وأنّ طموحات أنبيائِها يجب أن تكون أكبر وأعلى من الاكتفاء بتسلّق الصّخر نفسه الذي تسلّقه ماعزُ التاريخ.

    نتعلّم كيف نرفض أن تتحوّل بيروت إلى هيكل احتفاءاتٍ بحجارة الماضي وغبار الأمس. إلى تقليدٍ يلتهم العقلَ, وتقليدٍ آخر يلتهم الجسد والرّوح.

    نتعلّم أن نُصغي إلى لبنانيين كثيرين - كلٌّ منهم يحاول أن يبنيَ لنفسه منفى في الخارج, أو منفى داخل نفسه. كلٌّ منهم يجهر: المعتقدات, المعارف, الخطط, البرامج, المؤسّسات, الأفكار, الاتجاهات... كلّها تفقد مصداقيّتها. ولا أجسامٌ وراءها, بل ظلال. وكلٌّ يتابعُ هذا الجَهْر: يصعب الإيمان بأيّ شيء. يصعب التّصديق يما يُذاعُ - تبشيراً وتطميناً. كلّ شيء يُراوغ أو يكذب. وتكاد الحياة نفسُها أن تتحوّل إلى نوعٍ من المراوغة. وصار الخلاص غامِضاً, بعيداً وملتبساً.

    وفي هذا كلّه نكتشفُ كيف يغيب إلزامُ الوعي. وإلزام العدالة, وإلزام الحقيقة, وكيف "تُصنَعُ" حياةٌ خاصّة للعيش بهناءٍ في بلاغة الغياب, ومعجم التوهّم.

    نتعلّم أن نمسرحَ العُرْيَ, ونكتنهَ المعنى.

    - 8 -

    "الحقيقة دون مجتمعٍ تتحرك فيه ليست إلاّ استيهاماً فرديّاً. والمجتمع الذي لا حقيقة فيه ليس إلاّ طغياناً". (ميشيل دو سيرتو).

    ما الحقيقة في لبنان؟ أهو "مجتمعٌ" حَقّاً, أم هو "مجتمعات - طوائف"؟

    وما الثقافة التي تنهض عليها "الحقيقة" فيه "أو الحقائق"؟ ومن أين تجيء هذه الثقافة؟ من "جامعته" أو "جامعاته"؟ من "كنيسته" أو "كنائسه"؟ من "جامعه" أو "جوامعه"؟ مِن أين؟ من القوميّة اللبنانيّة, أو القومية السوريّة, أو القومية العربيّة؟ من الماركسيّة, أو اللّيبراليّة؟ من أين؟

    ولا تُعطى الثقافة. تُخلق الثقافة, أو لا تكون إلاّ جُثّة - وإن عُطّرت.

    كلّ شيءٍ في الثقافة اللبنانيّة للمساءلة وإعادة النّظر من الألف إلى الياء, أفقيّاً وعموديّاً.

    كلّ ثقافةٍ "مُعطاةٍ" ليست إلاّ سلطةً يقمع بها الآباء الأبناء. وليست إلاّ تَسويغاً لامتيازات "الآباء" وأهل السلطة. ولا يجدي "الهامش" في تغييرها, وإن رَجَّها.

    في كلّ حالٍ, يجب أن يعترف كلٌّ منا أنه لم يعد قادراً ولا صالحاً أن يعطي أيّ أمرٍ أو نَهيٍ في القضايا الإنسانيّة الأساسيّة:

    لا في الحقوق والواجبات, لا في الحريات والعلاقات مع الآخر, لا في الحبّ والجنس, ولا في الحقيقة والثقافة.

    يجب أن ننتقل من المذهبيّة إلى الإصغاء. من دور المعلّم إلى دور المتتلمِذ. من دور المتعالي إلى دور المتعاطف, من دور القائد إلى دور الرّفيق.

    - 9 -

    في تنوّع المصادر التّراثيّة - الدّينية وتمزّقاتها, وفي تضادّ المصالح والأفكار والآراء, وفي صراع الأغنياء - الأغنياء, والفقراء _ الأغنياء, والفقراء ـ الفقراء, من يستطيع أن يدلّني على المشتركِ الحقيقيّ بين اللّبنانيين خارج المُحاصَصة السّياسيّة حصراً؟ وهي, في التّحليل الأخير, مُحاصَصة بين أفرادٍ, لا بين جماعات. وتكاد هذه المحاصَصة أن تصل إلى درجة لا يعود فيها للمواطن المحروم إلاّ أن يختار الثورة أو المنفى أو الموتَ قهراً وصَمْتاً.

    ولم تعد تجدي "الحيل الاقتصادية" التي لا تزال تسوّغ جميعَ أنواع الفساد. ويكفي أن نجعل من وضع بيروت "حيلةً اقتصاديّةً", ومن وضع لبنان مسوّغاً لها.

    ولقد تحوّلت الثقافة السّائدة إلى نوعٍ من "الإعاشة الفولكلورية" تُوزَّع على النّاس. وهي مع ذلك, توزَّع بالمحاباة, لا بالمساواة. إضافةً إلى أن هذه الثقافة لم تستطع, بيمينها ويسارها, أن تجمع في حركيّة واحدة, فقراء لبنان أو ضحايا الفقر, طول خمسين سنة. على العكس, زادتهم تمزيقاً, وابتعاداً بعضهم عن الآخر. وتكاد أن تقتل في نفوسهم الثّقة بالمجتمع الذي يشاركون في تكوينه. وما يكون شأنُ "مجتمع" لا يثق به أفرادٌ هم الذين يكوّنونه؟

    كلٌّ منهم يقول في ذات نفسه: قبل كلّ شيءٍ, الاستمرارُ في الحياة. وفي هذا ما يفتح الدّروبَ واسعةً لجميع المسوّغات. وفي مثل هذه الحالة, لا يعود الكلام على الديموقراطية والحريّات إلاّ ضَحِكاً ولهواً.

    الثّقافة الحقيقيّة هي الحياة اليوميّة تُحرّكُ على نَحْوٍ خَلاّق, وهي العلاقات بين البشر يُعاد بناؤها على نحوٍ خَلاّق كذلك. إنها مشروعٌ متحرّكٌ دائماً في اتجاه البشر - تقدّماً وحيويّة, وبالمشاركة بين جميع الأفراد. هكذا يرتقون إلى مستوىً تكون فيه الأفكار والمصالح والقوى والرّؤى مُتَمَفْصِلةً ومتـآرِزة.

    بلى, وصل لبنان إلى مرحلة من الفقر الاجتماعيّ - السياسيّ تُحتّم على الثقافة فيه أن تلعبَ دوراً آخر - دورَها الصّحيح: إعادة تكوين "المجتمع".

    هنا يمكن أن يلعبَ المركّب الطّائفيّ, بوصفه قائِماً, دوراً حافِزاً يَضَعُ البلادَ كلَّها في مُركَّبٍ تنافسيّ لبنائها من الدّاخل. لكنّ الواقعَ القائم المركّب يُلغي إمكانيّة القيام بهذا الدَّور. ذلك أنّه ينظر إلى "الخارج" بوصفه حمايةً للدّاخل - بدلاً من أن ينظرَ إليه بوصفه "الآخرَ" الذي يُحرّض على رؤيةٍ إنسانيّةٍ أكثرَ شمولاً وعمقاً, وعلى خبرةٍ أكثر اتّساعاً, وعلى عملٍ أكثرَ إبداعاً. هذا, من جهة. من جهةٍ ثانية, ينقلب هَمّ التّنافُسِ في الممارسة, إلى كَابِحٍ يحوّل الطّائفةَ إلى منظومةٍ مُغْلقةٍ, إلى "حزب" وإلى "معسكر". يُصبح الفرد فيها مُحاصَراً, ولا يَجدُ مَرْجعيّته السّياسيّة إلاّ فيها.

    من الحقّ إذاً أن نسأل: ما "المعنى" الذي تلتقي فيه الطّوائف, والذي تنتظمُ فيه البلادُ بوصفِها كُلاًّ - تشريعاً, وقيماً, وثقافَةً؟ أهناك توجّه واحدٌ لهذه الطّوائف نحو قيمٍ مشتركة غير سياسيّة؟ وما هي؟ هل تنظر هذه الطّوائف إلى لبنان بعين الحرص على أن يكون بناءً حضاريّاً متميّزاً, أم بعين الحِرص على أن يكون مجرّد مأوى أو ملجأ؟

    ولئن كان معنى الكلمات يتحدّد بسياقاتِها وَمرْجعيّاتها وكان تحديد اللبنانيين لأنفسهم يتعيّن بهذه السّياسات والمرجعيّات, فما المعنى الذي أعطته للبنان بعد الحرب الأهليّة المدمّرة؟ وما جَديد هذا المعنى؟

    ليس الإنسان كائناً مغلقاً تختبئ قيمه في أحشائه. وليس مجرّد انعكاسٍ للعلاقاتِ المتنوّعة. فالإنسان هو ما يكونه, طبيعةً من ناحيةٍ, وهو ما يصير إليه, من ناحية ثانيةٍ, في تجربته وحياته وعلاقاته.

    وهذا ما ينبغي أن تجعل منه الطّائفة, ما دامت قائمةً, قاعدةً لفكرها وسلوكها: بناء الإنسان فيها, لكي تقدر أن تشارك في بناء الإنسان لدى الآخرين, من أجل بنائه على مستوى الكون. بهذا وحده تعطي الطائفة مشروعيّةً لوجودها: تصبح نفسَها, وأكثر وأبعدَ من نفسها في آن.

    إن البعد الإنساني في الطّائفة يُلزمها أن تعملَ باستمرارٍ على أن تتخطَّى وضعَها بوصفها طائفةً, وأن تؤسّسَ لانفتاحٍ كامل على القيم الإنسانيّة. هكذا ينبغي على الطّوائف نفسها أن تهدمَ حدودَها الطّوائفيّة, لكي تقيم فيما بينها الحدودَ الإنسانيّة, حُدودَ الإبداع والمشاركات الإبداعيّة. وعلى هذا المستوى, لا تجد الطّائفة مشروعيّتها, بالمعنى الكيانيّ, إلاّ في انفتاحها الكامل على الطّائفة الأخرى. إِلاّ في كوْنها مسكونةً بهموم الطّوائف الأخرى, وبالمسيرة الواحدة في أفق المستقبل. وهنا, بالضبط, يكمن, كما يبدو لي, معنى الحوار بين الأديان.

    دون ذلك, سيبدو لبنان كأنّه "مُستعمَرٌ" من قبل الطّوائف, بوصفه مُحاصَراً بحدودها, مجزّأ, وَمكبوحاً.

    دون ذلك, ستظلّ الطّوائف إِفْقاراً وتقزيماً للمركّب الغَنِيّ السيكولوجيّ - الثّقافيّ الذي يختزنه الإنسان. (وأرجو هنا أَلاّ يُخلطّ في كلامي بين الطّائفة والطّائفيّة).

    دون ذلك أخيراً, سيبدو أنّ الطوائف تضفي على لبنان نوعاً من الصفات الأنتولوجيّة, المطلقة. ولبنان, شأن جميع البلدان, إنما هو وجودٌ تاريخيّ. وهو, إذاً, صيرورة. وكما أنّ الإنسان لا ينتهي من صيرورته إنساناً, فيما يفكّر ويعمل ويبدع, فإن اللبنانيّ لا يُولد لبنانياً, إلاّ بقدر ما يبدع ويعمل لكي يصيرَ لبنانياً. اللبنانيّ كمثل لبنان, حَركيّةٌ تاريخيّة. مشروعٌ وأفقٌ لا نهاية لهما.

    - 10 -

    لم أرد ولن أريدَ أبداً أن تكون علاقتي ببيروت علاقةً مع طائفةٍ أو مذهب. حزبٍ أو زعيم. تجمّع أو اتّجاه. مصلحةٍ أو فائدة. نشر كتبٍ أو إنشاء مجلّةٍ أو جريدة.

    أرفض أن تكون إلاّ كمثل علاقتي مع نفسي, وعلاقتي مع الحقيقة.

    وسأظلّ عاملاً طامحاً لكي أكون دائماً مع الحقيقة. هكذا أُصرّ على أن أرَى كلّ شيء, وأن أقولَ, ما استطعت, كلّ شيء. دون خوفٍ. دون مراعاةٍ. دون مساومة.

    لن أرى الغروبَ شروقاً, والدّكان صرحاً ثقافيّاً, والبئرَ بحراً, ولو "وُضعت الشمس في يميني والقمر في يساري".

    لن أنظر إلى مَسْرح سياسيّ إلاّ عِبْرَ الآلام والعذابات والمواجع التي تحوّم فوق خشبته وحولها, وعبر الثمن الذي يكلّفه هذا المسرح.

    وسوف أحارب أيَّ إغواءٍ لاستقالةِ وَعْيي. وأقتلعُ فَنَّ "التّبصير", لكي أُرْسيَ فنَّ الاستبصار. ولن أشارك في التأسيس لأيّ نوعٍ من أنواع الإرهاب المُضْمَر الذي يحول دون المساءلة, وإعادة النّظَر, والنّقد الجَذْريّ. ولن أكون إلى جهة التّعابير والألفاظ, وإنّما إلى جهة الأشياء ذاتِها التي تُفصح عنها.

    هكذا سأظلّ أرى إلى بيروت بعينٍ لا ترضى إلاّ برؤية كلّ شيء, لا الظّاهرَ وحده, بل الخفيّ الممكن كذلك. وسوف أظلّ مصغياً إليها بأذنٍ لا تَرضى إلاّ بأن تَسمع حتّى السّرائر. محاولاً أن ألمسَ "ما لا يُلمَس", وأن أقولَ "ما لا يقال", وأن أهبطَ في "الثقوب السّوداء" التي تنخر جسدَ الكرة اللبنانية, وجسد الثقافة اللبنانية (والعربيّة). وسوف أظلّ دائبَ العمل على زلزلة القطيعيّة والتبعيّة, وعلى كَنْس الرّكام.

    ألهذا, كانت محاضرتي بَلْبَلَةً؟ ألهذا كانت طوفاناً اختلط فيه القَشّ بالورد, والجَذْرُ بالحَصى؟

    مع ذلك, تركت كثيراً من التّلالِ نائمةً في ضبابها وتركتُ مستنقعاتٍ كثيرة تحت غطائِها الكثيف من اللُّهاث البشريّ - لهاث الذين "لا صوتَ لهم", ولا عمل, وينامون حالمين, لكن بِخُبْزِ غدهم. لم أقل إلاّ النّاتئ الذي يضرب البصرَ والبصيرة.

    -11 -

    قبلاً, رَأيتُ بيروت أكثر مما عشتها. اليوم, أعيشها أكثرَ ممّا أراها.

    باريس, نوفمبر 2003

    محاضرة ألقاها أدونيس في "مسرح المدينة"- بيروت, وأثارت ردود فعل كثيرة.







    ©2003 Media Communications Group مجموعة الاتصالات الإعلامية
                  

11-20-2003, 05:58 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يا عمر علي :هذا رد اللبنانيين على ادونيس (Re: osama elkhawad)

    شكرا عمر علي على ايرادك لهذه المقالة المهمة لادونيس
    ساعود لاحقا بعد ايام لظروف خارجة عن الارادة
    ارقد عافية
    المشاء
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de