|
الثقافة هي الجسد ( الي اهل المسرح )
|
نص محاضرة للبرفيسور تاداشي سوزوكي ترجمة علي كامل
إن الهدف الرئيسي لمنهجي هو رفع وتعميق القدرات التعبيرية الفطرية لدى الممثل والسعي إلى تطويرها من خلال الكشف عن الأحساس المُدرَك جسدياً ومحاولة إبرازه إلى منهج سوزوكي في تدريب الممثـّل السطح، وأعني بالأحساس المدرك جسدياً، هو ذلك الأحساس الذي كان يمتلكه الممثل أو المؤدي أصلاً قبل أن يحرز المسرح أساليب عروضه المنظمّة والمصنفة منهجياً. لقد تزامن بدء تفكيري في هذا المنهج والفترة التي كنت فيها منهمكاً في البحث عن طرق لفحص وتحليل درجات إختلاف الأدراك الجسدي بين أشخاص متباينين، إختلافات كتلك التي نجدها أثناء تواجد الممثلين على خشبة المسرح، سواء كانوا في حالة سكون كامل، أو في حالة حركة، أو عبر شروعهم بفعل ما. كان هدفي من ذلك جمع تلك التباينات ومن بعد توحيدها في شيء يمكننا نحن البشر جميعاً أن نتقاسمه كخاصية مشتركة بيننا بعيداً عن كل تبايناتنا العرقية أوالقومية. لقد أحسست في المقام الأول، بضرورة البحث عن العلاقة المباشرة والمحددة لأحاسيسنا أو مشاعرنا إزاء الأرض التي نقف أو نسير عليها، وأعني بالتحديد جاذبيتنا نحو الأرض مسرحية ماكبث التي يتحسسها النصف الأسفل من جسدنا. لقد إستخلصت أخيراً بعض الطرق الأساسية لأستخدام الجسد بوصفه وعاء يحوي مشاعر مُدرَكة تختلف بعضها عن بعض بشكل طفيف. وهكذا، ولأجل صياغة منهجي شرعت في تنظيم وتنسيق تلك الأختلافات الطفيفة. تقنياً، يتألف منهجي من مجموعة من التمرينات تتعلق بكيفية تعّلم النطق والألقاء بحيوية وصفاء، وكذلك تعّلم كيفية جعل الجسد كله ينطق، حتى وإن كان الممثل صامتاً!. بهذه الوسيلة، يستطيع الممثل أن يتعّلم أفضل الطرق لوجوده على خشبة المسرح. لقد أردت من خلال التطبيق العملي لهذا المنهج أن أمنح الممثل فرصة لأظهار القابليات التعبيرية لجسده، وأيضاً القدرة على التحّكم بذاكرته وقوة تركيزه. بأختصار، إن هذه التمرينات، إذا جاز لي القول، هي بمثابة قواعد لغوية ضرورية لترجمة صورة المسرح الذي في مخيلتي وتجسيده مادياً. أما الشيء الأكثر جاذبية في الأمر فهو إن هذه القواعد ينبغي أن تستوعب داخل نطاق الجسد كما لو أنها غريزة ثانية، تماماً مثلما لايمكنك الأستمتاع بالمحادثة اليومية من دون أن تكون ملمّـاً بقواعد فن الكلام. ينبغي لهذه التقنيات أن تدرس وتطوّع لحين أن تصبح قيد الأستخدام كما لو أنها "فرضية جاهزة للعمل"، ليتمكن الممثلون وقتها من الأحساس حقاً أنهم شخصيات وهمية أو تخييلية على خشبة المسرح. مسرحية ديونيزيوس ولكي يدرك الممثلون الصور الذهنية أو الشخصيات التخييلية التي يسعون إلى تجسيدها على المسرح، ينبغي لهم أن يُظهروا ويطوروا هذا الأحساس الأساسي، وأعني به الأحساس المُدرك جسدياً.
إن المجتمع "المثقف" من وجهة نظري، هو المجتمع الذي تستخدم فيه القدرات التعبيرية والمدرِكة للجسد الأنساني إلى حدودها القصوى، لأنها هي من يزودنا بالوسائل الرئيسية لأقامة الصلات وتبادل الأفكار. ينبغي التشديد هنا على أنه ليس بالضرورة دائماً أن يكون البلد المتمدن أو المتحضر هو بلداّ مثقفاً. إن الحضارة أو المدنية نشأت وتطورت حقاً بالأرتباط مع تطور وظائف الجسد البشري، ومن الممكن جداً أن ُتفسر على أنها توسيع لتلك الوظائف، أو إمتداد للمَلكات الجسدية كالعيون والآذان واللسان والأيدي والأقدام. فأختراع التلسكوب والميكرسكوب مثلاً، لم يكن سوى محصلة للطموح البشري في مساعيه لرؤية أشياء لاتقوى حاسة البصر العادية عن رؤيتها. وهكذا فإن التأثير المتراكم لمثل هذه المساعي هو ما يمكن أن نطلق عليه كلمة "حضارة" أو "مدنية" والتي هي ثمرة لتوسيع وإمتداد لتلك المَلكات الجسدية . أما الشيء الذي ينبغي علينا بعد ذلك أخذه في نظر الأعتبار، فهو نوع الطاقة الضرورية لتحقيق طموحات كهذه، وهذا بدوره يقودنا منطقياً إلى التفكير في موضوع الحداثة. لير إن المعيار الأساسي للتمييز بين مجتمعات الحداثة ومجتمعات ماقبل الحداثة، حسب بعض السوسيولوجيين الأمريكيين مثلاً، هو نسبة إستخدام الطاقة الحيوانية قياساً بالطاقة غير الحيوانية في تلك المجتمعات. (المقصود بالطاقة الحيوانية هنا، هي تلك التي يبذلها الأنسان والحيوان، أما الطاقة غير الحيوانية، فالمقصود بها الطاقة الكهربية والنووية وماشابه). لاتوجد سوى وسيلة واحدة لقياس حداثة ذلك البلد من عدمه، وهي حساب حجم الطاقة غيرالحيوانية المستخدم في مجرى عملية الأنتاج لذلك البلد. من هنا، يمكن القول، وبشكل تقريبي، أن البلدان الأفريقية والكثير من البلدان الشرقية، على سبيل المثال، والتي عادة ما تكون نسبة أستخدام الطاقة الحيوانية فيها عالية جداً، هي مجتمعات ما قبل الحداثة مقارنة ببلدان متقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان مثلاً، حيث الطاقة فيهما تشتق من البترول والكهرباء والقدرة النووية، والتي تستخدم عادة في كل عمليات الأنتاج. لو طبقنا الآن وجهة النظر هذه على المسرح فسنلاحظ في هذه الحال أن كل المسارح المعاصرة هي مسارح "حديثة" ذلك لأنها تستخدم الطاقة غير الحيوانية إلى أقصى الحدود. فالأضاءة والمصاعد والرافعات وخشبات المسارح الدوّارة إلخ..، كلها تدار بواسطة الطاقة الكهربية، فضلاً عن دُور العرض نفسها، بدئاً من الأساسات الكونكريتية وإنتهاء بآخر مبتكرات أدوات وعناصر العرض التقنية والفنية، ماهي إلا المحّصلة النهائية لتنوع ميادين النشاط الصناعي . أما لو أخذنا النموذج الياباني الوحيد الباقي لمسرح ماقبل الحداثة وأعني به مسرح "نـو" لوجدنا أن العملية معكوسة تماماً، أي أن هذا المسرح لم يكن يستخدم الطاقة غير الحيوانية على الأطلاق. فلنأخذ الموسيقى، على سبيل المثال، ففي المسرح الحديث، تسجل الموسيقى ويعاد إنتاجها عبر عملية التوليف ومكبرات الصوت، فيما نرى أن أصوات الممثل ـ المغني والكورس وصوت الآلات الموسيقية في مسرح "نـو" تؤدّى وُتعزف جميعها بشكل حي لتصل مباشرة إلى الجمهور. أما ملابس وأقنعة هذا المسرح فهي تصنع باليد عادة، بل إن المسرح ذاته قد شيدّ وفقاً للقواعد التقليدية لحرفة النجارة اليابانية القديمة. أما فيما يتعلق بالإضاءة، فعلى الرغم من إستخدام العروض الحديثة لـمسرح "نـو" للطاقة الكهربائية في توليد تلك الإضاءة (والتي مازلتُ معارضاً لأستخدامها، لأن العروض القديمة كان مصدرها الشموع فقط)، إلا أن الإضاءة الصناعية تلك تستخدم الآن بحدّها الأدنى قياساً بالإضاءة الملونة ذو التقنية العالية الجودة، تلك المستخدمة في المسارح الحديثة. لقد إنبثق مسرح "نـو" بإدراك روحي لخلق شيء ما عبر جُهد الجسد الأنساني وبراعته، إلى الحد الذي يمكننا أن نصفه، حسب السوسيولوجيين الأميركيين، بأنه خلاصة لمسرح ماقبل الحداثة! لأنه إنتاج إبداعي مصدره الطاقة الحيوانية. ونظراً لأن على المسرح مجاراة الزمن وإن عليه أن يستخدم الطاقة غير الحيوانية في كل وجه من أوجه نشاطاته، سواء كان ذلك في الغرب أو في اليابان، فإن إحدى أكبر المعضلات التي واجهته هي الأنفصال الواضح لملـَكات الجسد عن الأحساس الجسدي، فمثلما وسّعت الحضارة من وظيفة العين في إختراعها التلسكوب، أسهمت الحداثة في تقويض وتمزيق ملـَكاتنا الجسدية وفصلها تماماً عن ذواتنا الأنسانية. إن ما أسعى إليه حقاً هو أن أبعث تكامل الجسد الأنساني وسط البيئة المسرحية، ليس عبر العودة إلى الأشكال المسرحية التقليدية لمسرح "نـو" أو مسرح "كابوكي" بل بتوظيف المزايا الأستثنائية لهذين المسرحين من أجل خلق شيء ما، يمكن أن ينقل تجاربنا الحالية في العمل مع الجسد إلى المسرح الحديث. ما ينبغي لنا القيام به هو أن نعيد لحمة ملـَكاتنا الجسدية التي قوضّت يوماً ما، وأن نستعيد طاقات جسدنا البشري وقدراته التعبيرية والمُدركة. فإذا نجحنا في تحقيق ذلك، نستطيع عندئذ الحفاظ على الثقافة وإستمرارها داخل نطاق الحضارة أو المدنية. إن منهجي في تدريب الممثل يؤكد بوجه خاص على أهمية "الأقدام" لأنني أعتقد إن إدراك الصلة القائمة بين الجسد والأرض، يقود بدوره إلى إدراك هائل لكل الصلات الفيزيائية الأخرى للجسد. يتطلب القسم الرئيسي لطريقتي في التدريب أن يضغط الممثل بقدميه على الأرض بشدة وقسوة لفترة محددة من الوقت وفقاً لموسيقى إيقاعية، أو على نحو أدق، السير بشكل دائري وركل الأرض بالقدمين بقوة، في وضعية يكون الجسد فيها شبه جاثم. بعدها، وحال توقفّ الموسيقى، ينبغي على الممثل إرخاء جسده تماماً والأستلقاء على الأرض، شرط أن يكون هذا الأستلقاء ساكناً وهامداً. وبعد فترة وجيزة ينبغي أن تبدأ الموسيقى ثانية، لكنها يجب أن تكون هذه المرة بطيئة وناعمة. ووفقاً لهذا التغيّر الحاصل في الموسيقى، ينهض الممثل ويقف على قدميه ببطء، بأية طريقة يشاء، منتصباً بشكل عمودي، عودة ً إلى وضعه الطبيعي السابق. يتضمن هذا التمرين في الواقع حركتين متعاكستين، إحداهما ديناميكية والأخرى ساكنة، أي، حركة وسكون، سكون وحركة. بكلمة أخرى، إنها عملية إطلاق وكبح متناوب للطاقة الجسدية. الهدف من هذا التمرين في الواقع هو إظهار قوة التركيز على الجسد عبر التحّكم في عملية التـنفس. إن المغزى الرئيسي للنصف الأول من هذا التمرين هو المحافظة على إستئناف ضرب الأقدام على الأرض بقوة دون إحداث أي أهتزاز للنصف العلوي من الجسد. أما إذا فقد الممثل تركيز إحساسه على قدميه وساقيه ووركه، والتي ينبغي لها أن تكون قد خضعت لمران جيد وصارم، عندئذ يصبح من الصعب عليه الأستمرار في الضرب على الأرض بشكل متماسك ومتناسق مهما أوتي من قوة ونشاط. فضلاً عن ذلك، أنه بدون طاقة روحية وإرادة في التحكم في عملية التنفس، فأن النصف العلوي للجسد سيبدأ حتماً في التأرجح تدريجياً، ومن ثم سيفقد إيقاع الضربات هارمونيته. نقطة أخرى مهمة هي إذا ضرب الممثل الأرض بقدم واحدة، فإن قوة الضرب تلك ستؤثر بشكل طبيعي على النصف العلوي من الجسد وتجعله يهتز. إن ما أثار إنتباهي خلال التدريب مع الممثلين وهم يضربون الأرض باقدامهم بعنف وقوة هو أن ردة الفعل تتجه آلياً نحو الأعلى. بمعنى، أنهم كلما ركلوا الأرض بشكل أكثر قوة، كلما بدأ الجزء الأعلى من أجسادهم يتأرجح أكثر، لذا فإن الطريقة الوحيدة لتخفيف حدة التأرجح تلك إلى حدّها الأدنى يستلزم منهم كبح تلك القوة عبر الورك. ينبغي على الممثلين وهم يضربون الأرض بأقدامهم أن يدركوا دائماً العلاقة التي تربط النصف السفلي بالنصف العلوي لأجسادهم، هذان النصفان اللذان يدوران معاً على محور واحد هو الورك. إن التشديد على حقيقة أن بنية جسم الأنسان وتوازن القوى التي تساعده تتمحور في المنطقة الحوضية هي ليست بالطبع فكرة خاصة بمنهجي، فهي تستخدم في كل أنواع فنون الأداء تقريباً، ومع ذلك، أعتقد أنها الشيء الذي يميز منهجي في تدريب الممثل، والتي تستلزم من الممثلين قبل كل شيء، أن يحسوا تلك المنطقة بوعي تام عن طريق ركل الأرض بأقدامهم وضربها بقوة. إن منشأ هذا مصدره إعتقادي الراسخ أن الأحساس الجسدي الرئيسي لأي ممثل مسرحي يتوقف كله على أقدامه!. المصيبة أننا نميل دائماً في حياتنا اليومية إلى التغاضي عن أهمية الأقدام، في حين أن الشيء الهام والضروري يتطلب منا أن ندرك جيداً أن الجسد الأنساني يقيم صلته بالأرض فقط عن طريق القدمين، وأن الأرض والجسد هما شيئان غير منفصلين، وأن الثاني هو جزء من الأول. بمعنى آخر، أننا حين نموت سنعود ثانية إلى الأرض. ينبغي علينا ان نجعل من الجسد، الذي هو عادة ما يقيم مثل هذه الصلة مع الأرض بشكل غير واع ٍ، أن يدرك هذه الحقيقة عن طريق خلق إحساس قوي لوقع التأثير أو الصدمة خلال ضرب الأرض بالأقدام. قيل أن فكرتي هذه هي فكرة يابانية بحتة، إلا أن ذلك غير صحيح. فحتى الباليه الأوربي الكلاسيكي الذي يبدو فيه أن هدف الراقصين من القفز نحو الأعلى ما هو إلا لغرض التحليق في الهواء، إلا أن الأحساس الجسدي الرئيسي يتكون من خلال الأحساس بالجاذبية نحو الأرض. مرة أخرى نرى في الأشكال المسرحية التقليدية اليابانية "نـو" و"كابوكي" أن توازن القوتين الموجَهتين، أعني تلك التي تتجه إلى السماء، صوب القمم، والأخرى صوب الأرض بإتجاه الأعماق، هي مسألة جوهرية جداً في التعبير الجسدي. ففي الأشكال المسرحية التقليدية اليابانية نرى أن هاتين القوتين تكونان متعاكستين في وجهتيهما، إحداهما أزاء الأخرى، إلا أنهما تلتقيان في المنطقة الحوضية، ومن هاتين الحركتين أو الأتجاهين تنشأ الطاقة لتشع فيما بعد بشكل أفقي. وهكذا، فإن محاولة النصف العلوي من الجسد للتحليق في الهواء، والنصف السفلي للغوص نحو القاع، ماهي إلا عملية موازنة لهذه الحركة، وبناء على ذلك يتضاعف الأحساس مسرحية تشيخوف أكثر بأن القدمين راسختان بثبات على الأرض، وهذا ما يُرمز له بحركات مثل:Suri-ashi) ) أي الخطوات الأنزلاقية، أو ( (Ashi-byoshi أي السير والضرب على الأرض بالأقدام. هاتان الحركتان اللتان تعبّران عن الصلة أو الأنجذاب نحو الأرض. لقد وجد الأنثروبولوجي الياباني الشهير شينوبو أوريغاتشي Shinobu Origuchi في دراسته لفنون الأداء اليابانية، أن المؤدّين أو الممثلين حين يركلوا الأرض بأقدامهم بشكل متواصل في بعض أجزاء العرض فإن ذلك يوحي في حد ذاته بالتعبير عن سحق الأرواح الشريرة القابعة تحت الأرض. إنطلاقاً من وجهة النظر هذه، نرى أن الخطوات الأنزلاقية (Suri-ashi) في مسرحيات "نو" يمكن أعتبارها حركات تمهيدية للبدأ في الضرب. وهكذا، وحسب أوريغاتشي، فإن جوهر الرقص التقليدي الياباني هو المشي والتجوال فوق خشبة المسرح والذي كان يعبّر أصلاً عن تطهير المكان من الأرواح الشريرة عبر ضرب الأرض بالأقدام بقوة محاولة لسحق تلك الأرواح القابعة تحت سطح الأرض. إن سلسلة الحركات في تدريباتي تتكون من شدّ الجسد بأكمله بقوة وإحكام وتكثيف وتركيز القوة في منطقة الورك، ثم الضرب على الأرض بنفس الإيقاع المتواصل، وبعدها السقوط على الأرض والأستلقاء دون حراك، ثم النهوض ثانية وفق الموسيقى، تماماً مثل الدمية التي تتحرك بواسطة الأسلاك، عن طريق نشر قوة ساكنة في كل أنحاء الجسد. وكل ذلك يتحقق بواسطة التبّدل النوعي التام لما يمكن أن نسميه بـ "الجسد الأعتيادي الخام الخامل وغير المّركز". لهذا السبب نرى الكثير من المبتدئين يشعرون أنهم مجبرون بشكل آلي على الحركة، وأن الفوارق الطفيفة والرقيقة لأجسادهم تكاد تتلاشى شيئاً فشيئاً. وفقاً لخبرتي في إعطاء هذه التدريبات،لاحظت أن الممثلين الأمريكيين المولعين بالتمثيل الواقعي، يميلون على الدوام لشعور كهذا. فعلى الرغم من أنهم يبتدئون في الضرب على الأرض بأقدامهم بنشاط وجديّة، إلا أنهم سرعان ما يفقدون تركيزهم، ومن ثم ترتخي أجسادهم وتنحّل. ثمة شيء آخر وهو أن البعض من الناس ممن شاهد تدريباتي إعتبرها يابانية صرفة حالاً, قائلين أنها لاتتلائم مع الممثلين الأمريكيين!.. لماذا؟ لأن سيقانهم طويلة مقارنة مع اليابانيين!. الواقع أن المسألة ليست لها علاقة بسيقان طويلة وسيقان قصيرة أو قدرة على الأحتمال، إنما المسألة لها علاقة بأكتشاف الأحساس الداخلي الجسدي الملموس، أو بتمييز ومعرفة الذاكرة الفطرية العميقة والداخلية وعلاقتها بالجسد الأنساني. بكلمات أخرى، إن الموضوع كله متعلق بالقدرة على الكشف عن هذا الأحساس الجسدي العميق ومنحه حرية الحركة كاملة. من هنا يمكن القول ليس بالضرورة أن الممثلين اليابانيين وحدهم فقط بإمكانهم إستيعاب الهدف من تمريناتي، فيما الآخرين لا. إن ضرب الأقدام على الأرض، سواء كان ذلك في أوربا أو في اليابان، هو حركة جسدية كونية شاملة ضرورية لنا جميعاً، الهدف منها أن نحس بأجسادنا بشكل مثير ومتميز، أو لكي نخلق أو نبتكر الحّيز المتـَخيّل والذي يمكن لنا أيضاً أن نسميه بـ "الحّيز الطقسي أو الشعائري"، هناك حيث يمكننا أن نحقق التحّول الشخصي أو الذاتي. إليكترا سوفوكليس إن ضرب الأرض أو ركلها بالأقدام كان قد نشأ وتأصل في الطقوس اليابانية القديمة، فقد ذكر الأنثروبولوجي أوريغاتشي في كتابه الشهير (ستة محاضرات في تأريخ فنون الأداء اليابانية القديمة) من أن "الطقس الأستهلالي للحائط الحجري المقدس في "أسطورة الخلق" اليابانية، هو بمثابة الجذر الأساسي للرقص البوذي المقدس (Kagura)..". وقد تحدّث أوريغاشي أيضاً عن الرقص الأيقاعي الذي يهّدىء الأرواح والذي تؤدي رقصته الإلهة "آمينو أوزامينو ميكوتا" التي تدور حول حوض غسيل خشبي وتضرب قاعه بنهاية عصا، بشكل إيقاعي. يقول أوريغاتشي: "... ربما يرمز حوض الغسيل هنا إلى الأرض أو قاعها. وإن ضرب الإلهة آمينو لقاع الحوض بالعصا، وهي تطلق صيحاتها عالياً، ماهي إلا سلسلة من الأفعال، الغرض منها إيقاظ النفس أو الروح، التي يُعتقد أنها كانت تختبىء أو ترقد تحت ذلك الحوض، من أجل إرسالها إلى الجسد المقدّس الغير مرئي للأله المجاور.". يستنتج أوريغاتشي أن الغرض من فعل الضرب والركل هذا، ليس هدفه بالضرورة سحق وقمع الأعداء الأشرار، بل لإيقاظ وأستثارة طاقاتهم، لغرض الإفادة منها في تنشيط حياة الأنسان. وكنتيجة، فإن ذلك التأثير هو مشابه لتأثير التعويذة التي تقول أنه عن طريق إمتلاك روح الشرير يمكن التغلب عليه. لذا فإن حقيقة ضرب ممثلي مسرح "نـو" و"كابوكي" لأرضية المسرح بأقدامهم، ماهو إلا ممارسة عملية لهذا التقليد. معروف أن المسارح اليابانية القديمة كانت تشّيد فوق الروابي والقبور، هناك حيث ترقد أرواح الموتى، كما كان يُعتقد. وهذا مادفع الناس، حتى وقتنا الراهن، إلى ممارسة فعل أصبح عادة، وهو حفر تجويف في الأرض، أو دفن وعاء فيها قبل تشييد مسرح "نـو" فوقها، والغرض من ذلك، هو ليس فقط لخلق تأثيرات تقنية، بدعوى أن الأرض المجّوفة عادة تخلق صدىً قوياً لصوت الضربة، بل هو مجرد إجراء لخلق وهم يستطيع من خلاله الممثل أن يستحضر في ذهنه أرواح الأرض أو أرواح الأسلاف الذين يعودون إلى الأرض، بغية إمتلاك طاقاتهم. أما الرنين الذي يحدثه صوت الضرب على الأرض فهو بلاشك يقوي ويعزز بدوره الإحساس الجسدي في الأستجابة لتلك الأرواح. إن وهماً كهذا يعتبر حتى يومنا هذا بمثابة عنصر ضروري جداً للممثلين وهم على خشبة المسرح، وهو أن طاقة الأرواح يمكن الأحساس بها عن طريق الأقدام لغرض تنشيط فعالية أجسادنا، والذي هو أكثر الأوهام طبيعية وقيمة للكائنات البشرية. من هنا يمكن الجزم بأن سر قدسية مسرح "نـو" تكمن في مواصلته على تغذية وإنعاش هذه الفكرة حتى يومنا هذا. أن القبور والروابي يمكن أعتبارها حقاً بمثابة الأرحام التي وُلدنا منها. بهذا المعنى المجازي، يمكن أن تصبح الأرض هي (الأم) نفسها. بوسع الممثلين أن يلعبوا أدوارهم بأفتراض أنهم يرتبطون بالبشرية جمعاء، بأعتبارها ذوات موّحَدة ومتكاملة، ومن المحتمل جداً أن النصف السفلي للجسد وليس نصفه العلوي، هو الذي يمكن من خلاله التعبير بشكل أكثر وعياً عن الأحساس الجسدي، الأحساس العام المشترك لكل الأجناس البشرية. ولكي نكون أكثر دقة وتحديداً نقول ليس النصف السفلي كله، بل القدمان!. الأقدام هي الجزء المتبقي من الجسد الأنساني الذي ظل على إتصال بالأرض، وهي الداعم الرئيسي لجميع أنشطة البشر.
http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphLibrary/2007/6/239176.htm
|
|
|
|
|
|