الثقافة هي الجسد ( الي اهل المسرح )

الثقافة هي الجسد ( الي اهل المسرح )


06-18-2007, 05:41 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=337&msg=1193136963&rn=0


Post: #1
Title: الثقافة هي الجسد ( الي اهل المسرح )
Author: Sabri Elshareef
Date: 06-18-2007, 05:41 PM


نص محاضرة للبرفيسور تاداشي سوزوكي
ترجمة علي كامل







إن الهدف الرئيسي لمنهجي هو رفع وتعميق القدرات التعبيرية الفطرية لدى الممثل والسعي إلى تطويرها من خلال الكشف عن الأحساس المُدرَك جسدياً ومحاولة إبرازه إلى منهج سوزوكي في تدريب الممثـّل
السطح، وأعني بالأحساس المدرك جسدياً، هو ذلك الأحساس الذي كان يمتلكه الممثل أو المؤدي أصلاً قبل أن يحرز المسرح أساليب عروضه المنظمّة والمصنفة منهجياً.
لقد تزامن بدء تفكيري في هذا المنهج والفترة التي كنت فيها منهمكاً في البحث عن طرق لفحص وتحليل درجات إختلاف الأدراك الجسدي بين أشخاص متباينين، إختلافات كتلك التي نجدها أثناء تواجد الممثلين على خشبة المسرح، سواء كانوا في حالة سكون كامل، أو في حالة حركة، أو عبر شروعهم بفعل ما. كان هدفي من ذلك جمع تلك التباينات ومن بعد توحيدها في شيء يمكننا نحن البشر جميعاً أن نتقاسمه كخاصية مشتركة بيننا بعيداً عن كل تبايناتنا العرقية أوالقومية.
لقد أحسست في المقام الأول، بضرورة البحث عن العلاقة المباشرة والمحددة لأحاسيسنا أو مشاعرنا إزاء الأرض التي نقف أو نسير عليها، وأعني بالتحديد جاذبيتنا نحو الأرض
مسرحية ماكبث
التي يتحسسها النصف الأسفل من جسدنا.
لقد إستخلصت أخيراً بعض الطرق الأساسية لأستخدام الجسد بوصفه وعاء يحوي مشاعر مُدرَكة تختلف بعضها عن بعض بشكل طفيف. وهكذا، ولأجل صياغة منهجي شرعت في تنظيم وتنسيق تلك الأختلافات الطفيفة.
تقنياً، يتألف منهجي من مجموعة من التمرينات تتعلق بكيفية تعّلم النطق والألقاء بحيوية وصفاء، وكذلك تعّلم كيفية جعل الجسد كله ينطق، حتى وإن كان الممثل صامتاً!. بهذه الوسيلة، يستطيع الممثل أن يتعّلم أفضل الطرق لوجوده على خشبة المسرح.
لقد أردت من خلال التطبيق العملي لهذا المنهج أن أمنح الممثل فرصة لأظهار القابليات التعبيرية لجسده، وأيضاً القدرة على التحّكم بذاكرته وقوة تركيزه.
بأختصار، إن هذه التمرينات، إذا جاز لي القول، هي بمثابة قواعد لغوية ضرورية لترجمة صورة المسرح الذي في مخيلتي وتجسيده مادياً.
أما الشيء الأكثر جاذبية في الأمر فهو إن هذه القواعد ينبغي أن تستوعب داخل نطاق الجسد كما لو أنها غريزة ثانية، تماماً مثلما لايمكنك الأستمتاع بالمحادثة اليومية من دون أن تكون ملمّـاً بقواعد فن الكلام.
ينبغي لهذه التقنيات أن تدرس وتطوّع لحين أن تصبح قيد الأستخدام كما لو أنها "فرضية جاهزة للعمل"، ليتمكن الممثلون وقتها من الأحساس حقاً أنهم شخصيات وهمية أو تخييلية على خشبة المسرح.

مسرحية ديونيزيوس
ولكي يدرك الممثلون الصور الذهنية أو الشخصيات التخييلية التي يسعون إلى تجسيدها على المسرح، ينبغي لهم أن يُظهروا ويطوروا هذا الأحساس الأساسي، وأعني به الأحساس المُدرك جسدياً.

إن المجتمع "المثقف" من وجهة نظري، هو المجتمع الذي تستخدم فيه القدرات التعبيرية والمدرِكة للجسد الأنساني إلى حدودها القصوى، لأنها هي من يزودنا بالوسائل الرئيسية لأقامة الصلات وتبادل الأفكار.
ينبغي التشديد هنا على أنه ليس بالضرورة دائماً أن يكون البلد المتمدن أو المتحضر هو بلداّ مثقفاً. إن الحضارة أو المدنية نشأت وتطورت حقاً بالأرتباط مع تطور وظائف الجسد البشري، ومن الممكن جداً أن ُتفسر على أنها توسيع لتلك الوظائف، أو إمتداد للمَلكات الجسدية كالعيون والآذان واللسان والأيدي والأقدام. فأختراع التلسكوب والميكرسكوب مثلاً، لم يكن سوى محصلة للطموح البشري في مساعيه لرؤية أشياء لاتقوى حاسة البصر العادية عن رؤيتها.
وهكذا فإن التأثير المتراكم لمثل هذه المساعي هو ما يمكن أن نطلق عليه كلمة "حضارة" أو "مدنية" والتي هي ثمرة لتوسيع وإمتداد لتلك المَلكات الجسدية . أما الشيء الذي ينبغي علينا بعد ذلك أخذه في نظر الأعتبار، فهو نوع الطاقة الضرورية لتحقيق طموحات كهذه، وهذا بدوره يقودنا منطقياً إلى التفكير في موضوع الحداثة.

لير
إن المعيار الأساسي للتمييز بين مجتمعات الحداثة ومجتمعات ماقبل الحداثة، حسب بعض السوسيولوجيين الأمريكيين مثلاً، هو نسبة إستخدام الطاقة الحيوانية قياساً بالطاقة غير الحيوانية في تلك المجتمعات.
(المقصود بالطاقة الحيوانية هنا، هي تلك التي يبذلها الأنسان والحيوان، أما الطاقة غير الحيوانية، فالمقصود بها الطاقة الكهربية والنووية وماشابه).
لاتوجد سوى وسيلة واحدة لقياس حداثة ذلك البلد من عدمه، وهي حساب حجم الطاقة غيرالحيوانية المستخدم في مجرى عملية الأنتاج لذلك البلد.
من هنا، يمكن القول، وبشكل تقريبي، أن البلدان الأفريقية والكثير من البلدان الشرقية، على سبيل المثال، والتي عادة ما تكون نسبة أستخدام الطاقة الحيوانية فيها عالية جداً، هي مجتمعات ما قبل الحداثة مقارنة ببلدان متقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان مثلاً، حيث الطاقة فيهما تشتق من البترول والكهرباء والقدرة النووية، والتي تستخدم عادة في كل عمليات الأنتاج.
لو طبقنا الآن وجهة النظر هذه على المسرح فسنلاحظ في هذه الحال أن كل المسارح المعاصرة هي مسارح "حديثة" ذلك لأنها تستخدم الطاقة غير الحيوانية إلى أقصى الحدود. فالأضاءة والمصاعد والرافعات وخشبات المسارح الدوّارة إلخ..، كلها تدار بواسطة الطاقة الكهربية، فضلاً عن دُور العرض نفسها، بدئاً من الأساسات الكونكريتية وإنتهاء بآخر مبتكرات أدوات وعناصر العرض التقنية والفنية، ماهي إلا المحّصلة النهائية لتنوع ميادين النشاط الصناعي .
أما لو أخذنا النموذج الياباني الوحيد الباقي لمسرح ماقبل الحداثة وأعني به مسرح "نـو" لوجدنا أن العملية معكوسة تماماً، أي أن هذا المسرح لم يكن يستخدم الطاقة غير الحيوانية على الأطلاق.
فلنأخذ الموسيقى، على سبيل المثال، ففي المسرح الحديث، تسجل الموسيقى ويعاد إنتاجها عبر عملية التوليف ومكبرات الصوت، فيما نرى أن أصوات الممثل ـ المغني والكورس وصوت الآلات الموسيقية في مسرح "نـو" تؤدّى وُتعزف جميعها بشكل حي لتصل مباشرة إلى الجمهور. أما ملابس وأقنعة هذا المسرح فهي تصنع باليد عادة، بل إن المسرح ذاته قد شيدّ وفقاً للقواعد التقليدية لحرفة النجارة اليابانية القديمة.
أما فيما يتعلق بالإضاءة، فعلى الرغم من إستخدام العروض الحديثة لـمسرح "نـو" للطاقة الكهربائية في توليد تلك الإضاءة (والتي مازلتُ معارضاً لأستخدامها، لأن العروض القديمة كان مصدرها الشموع فقط)، إلا أن الإضاءة الصناعية تلك تستخدم الآن بحدّها الأدنى قياساً بالإضاءة الملونة ذو التقنية العالية الجودة، تلك المستخدمة في المسارح الحديثة.
لقد إنبثق مسرح "نـو" بإدراك روحي لخلق شيء ما عبر جُهد الجسد الأنساني وبراعته، إلى الحد الذي يمكننا أن نصفه، حسب السوسيولوجيين الأميركيين، بأنه خلاصة لمسرح ماقبل الحداثة! لأنه إنتاج إبداعي مصدره الطاقة الحيوانية.
ونظراً لأن على المسرح مجاراة الزمن وإن عليه أن يستخدم الطاقة غير الحيوانية في كل وجه من أوجه نشاطاته، سواء كان ذلك في الغرب أو في اليابان، فإن إحدى أكبر المعضلات التي واجهته هي الأنفصال الواضح لملـَكات الجسد عن الأحساس الجسدي، فمثلما وسّعت الحضارة من وظيفة العين في إختراعها التلسكوب، أسهمت الحداثة في تقويض وتمزيق ملـَكاتنا الجسدية وفصلها تماماً عن ذواتنا الأنسانية.
إن ما أسعى إليه حقاً هو أن أبعث تكامل الجسد الأنساني وسط البيئة المسرحية، ليس عبر العودة إلى الأشكال المسرحية التقليدية لمسرح "نـو" أو مسرح "كابوكي" بل بتوظيف المزايا الأستثنائية لهذين المسرحين من أجل خلق شيء ما، يمكن أن ينقل تجاربنا الحالية في العمل مع الجسد إلى المسرح الحديث.
ما ينبغي لنا القيام به هو أن نعيد لحمة ملـَكاتنا الجسدية التي قوضّت يوماً ما، وأن نستعيد طاقات جسدنا البشري وقدراته التعبيرية والمُدركة. فإذا نجحنا في تحقيق ذلك، نستطيع عندئذ الحفاظ على الثقافة وإستمرارها داخل نطاق الحضارة أو المدنية.
إن منهجي في تدريب الممثل يؤكد بوجه خاص على أهمية "الأقدام" لأنني أعتقد إن إدراك الصلة القائمة بين الجسد والأرض، يقود بدوره إلى إدراك هائل لكل الصلات الفيزيائية الأخرى للجسد.
يتطلب القسم الرئيسي لطريقتي في التدريب أن يضغط الممثل بقدميه على الأرض بشدة وقسوة لفترة محددة من الوقت وفقاً لموسيقى إيقاعية، أو على نحو أدق، السير بشكل دائري وركل الأرض بالقدمين بقوة، في وضعية يكون الجسد فيها شبه جاثم. بعدها، وحال توقفّ الموسيقى، ينبغي على الممثل إرخاء جسده تماماً والأستلقاء على الأرض، شرط أن يكون هذا الأستلقاء ساكناً وهامداً.
وبعد فترة وجيزة ينبغي أن تبدأ الموسيقى ثانية، لكنها يجب أن تكون هذه المرة بطيئة وناعمة. ووفقاً لهذا التغيّر الحاصل في الموسيقى، ينهض الممثل ويقف على قدميه ببطء، بأية طريقة يشاء، منتصباً بشكل عمودي، عودة ً إلى وضعه الطبيعي السابق.
يتضمن هذا التمرين في الواقع حركتين متعاكستين، إحداهما ديناميكية والأخرى ساكنة، أي، حركة وسكون، سكون وحركة. بكلمة أخرى، إنها عملية إطلاق وكبح متناوب للطاقة الجسدية. الهدف من هذا التمرين في الواقع هو إظهار قوة التركيز على الجسد عبر التحّكم في عملية التـنفس.
إن المغزى الرئيسي للنصف الأول من هذا التمرين هو المحافظة على إستئناف ضرب الأقدام على الأرض بقوة دون إحداث أي أهتزاز للنصف العلوي من الجسد. أما إذا فقد الممثل تركيز إحساسه على قدميه وساقيه ووركه، والتي ينبغي لها أن تكون قد خضعت لمران جيد وصارم، عندئذ يصبح من الصعب عليه الأستمرار في الضرب على الأرض بشكل متماسك ومتناسق مهما أوتي من قوة ونشاط.
فضلاً عن ذلك، أنه بدون طاقة روحية وإرادة في التحكم في عملية التنفس، فأن النصف العلوي للجسد سيبدأ حتماً في التأرجح تدريجياً، ومن ثم سيفقد إيقاع الضربات هارمونيته.
نقطة أخرى مهمة هي إذا ضرب الممثل الأرض بقدم واحدة، فإن قوة الضرب تلك ستؤثر بشكل طبيعي على النصف العلوي من الجسد وتجعله يهتز.
إن ما أثار إنتباهي خلال التدريب مع الممثلين وهم يضربون الأرض باقدامهم بعنف وقوة هو أن ردة الفعل تتجه آلياً نحو الأعلى. بمعنى، أنهم كلما ركلوا الأرض بشكل أكثر قوة، كلما بدأ الجزء الأعلى من أجسادهم يتأرجح أكثر، لذا فإن الطريقة الوحيدة لتخفيف حدة التأرجح تلك إلى حدّها الأدنى يستلزم منهم كبح تلك القوة عبر الورك.
ينبغي على الممثلين وهم يضربون الأرض بأقدامهم أن يدركوا دائماً العلاقة التي تربط النصف السفلي بالنصف العلوي لأجسادهم، هذان النصفان اللذان يدوران معاً على محور واحد هو الورك. إن التشديد على حقيقة أن بنية جسم الأنسان وتوازن القوى التي تساعده تتمحور في المنطقة الحوضية هي ليست بالطبع فكرة خاصة بمنهجي، فهي تستخدم في كل أنواع فنون الأداء تقريباً،
ومع ذلك، أعتقد أنها الشيء الذي يميز منهجي في تدريب الممثل، والتي تستلزم من الممثلين قبل كل شيء، أن يحسوا تلك المنطقة بوعي تام عن طريق ركل الأرض بأقدامهم وضربها بقوة. إن منشأ هذا مصدره إعتقادي الراسخ أن الأحساس الجسدي الرئيسي لأي ممثل مسرحي يتوقف كله على أقدامه!. المصيبة أننا نميل دائماً في حياتنا اليومية إلى التغاضي عن أهمية الأقدام، في حين أن الشيء الهام والضروري يتطلب منا أن ندرك جيداً أن الجسد الأنساني يقيم صلته بالأرض فقط عن طريق القدمين، وأن الأرض والجسد هما شيئان غير منفصلين، وأن الثاني هو جزء من الأول. بمعنى آخر، أننا حين نموت سنعود ثانية إلى الأرض. ينبغي علينا ان نجعل من الجسد، الذي هو عادة ما يقيم مثل هذه الصلة مع الأرض بشكل غير واع ٍ، أن يدرك هذه الحقيقة عن طريق خلق إحساس قوي لوقع التأثير أو الصدمة خلال ضرب الأرض بالأقدام.
قيل أن فكرتي هذه هي فكرة يابانية بحتة، إلا أن ذلك غير صحيح. فحتى الباليه الأوربي الكلاسيكي الذي يبدو فيه أن هدف الراقصين من القفز نحو الأعلى ما هو إلا لغرض التحليق في الهواء، إلا أن الأحساس الجسدي الرئيسي يتكون من خلال الأحساس بالجاذبية نحو الأرض.
مرة أخرى نرى في الأشكال المسرحية التقليدية اليابانية "نـو" و"كابوكي" أن توازن القوتين الموجَهتين، أعني تلك التي تتجه إلى السماء، صوب القمم، والأخرى صوب الأرض بإتجاه الأعماق، هي مسألة جوهرية جداً في التعبير الجسدي. ففي الأشكال المسرحية التقليدية اليابانية نرى أن هاتين القوتين تكونان متعاكستين في وجهتيهما، إحداهما أزاء الأخرى، إلا أنهما تلتقيان في المنطقة الحوضية، ومن هاتين الحركتين أو الأتجاهين تنشأ الطاقة لتشع فيما بعد بشكل أفقي.
وهكذا، فإن محاولة النصف العلوي من الجسد للتحليق في الهواء، والنصف السفلي للغوص نحو القاع، ماهي إلا عملية موازنة لهذه الحركة، وبناء على ذلك يتضاعف الأحساس
مسرحية تشيخوف
أكثر بأن القدمين راسختان بثبات على الأرض، وهذا ما يُرمز له بحركات مثل:Suri-ashi) ) أي الخطوات الأنزلاقية، أو ( (Ashi-byoshi أي السير والضرب على الأرض بالأقدام. هاتان الحركتان اللتان تعبّران عن الصلة أو الأنجذاب نحو الأرض.
لقد وجد الأنثروبولوجي الياباني الشهير شينوبو أوريغاتشي Shinobu Origuchi في دراسته لفنون الأداء اليابانية، أن المؤدّين أو الممثلين حين يركلوا الأرض بأقدامهم بشكل متواصل في بعض أجزاء العرض فإن ذلك يوحي في حد ذاته بالتعبير عن سحق الأرواح الشريرة القابعة تحت الأرض. إنطلاقاً من وجهة النظر هذه، نرى أن الخطوات الأنزلاقية (Suri-ashi) في مسرحيات "نو" يمكن أعتبارها حركات تمهيدية للبدأ في الضرب.
وهكذا، وحسب أوريغاتشي، فإن جوهر الرقص التقليدي الياباني هو المشي والتجوال فوق خشبة المسرح والذي كان يعبّر أصلاً عن تطهير المكان من الأرواح الشريرة عبر ضرب الأرض بالأقدام بقوة محاولة لسحق تلك الأرواح القابعة تحت سطح الأرض.
إن سلسلة الحركات في تدريباتي تتكون من شدّ الجسد بأكمله بقوة وإحكام وتكثيف وتركيز القوة في منطقة الورك، ثم الضرب على الأرض بنفس الإيقاع المتواصل، وبعدها السقوط على الأرض والأستلقاء دون حراك، ثم النهوض ثانية وفق الموسيقى، تماماً مثل الدمية التي تتحرك بواسطة الأسلاك، عن طريق نشر قوة ساكنة في كل أنحاء الجسد. وكل ذلك يتحقق بواسطة التبّدل النوعي التام لما يمكن أن نسميه بـ "الجسد الأعتيادي الخام الخامل وغير المّركز". لهذا السبب نرى الكثير من المبتدئين يشعرون أنهم مجبرون بشكل آلي على الحركة، وأن الفوارق الطفيفة والرقيقة لأجسادهم تكاد تتلاشى شيئاً فشيئاً.
وفقاً لخبرتي في إعطاء هذه التدريبات،لاحظت أن الممثلين الأمريكيين المولعين بالتمثيل الواقعي، يميلون على الدوام لشعور كهذا. فعلى الرغم من أنهم يبتدئون في الضرب على الأرض بأقدامهم بنشاط وجديّة، إلا أنهم سرعان ما يفقدون تركيزهم، ومن ثم ترتخي أجسادهم وتنحّل. ثمة شيء آخر وهو أن البعض من الناس ممن شاهد تدريباتي إعتبرها يابانية صرفة حالاً, قائلين أنها لاتتلائم مع الممثلين الأمريكيين!.. لماذا؟ لأن سيقانهم طويلة مقارنة مع اليابانيين!.
الواقع أن المسألة ليست لها علاقة بسيقان طويلة وسيقان قصيرة أو قدرة على الأحتمال، إنما المسألة لها علاقة بأكتشاف الأحساس الداخلي الجسدي الملموس، أو بتمييز ومعرفة الذاكرة الفطرية العميقة والداخلية وعلاقتها بالجسد الأنساني. بكلمات أخرى، إن الموضوع كله متعلق بالقدرة على الكشف عن هذا الأحساس الجسدي العميق ومنحه حرية الحركة كاملة. من هنا يمكن القول ليس بالضرورة أن الممثلين اليابانيين وحدهم فقط بإمكانهم إستيعاب الهدف من تمريناتي، فيما الآخرين لا.
إن ضرب الأقدام على الأرض، سواء كان ذلك في أوربا أو في اليابان، هو حركة جسدية كونية شاملة ضرورية لنا جميعاً، الهدف منها أن نحس بأجسادنا بشكل مثير ومتميز، أو لكي نخلق أو نبتكر الحّيز المتـَخيّل والذي يمكن لنا أيضاً أن نسميه بـ "الحّيز الطقسي أو الشعائري"، هناك حيث يمكننا أن نحقق التحّول الشخصي أو الذاتي.
إليكترا سوفوكليس
إن ضرب الأرض أو ركلها بالأقدام كان قد نشأ وتأصل في الطقوس اليابانية القديمة، فقد ذكر الأنثروبولوجي أوريغاتشي في كتابه الشهير (ستة محاضرات في تأريخ فنون الأداء اليابانية القديمة) من أن "الطقس الأستهلالي للحائط الحجري المقدس في "أسطورة الخلق" اليابانية، هو بمثابة الجذر الأساسي للرقص البوذي المقدس (Kagura)..". وقد تحدّث أوريغاشي أيضاً عن الرقص الأيقاعي الذي يهّدىء الأرواح والذي تؤدي رقصته الإلهة "آمينو أوزامينو ميكوتا" التي تدور حول حوض غسيل خشبي وتضرب قاعه بنهاية عصا، بشكل إيقاعي. يقول أوريغاتشي:
"... ربما يرمز حوض الغسيل هنا إلى الأرض أو قاعها. وإن ضرب الإلهة آمينو لقاع الحوض بالعصا، وهي تطلق صيحاتها عالياً، ماهي إلا سلسلة من الأفعال، الغرض منها إيقاظ النفس أو الروح، التي يُعتقد أنها كانت تختبىء أو ترقد تحت ذلك الحوض، من أجل إرسالها إلى الجسد المقدّس الغير مرئي للأله المجاور.". يستنتج أوريغاتشي أن الغرض من فعل الضرب والركل هذا، ليس هدفه بالضرورة سحق وقمع الأعداء الأشرار، بل لإيقاظ وأستثارة طاقاتهم، لغرض الإفادة منها في تنشيط حياة الأنسان.
وكنتيجة، فإن ذلك التأثير هو مشابه لتأثير التعويذة التي تقول أنه عن طريق إمتلاك روح الشرير يمكن التغلب عليه.
لذا فإن حقيقة ضرب ممثلي مسرح "نـو" و"كابوكي" لأرضية المسرح بأقدامهم، ماهو إلا ممارسة عملية لهذا التقليد.
معروف أن المسارح اليابانية القديمة كانت تشّيد فوق الروابي والقبور، هناك حيث ترقد أرواح الموتى، كما كان يُعتقد. وهذا مادفع الناس، حتى وقتنا الراهن، إلى ممارسة فعل أصبح عادة، وهو حفر تجويف في الأرض، أو دفن وعاء فيها قبل تشييد مسرح "نـو" فوقها، والغرض من ذلك، هو ليس فقط لخلق تأثيرات تقنية، بدعوى أن الأرض المجّوفة عادة تخلق صدىً قوياً لصوت الضربة، بل هو مجرد إجراء لخلق وهم يستطيع من خلاله الممثل أن يستحضر في ذهنه أرواح الأرض أو أرواح الأسلاف الذين يعودون إلى الأرض، بغية إمتلاك طاقاتهم. أما الرنين الذي يحدثه صوت الضرب على الأرض فهو بلاشك يقوي ويعزز بدوره الإحساس الجسدي في الأستجابة لتلك الأرواح.
إن وهماً كهذا يعتبر حتى يومنا هذا بمثابة عنصر ضروري جداً للممثلين وهم على خشبة المسرح، وهو أن طاقة الأرواح يمكن الأحساس بها عن طريق الأقدام لغرض تنشيط فعالية أجسادنا، والذي هو أكثر الأوهام طبيعية وقيمة للكائنات البشرية.
من هنا يمكن الجزم بأن سر قدسية مسرح "نـو" تكمن في مواصلته على تغذية وإنعاش هذه الفكرة حتى يومنا هذا.
أن القبور والروابي يمكن أعتبارها حقاً بمثابة الأرحام التي وُلدنا منها. بهذا المعنى المجازي، يمكن أن تصبح الأرض هي (الأم) نفسها. بوسع الممثلين أن يلعبوا أدوارهم بأفتراض أنهم يرتبطون بالبشرية جمعاء، بأعتبارها ذوات موّحَدة ومتكاملة، ومن المحتمل جداً أن النصف السفلي للجسد وليس نصفه العلوي، هو الذي يمكن من خلاله التعبير بشكل أكثر وعياً عن الأحساس الجسدي، الأحساس العام المشترك لكل الأجناس البشرية. ولكي نكون أكثر دقة وتحديداً نقول ليس النصف السفلي كله، بل القدمان!. الأقدام هي الجزء المتبقي من الجسد الأنساني الذي ظل على إتصال بالأرض، وهي الداعم الرئيسي لجميع أنشطة البشر.




http://www.elaph.com/ElaphWeb/ElaphLibrary/2007/6/239176.htm

Post: #2
Title: Re: الثقافة هي الجسد ( الي اهل المسرح )
Author: Sabri Elshareef
Date: 06-18-2007, 05:45 PM
Parent: #1

منهج سوزوكي في تدريب المّمثل
(علي كامل )




العالم هو بمثابة مشفى للأمراض العقلية، نحن جميعاً نزلاؤه!. هذا الأعتقاد كان وما يزال هو القوة المحركة أبداً لعملية الخلق في مسرحي". تاداشي سوزوكي

مدخل موجز لحياته وعمله

ولد تاداشي سوزوكي عام 1939 في مرفا مدينة شيميز في مقاطعة شيزوكا Shizuoka اليابانية، وترعرع في منزل كانت تسمع فيه الموسيقى الغربية الكلاسيكية على الأرجح مثلما كانت ُتسمع الأغاني التقليدية لمسرح الدمى. إنضم إلى جامعة طوكيو "واسيدا" عام 1958 لدراسة علم الأقتصاد السياسي، وتخرج منها عام 1964 بعد أن ترك أثراً مميزاً وسط أقرانه وأساتذته بما عُرف عن شخصيته المولعة بالجدل وبأفكاره اليسارية المشتعلة غضباً. في غضون فترة دراسته الجامعية تلك إنضم إلى النادي المسرحي التابع للجامعة والمسمى "مسرح واسيدا الحر" WFS (Waseda Free Stage) حيث إنهمك يومها في دراسة منهج ستانسلافسكي وقام بإخراج بعض النصوص اليسارية المترجمة عن مؤلفين روس.

1960ـ 1961 أصبح سوزوكي رئيساً للجنة المسرح الحر مشدداً على الهموم الفنية أسوة بالهموم السياسية، وأخرج خمسة نصوص، ثلاث منها لآرثر ميللر وتشيخوف وسارتر، وإثنان لزميله في النادي المسرحي الكاتب مينورا بيتسوياكو Minoru Betsuyaku. وكانت نصوص كتابّ مسرح اللامعقول "يونسكو، أداموف، أرابال وأدوارد ألبي" يومها قد ألهبت مخيلته لاسيما في إستخدامها تقنيات تجريبية في ما يتعلق بعنصري المكان والزمان المسرحيين.
شّكل سوزوكي وبتيسوياكو فرقتهما المسرحية عام 1961 وكانت الفرقة هي جزءاً من تلك الفترة المزهرة التي كانت تدعى بـ (المسرح السري).
كان سوزوكي يبحث عن طريقة للفرار من واقعية مسرح شينجيكي المعاصر ذو التأثيرات الغربية، وقد إستطاع أن يبلور أسلوبا أكثر تخييلية ونأياً عن الواقعية.
نصوص بيتسوياكو المتضمنة لغة مبتكرة وتلميحية، والطريقة الأخراجية لسوزوكي المعتمدة على تفجير الطاقة الجسدية إتحدتا معاً لخلق توليفة جديدة أثارت الانتباه للفترة مابين 1962 ـ 1967 وهي الفترة التي أخرج فيها سوزوكي خمس مسرحيات لبيتسوياكو لعل مسرحية "الفيل" عام 1962 هي الأشهر.
كان سوزوكي يُخرج، وبشكل متواز، مسرحيات قديمة ومعاصرة، ومن هذه الأخيرة "عربة إسمها الرغبة" لتنيسي وليمز عام 1967.
في العام 1966 إستبدل سوزوكي إسم فرقته المسرحية بتسمية جديدة أخرى حملت إسم (فرقة مسرح واسيدا الصغير) مدشناً ريبورتوارها بنص لبيتسوياكو بعنوان "البوابة"، وبعدها في ذات العام أخرج للكاتب نفسه مسرحية "زواج الطفلة الصغيرة" العرض الذي حقق نجاحاً كبيراً للكاتب والمخرج على حد سواء. يومها شرعا معاً في تشييد إستوديوهما المسرحي الصغير على سطح مقهى طوكيو والذي كان يضم 120 كرسي. كان الأستديو صغير جداً ومن دون ستائر أو أجنحة وبخشبة مسرح من الطراز القديم، إستخدمت مداخله السفلى كأجنحة مركزية.
سعى سوزوكي منذ تلك الفترة إلى تجنب الكثير من الخدع المسرحية جاعلاً من الممثلين وسيلة تعبير (جسدية وصوتية) بالقدر الممكن. وقد إرتبط أسلوبه إلى حد ما بإسلوب المسرح الفقير لجروتوفسكي.
لقد إبتدأ سوزوكي التركيز على تأسيس طريقة جديدة ومبتكرة في فن التمثيل. فقد طبق طريقته تلك على نسخ منقحة إقتبسها من القصص اليابانية القديمة ونصوص جديدة لكتاب الأفانغارد اليابان أمثال ماكوتو ساتو وجورو كارا.
لقد أراد سوزوكي أن يحل بدل النص المنطلق من واقعية شينجيكي Shin-Geki، مسرحاً مركزه الممثل المّفكر والجّيد التأسيس والذي تخضع أفكاره إلى الكثير من التعديلات المتنوعة.
لقد بدأ في أواخر الستينات يؤمن بأن التمثيل يعني مواجهة الممثل لقدراته التعبيرية الذاتية، وليس لتفسير أو ترجمة النص المسرحي للكاتب.
تحت تأثير نفوذ الفلسفة الوجودية كان سوزوكي فسر سلوك الممثل في مواجهته للمتفرج إلى أنه نوع من إثبات الذات. فمن خلال تلك المواجهة بين الممثل والمتفرج، يكتشف الأثنان إنسانيتهما المشتركة المثقلة بالخراب والأسى.
النموذج الأول والرئيسي لأسلوبه المبتكر كان عمله الخاص "آنذاك،آنذاك ماذا بعد ذلك؟" وهو نص مسرحي ساتيري لمسرح الكابوكي الشعبي والذي أعدّ لغرض إظهار المناهج المضادة لمنهج ستانسلافسكي، وقد تضمن عرضه إستخدام الأعلانات التوضيحية التي تفوح منها النكهة البريختية.

لقد أنجزت فرقة سوزوكي العديد من العروض التجريبية والمرتجلة معتمدة على مواد إستمدت من المسرحيات الغربية واليابانية الحديثة وكذلك من الكابوكي علاوة على الأدب غير الدرامي، إلا أن مسرح الكابوكي، على وجه الحصر، كان قد ترك تأثيراً كبيراً وحاسماً على أعمال المخرج السابقة واللاحقة.
كان الأرتجال الهدف منه ليس التعبير عما أراده المؤلفين عبر حواراتهم، إنما وظف لغرض إرتباط الممثلين بكلمات ذلك النص على المستوى مادون الوعي. بناءاً على ذلك فإن الكلمات والطرق التي يُجسد فيها ذلك النص في مجرى العملية، تتخذ دلالات جديدة وغير متوقعة.
سوزوكي يعتقد أن مهمة المخرج وعملية الأخراج معاً هدفهما مساعدة الممثلين للتعبير عن علاقتهم الشخصية بالدور عبر العثور على طرائق مبتكرة حية تجعل أرواحهم الخلاقة من الداخل تتبنيّ وتستوعب مغزى نتائج تلك التمرينات بإستخدام نهج أستعير من السورياليين يسمى بـ (التشويش) يجري بمقتضاه جمع تلك التمرينات وتشكيلها داخل كولاجات درامية إدائية.

النموذج الأول عبر عنه من خلال التحليل الفولكلوري لمسرحية غوركي "الحضيض" أو "الأعماق السحيقة" 1968، والذي يجسد فيه سكنة حضيض غوركي شخصيات نزلاء ملجأ يمثلون مشاهد درامية لغرض التسلية، تسلية أنفسهم بالطبع.
الممثل هنا يحتل الأولوية بالطبع مقارنة بالنص المسرحي، لذا فالمنجز التمثيلي المتعدد والمركب كان معروضاً على الأنظار.
ـ الشيء المثير للدهشة والأعجاب كان عمله (الآلام الدراماتيكية للسيد المسيح ج1) عام 1969 وهو عبارة عن كولاج لمشاهد شهيرة أخذت من مصادر مسرحية غربية وكابوكية نظمت بطراز سوريالي يفتقر إلى الشكل، والذي هو رغم ذلك يبقى ملتحماً ومتماسكاً من خلال إرتباطه بالوضعية المركزية، حيث تنتقل تلك المشاهد من بيئاتها الأصلية إلى بيئات جديدة تبتكر تحت توجيه سوزوكي.
الديالوج غالباً ما يتعارض أو يتباين مع السلوك، خالقاً إحساساً أو مغزى من التشويش واللامنطق، إلا إنه في ذات الوقت يُنتج قوة من الأدراك وعمق البصيرة.
كايوكا شايراشي الممثلة التي مثلت في هذا العمل والذي كان هذا العرض هو الأول الذي رسم ملامح مميزة لها، أصبحت مثالاً لأمكانيات منهج سوزوكي، حيث كان لطاقاتها الصوتية والجسدية والعاطفية وقعاً مادعى النقاد العالميين إعتبارها واحدة من أعظم الممثلات في العالم!.

ـ تابع سوزوكي عام 1970 الجزء الثاني من عمله (الآلام الدراماتيكية للسيد المسيح) والتي لعبت فيها كايوكا شايراشي دور إمراة مجنونة تتخيل نفسها وقد تحولت في أوضاع درامية متنوعة من مسرحيات الكابوكي.
(لابد من التنويه هنا من أن الشخصيات المجنونة تتكرر في أعمال سوزوكي، وإن نزعاتهم من أجل لعب الأدوار يقدم الأساس المنطقي للمشاهد الدرامية الممزوجة والمتعددة الأشكال).

كانت فرقة "مسرح واسيدا الصغير" دعيت لحضور المهرجان الوطني للمسرح في باريس بدعوة من رئيس المهرجان جان لوي بارو والذي من خلاله إستطاع ممثلو سوزوكي إحراز شهرة عالمية واسعة. أما سوزوكي فقد بوغت بـحقيقة أن "المسرح المعاصر"، وهو المسرح الخاص بجان لوي بارو، كان يقع في المنطقة السكنية للمشاهدين، مما دفعه وشجعه على البحث عن مكان شبيه له في اليابان لبناء مسرحه. وهكذا وفي عام 1976 شيّد سوزوكي مسرحه في منزل مصنوع من القش في مزرعة تقع في قرية جبلية صغيرة ونائية في ولاية تويمان تدعى "توغو"، هناك حيث أقام مركزه الرئيسي والذي يبعد عن العاصمة طوكيو حوالي 400 ميل. قراره هذا واقع الأمر كشف عن ضرورة أخرى وهي أن المسارح اليابانية ينبغي بل ويمكن أن تشيّد في القرى والأرياف وليس بالضرورة أن تكون متمركزاة في العاصمة، على الرغم من أن فرقته التي أعيد تأسيسها عام 1980 كانت إتخذت من العاصمة طوكيو مقراً لها.
العرض الأول الذي دشن به سوزوكي مسرحه الريفي آنذاك هو الجزء الأول من كولاج "المساء والمأدبة" وهو عبارة عن مواد مزيجة من تشيخوف وبيكيت ويوربيدس.

قام سوزوكي عام 1982 بتأسيس مهرجان المسرح العالمي (توغو) الذي صار يأمّه الكثير من الفنانين المعروفين في العالم سنوياً، وكان البيت الذي يقع في المزرعة هو عبارة عن مسرح خشبي جميل يحتوي على مائتي مقعد سمي بـ (مسرح توغو سامبو) وهو شبيه إلى حد ما بمسرح نـو، والذي توسع فيما بعد ليحاط ببحيرة من كل جانب وهو يستوعب 800 مقعداً. وهذه الأماكن بالنسبة لسوزوكي هي بمثابة أماكن مقدسة وهو الذي كان شيّد مسرحاً يحيط به أهالي قرية توغو.

لقد إنهمك ممثلي سوزوكي في توغو وتحديداً من عام 75 ـ 1980 في تدريب مكثف ومضاعف حسب منهج سوزوكي، تلك الطريقة التي إقتبست الكثير من التقنيات الكلاسية لمسرح نـو وكابوكي فضلاً عن إستفادتها من الفنون القتالية اليابانية وإلتزامها بنظام تدريب صارم للجسد والصوت.

كان من عادة سوزوكي وهو يجري تدريباته مع الممثلين حمل سيف من الخيزران بيده وضربه في الأرض بقوة وقسوة. تقول الممثلة ماريا ميكرسكوف: "سوزوكي شخص صارم، وفي بعض الأحيان إستبدادي، إلا أنه يمكن أن يكون أنيساً مرحاً وعذباً وأقل حّدة وصرامة.
إنه شخصية إنتقادية إلى أبعد الحدود حين يرى عيوباً في التمثيل حتى وإن كانت طفيفة، وهو لايتردد أحياناً في توجيه الشتائم أو الأهانات إلى الممثل، بل ويمكنه أن يصرخ بشكل وحشي.
تمريناته تندمج وتتوحد في سلسلة من العروض المبتكرة أستمد العديد منها من مصادر كلاسية غربية لذا فهي تظهر إندماج أو صهر طرق التمثيل الشرقي بالدراما الغربية. إن التركيز والتشديد ينتقل من إكتشاف الذات إلى براعة الحركة والنطق".(**)
الكلمات، حسب سوزوكي، تتجسد عبر جسد الممثل وليس من خلال مجرى العملية الذهنية. الجسد والصوت ينبغي أن يكونا شيئاً واحداً.
إنه يريد من ممثليه ان يكونوا اشبه بالممسوسين يتماهون تماماً وكهنة الشامان. (***)

إن طريقته تتطلب حركة القدم الواسعة مع جسد يستخدم المركز الأدنى لجاذبية الأرض والأستخدام الكبير لتشكيلة واسعة من الضربات بأخمص القدم والسقطات الحادة وجر القدمين على الأرض والأنزلاقات والرفسات.
لقد كان يطالب أن تكون تمريناته مؤسسة في المقام الأول على الشكل الياباني للحركة، إلا انه صار فيما بعد يعيد تشكيل تمريناته لتأخذ طابعاً شموليا أكثر هذه المرة.
في عروضه تتوحد الحركات مع ديكور بسيط، عروض الواجهة الأمامية، الرقص الإيقاعي، موسيقى النقر التي هي عادة ما تصم الآذان لشدة ضجيجها، ومقدار كبير من السرد الكلامي المتحول إلى مونولوجات طويلة تستخدم سلسلة واسعة من التعبيرات بحدها الأقصى.

لقد طبّق سوزوكي منهجه في العمل على تراجيديات أغريقية مختلفة معيداً تركيبها وتنظيمها من جديد للتعبير بشكل ضمني عن الأفكار ذات الصلة بالموضوعات الأجتماعية. ومع ذلك وعلى الرغم من أمانته لتلك النصوص أو الأصل إلا أنها بدت من خلال موشوره الرؤيوي كما لو أنها مرايا لليابان المعاصرة وللعالم بشكل عام.
لقد أعاد سوزوكي بعث الحياة في بعض النصوص الأغريقية منقحاً إياها بطريقة مبتكرة، أمثال "نساء طروادة" 1974 ليوربيدس، "الباخوسيات" 1978، "كليتمنسترا" 198، "ديونيزيوس" 1990.
"سقوط منزل أتريوس" المعدة عن كليمنسترا عرضت عام 1983 على قاعة المسرح الأمبراطوري ذو الـ 1900 كرسي في طوكيو.
"الباخوسيات" و "كليتمنسترا" قدمتا باللغتين اليابانية والأنكليزية وكان تأثير ذلك جذاباً وهاماً.
العمل الأكثر أهمية من بين جميع أعماله الأغريقية هو "نساء طروادة" التي تعتبر ثيمة مضادة للنزعة القومية والتي عبر عنها سوزوكي بأسلوب المسرحية داخل المسرحية كما هو الحال مع "الباخوسيات".
في النسخة المنقحة والشهيرة لـ "نساء طروادة" لعام 1977 كانت الممثلة كايوكا شيراشي تجسد دور إمرأة عجوز متشردة تسير وسط قنابل الحرب اليابانية الأخيرة ينتابها القلق عبر روح هيكوبا وروح كساندرا.
بتلك الوسيلة إستطاع سوزوكي أن يبلغ المأزق العام والشامل لجنس النساء في تعارضهن مع الحق الذكوري.
ثمة مشهد شهير في هذا العرض هو مشهد إغتصاب أندروماك من قبل ثلاثة من جنود الساموراي العنيفين وتمزيقهم لجسد إبنها (بإستخدام لعبة وحشية ضخمة) أمام الأله الذي كان يجلس في أعلى المسرح مجرداً من أية عاطفة.
العمل إضافة إلى كونه يحكي عن الحرب الأغريقة، كان يحكي أيضاً عن الحرب اليابانية الأخيرة وأي حرب خراب قومية.
عروض "نساء طروادة" و "الباخوسيات" عولجتا كإحتدام ضاري بين الحرية والأستبداد مثلما يحلم بها سجناء سياسيون.



الثقافة هي الجسد

يلعب الجسد في العديد من البلدان الشرقية كأداة نقل لتهذيب الأحاسيس والمدركات الفلسفية والدينية، سواء عبر القواعد أو الطرق التي تنظم الممارسات التأملية والشعائرية أو خلال قواعد العرض المسرحي. وبناء على ذلك تبنى الآسيويين علوم الأساطير التقليدية للجسد ليس بأفتراضهم، ببساطة، بأن الجسد ينفصل فيزيائياً عن الأشكال الأخرى للوجود (وأعني بها الأشكال العاطفية والروحية والفلسفية والكوزمولوجية)، بل، وعلى نحو أدق، يصبح الجسد بالنسبة لهم هو الوعاء الذي يحوي كل هذه الأشكال ممزوجة معاً.
إن جسد الممثل أو (المؤدي) الآسيوي هو جهاز خلاق مشكلّ بنوع يشبه تركيب الآلة الموسيقية، ففي الوقت الذي يستخدم الممثل في الغرب جسده كوسيلة لمحاكاة الواقع أو التعبير عنه، نرى جسد الممثل الآسيوي يصبح الواقع ذاته!. فقط، عبر تكييفه بهذه الطريقة يصبح بإمكان الجسد أن يكون وسيلة إستجابة لأي تباين طفيف مستمد من الفكرة المستوحاة تجعل من الممثل قادراً على الغوص إلى داخل القوة الكونية، والتي تعني في التفكير الآسيوي تفسيراً للحقيقة الباطنية لايقبل الجدل.
منهج سوزوكي يفترض ضمناً فكرة عن الجسد من أنه بمثابة واسطة يستطيع الممثل من خلالها إظهار الوعي والأحساس المفرطين، الذي هو في المحصلة إرتباط سيكوفيزيائي كلي لعقل وروح الجسد في إطار الفعالية.
سوزوكي يعكس بدقة الهدف والفلسفة والمران التي تقف خلف طريقته أو منهجه في التدريب والتي تؤكد على علاقة الممثل أو صلته بالأرض عبر قدميه، وهو الموضوع الذي يكشف عن ظاهره وباطنه في العديد من مقالاته الطويلة في كتابه (طريقة التمثيل: الكتابات المسر حية لسوزوكي تاداشي. ترجمة توماس رايمر. نيويورك. مجموعة الأتصالات المسرحية 1986).
يطلق سوزوكي على منهجه أو طريقته (قواعد الأقدام) نظراً لأن "إدراك صلة الجسد بالأرض يقود إلى وعي هائل لكل نقاط الأتصال الفيزيائية الأخرى".
في كتابه " تقاليد العرض الشرقية ـ التدريبات الصارمة لسوزوكي" يوضح جيمس براندون كيف أن قواعد التدريب الصارمة لسوزوكي تترك أثراً على الممثلين، فهو يقول:" لقد كانوا يندفعون إلى أقصى حد في الأهتمام والمشاركة والرغبة بالتشويش ملزمين أنفسهم بوضعيات جسدية معذبة وموجعة جداً، إنهم ينشدون أغان ٍ مفككة لاتوجد صلة فيما بينها غير قابلة لأن تروى، لذا فقد كان الممثل يُكره على الدخول في مواجهة أو مصادمة ذاتية عميقة وعنيفة من شأنها أن تجلب القدرة على القيام بمهمة الذات أيما كانت الشخصية". وفي مكان آخر يقول: "إن السير على الأرض وضربها بقوة، كذلك الإيماءات الإيقاعية العنيفة والتركيز على الطاقة الكامنة في منطقة الحوض وإستخدام الجسد كلياً في التمثيل، جميعاً تمثل الأهداف الأساسية لهذا التدريب. إن هذه المفاهيم والتموضعات الجسدية الخاصة والحركات تنشأ بشكل مباشر أو غير مباشر من الأشكال التقليدية اليابانية، بل إن قواعد الأقدام ذاتها، هي في الآخر، مستمدة تقريباً من قواعد التمثيل في مسرح نـو وكابوكي اليابانيين التقليديين.".
لقد أوضح سوزوكي لبراندون مرة شكل المشاركة التي يتوقعها من الممثل حين كان يعمل التمرينات قائلاً:
"يخطىء الممثل ويخدع نفسه حين يظن بأن مايقوم به أثناء التمرين هو مجرد مران وتدريب لقواه العضلية. ينبغي على الممثل في أية لحظة من لحظات التدريب والمران أن يعكس عاطفة، حالة ما، طبقاً لتفسير جسده الخاص لها. إن إستخدام الممثل للتمرينات هو ليس فقط لتنمية قدراته فيما يتعلق بالتقنيات والبراعات فحسب إنما هو أيضاً طريقة لتعزيز حياته العاطفية والسيكولوجية والروحية والمسرحية. هذه هي قواعد تدريب التمثيل".
إن هدف الممثل حسب سوزوكي هو جعل الجسد كله ينطق حتى وإن كان الممثل صامتاً. فالجسد بالنسبة له يصبح مجازاً أساسياً للوضع الأمثل للممثل وهو على خشبة المسرح. بالتالي، (الثقافة) تعني (الجسد) بالنسبةإليه.


***

(*)
"الثقافة هي الجسد" مقالة مجتزأة من كتاب "إعادة النظر في فن التمثيل المسرحي. نظريات وتطبيقات"، والذي يتضمّن أثنتان وعشرون مقالة لأشهر مسرحيي العالم المعاصر، الصادر عن دار (روتليج، لندن، نيويورك)، الذي أشرف على تحريره والتعليق عليه فيليب. ب. زاريللي، بروفيسور المسرح والدراما في جامعة ويسكونسن ماديسون، ومخرج المسرح التجريبي الآسيوي منذ عام 1980.
(**)
ماريا ميرسكوف: لقاء الشرق بالغرب في فن سوزوكي تاداشي. مجلة (المسرح الأمريكي) العدد 2 1986.
(***)
الشامان هم كهنة يستخدمون السحر لمعالجة المرضى وكشف الأشياء المخفية لغرض السيطرة على الأحداث. والشامانية دين آسيوي بدائي يتميز في الأعتقاد بوجود عالم محجوب عنا مُمثل بعالم الآلهة والشياطين وأرواح الأسلاف، يؤمنون بأن هذا العالم لايستجيب لأحد سواهم.

[email protected]