قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 11:09 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-20-2011, 12:59 PM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5)

    باريسيّات الحلقات المتسلسلة - أنظر أسفل الصفحة لترى كل الحلقات


    د. محمد بدوي مصطفى الشيخ
    [email protected]


    هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات (4)؟
    فلقد عدتُ بكم، بعد السنين الطوال، إلى فندق مونبرناس في لبّ مدينة الجنِّ والملائكة. أتذكر تلكم المدينة الساحرة، باريس، حيثُ ارتفع الضحى من الغَدِ فاذا ضَوءُهُ المتدفّق ´قد غَمَرَ حجرتي الباريسية وأنا مازلت في نومٍ عميق لم يوقظني منه إلا صوت غريب، يتزايد مرتفعا على تروتوارات المشاة في شوارعها الفارهة. وبين الفينة والفينة ترامت إلى مسمعي، كما تتذكرون، أصوات وكأنها هج ودرج نزلاء الفندق على ممراته الضيقة ذات الباركت الخشبي الروسِتكال. کانت دهشتي عظيمة لأنني لم إسمع في ذلكم الصبح الرمادي الرطب صياح أصوات حيوانية أليفة إلى نفسى أبدا، كتلك التى كنت أسمعها في أم در الغبشاء. لم أسمع صياح ديك ولا كتكتة دواجن ناهيك عن صوت آذان جامع الإمام المهدي، وتهجد ومناجاة حواريه طيلة الفجر في كل أرجاء الملازمين، وحي المستشفى، حيث سكن الممرضات على مقربة منه!

    علكم تتذكرون حيرتي عندما عصرتُ على قلبي المخلوع، خلعت الحرامي السرق الدقيق، ودخلت قاعة البتي ديجونيه (الإفطار) سائلا الله ستر الحال وكشف الضال وراحة البال. ملابسي كانت لابأس بها. لكنها كانت صيفية أكثر من أنها شتوية، تبعث فيّ الدفئ المرجو في بردوة هذا الطقس الرطب، برودة تتسلل بتأني شيطاني إلى النخاع كسم نقوع يفتش لإختراق الجسم عبر ممراته الدمية.
    أهل تساءل النزلاء عن منظري مرتديا تلك الملابس الأفريقية وكان المنظر وبكل صراحة يثير للتساؤل والحيرة معا؟ کانت القاعة تكتظ بالخلق الذين جاءوا من كل فجّ عميق. كانت جلّ طاولات المطعم شاغرة والكلّ في شغل شاغل في خضم معركة الأفطار النابوليونية المثيرة هذه. أوجست في نفسي خيفة، وقلت في نفسي:
    - لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أه، الليله يحلنا الحله بلّه!
    سألت نفسي:
    - من بلة؟
    - هل هو سوداني؟
    - هل ذاق مآذق ذي دي؟
    - من أي قبيلة؟
    - هل كان جعليا؟ والله من المحس؟
    - هل تجرّس في محنته المبهمة؟
    أسئلة كثيرة، تتابعت وتلاحقت في ذهني وكأنها تنطلق من فوهة رشاش من طراز الجي أم ثري (جمسري)! قلت مطمئنا نفسي:
    - يا ود اركز.وينها جعليتك؟
    في تلك اللحظة نسيت كل المفردات اللفظية للحقل المعجميّ للجذر (ج، ع، ل). أو قل كل مشتقات كلمة "جعلية". قلتُ في نفسي:
    - الجعلية تطير!
    - يا ود ما تقوم تتلبك وتعمل ليك عملة شينه، بعدين يقولوا الزول ده لقطوه من وين؟!
    كنت في غاية الحذر في إستكشاف الأجواء والتدبر في أمرها قبل الشروع في أي خطوات لا يحمد عقباها.
    بدت لي من على البعد طاولة صغنونية لم يشغرها أحد. تمركزت في آخر بقعة من صالة الإفطار. كانت فرحتي كبيرة عندما لمحتها، فَهَمَمتُ مهرولا نحوها، حذرا أن لا يلاحظ الحضور كبكبتي وتسربعي. لاحظ الجرسون (أبو راس) دربكتي المتتابعة التى لا تخفى على أحد. فجاء ينقز بمشيته المطاطية و بخفة باريسية وكأنما يتراقص على نغمات بنقذ "حاتم مليجي". جاءني قبل أن يرتدّ إليّ خوفي، سائلا ومرافقا لي لغاية مكاني في آخر ركن. أتممت مشاكسات هذا اليوم بنجاح وكان ينبغي علىّ بعد الإفطار مواصلة دأبي في الوصول إلى ضالتي المشودة، ألا وهي مدينة ليون، بسبل الموصلات اليومية. لملمت عفشي المتواضع بالغرفة ولبست ملابسي الصيفية الخفيفة، رغم قسوة الطقس عليّ. نزلت إلى كاونتر الإستقبال، سائلا الموظف، صاحب الإسنان المكسرة بالإنجليزية:
    - ممكن تشوف لي تاكسي يُقلني إلى محطة قطار "القار دو ليون"؟
    مصيبة "شروم" هذا لا يتكلم لغة أجنبية ولا حتى لغة أجداده العرب، ربما لأنه من "الدوزيم جنراسيون" (جيل العرب الثاني ممن وُلِدوا وترعرعوا بفرنسا). رأني صديقي الجرسون وأنا في حيرة من أمري. سألني:
    - بروبلم؟ مشكلة مسيو؟
    - هذا الرجل لا يتكلم لغة أجنبية وأنا أود الذهاب بالتاكسي إلى القار دو ليون.
    - لحظة من فضلك! سوف أتصل بصديقة تقلك إلى هناك.
    بخفته ونقزتهِ المليجية الحليوة، دار حول الكاونتر ومدّ يده متناولا التلفون القديم على سطح المكتب. تكلم مع شخص ما بلهجة جميلة وكأنه يخاطب محبوبة. وفي نهاية الحوار سمعت كلمة "أ توت ألور" (تعني: لبعد قليل)!
    بعد لحظات دَخَلَت بهو الفندق حسناء باريسية ذات قوام بانيّ خارق للعادة كما يقول أهل الزيتونة بتونس. يا إلهي، ما أجملها!
    نَظَرتُ حولها فلمحتني بلحاظها الزرق الفتاكة، فتذكرت قول الشاعر:
    عيون المها بين الرصافة والجسر + جلبنا الهوى من حيث أدري ولا أدري
    لقد ذكرني هذا البيت بقصة علي بن الجهم البدوي. سمع هذا الرجل أن الشعراء الأفذاذ، مثال جرير والفرذدق، يقدمون لمدح الخليفة في بلاطه، فيجزل عليهم هذا الأخير بعطاء لا ينضب من المال والهدايا. فعقد علي بن الجهم العزم بالرحيل إلى بلاط الخليفة ليمدحه. فقال:
    أنت كالتيس في قراع الخطوب + أنت كال###### في حفاظ العهود
    أنت كالدلو ما عهدتك دلوا + يا سخي العطايا يا كثير الثقوب
    فهمّ الحضور من الشعراء الأفذاذ بقتله قائلين،
    - ما قلّة الأدب هذه، أيها الأعرابي الجلف؟
    لكن كان الخليفة ذو فضل عليه، فطلب من الشعراء أن يمهلوه قليلا قائلا لهم:
    - دعوه يتنعم في القصر شهرا، متوزوزا بين الجنائن والحسان. وإتوا به بعد قضاء الأجل.
    فلما انتهى الأجل، جِئَ بعلي بن الجهم فقال:
    (عيون المها بين الرصافة والجسر + جلبنا الهوى من حيث أدري ولا أدري)

    - يا له من ظبي قاتل!
    مشت نحوي بخطوات رشيقة وكأنها غزال رافل من غزلان إيف سان لوران "يمشي الهوينة كما يمشي الوجي الوحل".
    - سلامو أليكم!
    قالتها بلهجة باريسية لطيفة وكأن أنغام كلاسيكية في هرمنة وتناسق شديدين تخرج من "فيها".
    - إنتي محمد بدوي، من سودان؟
    يا حبيبي، ايه الحلاوة دي، لغة عربية، يا للذة لغة الضاد من "فم كالأسد الجوعان زمجر"!
    تذكرت وصف أستاذي وصديقي المرحوم صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته "مرية" مادحا إحدى الحسان من بنات الريف الأروبي. قال صلاح محمد إبراهيم وكأنه يتكلم بلسان حالي واصفا هذا الغزال البري الفرجوني البديع:
    "ليت لي إزميل فدياس وروحا عبقريه
    وأمامي تل مرمر
    لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالا مكبرا
    يا مرية...
    والشعر كالشلال ...
    بعض يلزم الكتف وبعض يتبعثر
    وعلى الخدين سكر
    على الأهداب لغز لا يفسر
    وفم كالأسد الجوعان زمجر"

    لم أحييها بجملة "إديك العافية" كحال أهل أم در الغبشاء، لإنّ "العافية" تعني باللهجات المغاربية "النار". فخاطبتها بلهجة أهلي الشوام، ذوو الألسن الشهدية.
    - أهلين، نعم أنا سعيد الحظ! مرحبا بك!
    في تلك اللحظة أتى الجرسون أبو راس وقدمها لي:
    - هذه إزابيل، صديقتي، عملت في تونس في العام الماضي، لذلك تتكلم العربية قليلا.
    أردت أن أكون لطيفا كحال الأمدرمانيين، آسف أقصد الباريسيين. فقلت في نفسي:
    - "مكنة" صغيرة يمكنها أن تلطف الموقف أكثر. مش كدة يا ولد؟
    وبادرت قائلا:
    - يا سلام ما أجمل تعبيرك "بالعرنسية". فيه نكهة شمال إفريقية في غاية الظرافة؟
    جَلَسَت إليّ فآنستني في وحدتي فأحببت باريس من أجلها وقلت في مدينة الجن والملائكة:

    حبا إليك وإن نأيت بواد + هيهات إسلو في رباك بلادِي
    باريس رائعة ونبع حلاوة + وشعار مجد وأصل عمادِ
    كم في ربوعك للجمال مجالس + وفي ثراك للتائهين مرادِ
    لك في كياني، في القلوب محبة + وعليك في كل الفنون أيادِ
    فاذا وصفك محمدٌ فالفصاحة لا تفي + "كلمي ولا تُدني عظيم مرادِ"
    فسألت عنك مونيك بحسنها + زُهر الكواكب بينهم أمجادِ
    وسألت عنك أم در وهي كأنها + تغار في خجل إليك تنادِي
    باريس بدر الدجى في رونق + أهَلْ يسلو البدور فؤادي
    مرفأ الأشعار أنت ومهده + فمحبتي حضر بك وبواد
    لم نأت إلى مواقف كثر مع أصدقاء الدرب الليوني العسير. ولم نتحدث عن ال"قار دو ليون" ولكن تابعوا معنا في الحلقات القادمة فالحديث ذو شجون!
    لنا لقاء!

    إنتظروني في الحلقة

    (عدل بواسطة محمد بدوي مصطفى on 04-25-2011, 05:48 AM)
    (عدل بواسطة محمد بدوي مصطفى on 04-25-2011, 05:49 AM)
    (عدل بواسطة محمد بدوي مصطفى on 04-27-2011, 05:56 AM)

                  

04-24-2011, 08:50 PM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    باريسيات (1 )

    عدت إلى أهلي ياسادتي بعد غيبة طويلة في بلاد الغرب ، فتعلمت الكثير وغاب عني الكثير، ولكن تلك قصة أخرى.
    هكذا بدأ الطيب صالح موسم هجرته إلى الشمال وأنا أجد في هذه الكلمات الندية التي تعكس وجدان الطيب صالح ملخصاً بذلك ومن خلال بضع كلمات، قصته الطويلة في الغرب .
    وأنا كالطيب صالح عدت إلى بلادي بعد غيبة طالت الثلاثة وعشرون عاماً في بلاد الغرب متنقلاً بين مرافئ العلم في بلاد الجن والملائكة وبين مراسي بلاد الشاعر المسلم جوته، وتلك قصة أخرى ...
    حمدت الله وأنني تعلمت الكثير من ضروب الحياة وفي طرق معاشرة الغربيين وغيرهم من الأجناس الأخرى من الأعراب. فكنت طالب علم سوداني ومفتخر بذلك وأي إفتخار.
    وصلت مدينة باريس يوم 14/11/1984م قادماً من أم در بغبرتي وعفرتي وشعري الذي غشته هبوب أم درمان.
    الطائرة السويسرية القادمة من زيورخ كانت تحمل في طياتها هذا الطفل الشاب اليافع، الذي لم يتسنى له رؤية الغرب بتاتاً فسوف يكون هذا أول لقاء مع أولاد الريف.
    بعد أن وطأت الطائرة القادمة من الخرطوم أرجلها على مطار زيورخ بسويسرا قمنا بطائرة أخرى قاصدين باريس وبعد نصف ساعة أعلن كابتن الطائرة وصول الرحلة رقم 210 القادمة من زيورخ إلى مطار شارل ديغول. فما أن وطأت قدماي بلاط مرمر المطار الأملس حتى بدأ جسمي يعتليه شعور وكأنما جيوش نمل سليمان قد إمتطته في هرع وذعر وهيبة.
    قلت لنفسي الكل يتحدث " لغة الطير في الباقير " فكيف يمكن أن أفهم هذه الطلاسم. وبدأت أفواج الأسئلة المتتابعة تزدحم في رأسي: كيف يمكن أن أحول مبلغاً من المال كي أستعين به في مواصلة مشواري إلى مدينة ليون التي جئت قاصداً لها؟
    كيف يمكن أن أسري بليل من المطار إلى بطن المدينة؟
    كنت أحلم قبل وصولي إلى مدينة الجن والملائكة التي ذكرها الدكتور طه حسين في رائعته الأيام في غير موقع. كنت أحلم بالحي اللاتيني الذي تجتمع في مقاهيه خيرة فناني ومفكري فرنسا، وأحلم بمونبرناس وبالشانزليزيه التي قرأت عنهما في معهد اللغة الفرنسية بالخرطوم.
    ولكن كل هذه الأحلام التي نشأت في يقظة جميلة قد تلاشت في خضم مملكة النمل التي أعترت جسمي نسبة للخوف.
    وفي مبعدة مني تراءت إلى صورة رجلين في وجههما إشراقة سمراء إنعكست على بياض مرمر المطار فغشاه رونق على رونق.
    سألت نفسي في خشوع، أهل يتكلمان العربية؟
    أهل هما من السودان؟
    هل يعرفان أسرتي كما هو شأن الناس في بلدي السودان القرية الصغيرة التي يعرف فيها فلان فلاناً وفلانة فلانة.
    أهل لهما طيبة أصيلة فيسألان عن حالي وأحوالي في هذه الضائقة؟
    أهل يسألاني عن أهلي وموطني؟
    من أين أتت بى سبل الحياة وضروب القدر إلى تلك البقة المرمرية الشاحبة؟
    أأنت ولد فلان بن فلان؟ مصحوبة بكلمة "يا سلام!"، بالله، مش ممكن، مش معقول!
    أأنت فلانه بتقرب ليكم؟
    أنا أبو كان مع جدك في ... إلخ إلخ.
    كعادة أهل بلادي بمحنة تبحث عن نظير في تلك البقعة المرمرية.
    طاشت الأسئلة وترامت وتتابعت كالسهام على ذاكرتي.
    كل هذه الخواطر أتت في برهة كلمح البصر والرجلان الأسمرانيان يتقدمان أمام أعيني بأقدام ثابتة توحي وتدل على خبرة وتمرس في السفر!
    تقدمت حذراً نحوهما مطبقاً يدي المبلولتين بالعرق الناجب عن "الخلعة"
    إنتو سودانيين؟
    والبقية تأتي

    (عدل بواسطة محمد بدوي مصطفى on 04-25-2011, 05:42 AM)

                  

04-25-2011, 05:44 AM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (٢) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    باريسيات (٢)
    د. محمد بدوي مصطفى الشيخ
    [email protected]

    هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات؟
    سردت لكم، أطال الله في عمركم، عن بداية رحلتي إلى فرنسا (بلاد الجن والملائكة) على حدّ قول الأستاذ طه حسين. شددت الرحال لتلك البلاد الساحرة الباهرة وأنا في سن يافعة قضّة تفتقد لكل ما تحمل لفظة "خبرة بضروب الحياة" من معان. خبرة في العيش في بلاد "تموت من البرد حيتانها"، في بلاد كستها زرابيّ الجليد السرمدي وملافح الصقيع من وشاح أبيض ناصع.
    ثلاثة وعشرون عاما غبت فيها عن وطني ولم تمح السنون الطوال أول صدمة لي مع فرنسا! تهت في مطار شارل ديغول باحثا عن لغة أفهمها وأناس أعرفهم يشدون باذري في محنتي هذه.
    "يا كافي البلا البلد دي مافيها ريحة سوداني واحد"؟
    لحسن حظي وكما حدثتكم في المقال (١) أنني حظيت بمقابلة "أولاد بلد!" فحلان أسمرانيان يتقدمان أمام أعيني بخطى ثابتة يستشف المرء من أول نظرة لهما بمدى تمرسهما وخبرتهما في السفر والترحال في بلاد الغربة. تقدمت بحذر حاسر الرأس عند بداعة المنظر ومستشفا من ثباتهما طمأنية وسكينة أثلجتا نار قلبي. فتقدمت، كما ذكرت سلفا، على أخمص قدميّ وكأنني على مقربة من فريسته أخشى أن تتلاشى في لمحة ونفس.
    ثوان قليلة والنفس في ولع عظيم تنتظر نشوة اللقاء المنشود على أحر من الجمر.
    - إنتو سودانيين؟
    فما أن سكت حسي بعد السؤال، بدت علامات الدهشة والإستغراب على وجههما!
    عيون مشرأبة، رموش مرتفعة، وفم قد تفتحت مقاليدة لتفصح عن أسنان قد إنتظمت كعقد فريد من الدر!
    - نعم!
    - إنت ود منو؟
    - ود بدوي مصطفى
    - مالك واقف هنا؟ عندك مشكلة؟
    قلت في نفسي، مشاكلي تنوء بالعصبة أولي القوة...
    - نعم، هذه أول مرة لي في باريس، ولا أعرف كيف أحول مبلغ من المال لأنتفع به في رحلتي. أضافة إلى ذلك، فأنا لا أمتلك نواصي اللغة الفرنسة، ولم أر في حياتي المترو على الطبيعة، ناهيك عن ركوبه.

    فكيف لي بعد كل هذا التلكلك والتجهج والتسكع والتسربع أن أقدر على حجز فندق بسيط وغير غال في أحدى ضواحي المدينة؟
    كيف أمتطي التاكسي؟
    وكيف أصف له المكان وباي لغة؟
    علما بأن الفرنسيين، كما يُزعم عنهم في الأعتقادات الشعبية في أروبا، لا يطيقون الحديث باللسان الإنجليزي أو بالسنة أخرى خارجة عن لغتهم البديعة التوقيع والسلسة الموسيقى. قلت لنفسي إذن الإنجليزية هي المخرج من هذا المأزق! بيد أن إنجليزيتي كانت إنجليزية سودانية لا يمكن فهما إلا في السودان!
    كيف أذهب ألى مدينة ليون؟
    المدينة الثانية في فرنسا من حيث الأهمية ثقافة واقتصادا، والتي أتيت قاطعا بحورا من أجل الدراسة في جامعاتها العريقة.
    كان أبي يمتلك شركة لتصدير الجلود، تعمل مع الأقطار الأوروبية. ذات يوم اقترح لي والدي، بعد أن لاحظ مرارا أنني مولع بلغة فكتور هيجو وبلزاك.
    - ينبغي عليك أن تدرس دباغة الجلود لتطوير الشركة في المستقبل القريب ولكي يمكننا تسويق منتجاتها في السوق المحلي والخارجي.
    - سوف ارسلك إلى ليون، فلي صديق فرنسي كان وكيلي فيها، فتدرس دباغة الجلود!
    - يا له من أمر مثير!
    - أدرس مع حسنوات من البيض، وأجادلهن في امور العلم والمعرفة وأكلمهم بلسان فرنسي مبين؟
    كل هذه الأشياء لم تداعب ذاكرتي بتاتا، لكنها قد طرقت ابوابها بين فينة وأخرى. فكل شاب قرأ موسم الهجرة إلى الشمال يحلم أن يكون مصطفى سعيد ليوم واحد!

    لقد حفزتني بنت عمي مها الشيخ على المجئ إلى ليون. مها كانت مبعوثة من قبل وزارة الخارجية، لدراسة اللغة الفرنسية بليون. كنت أملك رقم هاتفها بالحي الجامعي اليكس. هذا الحي الليوني الأخضر القريب من موناستير الفورفيير، الذي احتضن كثير من الأصدقاء من الدول العربية. فكانت تتوافد عليه نخبة من الطلاب السودانيين من قسم اللغة الفرنسية بجامعة الخرطوم ممن حظوا بمنحة إلى فرنسا، جنة الله في أرضة، كما كانوا يزعمون.
    بحثت في قراطيسي عن رقم التلفون وعثرت عليه بعد جهد جهيد في آخر ركن من "شنطة حمزه" التي كانت تمتطي يدي اليمنى. سألت نفسي:
    - كيف أتلفن؟
    - هل هناك كباين للتلفون كالتي بمصر؟

    کان السودان وقتها يفتقد لمظاهر حضارية مثل هذه!
    - ما هو مفتاح المدينة الداخلي؟
    - ما هو رقم غرفتها في الحي الجامعي؟
    - كيف أتفاهم إن لم تطلع لي هي بنفسها على الهاتف؟

    يا للمصيبة ويا لهولها!

    هل تعرفون، عادة عندما يسافر الخواجات إلى مكان ما، إن صغُر سنهم أم كَبُر، فهم يعدون العدة لأسفارهم ويجهزون لرحلاتهم أحسن تجهيز: الخرائط لمعرفة المناطق، دلائل اللغة لاسيما وأن كانت الوجهة المنشودة "بلدا طيره عجم".
    إن من ضروريات أدب الأسفار حمل الملابس الملائمة لكل أحتمالات الطقس المتوقعة،
    سماع النشرة الجوية والبحث عن معلومات مناخية دقيقة عن الجهة المقصودة.

    لكن يا سادتي أخوكم "خرج برأس حنين". فأدب الأسفار كان بالنسبة له "لفظ أعجمي" كما يقول الألمان عند الإستنكار: يعني بالعربي الفصيح كده "لا تحضير ولا يحزنون".

    فخرج الشاب اليافع المخلوع في قلبه، من قلب المطار، الى أرصفة سيارات الأجرة المکتظة بالناس اللاغبش والسيارات الفارهة باحثا عن تاكسي يقله من المطار إلى باريس. ففور خروجه شعر بلسعة عقارب البرد الباريسي متسللا سمها الثلجي إلى دواخل عظام "الأمرقيقة" الأمدرمانية. سارية فيها من عظم إلى آخر كالسم النقوع،
    فسلمت أمري لله!

    إنتظروني في الحلقة القادمة!
                  

04-25-2011, 05:46 AM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (٣) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    بارسيسات (٣)

    د. محمد بدوي مصطفى الشيخ
    أستاذ اللسانيات والأدب بجامعة كونستانس (ألمانيا)
    [email protected]

    قبل أن أبدأ حديثي معكم في هذه الحلقة من باريسيات (٣)، أريد أن أعود بعجلة الزمن إلى الوراء وأن أخبركم بسبب كتابتي لهذه المقالات ذات النَفَس الذاتيّ، لاسيما وأنني عزفت عن التطرق إليه وضربت الطناش، كما لاحظتم، في أول حلقة (باريسيات (١)).
    سألني غير واحد من أهلي وإخواني أن يكون لي تجربة في أدب السيرة كتلك التي لطه حسين في الأيام، الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال، يحي حقي في قنديل أم هاشم وتوفيق الحكيم في عصفور من الشرق. كذلك ألحّ عليّ أفراد أسرتي وأصدقاء الدرب الليوني العسير و"عكلتوا" في في سؤالهم وأيّة عكلتة، حتى إذا كان لي أن أشرع في هذا وجدتني، على حد قول أستاذنا طه حسين في أيامه، أبدأ مشوارا طويلا لا أملك من أسبابه الكثير. لقد عدت في هذا الذي أبسطه بيد إيديكم هنا، أطال الله في عمركم إخوتي، في قراطيسي وأوراقي إلى مخزن الذكرى ومخزون الذاكرة، وإلى ما كان لديّ من محاولات وكتابات صغيرة قد تناثرت هنا وهناك بين مسكني القديم في مدينة ليون ومقامي الحالي في مدينة كونستانز، تلك المدينة الساحرة، التي ترقد على بحيرتها كالهمزة على سطرها، في أقصى دنيا ألمانيا:
    لم أترك كرتونة كتب أو كيس أو درج قد تكدست فيه صحائفي المسجونة، منتظرة بذوغ شمس حرية التعبير، لكي تنطق فاصحة عن ما بدخيلتها وعن ذكرى ماض أكل عليه الدهر وشرب، وإلا فتحتها. صلت وجلت في مخزني معلنا حملة فتح الإكياس والأوكار القديمة كمشعوذ يبحث عن ثعابين في كل جحر. فالقصاصات تكاثرت والمواضيع تشعبت لذلك رأيت أن أجعل من باريسياتي، حلقات متسلسلة في شكل عقد أقصوصي فريد، ليته يشابة العقد الفريد لابن عبد ربه.

    فاسمحوا لي أن أعود بكم الآن إلى مطار شارل ديغول مرّة ثانية!
    هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات (٢)؟
    سردت لكم، أطال الله في عمركم، عن تجهجه وتسربع وحيرة هذا الطفل الشاب في مطار ٭شر دخول٭ باحثا عن "مخرج آمن". وكما تعرفون سلفا فقد شددت الرحال لتلك البلاد الساحرة وأنا في عمر الزهور خارجا من بلدي "برأس حنين" و"بشنطة حمزة".
    وبعد أن لفظت بجملتي التي تعرفونها: "يا كافي البلا البلد دي مافيها ريحة سوداني واحد"؟
    أنزل الله لي الأخوين السودانيين وكأنما داعب لساني في تلكم اللحظة زجاجة سحرية ونطق بكلمة سحر، كتلك التي نعرفها في أدبنا العربي: "أطلع يا سمسم" أو في أدبنا الشعبي "شخارم بخارم" أو "أشبيك لبيك سودانيين بين إيديك"!
    بدا لي الرجلين عن قرب كأنني أحمل منظارا مكبرا. وقفت أمامهما مهلوسا وموسوسا تارة ومهللا ومكبرا تارة أخرى.
    فحركتهما وهما يتقدمان أمامي، أوحت لي بمدى ثباتهما في بلاط شارل ديغول الأملس، فادخل هذا المشهد السكينة إلى قلبي. تقدمت نحوهما بحذر سائلا متلهفا:
    - إنتو سودانيين؟
    - نعم!
    - إنت ود منو؟
    - ود بدوي مصطفى
    - مالك واقف هنا؟ عندك مشكلة؟
    فحدثتهما عن حالي وأحوالي ...
    قال لي أحدهما، والذي صار بعد ١٨ سنة من تلك اللحظة من أعز أصدقائي، ألا وهو الأخ الفاضل محمد الأمين بخيت.
    - لقد رأيتك بالأمس في بنك البركة مع أبيك!
    - نعم، كنت أريد حينها استخراج شهادة المقدرة المالية لمتابعة إجراءات السفر.
    قال لي وبدون مقدمات ضاغطا على يدي كتلة ما، ضاما يده إلى يدي بقوة!
    - خذ هذا المبلغ وخذ هذا!
    - ماهذا، أطال الله في عمرك؟
    - حجز بفندق مونبرناس بقلب مدينة باريس.
    - وأنت؟
    - سوف أذهب مع رفيقي إلى الهولدي ان قرب المطار. فتعال معنا نحتسي كأسا من القهوة هناك وبعد ذلك يقلك التاكسي إلى الفندق.
    كادت دموعي تجري من شدة المدّ والجذر النفسي الرهيب اللذان أصاباني في تلك اللحظة "وأحسست بدفأ الحياة في العشيرة"، كما ذكر الطيب صالح في موسم هجرته إلى بلاد الغرب، لحظة رجوعه إلى البلد.

    بعد أن رافقت صديقيّ إلى الهولدي ان، أقلني التاكسي إلى فندق مونبرنساس.
    في الطريق عبر شوارع باريس الفارهة، قلت في نفسي.
    - ما أعظم هذا البلد:
    نظام، تناسق، جمال، عظمة، نظافة، أبه، توافق، روعة، بداعة، لمعان، بهرجة، يا للمناظر البديعة ويا لجمال الطبيعة في بلاد الجن والملائكة.
    فلفظت بجملة جدتي، "قادر الله في ملكه"! وتذكرت حينها القولة المشهورة: "وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين"...
    وصلت الفندق واصطحبني موظف الإستقبال المتحنكش، بأدب جمّ، إلى غرفتي.
    - هل تحتاج إلى أيّ شي؟
    قالها بفرنسية "أساسية" عجزت نيرونات مخيخي أن تستوعبها في حينها.
    أجبت بانجليزية مكسرة:
    - كل شئ على ما يرام.
    وسككت الباب من دوني وبدأ الحُلم الباريسي يتدفق ...

    حُلم عرفته طيلة سنوات الدراسة في مدرسة المؤتمر الثانوية بامدرمان. كنت أحلم مع رفاقي أمير سربون، محمد سرالختم السنوسي وغيرهم من أباليس اللغة الفرنسية عن باريس وعن فرنسا. وكنا نتبارى في "تحريك اللغة" على حدّ قول صديقي المشوطن أمير سربون، بلهجته الحلوة وحركاته العباسية المتوزوزة.

    كان أستاذ عزالدين، أستاذ اللغة الفرنسية في المدرسة، يحدثنا عن رقي ورقة الفرنسيين وعن أدبهم الجمّ وحضارتهم الرفيعة، وكان يكرة بشدة جلافة السودانيين بالذات هؤلاء من "رواد العماري" بسوق الشمس وحجاج "نوداي البلح الرياضية" بقلب العباسية. کان يقارن ويزعل ويسبّ ويضرب الأمثال بلا انقطاع وكل ذلك في هدوء تقطعه في طرفة عين نرفزة جنونية.
    كان يقول:
    - إنتو عارفين يا أولاد، الفرنسيين ديل زيهم مافي في العالم كلو. ديل "عملة صعبة". أناقتهم فوق التصور وجمالهم فوق العادة. حبهم للعمل والطبيعة والنظافة بلا حدود. ديل ناس حلوين حلاة شديدة. بناتهم شعورهن ذي ضنب الحصان، ما عايزه لا ودك، لا كركار ولا زيت سمسم. لمن تمشي في الشانزليزه، أحلى شوارع العاصمة الفرنسية، ما بتقابك بتاتا يافطة مكتوب فيها "ممنوع البول" مصحوبة بنسمة بولية جمارية تكتم الانفاس، بعيد عنكم. ففي شوارع باريس تشم العطور مما تركه المشاة على أرصفتها من مسك وهلم جرّ، شي إيف سان لوران، شي كرستيان ديور، شي برادا وشي شانيل. واللبس خليه ساي! قادر الله!

    كنت أرى في حديث أستاذي متعة وسلاسة وخصوصا لأنه ينقلنا في رحلة خيالية إلى هذا العالم السحري المجهول لأطيفال مثلنا، في سنّ يافعة، ممن يتعطشون للمعرفة وارتياد مجاهيل بعيدة. فكنت دائما أنتظر درس اللغة الفرنسية بفارق الصبر لأعيش الرحلة السحرية وميتامورفوز اللحظة، كما عاشها جوتة بزمانه، وكثير من أدباء الغرب. هم عاشوا الرحلة إلى الشرق بروحهم بيد أن أقدامهم لم تطأ أرض الشرق إطلاقا.

    كان حديث أستاذي يذكرني بروح أستاذنا البروفسير محمد الواثف في قصيدته أمدرمان تحتضر. فالواثق، كاستاذ عز الدين، يتحدث في قصيدته بكثرة عن الحياة الرغدة في أروبا وعن حبيبته مونيك ويسب أمدرمان واصفا لها بكل قبيح، فيقول:
    ألا حبذا أنت يا امدرمان من بلد٭أمطرتني نكدا لا جادك المطر (...)
    ولا أحبّ بلادا لا ظلال لها٭يظلها النيم والهجليج والعشر

    وماقاله الواثق وأستاذ عزالدين نجده يناقض ما قاله الأستاذ الحردلو في قصيدته المعروفة "نحن":
    - أنحنا الساس ونحنا الرَّاس ونحنا الدنيا جبناها ... وبنيناها ... بويت في بويت.

    كان أستاذ عز الدين يتتريق ويستنكر قول الحردلو ويصفه بمرض "اللحس العقليّ".

    - والله يا أولاد الحردلو ده لو طلّعناه من التُّكُل القاعد فيهو ده، ووديناهو يوم كدي باريس، لأصابه "جنون البقر". ساس منو وراس منو؟ أمشو كدي ورا سينما الوطنية أمدرمان وشوفوا الساس ولحم الراس. شوفوا المعمعة الشديده"!
    طبعا كان يلمح بالمناظر الفظيعة والروائح القذرة والخريات المترامية بين "قاطعي الجمار" المتناثرين كالذباب بين يافطة الفيلم الهندي وطبلية التبش بالشطة... منآظر بشعة، مش كده بالله؟!

    وتتابعت الأحلام في تلك الليلة الباريسية الرطبة وكأنها شريط سينمائي ينقلني بعجلة الزمن إلى دنيا الماضي (ريتروسبكتيف). مددت صفحتي على سرير الدبل الطري ورحت في آخر نومة...

    إنتظروني في الحلقة القادمة
                  

04-25-2011, 05:47 AM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (٤) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    باريسيّات (4)

    هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات (3)؟
    سردت لكم، أطال الله في عمركم، كيف تتابعت الأحلام في تلك الليلة الباريسية الرطبة وكأنها شريط سينمائي نقلني بعجلة الزمن إلى دنيا الماضي بحركة ريتروسبكتيفية بطِيئة. حدثتكم عن الرحلات الخيالية إلى فرنسا، تلك التي عشتها في مدرسة المؤتمر الثانوية مستمعا لأستاذي عزالدين. وعلَّمتكم أيضا بعلوم أصدقاء الدرب الليوني العسير ممن لا أعرف أين رمت بهم أيادي القدر الآن. منهم نفر نعتز بنجاحاتهم وتفوّقهم: مثال السفير السوداني بجدة د. طارق على بخيت، الذي علق على باريسياتي قائلا:
    "الاخ د محمد بدوى،
    تحياتي وشكرا على إرسال المقال الرائع وحقيقة هذه خطوة هامة لتوثيق تجربتك فى فرنسا .. وياليتنا جميعا وجدنا الفرصة للتوثيق لأسرنا وللأجيال المقبلة. موقع صحيفة الأحداث على الإنترنت غير موجود لذلك نأمل فى إرسالها لنا بانتظام .. .. لازلتُ أذكر اليوم الذى ذهبنا فيه معا لنشرب الشاي مع تلك الفتاة الانجليزية الرقيقة (آن)، التى كانت تدرس معكم اللغة الفرنسية ... نسيت اسمها ..وعندما جلسنا وجدنا خمس تفاحات على المائدة وأخذ كل واحد منا تفاحة .. وقلت لكم الشابة دي عازماكم شاي مش تفاح .. أذكر أنك علّقت بأننا فعلا إستهلكنا تفاح الأسبوع بمعدل تفاحة لكل يوم وأنك لاحظت أن البنت محبطة جدا لهذا الموضوع وأن وجهها محمر لهذا السبب..
    - أين هم فى الزحام الآن ؟
    -أقصد أمير ومحمد سر الختم وطارق أبو الدجل .. والبقية الكرام ..
    كنت فى مهمة رسمية فى جنيف فى مايو الماضي وانتهزت السانحة وذهبت لليون بالسيارة ومكثت حوالي خمس ساعات فى المدنية .. وكانت تلك أول زيارة لي منذ عام 1985 (بعد 23 سنة) .. وقفت على الأطلال فى كلود بيرنارد .. والمدينة الجامعية فى أندريه اليكس .. سبحان الله هذا حديث يطول .. اتمنى لك التوفيق ويمكن أن ترسل أيضا للأخ عثمان السيد ويعمل حاليا مترجما فى وزارة الخارجية القطرية على الأيميل.
    السفير د. طارق على بخيت
    الإدارة السياسية - منظمة المؤتمر الإسلامى- جدة"

    فاسمحوا لي أن أعود بكم الآن إلى فندق مونبرناس في لبّ مدينة الجنِّ والملائكة، باريس، مرّة ثانية!
    إرتفع الضحى من الغَدِ فاذا ضَوءُهُ المتدفّق يَغمر حجرتي الباريسية وأنا مازلت في نومٍ عميق لم يوقظني منه إلا صوتٌ غريبٌ يتزايد مرتفعاً على تروتوارات المشاة في الشوارع الباريسية. لم ينطفأ ضوء المصابيح الخارجية طيلة الليل. وبين الحين والحين يترامى إلى مسمعي صوت آخر أخفّ وطأةً، لابد أنَّه سعي نزلاء الفندق على ممراته الضيقة أو نزولهم على درجه الخشبي الملتوي. من العجيب في الأمر أنني لم أسمع في ذلكم الصبح الملحوس صوت ديك ولا كتكتة دواجن في ذلك الموقع الموحش ، شئ عجيب، مش كده؟ يا حليلك يا ديك عمِّي سعد! كان صوتو يراري في كل أرجاء الملازمين؛ من الإذاعه لغاية ميدان البحيرة. عندما تذكرت ديك عم سعد تبادرت إلىّ أفكار وهلوسات شيطانية غريبة أخرى:
    - هل يصيح الديك بالفرنسي قائلا "بنجور" وتكتكت الدواجن بالآرقو (العاميّة الفرنسيّة) قائلة "مرسي، مرسي"؟!
    - ده "بلدا دجاجه عجم"، كما يقول أهلنا الكرام؟
    - كلامو كلام الطير الفرنسي في الباقير؟
    - يا جماعة، أنا في حلم والله علم؟
    - نحن ديوكنا بنعرف كلامها وددجاجنا بنفهم رطانتو!
    - لكن هنا، همممم!
    "حليلك يا الملازمين بكثرة فنونك وحركة جنونك وسحلبة مفتونك وبقطعة نورك وغبرة لونك وقلة صابونك وشربكة شبكة تلفونك..."
    عندما كنت بالملازمين كانت أختي لبنى، القريبة إلى نفسي، تومئ إليَّ سائلة عن حالي قبل أن أنضجع في فراشي الليلي. وكنت حينئذٍ أترصد مجِيئَها إلى لحافي ومرقدي وهي متفحصة عن تمامه وكماله. لكن للأسف هنا جنٌّ وملائكة ولكن لاوجود لإختى الحبيبة. فأنا وحيد في وحشتي وغربتي التي أصبحت واقع لامفر منه يذكرني به طلوع شمس مونبرناس الرقيقة. شمسه تداعب أشعتها التبرية وجوة المشاة، من "أبناء الريف"، باعثة بحرارتها الحياة وباثة في روحها من أنفاس الشانزليزيه المتوقِّدة نشاطا وحركة.

    استيقظت من نومي مبكرا محتفلا بأصوات غريبة لم أعتدها من قبل. أسمع أصوات كعوب الأحذية تضرب على وجه الأرصفة الأسفلتيّة "ضرب غرائب الإبل". صوت يشابه كركبة نجار يعالج الخشب بحرقة، متقلِّدا شاكوشه الأخرص. هذا وذاك ممتزج بأصوات إنس راجلة وأقدام جن رافلة قد أتت من كل فجّ عميق قاصدة مطعم الفندق، الذي يُتناول به البتي ديجونيه (الفطور).
    نهضت من السرير ودخلت الحمام. استحممت، بعد لائٍ، "كاسراً" الماء البارد بالساخن متذوقا حلاوة الدفئ الدُشِّيّ؛ بعد أن حللت المعضلات "التكنوحنفية" بالحمام الباريسي الخطير. رأيت العجب العجاب في ذلك الصباح! وزي ما بقولوا في المثل الشعبي: الماشوفتو في بيت أبوك، يخلعك؛ وكانت خلعة من "النوع أبو كديس": موية باردة وموية سخنة تتدفق أفواجها بلا انقطاع بقدرة قادر. بعد أن فُكَّت مشكلة الماء وكسره وخروجه من رأس الدشّ، الخ، صُلتُ وجُلتُ في صحن الحمام باحثا عن "بروة" (صابونة) فنيك أتطهّر بها من غبرتي الأمدرمانية وأبرط بها"شعري القرقد، البدهان ما برقد"؛ لم أعثر على صابون الفنيك المنشودة، لكن وقع في يديّ صابون سائل يُشابه في شفافيته ولمعته الذهبية زيت الفرامل في طرمبة بيت المال؛ کان لونه التبريّ جذابا تنفتح له النفس من أول وهلة. وفي خلال حملتي الإستكشافية بالحمَّام، عثرت في بعض الأركان الأخرى منه على أدوات توليت أخرى، رأت بجلالتها لأول مرة زول زي حلاتي، من قلب أمدرمان. بكل صراحة من الأشياء التي أستثارتني و شحذت فضولي هي قوة الماء الباريسي المندفع من الحنفيّة والدشّ وعدم انقطاعه. قلت في نفسي، يا حليلكم يا ناس بيتنا! في بيتنا في الملازمين مازالت ترن جملة أساسية في ذهني، قديما جملة "أقفلوا الماسورة" وحديثا "أفتحوا الموتور"، تسمع هذه الجملة في اليوم الواحد مررا. ولو الواحد ليس له حظ من الماء الذلول الغسول في حمامات أمدرمان، لخرج بسبب إنقطاع التيار المائي أثناء الإستحمام متجهجها وجسمه يتصبب رغوة صابونية ناصعة البياض، ليقفل الماسورة أو ليفتح المحرك بنفسه أو مناديا (يا وار، أفتح الموتور!). يا حليلك يا امدرمان وحليل أيامك!
    جلست أمام نافذة حجرتي في فندق مونبرناس بغية سماع أصوات بشرية حيّة تتكلم وتجادل كما هي الحال في حلتي الملازمين. وددت التقاط بعض الكلمات لتحريك اللغة فجراً، ولكن كان اللاكلام يخيم على شوارع باريس الرائعة!!!
    - يا كافي البلا، الناس ديل خشومهم مخيطة والله شنو؟
    - ما في زول واحد ساكت كده بتكلم والله ينادي ليه زول؟
    - ما في عوووك ويا شاب ويا جنه ويا حجة ويا خالة ويا وزوز ويا هناي؟
    - شئ عجيب!
    لم أكن أعرف أن "ابتلاع الألسنة" عادة من العادات التي يمارسها الناس في باريس بمهارة!
    - مابتسمع في الشارع كلمة "بِغِم"؛ إلا "طَق، طَق، طَق" الصباح كله!
    هدوء لاكلامي تام تقطعه أصوات الكعوب بوقعها المطرقي الحاد وإيقاعاتها "المليجيّة" المتميزة.
    نزلت للإستقبال وسألت عن صالة البتي ديجونيه لأفطر. كان الموظف رجل عربي الملامح، ربما من شمال إفريقيا، أسنانه كلها مكسرة، بعيد عنكم! همهم وجمجم بلهجة لم أفهما وأشّر على اتجاه المطعم ماداً يده في إتجاه المصعد الخشبي العتيق. كانت رائحة الكوراسان (الفطائر الهلالية) وقهوة الإكسبرسو يفوحان في بهو قاعة الإستقبال؛ روائح جديدة على أنفي الأمدرمانيّ لم أعهدها من قبل. سألت نفسي في دربكتها بهدوء، أسئلة ربما تبدو "عويرة" ، لكنها مستحقة:
    - يعني الناس ما بتاكل لا فول ولا بوش هنا؟
    - زيت سمسم، موية فول، دغوة، موية جبنة، بصل وقرون شطة؟
    - كدي، أدخل يا ولد واستفتح بالله واستكشف المواقع المونبرناسية!
    دخلت القاعة وكانت تعج بالناس. كلّ الطرابيز محجوزة وكلٌّ منهمك في نهم فطائره وأيُّما انهماك... أوجس المشهد في نفسي خيفة وما أن وطأت قدماي بهو المطعم حتى بدأ جسمي يعتليه شعور عرفته لحظة وصولي مطار شارل ديغول (شرَّ دخول)؛ وكأنما جيوش نمل سليمان قد إمتطته في هرع وذعر.
    - يا ولد اركز. ما تقوم في لبكتك دي تعمل ليك عملة قبيحة بعدين يقولوا الزول ده جابوه من وين!
    كنت حذرا في التفحص والتدبر قبل أن أشرع في أي خطوة. ترآت لي طاولة صغيره فارغة في آخر ركن من المطعم. وددت أن أسرع نحوها لكي لا يلاحظ الحضور بحركتي المريبة! لاحظ الجرسون تلبكي وتسكعي وتكبكبي. فجاء بخفة باريسية تبحث عن نظير. بلغني قبل يرتد إلىّ طرفي سائلا:
    - موسيو، قهوة والله شاي؟
    - يا حوله ولا قوة، اه أبوراس ده يتفاهمو معاهو كيف يا جماعة؟
    - الجهجه دي ذكرتني نكتة "اقين ابكرعين"، المعروفة عندنا التي تحكي حكاية سوداني أراد أن يطلب أكلا في مطعم إنجليزي بيد أنه لا يملك نواصيَ لغة أهل البلد.
    أجبته برعشة قائلا:
    - شاي بلبن ("مقنن" - قلتها في نفسي).
    طبعا "مقنن" دي لا وجود لها في قواميس ومعجميات لغة فكتور هيجو.
    اه بجاي وبجاي، فطرت في الفندق وكان البوفيه، عدا الكرواسانات والبان أو شوكولاه والموسلي (نوع من الردَّة تؤكل عند الأفطار لأنها تطهر "العادم" والكمونية، كما يزعم أهل الغرب). على كل كان الرستوران يكتظ بكل ما لذّ وطاب من شتى ألوان المأكولات، المعجنات، الفطائر، المربات وأشياء أخرى كثيرة، لم يستوعبها داموغي الأمدرماني البسيط أذداك. قلت في نفسي بعد أن رأيت تلك الرؤى وشفت تلك الشوفات:
    - وداعا مملكة البوش العملاقة.
    وطرأ على ذهني ذكريات تلكم الأيام الخوالي التي ابتلعنا فيها كيلوهات البوش بسوق الموردة كالأسبرين. ما ألذ القعدة تحت شجرة النيم التي تظل دكان عمكم نور الدائم. دكانه كان في حي الموردة قرب خور أبو عنجة. ما ألذّ حكايات وأحلام أمير سربون عن الفكي إكسبرس، إمام جامع المورده سلفا، وعن باريس وعن "الجكس" فيها؛ خيالات أطيفال يحلمون بالحرية وبارتياد مجاهيل شتى في كل ركن نائي من أركان الدنيا.

    سوف أحدثكم في الحلقة القادمة عن وصولي للمدينة الجامعية أندريه ألكس بمدينة ليون وعن مقابلة أصدقائي من طلبة جامعة الخرطوم بها، منهم من أحتضنني وكنت له رفيق، كسعادة السفير... لنا لقاء! وفي الختام بعض الأبيات:

    إحترت في باريس مرَّة ٭ وكانت أيّ حيرة
    وكان غضاً صباي ٭ وكنت في بلادي زهرة
    وكان قلبي ديارا ٭ أنت يا بلادي فجره
    وكان صدرك دفأً ٭ أستكين فيه سرّا
    وكان طيبك يوحي ٭ إلى يراعي ذكرى
    ولحن بُرَعِيهِ يهدي ٭ إلى الفلاح كُثرا
    وحبّ أهلك يملى ٭ إلى لساني سحره
    وصوت إخواني نور ٭ في هداه شكرا
    أنتِ يا أمدرمان تحفة ٭ هاك قلبي فيه زفرة
    وأنت للقلبِ روحاً ٭ وأنت للعين قرّة
    كانت حياتيَ رونقاً ٭ وكنت أمير المسرّة
    عهدي فيك زمان ٭ سرى وأوجس حسرة
    فبت في باريس أبكي ٭ وحديثي فيها عبرة
    ناشدُ الأوطان فيها ٭ ناظم الأحلام دُرّا


    إنتظروني في الحلقة القادمة!
                  

05-02-2011, 06:27 AM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (٤) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    إلى العلى
                  

05-06-2011, 04:01 PM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    فوق
                  

05-06-2011, 05:20 PM

طارق عمر مكاوي
<aطارق عمر مكاوي
تاريخ التسجيل: 10-16-2007
مجموع المشاركات: 738

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    متابعين و الله
                  

05-06-2011, 08:30 PM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5) (Re: طارق عمر مكاوي)

    تسلم يا أستاذ طارق، تحياتي لك ولنا لقاء
                  

05-07-2011, 08:31 AM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    فوق
                  

05-07-2011, 06:19 PM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    +
                  

05-08-2011, 03:09 PM

محمد بدوي مصطفى
<aمحمد بدوي مصطفى
تاريخ التسجيل: 08-12-2009
مجموع المشاركات: 442

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (5) (Re: محمد بدوي مصطفى)

    +
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de