|
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (٢) (Re: محمد بدوي مصطفى)
|
باريسيات (٢) د. محمد بدوي مصطفى الشيخ [email protected]
هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات؟ سردت لكم، أطال الله في عمركم، عن بداية رحلتي إلى فرنسا (بلاد الجن والملائكة) على حدّ قول الأستاذ طه حسين. شددت الرحال لتلك البلاد الساحرة الباهرة وأنا في سن يافعة قضّة تفتقد لكل ما تحمل لفظة "خبرة بضروب الحياة" من معان. خبرة في العيش في بلاد "تموت من البرد حيتانها"، في بلاد كستها زرابيّ الجليد السرمدي وملافح الصقيع من وشاح أبيض ناصع. ثلاثة وعشرون عاما غبت فيها عن وطني ولم تمح السنون الطوال أول صدمة لي مع فرنسا! تهت في مطار شارل ديغول باحثا عن لغة أفهمها وأناس أعرفهم يشدون باذري في محنتي هذه. "يا كافي البلا البلد دي مافيها ريحة سوداني واحد"؟ لحسن حظي وكما حدثتكم في المقال (١) أنني حظيت بمقابلة "أولاد بلد!" فحلان أسمرانيان يتقدمان أمام أعيني بخطى ثابتة يستشف المرء من أول نظرة لهما بمدى تمرسهما وخبرتهما في السفر والترحال في بلاد الغربة. تقدمت بحذر حاسر الرأس عند بداعة المنظر ومستشفا من ثباتهما طمأنية وسكينة أثلجتا نار قلبي. فتقدمت، كما ذكرت سلفا، على أخمص قدميّ وكأنني على مقربة من فريسته أخشى أن تتلاشى في لمحة ونفس. ثوان قليلة والنفس في ولع عظيم تنتظر نشوة اللقاء المنشود على أحر من الجمر. - إنتو سودانيين؟ فما أن سكت حسي بعد السؤال، بدت علامات الدهشة والإستغراب على وجههما! عيون مشرأبة، رموش مرتفعة، وفم قد تفتحت مقاليدة لتفصح عن أسنان قد إنتظمت كعقد فريد من الدر! - نعم! - إنت ود منو؟ - ود بدوي مصطفى - مالك واقف هنا؟ عندك مشكلة؟ قلت في نفسي، مشاكلي تنوء بالعصبة أولي القوة... - نعم، هذه أول مرة لي في باريس، ولا أعرف كيف أحول مبلغ من المال لأنتفع به في رحلتي. أضافة إلى ذلك، فأنا لا أمتلك نواصي اللغة الفرنسة، ولم أر في حياتي المترو على الطبيعة، ناهيك عن ركوبه.
فكيف لي بعد كل هذا التلكلك والتجهج والتسكع والتسربع أن أقدر على حجز فندق بسيط وغير غال في أحدى ضواحي المدينة؟ كيف أمتطي التاكسي؟ وكيف أصف له المكان وباي لغة؟ علما بأن الفرنسيين، كما يُزعم عنهم في الأعتقادات الشعبية في أروبا، لا يطيقون الحديث باللسان الإنجليزي أو بالسنة أخرى خارجة عن لغتهم البديعة التوقيع والسلسة الموسيقى. قلت لنفسي إذن الإنجليزية هي المخرج من هذا المأزق! بيد أن إنجليزيتي كانت إنجليزية سودانية لا يمكن فهما إلا في السودان! كيف أذهب ألى مدينة ليون؟ المدينة الثانية في فرنسا من حيث الأهمية ثقافة واقتصادا، والتي أتيت قاطعا بحورا من أجل الدراسة في جامعاتها العريقة. كان أبي يمتلك شركة لتصدير الجلود، تعمل مع الأقطار الأوروبية. ذات يوم اقترح لي والدي، بعد أن لاحظ مرارا أنني مولع بلغة فكتور هيجو وبلزاك. - ينبغي عليك أن تدرس دباغة الجلود لتطوير الشركة في المستقبل القريب ولكي يمكننا تسويق منتجاتها في السوق المحلي والخارجي. - سوف ارسلك إلى ليون، فلي صديق فرنسي كان وكيلي فيها، فتدرس دباغة الجلود! - يا له من أمر مثير! - أدرس مع حسنوات من البيض، وأجادلهن في امور العلم والمعرفة وأكلمهم بلسان فرنسي مبين؟ كل هذه الأشياء لم تداعب ذاكرتي بتاتا، لكنها قد طرقت ابوابها بين فينة وأخرى. فكل شاب قرأ موسم الهجرة إلى الشمال يحلم أن يكون مصطفى سعيد ليوم واحد!
لقد حفزتني بنت عمي مها الشيخ على المجئ إلى ليون. مها كانت مبعوثة من قبل وزارة الخارجية، لدراسة اللغة الفرنسية بليون. كنت أملك رقم هاتفها بالحي الجامعي اليكس. هذا الحي الليوني الأخضر القريب من موناستير الفورفيير، الذي احتضن كثير من الأصدقاء من الدول العربية. فكانت تتوافد عليه نخبة من الطلاب السودانيين من قسم اللغة الفرنسية بجامعة الخرطوم ممن حظوا بمنحة إلى فرنسا، جنة الله في أرضة، كما كانوا يزعمون. بحثت في قراطيسي عن رقم التلفون وعثرت عليه بعد جهد جهيد في آخر ركن من "شنطة حمزه" التي كانت تمتطي يدي اليمنى. سألت نفسي: - كيف أتلفن؟ - هل هناك كباين للتلفون كالتي بمصر؟
کان السودان وقتها يفتقد لمظاهر حضارية مثل هذه! - ما هو مفتاح المدينة الداخلي؟ - ما هو رقم غرفتها في الحي الجامعي؟ - كيف أتفاهم إن لم تطلع لي هي بنفسها على الهاتف؟
يا للمصيبة ويا لهولها!
هل تعرفون، عادة عندما يسافر الخواجات إلى مكان ما، إن صغُر سنهم أم كَبُر، فهم يعدون العدة لأسفارهم ويجهزون لرحلاتهم أحسن تجهيز: الخرائط لمعرفة المناطق، دلائل اللغة لاسيما وأن كانت الوجهة المنشودة "بلدا طيره عجم". إن من ضروريات أدب الأسفار حمل الملابس الملائمة لكل أحتمالات الطقس المتوقعة، سماع النشرة الجوية والبحث عن معلومات مناخية دقيقة عن الجهة المقصودة.
لكن يا سادتي أخوكم "خرج برأس حنين". فأدب الأسفار كان بالنسبة له "لفظ أعجمي" كما يقول الألمان عند الإستنكار: يعني بالعربي الفصيح كده "لا تحضير ولا يحزنون".
فخرج الشاب اليافع المخلوع في قلبه، من قلب المطار، الى أرصفة سيارات الأجرة المکتظة بالناس اللاغبش والسيارات الفارهة باحثا عن تاكسي يقله من المطار إلى باريس. ففور خروجه شعر بلسعة عقارب البرد الباريسي متسللا سمها الثلجي إلى دواخل عظام "الأمرقيقة" الأمدرمانية. سارية فيها من عظم إلى آخر كالسم النقوع، فسلمت أمري لله!
إنتظروني في الحلقة القادمة!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (٣) (Re: محمد بدوي مصطفى)
|
بارسيسات (٣)
د. محمد بدوي مصطفى الشيخ أستاذ اللسانيات والأدب بجامعة كونستانس (ألمانيا) [email protected]
قبل أن أبدأ حديثي معكم في هذه الحلقة من باريسيات (٣)، أريد أن أعود بعجلة الزمن إلى الوراء وأن أخبركم بسبب كتابتي لهذه المقالات ذات النَفَس الذاتيّ، لاسيما وأنني عزفت عن التطرق إليه وضربت الطناش، كما لاحظتم، في أول حلقة (باريسيات (١)). سألني غير واحد من أهلي وإخواني أن يكون لي تجربة في أدب السيرة كتلك التي لطه حسين في الأيام، الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال، يحي حقي في قنديل أم هاشم وتوفيق الحكيم في عصفور من الشرق. كذلك ألحّ عليّ أفراد أسرتي وأصدقاء الدرب الليوني العسير و"عكلتوا" في في سؤالهم وأيّة عكلتة، حتى إذا كان لي أن أشرع في هذا وجدتني، على حد قول أستاذنا طه حسين في أيامه، أبدأ مشوارا طويلا لا أملك من أسبابه الكثير. لقد عدت في هذا الذي أبسطه بيد إيديكم هنا، أطال الله في عمركم إخوتي، في قراطيسي وأوراقي إلى مخزن الذكرى ومخزون الذاكرة، وإلى ما كان لديّ من محاولات وكتابات صغيرة قد تناثرت هنا وهناك بين مسكني القديم في مدينة ليون ومقامي الحالي في مدينة كونستانز، تلك المدينة الساحرة، التي ترقد على بحيرتها كالهمزة على سطرها، في أقصى دنيا ألمانيا: لم أترك كرتونة كتب أو كيس أو درج قد تكدست فيه صحائفي المسجونة، منتظرة بذوغ شمس حرية التعبير، لكي تنطق فاصحة عن ما بدخيلتها وعن ذكرى ماض أكل عليه الدهر وشرب، وإلا فتحتها. صلت وجلت في مخزني معلنا حملة فتح الإكياس والأوكار القديمة كمشعوذ يبحث عن ثعابين في كل جحر. فالقصاصات تكاثرت والمواضيع تشعبت لذلك رأيت أن أجعل من باريسياتي، حلقات متسلسلة في شكل عقد أقصوصي فريد، ليته يشابة العقد الفريد لابن عبد ربه.
فاسمحوا لي أن أعود بكم الآن إلى مطار شارل ديغول مرّة ثانية! هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات (٢)؟ سردت لكم، أطال الله في عمركم، عن تجهجه وتسربع وحيرة هذا الطفل الشاب في مطار ٭شر دخول٭ باحثا عن "مخرج آمن". وكما تعرفون سلفا فقد شددت الرحال لتلك البلاد الساحرة وأنا في عمر الزهور خارجا من بلدي "برأس حنين" و"بشنطة حمزة". وبعد أن لفظت بجملتي التي تعرفونها: "يا كافي البلا البلد دي مافيها ريحة سوداني واحد"؟ أنزل الله لي الأخوين السودانيين وكأنما داعب لساني في تلكم اللحظة زجاجة سحرية ونطق بكلمة سحر، كتلك التي نعرفها في أدبنا العربي: "أطلع يا سمسم" أو في أدبنا الشعبي "شخارم بخارم" أو "أشبيك لبيك سودانيين بين إيديك"! بدا لي الرجلين عن قرب كأنني أحمل منظارا مكبرا. وقفت أمامهما مهلوسا وموسوسا تارة ومهللا ومكبرا تارة أخرى. فحركتهما وهما يتقدمان أمامي، أوحت لي بمدى ثباتهما في بلاط شارل ديغول الأملس، فادخل هذا المشهد السكينة إلى قلبي. تقدمت نحوهما بحذر سائلا متلهفا: - إنتو سودانيين؟ - نعم! - إنت ود منو؟ - ود بدوي مصطفى - مالك واقف هنا؟ عندك مشكلة؟ فحدثتهما عن حالي وأحوالي ... قال لي أحدهما، والذي صار بعد ١٨ سنة من تلك اللحظة من أعز أصدقائي، ألا وهو الأخ الفاضل محمد الأمين بخيت. - لقد رأيتك بالأمس في بنك البركة مع أبيك! - نعم، كنت أريد حينها استخراج شهادة المقدرة المالية لمتابعة إجراءات السفر. قال لي وبدون مقدمات ضاغطا على يدي كتلة ما، ضاما يده إلى يدي بقوة! - خذ هذا المبلغ وخذ هذا! - ماهذا، أطال الله في عمرك؟ - حجز بفندق مونبرناس بقلب مدينة باريس. - وأنت؟ - سوف أذهب مع رفيقي إلى الهولدي ان قرب المطار. فتعال معنا نحتسي كأسا من القهوة هناك وبعد ذلك يقلك التاكسي إلى الفندق. كادت دموعي تجري من شدة المدّ والجذر النفسي الرهيب اللذان أصاباني في تلك اللحظة "وأحسست بدفأ الحياة في العشيرة"، كما ذكر الطيب صالح في موسم هجرته إلى بلاد الغرب، لحظة رجوعه إلى البلد.
بعد أن رافقت صديقيّ إلى الهولدي ان، أقلني التاكسي إلى فندق مونبرنساس. في الطريق عبر شوارع باريس الفارهة، قلت في نفسي. - ما أعظم هذا البلد: نظام، تناسق، جمال، عظمة، نظافة، أبه، توافق، روعة، بداعة، لمعان، بهرجة، يا للمناظر البديعة ويا لجمال الطبيعة في بلاد الجن والملائكة. فلفظت بجملة جدتي، "قادر الله في ملكه"! وتذكرت حينها القولة المشهورة: "وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين"... وصلت الفندق واصطحبني موظف الإستقبال المتحنكش، بأدب جمّ، إلى غرفتي. - هل تحتاج إلى أيّ شي؟ قالها بفرنسية "أساسية" عجزت نيرونات مخيخي أن تستوعبها في حينها. أجبت بانجليزية مكسرة: - كل شئ على ما يرام. وسككت الباب من دوني وبدأ الحُلم الباريسي يتدفق ...
حُلم عرفته طيلة سنوات الدراسة في مدرسة المؤتمر الثانوية بامدرمان. كنت أحلم مع رفاقي أمير سربون، محمد سرالختم السنوسي وغيرهم من أباليس اللغة الفرنسية عن باريس وعن فرنسا. وكنا نتبارى في "تحريك اللغة" على حدّ قول صديقي المشوطن أمير سربون، بلهجته الحلوة وحركاته العباسية المتوزوزة.
كان أستاذ عزالدين، أستاذ اللغة الفرنسية في المدرسة، يحدثنا عن رقي ورقة الفرنسيين وعن أدبهم الجمّ وحضارتهم الرفيعة، وكان يكرة بشدة جلافة السودانيين بالذات هؤلاء من "رواد العماري" بسوق الشمس وحجاج "نوداي البلح الرياضية" بقلب العباسية. کان يقارن ويزعل ويسبّ ويضرب الأمثال بلا انقطاع وكل ذلك في هدوء تقطعه في طرفة عين نرفزة جنونية. كان يقول: - إنتو عارفين يا أولاد، الفرنسيين ديل زيهم مافي في العالم كلو. ديل "عملة صعبة". أناقتهم فوق التصور وجمالهم فوق العادة. حبهم للعمل والطبيعة والنظافة بلا حدود. ديل ناس حلوين حلاة شديدة. بناتهم شعورهن ذي ضنب الحصان، ما عايزه لا ودك، لا كركار ولا زيت سمسم. لمن تمشي في الشانزليزه، أحلى شوارع العاصمة الفرنسية، ما بتقابك بتاتا يافطة مكتوب فيها "ممنوع البول" مصحوبة بنسمة بولية جمارية تكتم الانفاس، بعيد عنكم. ففي شوارع باريس تشم العطور مما تركه المشاة على أرصفتها من مسك وهلم جرّ، شي إيف سان لوران، شي كرستيان ديور، شي برادا وشي شانيل. واللبس خليه ساي! قادر الله!
كنت أرى في حديث أستاذي متعة وسلاسة وخصوصا لأنه ينقلنا في رحلة خيالية إلى هذا العالم السحري المجهول لأطيفال مثلنا، في سنّ يافعة، ممن يتعطشون للمعرفة وارتياد مجاهيل بعيدة. فكنت دائما أنتظر درس اللغة الفرنسية بفارق الصبر لأعيش الرحلة السحرية وميتامورفوز اللحظة، كما عاشها جوتة بزمانه، وكثير من أدباء الغرب. هم عاشوا الرحلة إلى الشرق بروحهم بيد أن أقدامهم لم تطأ أرض الشرق إطلاقا.
كان حديث أستاذي يذكرني بروح أستاذنا البروفسير محمد الواثف في قصيدته أمدرمان تحتضر. فالواثق، كاستاذ عز الدين، يتحدث في قصيدته بكثرة عن الحياة الرغدة في أروبا وعن حبيبته مونيك ويسب أمدرمان واصفا لها بكل قبيح، فيقول: ألا حبذا أنت يا امدرمان من بلد٭أمطرتني نكدا لا جادك المطر (...) ولا أحبّ بلادا لا ظلال لها٭يظلها النيم والهجليج والعشر
وماقاله الواثق وأستاذ عزالدين نجده يناقض ما قاله الأستاذ الحردلو في قصيدته المعروفة "نحن": - أنحنا الساس ونحنا الرَّاس ونحنا الدنيا جبناها ... وبنيناها ... بويت في بويت.
كان أستاذ عز الدين يتتريق ويستنكر قول الحردلو ويصفه بمرض "اللحس العقليّ".
- والله يا أولاد الحردلو ده لو طلّعناه من التُّكُل القاعد فيهو ده، ووديناهو يوم كدي باريس، لأصابه "جنون البقر". ساس منو وراس منو؟ أمشو كدي ورا سينما الوطنية أمدرمان وشوفوا الساس ولحم الراس. شوفوا المعمعة الشديده"! طبعا كان يلمح بالمناظر الفظيعة والروائح القذرة والخريات المترامية بين "قاطعي الجمار" المتناثرين كالذباب بين يافطة الفيلم الهندي وطبلية التبش بالشطة... منآظر بشعة، مش كده بالله؟!
وتتابعت الأحلام في تلك الليلة الباريسية الرطبة وكأنها شريط سينمائي ينقلني بعجلة الزمن إلى دنيا الماضي (ريتروسبكتيف). مددت صفحتي على سرير الدبل الطري ورحت في آخر نومة...
إنتظروني في الحلقة القادمة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قصتي في بلاد الجنّ والملائكة: باريسيّات (٤) (Re: محمد بدوي مصطفى)
|
باريسيّات (4)
هل تتذكرون ما حدثتكم عنه في الحلقة السابقة من باريسيات (3)؟ سردت لكم، أطال الله في عمركم، كيف تتابعت الأحلام في تلك الليلة الباريسية الرطبة وكأنها شريط سينمائي نقلني بعجلة الزمن إلى دنيا الماضي بحركة ريتروسبكتيفية بطِيئة. حدثتكم عن الرحلات الخيالية إلى فرنسا، تلك التي عشتها في مدرسة المؤتمر الثانوية مستمعا لأستاذي عزالدين. وعلَّمتكم أيضا بعلوم أصدقاء الدرب الليوني العسير ممن لا أعرف أين رمت بهم أيادي القدر الآن. منهم نفر نعتز بنجاحاتهم وتفوّقهم: مثال السفير السوداني بجدة د. طارق على بخيت، الذي علق على باريسياتي قائلا: "الاخ د محمد بدوى، تحياتي وشكرا على إرسال المقال الرائع وحقيقة هذه خطوة هامة لتوثيق تجربتك فى فرنسا .. وياليتنا جميعا وجدنا الفرصة للتوثيق لأسرنا وللأجيال المقبلة. موقع صحيفة الأحداث على الإنترنت غير موجود لذلك نأمل فى إرسالها لنا بانتظام .. .. لازلتُ أذكر اليوم الذى ذهبنا فيه معا لنشرب الشاي مع تلك الفتاة الانجليزية الرقيقة (آن)، التى كانت تدرس معكم اللغة الفرنسية ... نسيت اسمها ..وعندما جلسنا وجدنا خمس تفاحات على المائدة وأخذ كل واحد منا تفاحة .. وقلت لكم الشابة دي عازماكم شاي مش تفاح .. أذكر أنك علّقت بأننا فعلا إستهلكنا تفاح الأسبوع بمعدل تفاحة لكل يوم وأنك لاحظت أن البنت محبطة جدا لهذا الموضوع وأن وجهها محمر لهذا السبب.. - أين هم فى الزحام الآن ؟ -أقصد أمير ومحمد سر الختم وطارق أبو الدجل .. والبقية الكرام .. كنت فى مهمة رسمية فى جنيف فى مايو الماضي وانتهزت السانحة وذهبت لليون بالسيارة ومكثت حوالي خمس ساعات فى المدنية .. وكانت تلك أول زيارة لي منذ عام 1985 (بعد 23 سنة) .. وقفت على الأطلال فى كلود بيرنارد .. والمدينة الجامعية فى أندريه اليكس .. سبحان الله هذا حديث يطول .. اتمنى لك التوفيق ويمكن أن ترسل أيضا للأخ عثمان السيد ويعمل حاليا مترجما فى وزارة الخارجية القطرية على الأيميل. السفير د. طارق على بخيت الإدارة السياسية - منظمة المؤتمر الإسلامى- جدة"
فاسمحوا لي أن أعود بكم الآن إلى فندق مونبرناس في لبّ مدينة الجنِّ والملائكة، باريس، مرّة ثانية! إرتفع الضحى من الغَدِ فاذا ضَوءُهُ المتدفّق يَغمر حجرتي الباريسية وأنا مازلت في نومٍ عميق لم يوقظني منه إلا صوتٌ غريبٌ يتزايد مرتفعاً على تروتوارات المشاة في الشوارع الباريسية. لم ينطفأ ضوء المصابيح الخارجية طيلة الليل. وبين الحين والحين يترامى إلى مسمعي صوت آخر أخفّ وطأةً، لابد أنَّه سعي نزلاء الفندق على ممراته الضيقة أو نزولهم على درجه الخشبي الملتوي. من العجيب في الأمر أنني لم أسمع في ذلكم الصبح الملحوس صوت ديك ولا كتكتة دواجن في ذلك الموقع الموحش ، شئ عجيب، مش كده؟ يا حليلك يا ديك عمِّي سعد! كان صوتو يراري في كل أرجاء الملازمين؛ من الإذاعه لغاية ميدان البحيرة. عندما تذكرت ديك عم سعد تبادرت إلىّ أفكار وهلوسات شيطانية غريبة أخرى: - هل يصيح الديك بالفرنسي قائلا "بنجور" وتكتكت الدواجن بالآرقو (العاميّة الفرنسيّة) قائلة "مرسي، مرسي"؟! - ده "بلدا دجاجه عجم"، كما يقول أهلنا الكرام؟ - كلامو كلام الطير الفرنسي في الباقير؟ - يا جماعة، أنا في حلم والله علم؟ - نحن ديوكنا بنعرف كلامها وددجاجنا بنفهم رطانتو! - لكن هنا، همممم! "حليلك يا الملازمين بكثرة فنونك وحركة جنونك وسحلبة مفتونك وبقطعة نورك وغبرة لونك وقلة صابونك وشربكة شبكة تلفونك..." عندما كنت بالملازمين كانت أختي لبنى، القريبة إلى نفسي، تومئ إليَّ سائلة عن حالي قبل أن أنضجع في فراشي الليلي. وكنت حينئذٍ أترصد مجِيئَها إلى لحافي ومرقدي وهي متفحصة عن تمامه وكماله. لكن للأسف هنا جنٌّ وملائكة ولكن لاوجود لإختى الحبيبة. فأنا وحيد في وحشتي وغربتي التي أصبحت واقع لامفر منه يذكرني به طلوع شمس مونبرناس الرقيقة. شمسه تداعب أشعتها التبرية وجوة المشاة، من "أبناء الريف"، باعثة بحرارتها الحياة وباثة في روحها من أنفاس الشانزليزيه المتوقِّدة نشاطا وحركة.
استيقظت من نومي مبكرا محتفلا بأصوات غريبة لم أعتدها من قبل. أسمع أصوات كعوب الأحذية تضرب على وجه الأرصفة الأسفلتيّة "ضرب غرائب الإبل". صوت يشابه كركبة نجار يعالج الخشب بحرقة، متقلِّدا شاكوشه الأخرص. هذا وذاك ممتزج بأصوات إنس راجلة وأقدام جن رافلة قد أتت من كل فجّ عميق قاصدة مطعم الفندق، الذي يُتناول به البتي ديجونيه (الفطور). نهضت من السرير ودخلت الحمام. استحممت، بعد لائٍ، "كاسراً" الماء البارد بالساخن متذوقا حلاوة الدفئ الدُشِّيّ؛ بعد أن حللت المعضلات "التكنوحنفية" بالحمام الباريسي الخطير. رأيت العجب العجاب في ذلك الصباح! وزي ما بقولوا في المثل الشعبي: الماشوفتو في بيت أبوك، يخلعك؛ وكانت خلعة من "النوع أبو كديس": موية باردة وموية سخنة تتدفق أفواجها بلا انقطاع بقدرة قادر. بعد أن فُكَّت مشكلة الماء وكسره وخروجه من رأس الدشّ، الخ، صُلتُ وجُلتُ في صحن الحمام باحثا عن "بروة" (صابونة) فنيك أتطهّر بها من غبرتي الأمدرمانية وأبرط بها"شعري القرقد، البدهان ما برقد"؛ لم أعثر على صابون الفنيك المنشودة، لكن وقع في يديّ صابون سائل يُشابه في شفافيته ولمعته الذهبية زيت الفرامل في طرمبة بيت المال؛ کان لونه التبريّ جذابا تنفتح له النفس من أول وهلة. وفي خلال حملتي الإستكشافية بالحمَّام، عثرت في بعض الأركان الأخرى منه على أدوات توليت أخرى، رأت بجلالتها لأول مرة زول زي حلاتي، من قلب أمدرمان. بكل صراحة من الأشياء التي أستثارتني و شحذت فضولي هي قوة الماء الباريسي المندفع من الحنفيّة والدشّ وعدم انقطاعه. قلت في نفسي، يا حليلكم يا ناس بيتنا! في بيتنا في الملازمين مازالت ترن جملة أساسية في ذهني، قديما جملة "أقفلوا الماسورة" وحديثا "أفتحوا الموتور"، تسمع هذه الجملة في اليوم الواحد مررا. ولو الواحد ليس له حظ من الماء الذلول الغسول في حمامات أمدرمان، لخرج بسبب إنقطاع التيار المائي أثناء الإستحمام متجهجها وجسمه يتصبب رغوة صابونية ناصعة البياض، ليقفل الماسورة أو ليفتح المحرك بنفسه أو مناديا (يا وار، أفتح الموتور!). يا حليلك يا امدرمان وحليل أيامك! جلست أمام نافذة حجرتي في فندق مونبرناس بغية سماع أصوات بشرية حيّة تتكلم وتجادل كما هي الحال في حلتي الملازمين. وددت التقاط بعض الكلمات لتحريك اللغة فجراً، ولكن كان اللاكلام يخيم على شوارع باريس الرائعة!!! - يا كافي البلا، الناس ديل خشومهم مخيطة والله شنو؟ - ما في زول واحد ساكت كده بتكلم والله ينادي ليه زول؟ - ما في عوووك ويا شاب ويا جنه ويا حجة ويا خالة ويا وزوز ويا هناي؟ - شئ عجيب! لم أكن أعرف أن "ابتلاع الألسنة" عادة من العادات التي يمارسها الناس في باريس بمهارة! - مابتسمع في الشارع كلمة "بِغِم"؛ إلا "طَق، طَق، طَق" الصباح كله! هدوء لاكلامي تام تقطعه أصوات الكعوب بوقعها المطرقي الحاد وإيقاعاتها "المليجيّة" المتميزة. نزلت للإستقبال وسألت عن صالة البتي ديجونيه لأفطر. كان الموظف رجل عربي الملامح، ربما من شمال إفريقيا، أسنانه كلها مكسرة، بعيد عنكم! همهم وجمجم بلهجة لم أفهما وأشّر على اتجاه المطعم ماداً يده في إتجاه المصعد الخشبي العتيق. كانت رائحة الكوراسان (الفطائر الهلالية) وقهوة الإكسبرسو يفوحان في بهو قاعة الإستقبال؛ روائح جديدة على أنفي الأمدرمانيّ لم أعهدها من قبل. سألت نفسي في دربكتها بهدوء، أسئلة ربما تبدو "عويرة" ، لكنها مستحقة: - يعني الناس ما بتاكل لا فول ولا بوش هنا؟ - زيت سمسم، موية فول، دغوة، موية جبنة، بصل وقرون شطة؟ - كدي، أدخل يا ولد واستفتح بالله واستكشف المواقع المونبرناسية! دخلت القاعة وكانت تعج بالناس. كلّ الطرابيز محجوزة وكلٌّ منهمك في نهم فطائره وأيُّما انهماك... أوجس المشهد في نفسي خيفة وما أن وطأت قدماي بهو المطعم حتى بدأ جسمي يعتليه شعور عرفته لحظة وصولي مطار شارل ديغول (شرَّ دخول)؛ وكأنما جيوش نمل سليمان قد إمتطته في هرع وذعر. - يا ولد اركز. ما تقوم في لبكتك دي تعمل ليك عملة قبيحة بعدين يقولوا الزول ده جابوه من وين! كنت حذرا في التفحص والتدبر قبل أن أشرع في أي خطوة. ترآت لي طاولة صغيره فارغة في آخر ركن من المطعم. وددت أن أسرع نحوها لكي لا يلاحظ الحضور بحركتي المريبة! لاحظ الجرسون تلبكي وتسكعي وتكبكبي. فجاء بخفة باريسية تبحث عن نظير. بلغني قبل يرتد إلىّ طرفي سائلا: - موسيو، قهوة والله شاي؟ - يا حوله ولا قوة، اه أبوراس ده يتفاهمو معاهو كيف يا جماعة؟ - الجهجه دي ذكرتني نكتة "اقين ابكرعين"، المعروفة عندنا التي تحكي حكاية سوداني أراد أن يطلب أكلا في مطعم إنجليزي بيد أنه لا يملك نواصيَ لغة أهل البلد. أجبته برعشة قائلا: - شاي بلبن ("مقنن" - قلتها في نفسي). طبعا "مقنن" دي لا وجود لها في قواميس ومعجميات لغة فكتور هيجو. اه بجاي وبجاي، فطرت في الفندق وكان البوفيه، عدا الكرواسانات والبان أو شوكولاه والموسلي (نوع من الردَّة تؤكل عند الأفطار لأنها تطهر "العادم" والكمونية، كما يزعم أهل الغرب). على كل كان الرستوران يكتظ بكل ما لذّ وطاب من شتى ألوان المأكولات، المعجنات، الفطائر، المربات وأشياء أخرى كثيرة، لم يستوعبها داموغي الأمدرماني البسيط أذداك. قلت في نفسي بعد أن رأيت تلك الرؤى وشفت تلك الشوفات: - وداعا مملكة البوش العملاقة. وطرأ على ذهني ذكريات تلكم الأيام الخوالي التي ابتلعنا فيها كيلوهات البوش بسوق الموردة كالأسبرين. ما ألذ القعدة تحت شجرة النيم التي تظل دكان عمكم نور الدائم. دكانه كان في حي الموردة قرب خور أبو عنجة. ما ألذّ حكايات وأحلام أمير سربون عن الفكي إكسبرس، إمام جامع المورده سلفا، وعن باريس وعن "الجكس" فيها؛ خيالات أطيفال يحلمون بالحرية وبارتياد مجاهيل شتى في كل ركن نائي من أركان الدنيا.
سوف أحدثكم في الحلقة القادمة عن وصولي للمدينة الجامعية أندريه ألكس بمدينة ليون وعن مقابلة أصدقائي من طلبة جامعة الخرطوم بها، منهم من أحتضنني وكنت له رفيق، كسعادة السفير... لنا لقاء! وفي الختام بعض الأبيات:
إحترت في باريس مرَّة ٭ وكانت أيّ حيرة وكان غضاً صباي ٭ وكنت في بلادي زهرة وكان قلبي ديارا ٭ أنت يا بلادي فجره وكان صدرك دفأً ٭ أستكين فيه سرّا وكان طيبك يوحي ٭ إلى يراعي ذكرى ولحن بُرَعِيهِ يهدي ٭ إلى الفلاح كُثرا وحبّ أهلك يملى ٭ إلى لساني سحره وصوت إخواني نور ٭ في هداه شكرا أنتِ يا أمدرمان تحفة ٭ هاك قلبي فيه زفرة وأنت للقلبِ روحاً ٭ وأنت للعين قرّة كانت حياتيَ رونقاً ٭ وكنت أمير المسرّة عهدي فيك زمان ٭ سرى وأوجس حسرة فبت في باريس أبكي ٭ وحديثي فيها عبرة ناشدُ الأوطان فيها ٭ ناظم الأحلام دُرّا
إنتظروني في الحلقة القادمة!
| |
|
|
|
|
|
|
|