بدأت الألية الافريقية رفيعة المستوى برئاسة الرئيس الجنوب افريقي السابق ثابو أمبيكي استعادة مبادراتها في التعامل مع الأزمات السودانية المتعددة، بعد إنقطاع من الإجتماعات المباشرة إستمر لنحو ستة أشهر. حيث أعلن رئيس الآلية في الأول من فبراير 2017 عن نيته زيارة الخرطوم خلال فبراير الجاري، سبقها لقاءات وتصريحات من موظفيّ الآلية والإتحاد الافريقي حول الإستعداد لإستعادة عمليات التفاوض والحوار وفق ما جاء خارطة الطريق المقدمة من قبل الآلية الافريقية رفيعة المستوى. كانت الآلية الافريقية قد طرحت في مارس 2016، خارطة طريق لحل الأزمات السودانية، وقعت عليها منفردة الحكومة السودانية اولاً، وتبع ذلك موافقة قوى نداء السودان المعارضة عليها في يوليو من نفس العام. الا ان أولى الخطوات التي طرحتها خارطة الطريق انهارت بعد أقل من أسبوع واحد من انطلاقها على إثر تعنت الحكومة السودانية في التوصل الي اتفاق وقف عدائيات بغرض توصيل المساعدات الإنسانية. ذلك التعنت في بداية العملية قتل عملياً آفاق الوصول الي حل سلمي عبر بوابة وقف الحرب في المناطق الثلاثة( دارفور، النيل الازرق وجنوب كردفان/ جبال النوبة). سوء النوايا الذي بدأ من الحزب الحاكم تجاه خارطة الطريق برفضه الوصول لإتقاف وقف العدائيات وإيصال الغوث الإنساني، تلته حزمة من الإجراءات والخطوات هدفت بصورة غير مباشرة الى التخلي عن وقتل مبادرة الآلية الافريقية- خارطة الطريق. شملت الإجراءات والخطوات التي اعلن حزب المؤتمر الحاكم عبرها تنصله عن خارطة الطريق وإنتهاك موادها الرئيسية مايلي: 1) إصراره على المضي قدماً في في حواره الوطني المنعزل- حوار الوثبة- باعلان ختام الحوار وتوصياته المختلف حولها حتي مع القوى السياسية المتوالية مع النظام، 2) حله للجنة 7+7 المناط بها المشاركة في الإجتماع التحضيري مع القوى المعارضة، والاستعاضة عنها بتعيين لجنة جديدة تحمل ملامح شركاء الحزب الحاكم في الحكومة القادمة، 3) بداية المشورات والإستعداد في تشكيل حكومة جديدة بمن حضر فقط من القوى من حلفاء المؤتمر الوطني، 4) طرح وإجازة تعديلات دستورية جوهرية تعبر عن مصالح الحزب الحاكم وحلفائه بمعزل عن القوى السياسية والمدنية السودانية الحقيقية، و5) بداية عملية صناعة الدستور الدائم للبلاد بتكوين لجنة للقيام بذلك دون المرور والإلتزام بالمعايير المتعارف عليها عالمياً في وضع الدساتير، هذا فضلاً عن الإقصاء والعزل التام للقوى الوطنية وذلك بالقفز على شروط البيئة المطلوبة لهكذا عملية وعدم الإتفاق معها على المبادئ والترتيبات الدستورية الجديدة. لا تواجه الآلية الافريقية رفيعة المستوى والرئيس ثابو إمبيكي فقط تنصل حزب المؤتمر الوطني الحاكم من خارطة الطريق عبر تلك الإجراءات والخطوات التي ذهب فيها، بل تواجه الآلية معضلة استيعاب والتعامل مع جملة المستجدات والوقائع الجديدة في المشهد السوداني، حتى يتسني للآلية مخاطبة والتعامل معها، سواء عبر خارطة طريق (معدلة) أو عبر أي مقترحات أخرى. وتشمل المستجدات والوقائع الجديدة على سبيل المثال وليس الحصر: العصيان المدني العريض الذي شهده السودان مؤخراً، والذي شكل استفتاء جماهيري لرفض سياسات الحزب الحاكم في السودان. العنف المتزايد للنظام وتدفق النازحين المستمر في دارفور خلال الحملة العسكرية الجارية جبل مرة. استمرار الحملات الحربية في جبال النوبة/جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتزايد ادوار المليشيات الحكومية فيها. تكرار اعلان وقف اطلاق النار من قبل طرف واحد دون وجود أليات للمراقبة مما جعله مجرد إعلان مسرحي في حين تتواصل العمليات العسكرية. تصاعد المواقف الرافضة لمنهج وتفاعل الآلية الإفريقية من قبل عدد من القوى السياسية والمدنية المؤثرة والهامة (مثل قوى الاجماع الوطني وحركة تحرير السودان -عبدالواحد وتنظيمات اللاجئين والنازحين)، مما يضع تجاهلها من قبل الآلية مقوضاً وعقبة حقيقية أمام أي حلول تتوصل لها في المستقبل. زاد كذلك من التحديات والتعقيدات للأزمة السودانية التي تتطلب تعامل أو عدم تعامل الآلية الافريقية معها، مقترح الإدارة الامريكية السابقة، في نهاية العام الماضي والقائل بتولي الولايات المتحدة مهمة توصيل مساعدات إنسانية (محدودة) عبر وكالة المساعدات الامريكية للمدنيين في المناطق خارج سيطرة الحكومة، وذلك بعد تخليصها وفحصها أمنياً من الحكومة السودانية، الأمر الذي يعطي النظام الحاكم القدرة الفعلية على التحكم في إيصال المساعدات واستخدام ذلك في الضغط السياسي. وحدد المقترح الامريكي الذي تم طرحه عبر ورقة مختصرة -لم تشمل الإجراءات العملية لتنفيذه- المساعدات الإنسانية المعنية (بالأدوية والامدادات الطبية والأجهزة الطبية). ولا يختلف هذا المقترح كثيراً عن طرح الحكومة السودانية الذي يصر على احتكار توصيل المساعدات عبر الخرطوم، دون الحديث عن أي مسارات خارجية للإجلاء الطبي او توصيل المساعدات الإنسانية الأخرى مثل (الغذاء، والمعينات التعليمية والبذور والمعينات الزراعية وغيرها من الاحتياجات الإنسانية). كما يشكل المقترح الامريكي تراجعاً من الموقف السابق الذي وافقت عليه الحكومة السودان في مفاوضاتها برعاية الآلية الافريقية والقائل بتوصيل المساعدات الإنسانية من دول الجوار بشرط فحصها في كادقلي والدمازين. أيضاً، لم يتحدث المقترح عن النازحين المتأثرين بالحرب في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة والذين لا تزال الحكومة السودانية تمنع تسجيلهم في معسكرات للنزوح او توصيل المساعدات لهم. شاب طرح المقترح الامريكي الكثير من الاستعجال والغموض، حيث بدى واضحاً استعجال الإدارة الامريكية المنصرفة بالضغط على أطراف المعارضة للموافقة عليه للحصول على نصر سياسي داخلي للإدارة الامريكية قبل مغادرتها للبيت الأبيض، وذلك في سياق تثبيت مشروعية قرارها بتجميد العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام السوداني، ومن ثم موافقة المعارضة على فك العزلة ومكافأة الحزب الحاكم، رغم استمرار جرائمه وحروبه وفساده وقمعه المستمر للحريات. المقترح الامريكي، بتعقيداته المتعددة، ومناقشته خارج العملية السياسية التي تشرف عليها الوساطة الافريقية، يضيف تعقيداً جديداً للأزمات السودانية، وكيفية تعامل الآلية معه، وعما اذا كانت ستتبنى هذا المقترح ام تعمل على طرح مقترح جديد لتحريك الساكن في عملها، وعما اذا كان للآلية الافريقية مقترحات جديدة للتشاور الكافي والمتساوى مع كافة اطراف الازمة السودانية، قبل طرحها بصورة رسمية في طاولات التفاوض والحوار لتجنب رفضها وبالتالي تعطيل العملية السلمية لامد طويل، كما حدث ويحدث الأن في طرح خارطة طريق الوساطة الافريقية. ما ورد أعلاه من خطوات وإجراءات الحزب الحاكم في مساره لقتل أو التنصل عن خارطة الطريق، والحقائق والمستجدات الجديدة في المشهد السوداني، تضع كلها الآلية الافريقية رفيعة المستوى والرئيس ثابو إمبيكي أمام حزمة من التحديات الكبيرة والفرص الممكنة في نفس الوقت، وذلك من أجل تطوير اداءها وقدراتها على التواصل مع كافة الفرقاء السودانيين للوصول الي السلام العادل والتغيير الديمقراطي. حيث تمشل هذه التحديات والفرص: أولاً: البحث عن سبل أكثر فعالية لإلزام الحكومة السودانية بإلتزاماتها تجاه مقررات مجلس السلم والامن الافريقي رقم (456) و (539)، خاصة فيما يتعلق بشروط بناء الثقة وتهيئة البيئة الملائمة. فتنفيذ ما ورد في هذه المقرارات من خطوات من شانه وضع الأساس المطلوب لعملية سياسية سلمية توقف الحرب وتتيح الحريات وتطلق حوار قومي شامل وحقيقي. ثانياً: على الآلية الافريقية التركيز على ضرورة تنسيق مسار الحل السياسي ومسار إيقاف الحرب، من أجل الوصول الى حل شامل ودائم للمشكلة السودانية. فتجارب الحلول السابقة في السودان فشلت بشكل أساسي بسبب مقايضة تحقيق السلام والتضحية بالتحول الديمقراطي، باللإضافة الى تجزئة القضايا ومحاولة معالجة مظاهر الأزمات بدلاً عن جذورها الحقيقية. ثالثاً: بعد سنوات طويلة من تعاملها مع الأزمات السودانية دون إختراقات رئيسية تذكر، بات من الضرورة تطوير تركيبة ومناهج الآلية الافريقية في التعامل مع الأزمات السودانية حتى تصبح أكثر فعالية وملاءمة لما تتعامل معه من قضايا. ويمكن في هذا الخصوص دعوة الآلية الافريقية لتوسعة هياكلها وهيئاتها الداخلية، والاستعانة بشكل منظم وحقيقي، ضمن هيئاتها الرسمية والمؤسسية، بالخبراء والأكاديميين السودانيين، إضافة للمجتمع المدني غير الحكومي، في قلب العمل الاستشاري والتنفيذي اليومي، وذلك حتي تغذي الآلية أطروحاتها بنبض الحياة اليومي في السودان وحتي تجد مقترحاتها للحلول قبولاً وملاءمة أوسع للسياق السوداني ولمختلف القوى السياسية والمدنية السودانية. رابعاً: على الآلية الافريقية توسيع دائرة شركائها الدوليين والإقليميين، والاستعانة بصورة رسمية بقدرات الأطراف المهتمة بالشأن السوداني من البلدان المجاورة والبلدان الأوربية ذات المصالح والاوزان، هذا إضافة الى تمثيل الهيئات الإقليمية والمنظمات الدولية مثل الاتحاد الأوربي والترويكا والأمم المتحدة في عمل الآلية بصورة ملموسة وواضحة لما لها من مقدرات في ممارسة الضغوط. خامساً: على الآلية الافريقية التاكيد على تمثيلها القاعدي عبر وجود موظفين وممثلين دائمين لها في الخرطوم، ومع اللاجئين والنازحين، وفي العواصم التي تتواجد بها المعارضة السودانية بالخارج. فقد كان أحد أكبر أسباب فقدان الثقة في الآلية من قبل القوى السياسية والمدنية المعارضة، بصورة خاصة، هو موسمية الزيارات واللقاءات بين الآلية وهذه القوى المؤثرة في السودان. فالوجود والتمثيل المستقر للآلية الافريقية قاعدياً يتيح لها كذلك ملامسة والتفاعل مع الواقع السياسي والاجتماعي للأزمات السودانية. ختاماً، على الآلية الإفريقية رفيعة المستوى ان تتبنى منهجاً واضحاً في التعامل مع كافة أطراف الأزمة على قدم المساواة، وأن تسعى للتواصل وإدراج تحفضات القوى الأخرى علي عمل الآلية ضمن برامج عملها وأنشطتها، كما عليها إدراك ان الإنفتاح الذي يبدو بصورة أوسع في التعامل مع حزب المؤتمر الحاكم باعتباره حكومة الأمر الواقع، مقارنة بالتعامل مع بقية الأطراف المعارضة، يشكل ويصبغ على صورتها الكثير من السلبيات بوضع الآلية والرئيس إمبيكي في مقام الصامت أو الموافق على الجرائم المنظمة والمستمرة التي يرتكابها الحزب الحاكم على مدى السبعة وعشرين الماضية منذ إنقلابه على السلطة في 1989. ***
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة