فى روايته 1984 الكاتب الانجليزى جورج أوريل رصد تجربة ما أسماه بوزارة الحقيقة مهمتها الاساسية هى طمس الحقيقة ومحوها من الذاكرة. الايرلنديون يحبون التاريخ ومعالمه وهنالك مثل يقول أن الايرلنديون لهم ذاكرة طويلة وممتدة، ولديهم قولة شائعة أعتنقتها بقية الشعوب وهى " نحن نغفر لكننا لا ننسى".
يندهش الكثيرين من غير السودانيين أنه لا توجد صور أو أشرطة فيديو سجلت مأساة الاثنين والثلاثاء من أغسطس 2005. ولا يوجد توثيق من قبل السودانيين أنفسهم لتفاصيل ماساة دارفور أو جبال النوبة والجنوب كلها حكاوى تسمع وتنقل وتنسى، لم يصدر كتاب موثقا لبعض هذه الجرائم سوى كتاب (غائصون فى دماء أمة لمنير شيخ الدين) هذه هى خطورة الذاكرة الشفاهية، عندما وقف شرشل على تلال جبال كررى متأملا منظر جثث شهداء معركة كررى علق قائلا " هؤلاء الشجعان الذين سوف تدفن الصحراء عظامهم لن يسجل تاريخهم سوى غزاتهم". الانظمة الشمولية تراهن من أجل محو الذاكرة والحقيقة، الانقاذ تراهن على النسيان خصوصا نسيان جرائمها من الانقلاب على نظام ديمقراطى شرعى، وحظر الاحزاب السياسية، والاعتقالات والتعذيب، واعلان الجهاد فى حرب الجنوب ومحارق جبال النوبة أنتهاء بدارفور وشرق السودان.
لا يمكن أن يكون هناك تحول ديمقراطى حقيقى ما لم تتم محاسبة مرتكبى هذه الجرائم، ولا يمكن للضحية أن يغفر وينسى فى نفس الوقت هذا أمر يغرى كل من تسول له نفسه مستقبلا أن يرتكب جرائم مماثله لأنه لا يوجد عقاب والرهان على أن هذا الشعب ذاكرته قصيرة أصبح أمرا واردا.
لكم أعجيتنى فكرة الصديق خالد كودى عن شراء بيت الاشباح وتحويله الى متحف حتى لا ننسى هذه التجربة. هل يمكن أن يتحول الحديث الذى يدور فى بعض الاوساط بالخرطوم الان الى واقع فعلى بصدد تشكيل لجان أو لجنة لمتابعة قضايا بعينها مثل القتل فى المعتقلات، التعذيب، الفصل، وتحريك هذه الملفات الان وليس الغد.
02-21-2006, 05:48 AM
أحمد أمين
أحمد أمين
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 3371
في مطالع القرون، وبدايات الأزمنة، تودع الشعوب شموسها الغاربة، تستجمع قواها، تلعق جراحها، تدفن موتاها وتنهض من الرماد، تشهر بلاغة تظلماتها في وجه ظالميها العتاة، وتكشف عريهم المسربل بالأكاذيب، تطوي صفحاتهم التي تهرأت من ثقل الخطايا، وتستقبل الأفق، وتوغل في الآمال والمغامرة، مقترحة مسارا جديدا للتاريخ، وأسلوبا جديدا للحياة، وعلاقة جديدة بالحضارة، ومكتشفة في أعمق أعماقها قوى لم تكن تحلم مجرد الحلم، بأنها ثاوية داخلها، هاجعة في كيانها الجمعي، تنتظر عودا من الثقاب، يلمسها لمسا خفيفا، لتنفجر وتنداح. ولا يمكن لحزب سياسي، في هذا القرن الحادي والعشرين، أن تسقط دعاواه الأيديولوجية، وتنهار برامجه السياسية، ووعوده المضخمة، وتتراكم كبائره، حتى لا يرى منه شيئ سواها، ويصاب بالفالج السياسي الذي لا دواء له، وتنشق صفوفه الداخلية فتصبح اعضاؤه حربا عليه، يشهد كل عضو منها على ما كان يواليه من الأعضاء، لا يمكن لمثل هذا الحزب أن يستمر في الحكم مهما تمترس خلف الأسلحة، ومهما أوغل في عبادة القوة والسلطان، ومهما تمرغ سدنته في النعيم الدنيوي غير المقيم. ولقد جاء الإسلاميون إلى الحكم بدعاوى كبيرة، ووصفات خلابة لمعالجة الأدواء السياسية والإجتماعية المستفحلة والمستعصية. قالوا أن المجتمع الذي سيبنونه في السودان، هو مجتمع الراشدين وعمر بن عبد العزيز. زعموا أنهم، مثلهم مثل عمر الأول الذي كان يشعر بمسؤولية شخصية عن عثرات كل بغال العراق، لن يناموا إذا عثرت بغلة في طمبرة، أو طويلة، أو حلفا أو حلايب. وأنهم بعد أن يقيلوا عثرات كل البغال، سينامون تحت الأشجار، من فرط إطمئنان الناس إلى العدالة المطلقة التي يستظلون بظلها، وشعورهم بالرضا التام عن حكامهم، وشعور هؤلاء الحكام أنفسهم بالأمن وصفاء الضمير. كما قالوا أن الناس، مثلهم مثل الدمشقيين في عهد عمر الثاني، لن يجدوا محتاجا يجودون عليه بالزكاة والصدقات، من فرط غناهم المادي وتخمتهم من متاع الحياة. أي أنهم كانوا يرفعون شعارات مثالية، موغلة في المبالغة، وغير قابلة للتحقيق، لإحراج كل القوى السياسية الأخرى وابتزازها دينيا، والإنفراد باستثمار الرأسمال الروحي الهائل الذي يمثله التاريخ الإسلامي، الحقيقي والمؤسطر، بالنسبة لأقسام كبيرة من الجماهير. وبالطبع فإن استخدام المثالي غير القابل للتحقيق، في وجه الواقعي غير المشمول بالرضا، وغير الملبي للحاجات، من الحجج التي غالبا ما تستعصي على المقاومة. وهي حجة مشتركة تقريبا في كل المشاريع الشمولية، وعلى رأسها " المشروع الحضاري"، يولدها مزيج خطر من الذكاء والمكر والسذاجة والآمال المسرفة، والفراغات المعرفية التي تملأ بالتفكير الرغبوي، أو الشطح، أو الدعوات أو الرقى. ولكن مكر الزمان أكبر من مكر "الإنسان". فالمشاريع المثالية تتحول في مسيرة الزمان غير القابل للإرتداد، إلى واقع جديد قابل للتقييم والمحاكمة. وما زعمه الإسلاميون لمشروعهم من تفوق ساطع وإعجازي، على كل المشاريع " الوضعية"، يصلح بصورة عامة لمحاكمتهم بالوقائع الماثلة أمام أعيننا جميعا. وتثير الواقعتان اللتان أوردناهما عن العمرين، قضيتين جوهريتين في كل إجتماع بشرى، هما حق الناس جميعا في الطمأنينة والحياة، وحقهم في العدالة والكرامة. فأين نحن الآن من كل ذلك؟ لا يظلم الإنقاذ من يقول أنها استبدلت حق الحياة بقدر الفناء وضرورة الموت، لملايين الناس في جنوب البلاد وغربها وشرقها ووسطها. لا يظلمها من يقول أن نشاطها الأساسي منذ أن جاءت وحتى اللحظة الحاضرة، هو زراعة الجثث، في كل أنحاء البلاد، وزراعة الخوف في كل القلوب، وهي زراعة لا تنمو ولا تزدهر. مليون من الموتى في الجنوب، أربعة ملايين من المشردين في داخل البلاد، و مئات الآلاف من المهاجرين في كل أنحاء الارض. خمسون ألفا من القتلى في دارفور، وفق أقل التقديرات العالمية التي يرتفع بعضها بالرقم إلى 180 ألفا، وأكثر من مليون من المشردين وساكني الخيام، من الجوعى والمرضى والمشرفين على الموت. مئات القتلى من الطلاب والأطباء والمهندسين والموظفين والسياسيين في وسط البلاد، بعاصمتها القومية ومدنها الإقليمية، وما تزال الصحائف مفتوحة لمزيد من الضائعين الذين صاروا أرقاما واحصائيات. وأرض خراب يقصر عن تصوير مأساتها، خيال ت.س. إليوت، والذي كان كأنه يشير إلى الإنقاذ من منصة النبوءة الشعرية العالية، عندما تحدث عن الجثث المزروعة في الحدائق الخلفية للبيوت، في كناية عن اللاوعي والضمير، وعن رؤية الخوف في حفنة من التراب، كناية عن صيرورة أديم الأرض الممتدة، قبرا كبيرا لأناس فقدوا أرواحهم وجثث فقدت عظامها. ذاك هو المثال وهذا هو الواقع. ذاك هو الحلم وهذا هو الكابوس، ذاك هو أسلوب للحياة، وهذا هو أسلوب للموت. ويمكن للإنقاذ أن تورد مئات الأسباب التي تبرر بها زراعة الجثث في كل أنحاء البلاد، ولن يجديها هذا شيئا. فالسلطة التي تجد مبررات " وجيهة" لقتل الملايين من شعبها، غير جديرة بالبقاء، وغير مؤهلة للحكم، حتى لا نتحدث حاليا، عن أية تبعات أخرى. ثم ماذا عن العدالة؟ 95% من شعب السودان يعيش تحت مستوى الفقر وحوالي الواحد بالمائة تقريبا، هم الإنقاذيون أنفسهم، في السلطة والمعارضة، يعيشون فوق مستوى الغنى العالمي. وما الحقيقتان سوى وجهين لعملة إنقاذية واحدة. أكبر معدل لوفيات الأطفال في إفريقيا، أفقر مائدة على مستوى القارة كلها. أدنى الأجور وأعلى نسب البطالة. أسوأ نظام للخدمات الصحية والتعليمية والبيئية. أكبر النسب للأطفال المشردين. أكبر كتلة مشردة من السكان في العالم. أطول الحروب وأوسعها رقعة، في التاريخ الحديث. أضخم كارثة إنسانية في مجتمع القرن الحادي والعشرين. أكبر معدلات الحزن والتعاسة والإكتئاب المصاحبة كالظل لكل الكوارث التي عددناها. وأعلى معدلات الهوس والغيبوبة والهروب المتعدد الوجوه عن واقع لا يغري بالمواجهة ولا يستقبل أحدا بالأحضان. هذا هو الحصاد المر للإنقاذ خلال عقد ونصف عقد من الزمان. أو هو بعض حصادها في واقع الأمر من حيث عدم مقدرتنا على الإحاطة بكل ما اقترفته، في هذا الحيز الضيق، وفي ضوء غل يدها هي نفسها، بقوة المجتمع الدولي، وبسطوة الحضارة المعاصرة، من ارتكاب بعض الجرائم التي كانت وما تزال جزء أصيلا من مشروعها الكلي. وهي تقف بالتالي عارية تماما من أية شرعية أخلاقية، إجتماعية أو سياسية يمكن أن تبقيها في الحكم. ولم يبق أمامها سوى التمترس خلف الأسلحة والأجهزة الأمنية، لتشتري بمزيد من القمع، سنوات قليلة تمد بها من عمرها وتضيف بها إلى رصيدها من الزراعات. وهو أمر لن يجديها في نهاية المطاف ولن ينقذها من طوفان الإرادة الشعبية المعبر عنه في صناديق الإقتراع. لن يجديها هذا، لأنها ستجلس بعد التوقيع النهائي على إتفاقيات السلام، على نصف كرسي. وهي تجرجر رجليها وتبحث لها عن مخرج من التوقيع، لتعود بالأوضاع جميعا إلى مربعها الأول، بعد أن اصابها رعب شديد وهي تنظر إلى مستحقات السلام التي لا مهرب منها ولا مفر. كانت الوعود سهلة وميسورة، أما الوفاء بها فباهظ وثقيل. ومع أنها تعرف كيف تسرف في الوعود، إلا أنها لم تجرب مطلقا أن تفي حتى ببعضها. وقد وافقت على ما وافقت عليه، تحت وطأة الرعب الشديد، وهي تنتظر أن تهبط معجزة من السماء تنقذها من ورطتها المستحكمة، وفق فلسفة " الإبتلاء"، التي صاغها رجل يحاول المخارجة حاليا من إبتلائه الشخصي. ولكن هيهات! فإذا كانت السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، فإنها كذلك لا تفتح أبوابها للهاربين من نتائج أفعالهم. وما دام المجتمع الدولي قد وضع قدمه على طريق المساءلة بالأفعال، لتملص السلطة من إلتزاماتها في دارفور، فإنه سيخب خببا لتنكرها لاتفاقيات السلام. وغالبا ما تمد السلطة لسانها لمثل هذا التحليل كما فعل الطغاة من قبلها، ولكنها لن تستطيع أن ترجعه بعد المد. ومع أنها تجلس على نصف كرسي، فإن نزاعا شرسا يدور بينها وبين قرينها على هذا النصف نفسه، مما يجعلها في خيار عسير بين التهور والشطط الذي يمكن أن يجبر الآخرين جميعا على امتشاق الحسام، او تحمل معارضتهم السلمية التي ستلحق بها هزيمة أكثر لطفا من حيث المصائر الشخصية وأحتمالات النجاة. وهي وحدها التي ستقرر على كل حال. تسقط النظم السياسية، والأشخاص في العالم المتحضر، لأسباب ربما تدعو بعضنا للضحك والإستخاف. فمن ضمن العوامل الحاسمة في تدني شعبية بوش الاب، وسقوطه في انتخابات ولايته الثانية عام 1991، أنه نظر إلى ساعته في أثناء إجابته على ناخبة سألته عما إذا كان أي من أصدقائه قد تضرر من الكساد الإقتصادي الذي كانت تعاني منه أميركا في تلك الفترة. نظرة بوش إلى ساعته، فسرها الناخبون الذين لم يحددوا مواقفهم بعد، The Swing Vote، كما يسمونهم، بأنها ضيق من المناظرة الجارية حينها بينه وبين بيل كلنتون الذي كان ينظر إليه بتركيز شديد. ونزلت شعبية آل غور بنسبة 10% في انتخابات عام 2000، لأدائه في المناظرات ولأنه قبل زوجته، أمام الكاميرات، بطريقة انطوت على بعض الخرق مما أدى إلى سقوطه في النهاية! وسقط حزب أزنار في أسبانيا، لأنه أرسل بضع مئات من الجنود إلى العراق. ويعاني توني بلير ذو الأغلبية البرلمانية غير المسبوقة في تاريخ إنجلترا الحديث، لانه كذب فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل العراقية. بعضنا يستدل بمثل هذه الأمثلة على شكلية الديمقراطية والديمقراطيين. ولكن حقيقة الامر هي أرتفاع الحساسية الشعبية في تقييم القادة، وتوخي الإستقامة الأخلاقية والحذق في كل تصرفاتهم، بما في ذلك تصرفاتهم غير السياسية. وإذا كان من حقنا أن نقيس على ذلك في بلدان عالمنا الثالث والأخير، لما أصبح الخميني زعيما للثورة الإيرانية. ففي طائرة عودته إلى طهران من باريس، كان بصحبته رهط من الصحافيين الغربيين الذين كانوا يحاولون فهم القائد الجديد، والوقوف على كنوزه من الحكمة ومكنوناته من الكاريزما التي جعلت الملايين تهتف باسمه، وترضى قيادته. رفض الخميني، الذي تربع على سجادة فرشها داخل الطائرة، أن يتحدث إلى الصحافيين ولو بكلمة واحدة. وعندما دخلت الطائرة المجال الجوي الإيراني، اقترب منه صحافي فرنسي وسأله: بماذا تشعر الآن يا فخامة آية الله؟ فأجاب الرجل، الذي غاب خمس عشرة سنة عن بلاده، وعاد إليها زعيما وقد غادرها مطرودا: بكلمة واحدة: " هشي"! ومعناها بالفارسية: لا شيئ. وتوصل الصحافي منذ تلك اللحظة إلى أن رجلا على هذا الخواء من العواطف، لا يمكن أن يقود شعبا إلى النجاة. فكيف يمكن، ونحن نعيش في نفس الكوكب إحتمال الإنقاذ وحكام الإنقاذ؟ نريد لشعبنا أن يتخطى غلظة الطغيان والوصاية، ويسير على طريق اللطف الديمقراطي المعبر عنه بالأوراق الإنتخابية الأنيقة والمحكمة الطي. نريد أن نعتمد مقاييس في دقة موازين الذهب، للأشخاص والبرامج. نريد أن نقيم الديمقراطية القادمة على أساس وطيد من العدالة الإجتماعية والمساواة المبدئية والحقيقية بين الناس. وعلى أساس من البرامج الواقعية القابلة للتحقيق. نريد كل ذلك وتقف الإنقاذ عقبة كأداء، وتحديا شاخصا أمام الملايين وحاجزا أصم في وجه المستقبل. ولكن شعبنا قادر على هزيمتها، هراوة ودولارا، بحركته السلمية المنظمة والجريئة والمتعددة الوجوه. وهذا ما سنشير إليه في حلقاتنا المقبلة
02-21-2006, 06:01 AM
أحمد أمين
أحمد أمين
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 3371
تعالوا إلى كلمة سواء .. نقد الأقلام أم وقع الحسام؟
الخاتم عدلان
الإتفاقات التي أبرمت في نيافاشا، والمحادثات التي تدور في انجمينا، والمفاوضات الجارية في القاهرة، والقرارات الصادرة من المجتمع الدولي، والتصريحات التي يدلي بها المسئولون الإنقاذيون في كل محفل دولي، تشير كلها إلى أن البلاد سائرة في طريق التحول الديمقراطي. فهل يعتقد حكام الإنقاذ أن التحول الديمقراطي يعني نسخة جديدة من « التوالي »؟ هل يعتقدون أن كل هذه القوى ستأتي إلى الخرطوم لتسبح بحمدهم وتمدحهم وتزكي حكمهم للناس؟ أم أنهم يحلمون بأن يقلبوا لها ظهر المجن بمجرد وصولها إلى الخرطوم، وينكلوا بها كما نكلوا من قبل بكل حلفائهم، وكما داسوا بالنعال كل أتفاقياتهم؟ أم أنهم لا يبالون بدفعها من جديد في نفس الطريق الذي يسير فيه حاليا توأمها المنبوذ؟ الأجابة على هذا الأسئلة يجب أن تكون واضحة منذ البداية. فالسلطة تعلم تمام العلم أن كل هذه القوى تريد أن تطيح بها وتطوي صفحتها، وتقذف بمشروعها الحضاري وراء الظهور. هذه المواقف معلنة ولم تتغير. ومع ذلك فإن تغيرا جوهريا قد حدث. وهو أن هذه القوى كانت تعمل على الإطاحة بالإنقاذ بالعنف والسلاح، وقبلت، مجبرة وراضية، على تغيير أساليبها، متحولة إلى النضال السلمي، والنزال الديمقراطي، ولذلك أصرت على أن تكون أتفاقياتها ضامنة للعمل السلمي الجماهيري الواسع، والذي ينتهي بهزيمة الإنقاذ في صناديق الإقتراع، بعد كشف برامجها، وفضح الكلفة الباهظة التي كلفتها البلاد، والاضرار الفادحة التي ألحقتها بالناس، والأذى الجسيم الذي أوقعته بالنفوس والأجسام. وبعد توضيح ما لا يحتاج إلى التوضيح، من خوائها الروحي، وغربتها عن الجسد الإجتماعي، وشذوذها عن قواعد التعايش العالمي. وحقيقة الأمر أن إسقاط السلطة عن طريق صناديق الإقتراع هو أفضل خيار تملكه السلطة نفسها حاليا. وهو خيار عادل إذا وضعنا في الإعتبار الحقائق التالية: • جاءت السلطة عن طريق إنقلاب عسكري، إفتقر بصورة تدعو للعجب من مقومات النجاح. وما كانت لعبة القصر والاسر لتجدي شيئا مطلقا، لو كان على رأس السلطة المنهارة أي شخص غير الصادق المهدي، الذي تجاهل كل المعلومات التي كانت تصله من جميع الجهات بأن الجبهة الإسلامية كانت تدبر إنقلابا، فيفتي، وهو العبقري الذي لا معقب عليه، وصاحب المعارف الغيبية الذي لا يرى تحت قدميه، بأن الجبهة الإسلامية إنحازت بصورة كلية إلى الديمقراطية، بينما كان خنجرها المسموم يقنرب سريعا من خاصرته. لم يكن ذلك الإنقلاب جديرا بالنجاح، لا سياسيا، ولا عسكريا، ولا أيديولوجيا. والدليل على أن أهله ذاتهم كانوا يضعون الفشل كاحتمال ربما يكون راجحا، أنهم احتفلوا، إحتفالا رسميا معلنا، بمرور شهر على سلطتهم الجديدة! وما دامت الإنقاذ تعيش الآن عامها السادس عشر، وستكون قد شارفت العشرين عاما في الحكم عندما تجرى الإنتخابات، فإن ذلك يكفيها ويزيد، بمقاييس بقاء الأنظمة في عالم اليوم. تكفيها هذه المدة حتى ولو كان حكمها عادلا وخادما للمصلحة الوطنية العامة، فما بالك بحكم وضع البلاد كلها في كف عفريت، وعرض وجودها ووحدتها للخطر، وأذل شعبها وأجاعه وشتته في الآفاق؟ ولا يبشره في كل يوم جديد إلا بكارثة أكبر تلقف سابقاتها وتفتح الهاوية للمزيد. • منذ استيلائهم على السلطة لم يضع الإنقاذيون يوما واحدا، فنهبوا ثروات البلاد، وحولوها إلى حساباتهم الخاصة، داخل وخارج السودان، وامتلكوا الموارد كلها بصفقات مشبوهة، واستولوا على ثمرات عرق الكادحين بالعنف الغليظ والقوة المنفلتة، وصاروا من أغنى أغنياء العالم وسط شعب من أفقر الشعوب. امتلكوا الشركات، والمصانع، والمزارع والبيوت، والسيارات. فعلوا ذلك بينما الشعب يتضور جوعا ويبحث عن غذاء الصغير ودواء المريضة، ودعامة الثاوية، وأكفان الموتى. جاءوا بالقرآن ولكنهم سرعان ما تحولوا إلى السلطان، وقاموا برفع المصاحف مع أن كل همهم كان اقتحام المصارف. وحق عليهم قول جوموا كنياتا عندما قال: كان الأفارقة من سكان البلاد الأصليين يملكون الأرض، وكان الإنجليز يملكون الإنجيل، وجاء القسس، فطلبوا من الأفارقة أن يغمضوا عيونهم، ويشبكوا أياديهم، ويؤدوا الصلاة، وعندما فتح الأفارقة عيونهم وجدوا أن الإنجليز يملكون الارض وهم يملكون الإنجيل! ولا شك أن السودانيين والأفارقة لا يرفضون "كتاب الله"، ولكنهم عرفوا القسس، كما عرفوا الإنقاذ، ولن تجوز عليهم اللعبة مرتين. وأقول أننا عندما نهزم الإنقاذ في صناديق الإقتراع، فإنه مهما بلغت كفاءة نظامنا القانوني والقضائي، فإننا لن نسترد شيئا كثيرا من الثروات الشخصية التي راكمها هؤلاء، وهربوها، وبددوها بالأسماء الوهمية والحسابات السرية. وعلى الإنقاذيين إذن أن يعتبروا صفقتهم رابحة، وكسبهم مضمون، ومسروقهم لن يرد. وإذا قارنوا أنفسهم بأنجح المغتربين السودانيين، الذين غادروا البلاد في السبعينات، فإنهم سيجدون ان ثرواتهم تزيد عنهم بعشرات المرات. ببساطة هي صفقة رابحة حتى ولو فقدوا السلطة صباح هذا اليوم. • وليس خافيا على أحد، بما في ذلك الإنقاذيين أنفسهم، أنهم بينما تضخمت جيوبهم، فقد أفلسوا أيديولوجيا بصورة كاملة. فليس ثمة قيمة أخلاقية واحدة يمكن أن يدعوا انهم حافظوا عليها، أو أنهم يعيشون من أجلها. والواقع أن بابا جديدا للإفلاس الأخلاقي الشامل، قد انفتح عليهم بإنقسامهم على أنفسهم، وكشفهم لملفات بعضهم البعض، وسفورهم عن مخزوناتهم الفياضة من السباب والإشانة و التلويث. وربما يطمئن الشق الحاكم من الإنقاذ نفسه بأنه قادر على هزيمة مخططات الشق الملفوظ، الحقيقية والمتوهمة، ولكنه لا يعي بأنه بينما يسجل الإنتصارات العسكرية، على الطرف الآخر، فإنه يصاب بنزيف معنوي لا يتوقف. ويكون الطرفان خاسران بالتعادل، وهي نتيجة لا يحصل عليها إلا الإنقاذيون! هذا السحق الجسدي والنزيف المعنوي، لن يوقفه أحد، لطبيعة الإنقاذيين على الجانبين، إذ أن أيا منهما لا يستطيع أن يخفي عن الآخر شخصيته الحقيقية، أو أهدافه الخفية، أو بعده عن المباديء والقيم العليا التي يحاولون بيعها للآخرين، ويتقاضون ثمنها من متاع الدنيا الغرور ومن عبادة القوة والجاه والسلطان. وهو صراع يجعلهما عاجزين عن كسب المعارك الديمقراطية، كما هما عاجزان عن كسب المعارك العسكرية. ولم يبق إلا أن يختاروا نوع الهزيمة الذي يحفظ لهم ما سرقوه بليل، وما صادروه بظلم يهد الجبال. • عندما يسقط الإنقاذيون عن طريق الديمقراطية، ويرتضوها، يمكنهم أن يواصلوا نشاطهم السياسي مثلهم مثل الأحزاب الأخرى، وبما ان الشعب السوداني يميل إلى الغفران، بل حتى إلى النسيان، فإنهم ربما أقنعوه مرة أخرى بأن ينتخبهم، بعد ان يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، كما فعل رجب طيب أردوغان، في تركيا، بأن حول حزبه إلى حزب علماني، دون أن يتنازل عن ركن واحد من أركان الإسلام، ودون أن ينتقص من تقواه الشخصية بالأكاذيب والإدعاءات. وقد طلب الإنقاذيون الغفران من " دول الإستكبار" ومن الغرب الصليبي، ودفعوا الإستحقاقات كاملة، وبلعوا الإهانات مرات، وطأطأوا الرؤوس حتى لم تعد قادرة على الأرتفاع. هل كثير على الشعب أن يطلبوا منه الغفران، ويبدوا استعدادهم كاملا لدفع الإستحقاقات؟ هم الذين يقررون ذلك. • هذه الحجج وغيرها، توضح أن قبول الإنقاذ للتحول الديمقراطي هو الطريق الأفضل بالنسبة لها قبل غيرها. وطريق التحول الديمقراطي يفترض حرية الكلمة، وانفلاتها عن الرقابة والحذف والحجاب. ولذلك فإن الهجمة الإنقاذية على الصحف والصحفيين، وإيقافها لبعض الاعمدة، ومنها الحلقة السابقة من هذا العمود، وتهديدها للكلمة الحرة، فضلا عن أنه خرق واضح لمواثيق حقوق الإنسان، فإنه خرق كذلك لما وقعت عليه مبدئيا في نيفاشا، مع الحركة الشعبية. بل هو خرق لتصريحات رئيسها حول رفع الرقابة القبلية عن الصحف، في منشور مذاع على الناس. بل نكاد نقول أن السلطة بهجمتها هذه فإنها تكشف عن عدم جدية مخيفة حول جميع الإتفاقات المبرمة، وشبه المبرمة والتي في طريقها إلى الإبرام. فإذا كانت السلطة تعتقد أنها يمكن أن توقع كل هذه الإتفاقات وتعود مع ذلك إلى سيرتها القديمة، فتفرض وتقمع وتهدد وتقتل وتنكل، فإنها إنما تسير في طريق بالغ الخطورة عليها وعلى البلاد. • الإنتقال إلى الديمقراطية مستحيل، بدون النشاط الجماهيري الحر، من اجتماعات ومؤتمرات وندوات، وبرامج تطرح، وأخرى تنتقد. وهذا كله غير ممكن بدون حرية الصحافة، وحق الناس في أن يقولوا ما يشاءون. ونحن نقول ما نقول، دون أن يكون ذلك تغطية لانقلاب عسكري، أو حركة مسلحة، أو مؤامرة أجنبية. نقوله لتعبئة الناس حول الخيارات التي نراها نافعة وصحيحة، ونقوله لفضح برنامج الإنقاذ الذي اورد البلاد والناس موارد التهلكة. لا نصانع في ذلك ولا نلوك كلماتنا، ولا نتقرب للطغاة، في السر أو في العلن، بالإيماءات الخجولة، أو الكلمة الخؤون. نملك أقلامنا وضمائرنا، ونمد شعبنا بما تعلمناه في خضم الصراع من أجل مصالحه ومستقبله. لا نبغي في ذلك مصلحة شخصية أو مجدا ذاتيا، أو مكسبا ماديا. • والبديل للتحول الديمقراطي هو مواصلة السير في طريق الدكتاتورية والطغيان، وهو الطريق الذي تجده هذه السلطة أقرب إلى طبيعتها، وادنى إلى قلوب القائمين عليها. ولكنه أصبح ميسورا بنفس القدر بالنسبة إلى قوى كثيرة تعلمها السلطة ولا تستطيع أن تواجهها مجتمعة مهما فعلت. إن أبواب جهنم السبعة، يمكن أن تنفتح إذا تراجعت السلطة عن طريق التحول الديمقراطي. وقد أصاب العالم كله ضيق شديد بوجود الإنقاذ. وتكذب الإنقاذ على نفسها، وعلى الناس، إذا زعمت أنها قادرة على محاربة المجتمع الدولي، والإقليمي والحركة الشعبية والحركات الإحتجاجية في دارفور والشرق وكرفان وفي قلب الخرطوم وفي وسط السودان وواصلت قمعها لمنظمات المجتمع المدني، التي تتحرك بثقة لإحتلال موقعها المشروع في الشارع السياسي. هذه القوى كلها راغبة في التحول الديمقراطي، والراجح انها تستطيع أن تهزم الإنقاذ هزيمة نظيفة، ولكنها سلمية في الإنتخابات العامة القادمة. وليس أمام الإنقاذ إلا السير بصدق، ربما يكون غريبا عليها في البداية، على هذا الطريق، لأن البديل هو الهزيمة التي لا تبقي ولا تذر والتي تقضي على الأخضر واليابس. • وتفعل الإنقاذ خيرا بنفسها وبالوطن، إذا انتبهت إلى أن تكميم الأفواه لم يعد ممكنا، وذلك بفضل وسائط النقل والإتصال، المتفلتة عن سيطرة الحكومات ومقصات الرقباء. وتفعل خيرا إذا أنتبهت إلى أن المقال الممنوع ينتشر أكثر من المقال المبلوع، والشواهد امامها كثيرة، والكتابة واضحة على الجدران. وهي ليست مطالبة بأكثر من استخدام عيونها وآذانها استخداما عاديا، خاليا من العبقرية والحذق لترى ما نراه. • إننا نعرف أن مجتمعنا المدني، قد أصبح مهيئا بصورة جيدة للدفاع عن الحريات جميعا، وهو يعلم أنه سيجد في ذلك سندا غير محدود من قوى لا حصر لها، منها ويا للمفارقة، قوى ما تزال داخل السلطة نفسها. وقد آن الأوان للاصوات جيمعا أن ترتفع احتجاجا على كل خرق للحقوق الأساسية للإنسان، وعلى رأسها حرية الصحافة. ونقول للسلطة: أفسحوا المجال لنقد الأقلام، فهو أفضل من نقد الحسام.
نقلا عن الأضواء
Oct. 10, 2004
02-21-2006, 06:04 AM
bayan
bayan
تاريخ التسجيل: 06-13-2003
مجموع المشاركات: 15417
Quote: لا يمكن أن يكون هناك تحول ديمقراطى حقيقى ما لم تتم محاسبة مرتكبى هذه الجرائم، ولا يمكن للضحية أن يغفر وينسى فى نفس الوقت هذا أمر يغرى كل من تسول له نفسه مستقبلا أن يرتكب جرائم مماثله لأنه لا يوجد عقاب والرهان على أن هذا الشعب ذاكرته قصيرة أصبح أمرا واردا.
نعم يجب ارجاع الحقوق ومعاقبة كل من اقترف جريمة في حق هذا الوطن..
مقال المرحوم غير مناسب مع هذه الدعوة.. وحقيقة قد افسد البوست الذي كان يجب ان يجد دعم من كل الناس..
فايضا يجب ان تكون ذاكرة المحاسبة طويلة المدى.. الحقوق المضيعة كثيرة ولم تبدا 1989
اتمنى ان تكون هناك محاسبة كاملة والحساب يجمع ولك كل التقدير والاحترام..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة