|
هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه
|
جاء صوته عبر الهاتف بنفس "اللكنة" الخفيفة على لسـانه التى تميزه بين آلاف الأصوات : ( هل أنت نائم)
رددت بنبرة متكاسلة وصوت متقطع و أنا أمط جسـدى أمامى إلا ما لا نهاية بتلزز الخمول وخدر النوم : (بعض الشئ)
قال بصوت مليئ بالأسف : (آسف أدعك تنوم)
رددت بلهفة متداركآ بصوت كله تنبه خوفآ أن يتنازل من الحديث : ( لا لا أنا كنت قد صحوت لتوى )
ضحك فى حبور وأردف بسـخرية بأنه لم يتبقى لنا من زكرياتنا سـوى هذه المكالمات . كانت الحياة تدب فى جسـدى وهو يجترها معى كأنها بالأمس .
سـألنى بلهفة : (هل إتصلت به ؟)
كذبت عليه دون تردد بأنى لم لم أتمكن من الإتصال . بدأ يحكى لى كيف حصل على هاتفه . وكيف إتصل به مرارآ وكان الهاتف دائمآ مشـغولآ .
ربما كان مشـغولآ معى أو لم يضعه جيدآ . تحايلت عليه ليابدلنى الحديث . ولكنه إكتفى أن ينادينى بعد فترات صمت بكنية كان يحب أن يطلقها علىّ فى صبانا . كان يكابد البكاء أو هكذا خيل لى أنهيت المكالمة وأنا أتكلم كأنى فقدتها . لم يكن لى خيار آخر . فأنا أيضآ لم أقوى على الإسـترسـال .
كيف وصل به الحال الى هذا الحد من الإنكسـار ؟
أفقت على صوت صديقى على الهاتف : (كم كان جسـور . كان يقتحم "القطاطى" ويخرخ من واحدة ويدخل الأخرى كالحصان الجامح)
لم أر يومآ حصانآ جامحآ فى حياتى فتخيلته وهو ثائر ذلك الحصان . خلفه "الفلاته" يضربونه بالعصى وهو أمامهم يخترق "القطاطى" غير آبه بالعصى التى تنهال على جسـده وترتسـم على وجهه المتعب إبتسـامة زهو وتحفز . توقف فجأة وتوقف مطارديه وتوقف الزمن . كأنهم أمام مارد من الجن . لم يعبأ بهم وعاد نحونا ومطارديه يتبعونه كحاشـية تزفه خوف أو فخر . إنضم إلينا وتابعنا سـيرنا فى صمت . لم يتبعوننا ولكن وقفوا يرصدوننا حتى غادرنا القرية تمامآ .
لم أكن أدرى هل كنت أحبه ؟ الحقيقة لم أكن أكرهه . كنا برفقته دائمآ فى مصادمات كان من الحكمة تفاديها . ولكن وجوده يحول الحكمة الى تخازل والعقل الى خوف وكنا مرغمين على القتال . معاركه لا تنتهى وكان دائمآ هو الخاسر . مواجهته دائمآ لمن هم الأكثر عددآ . لا يأبه بإصاباته حتى يفقد الوعى أحيانآ . لم يكن أعدائه سـعداء بمنازلته رغم تفوقهم بل يفضلون البعد عن طريقه .
واجهته يومها بعنف وحال بيننا الأصدقاء . لم يتحرك من مكانه وهو جالس على الأرض يعمل أصابعه فى التراب . وكنت أرقبه خفية وأعلم إنه يعلم أننى أراقبه وليس قادر أن أغير من الموقف شـيئآ . فجأة هب واقفآ وترك المكان دون أن يلتفت الى الخلف . شـعرت بنظرات العتاب فى أعين الرفاق .وكنت أعلم وكانوا يعلمون كم أنا مميز عنده . فشـعرت بالأرض تهوى من تحت قدميّ .
هالنى صوت صديقى على الهاتف كأنه يجول فى خاطرى يقول : (لم تكن هى تلك المرة الأولى التى تقهره فيها . أتذكر تلك المرأة التى كانت تعمل فى الحقل خلف القرية ؟ فقد كان يعشـقها)
شـعرت مرة أخرى بالأرض تميع من تحتى . شـعرت بأنفاسها تلفحنى . وريحة الحصير والقماش المعطونة تزكم أنفى . كانت تعمل فى فى الحقل طيلة النهار كأن الكون توقف من حولها . لا ترى إلا الأرض وهى تفلحها . إلتف جسـدها بإحكام بثوب أزرق مهترى مظهرآ سـاعديها المفتولتين ومفاتنها رسـمآ مفصلآ . لا تعيرنا إنتباه ونحن نمر بجانبها تلتهمها أعيننا بشـبق الفتوة المتدفق . لم أراها يومآ فى سـوق السـبت فى القرية حيث يأت البعيد قبل القريب فقط فى الحقل وهى تفلحه فكأنها جزء منه . عندما يسـدل الظلام يترائى ضوء خافت من "قطيتها" فى ركن من الحقل يبعد من القرية قليلآ . قد يكون منار للمخمورين الذين الى يلجون القرية بعد ليلة حمراء قضوها فى الجوار .
تسـللت يومها الى "قطيتها" بعد زوال الشـمس بقليل حيث يري الإنسـان بالكاد موطئ قدمه . أزحت ببطء الثوب الأسـود الذى تدلى مغلقآ الباب , لم أبحث عنها فكانت أول ما وقعت عليه عيناى. كانت مسـتلقية على الحصير وعيناها مثبتان على عينيى كأنها تعلم بمقدمى . لم تتحرك ولم أع ما في عينيها . ولكنه لم يكن رعب أو إسـتعداء أو قبول .
تسـللت داخلآ تاركآ الثوب يسـقط خلف ظهرى يعزلنى معها عن كل العالم . جلست قربها . تلاحقت أنفاسـى ويدى تزحف ملامسـة يدها نحو صدرها . قبل أن أبلغ غايتى و بحركة خاطفة قبضت على يدي . . لم يتحكرك فىّ سـاكنآ رغم قبضتها التى أوجعت مرفقى . لم تزيح يدى بعيدآ بل وضعتها على نهدها برفق وعيناها لا زالتا مثبتان على وجهى . صارت تحركها حيث تريد هى . دون أن يتحرك جسـدها أطفأت شـعلة النار بيدها الأخرى . جذبتنى نحوها برفق وأطعتها حتى لامسـتها وهى مازالت بنفس القوة ممسـكة بيدى . طافت بها فى مواضع أخري من جسـدها وأنفاسـها تلفح وجهى . وبحركة مباغتة أخري كبلت يدى الأخرى وصارت فوقى . و فى ذلك الظلام الحالك كنت أشـعر بعينيها ترمقانى بثبات . تحركت ببطء زاد عنف وعنفوان . أصيبت ببعض إغماءه وأنا فى ذروة الألم . عندما تمالكت نفسـى وهدأت أوصالى وجدتها مسـتلقية بقربي وشـعلة النار متوهجة وهى ترمقنى بنظرة أخري .
تعالت ضحكات صديقى حتى تحشـرجت الكلمات فى حلقه وهو يقول : (هل شربت شـيئآ يوم أن ذهبت إليها ؟ )
وأعفانى إسـترسـاله فى الحديث من الرد على سـؤاله : (أتذكر تلك الجثة التى وجدناها بالقرب من مخفر الشـرطة ؟ لا أعتقد بأنهم من قتلوه فقد كانت متعفنة الى حد ما .)
تزكرت ذلك اليوم ولكن طاف بى شـبح آخر . ذلك الطفل وهو محمول من ذلك الرجل وهو يحث السـير ورفيقه يحاول من إصلاح وضع ذلك الجسـد النحيل بين يديه.
إنها تلك الشـجرة "المسـكونة" . كانت شـامخة فى وسـط الحقول وحيدة تراها من من كل مكان وكل صوب .
يحكى بأن فقيه كان مسـافرآ للحج جلس تحتها يأخذ قسـطآ من الراحة . هجم عليه قطاع الطرق وقتلوه وإسـتولوا على زاده و ماله . منذ ذلك الحين وعند مغيب الشـمس تُسـمع منها أصوات. وتشـتعل النار فيها ليلآ . أو هكذا يقولون .
فى موسـم الزراعة لا يتثنى فى الطريق الى المدرسـة إلا أن يمر الأطفال من تحتها . كانوا يعبرون هرولة كأنه جزء من الطريق يجب إجتيازه هكذا . تتلاحق أنفاسى عندما أصير تحتها ويصيب قدماي خدر سـرعان ما يزول بعد أن أتخطاها .
فى الليالى المقمرة كنا نتجمع كل أطفال القرية كأنه إتفاق ملزم لنلعب " شـليل وحرينا وأم الحفر ..." وكل ألعاب القمر .
وكان هو طفل رشـيق الحركة نحيل الجسـد . يكاد يكون متفوق فى كل ضروب ألعاب القمر التى لا تخلو من البدائية فى عنفها وصلابتها كأنها حرب لها قوانينها وصرامتها العسـكرية والكفاح فيها لا يقبل التهاون أو التأنى .
بيننا ولد لايكبرنا كثيرآ فى عمره له جسم مفتول وثقة زعامة غير محببه . وكان الجميع يعلم غيرته من ذلك الطفل الرشـيق الذى يتفوق عليه . يعيد اللعب مرارآ بأعزار واهية ويبذل فى كل مرة كل طاقته ويكون دائمآ هو الخاسـر .
ليلتها كأنه كان على موعد مع القدر. تفوق من المرة الأولى . فأصاب الجميع وجوم كأنهم كانوا يحسـون بخطر ما . وقف الصغير فى إسـتسلام برئ ليلبى رغبة المنتصر . إنتبه الجميع متوجسـين من الحكم الذى يفرضه المنتصر .
أشـار الى الشـجرة بتشفـى كأنه يحقق حلمآ . أمره بالذهاب تحت الشـجرة والبقاء هناك ويحسـب له إلى الألف .
ذهب الولد نحو الشـجرة بين وجوم الأطفال وإبتلعه الظلام . تصايح الأطفال بأنفاس متلاحقة بدون توافق فى الأصوات الحسـاب بصوت عال نحو الألف . بنهاية العد لم يحضر الولد . بدأت الأصوات تتلاحق بمناداته ولا يجرؤ أحد من التقدم نحو الظلام الذى يلف الشـجرة . أتى رجلان عدوآ على الأصوات المحمومة التى تنادى . ودخلا الى الظلام وعادا يحملان ذلك الجسـد النحيل مفارقآ للحياة .
تكاسل صوت صديقى عبر الهاتف وأصبح يتمتم بعبارات غير مرتبة تنزر بإنتهاء المكالمة . لم أجزع ولم ألجأ الى فخ إجتزابه لمواصلة الحديث بما يثير مكامن الرغبة . لقد إكتفيت كما أكتفى هو لهذا اليوم .
فجأه دبت الحياة فى صوته وهو يقول : (نعانى هذه الأيام من تتبع الشـرطة فى كل مكان . وإلتزمت المنزل تمامآ . أحد المجهولين يُعتقد إنه سـودانى قد إعتدى على ثلاثة من رجال الشـرطة أحدهم الآن فى المسـتشفى بالعناية المكثفة )
لم أبد إهتمامآ فلقد كنت قد وصلت الى قناعة نهاية الحديث . إسـتودعته متمنيآ له وبسـخرية حظ أوفر مع الشـرطة . وأردفت ضاحكآ : ( لقد كُتب علينا مواجهة الشـرطة الى الأبد .)
ضاع النوم تمامآ. خرجت من الغرفة فى طريقى الى "المطبخ" . وكدت أن أخطئ وأفتح الباب الى خارج المنزل . الثلاثة أبواب فى "متر مربع" (حمام ، مطبخ ، غرفة نوم) .
(ماذا تريد منا الشـرطة فنحن فى سـجن طواعية) . فكرت فى نفسـى متهكمآ .
فتحت "الثلاجة" وصرت أبحلق داخلها دون أن أعرف ماذا أريد .أغلقتها برفق ووقفت خلف النافذة أنظر لذلك الكسـاء الأبيض يغطى كل شئ وبعناية وتنسـيق .
(لماذا كل السـودانين ؟ قبل فترة قتل معتوه إحدى عشـرة شـخصآ داخل "كنيسـة" بإطلاق النار عليهم . لم تتابع الشـرطة بنو جلدتهم جميعآ . هل إذا كان القاتل سـودانيآ كان الحال هو الحال ؟ لقامت الدنيا ولم تقعد (ونصير كلنا قتلة ) .
ضحكت بصوت مسـموع وأنا أتذكر صديقى الذى ذهبت به زوجته الى مخفر الشـرطة بتهمة الشـروع فى إغتصابها .
ها قد صرنا محمد "المكوجى" عن أى عنصرية نتحدث نحن !!
كان محمد من قبائل جبال النوبة . كان يعمل "مكوجى" يأتى مرة فى الأسـبوع . هو رجل هادئ قليل الحديث . يؤدى عمله بإتقان ونظام تام . يتناول وجبة الطعام وحده ويعيد "العدة" نظيفة بدون كلمة شـكر فكانت جزء من مخصصاته . آخر النهار دون أن يُراجع عمله ودون أن يحسـب أجره يأخذه ويذهب .
إختفى محمد عن كل المنطقة وإختفت معه أشـياء ثمينة من المنزل . تم إبلاغ الشـرطة التى قامت (بإجراءات أمنية واسـعة النطاق !!) كما قالوا . لقد ألقت القبض على كل أبناء النوبة فى (الحلة) .
ذهبت مع أبى الى مخفر الشـرطة نسـأل عن القضبة .
كان مركزآ صغيرآ يتناوب عليه أربعة جنود وظابط نادرآ أن يأتى . رحب بنا عند الباب أحد الجنود وطمأننا أن لا نقلق فالتحقيق فى مسـاره الصحيح . فى الداخل تبادلنا التحايا مع آخر وعرفنا من زميله إنه المحقق . ذكر المحقق بأنه لا مانع لديه حضورنا جلسـة التحقيق .
أمر المحقق بإحضار المتهمين . فُتح الباب وأدخل أربعة رجال عاريين تمامآ ويمشـون على أربع وخلفهم شـرطى يأمرهم بالزحف كما يقود الدواب . رأيت من بينهم حسـن الذى كان يعمل معنا قبل محمد . قفز والدى واقفآ كمن لدغته عقرب . وغادرغرفة التحقيق وأنا أركض خلفه . ذهب الى الجندى خلف المكتب وطلب منه حالآ تحرير تنازل عن "البلاغ" وبين زهول الشـرطى أتى آخر وأكمل أوراق التنازل بدون جدال وبدأ عليه إضطراب واضح . وعند خروجنا من المخفر على البعد كان المتهمين يحثون السـير و هم لا يزالون يكملون إرتداء ملابسـهم .
رن جرس الهاتف ولكن الهاتف فى نفسى كان أقوى فلم أرد .
قد أواصل .....
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
Quote: يكاد يكون متفوق فى كل ضروب ألعاب القمر التى لا تخلو من البدائية فى عنفها وصلابتها كأنها حرب لها قوانينها وصرامتها العسـكرية والكفاح فيها لا يقبل التهاون أو التأنى .
|
انها تداعيات الزمن الجميل انها لا تعود و انما تعود بنا الي الوراء عبر هواتف القلب هواتفة المحببة احيانا والقاسية بعض الشي احيانا ---- لترحمنا ولو قليلا من نظرات هذا الزمن المكشر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: ابراهيم برسي)
|
Quote: انها تداعيات الزمن الجميل انها لا تعود و انما تعود بنا الي الوراء عبر هواتف القلب هواتفة المحببة احيانا والقاسية بعض الشي احيانا ---- لترحمنا ولو قليلا من نظرات هذا الزمن المكشر |
عزيزى برسى
لقد حكى لنا آبائنا
وهانحن نحكى لأبنائنا
هل تبقى لهم ما يحكونه ؟
تحياتى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
ألصقت وجهى بالنافذه مراقبآ تسـاقط الجليد كريش الحمام الأبيض الناصع . بدأ قليلآ وزاد فجأة فى كميته وسرعته . فتحت النافذة قليلآ وكأنه كان ينتظر إنهمر الى الداخل بقوة . قفلت النافذة بشـدة وعدت الى الخلف كأنى تعرضت الى هجوم خاطف . تبلبل وجهى بقطرات ندى مسـحتها بيدى . وعدت ولصقت وجهى مرة أخرى أنظر الى الخارج .
كنت فى الخامسـة عشرة من عمرى وأنا أسـافر أول مرة بالقطار وحدى . عهد والدى بى الى أسـرة لا يعرفها برعايتى أثناء الرحلة. تقبلوا ذلك بكل ترحاب . إمتعصت لذلك وأنا أحس بأن رجولتى قد خًدشـت . جلسـت معهم بنفس (القمرة) .
كانت أسـرة من رجل وزوجته ووالدته ولديه طفلتان . إحدى الطفلتان فى حوالى التاسـعة من عمرها . تكثر من الحركة والسـؤال وكثيرة التذمر. شـعرت نحوها بالغيظ وتولدت بى الرغبة فى إيذائها . لم أحتمل وجودى فتزرعت بذهابى الى الحمام وهربت الى عربة أخري من القطار .
لم أجد مكان للجلوس فوقفت ملتصقآ بالنافذة أحدق فى الرمال على مد البصر . عند المسـاء وأنا ألصق وجهى بالنافذة أظلمت الدنيا من حولى وكأن ظل عملاق قد غطى الكون فجأة . بدون تفكير جذبت النافذة الى الأسـفل . إختلط صرير القطار مع أزير الرياح وإندفع الى الداخل دخان كمارد خرج من القمقم لتوه ولم يجد طريقآ له سـوى عبرهذه النافذة . قفزت الى الخلف مفزوعآ وتعالى الصياح من حولى مخلوطآ بعبارات غاضبة . إندفعت هاربآ وأنا أفرك عيناى بكلتا يداى . إصتدمت بشـخص و أنا أركض و لا أري أمامى . جائنى صوته معاتبآ : ( أين أنت يا بنى لقد بحثت عنك كثيرآ) تبعته دون أن أرد وأنا لا أزال أعالج عيناي .
طاف بى كل ذلك وأنا أمسـح قطرات الماء من وجهى . فتحت الباب فكان الجليد لا يزال منهمرآ . تقدمت خطوات حتى صرت تحته تمامآ وتوقفت بتلذذ أراقب المارة المسـرعين أمامى . مرت أمامى إمرأة حسـبتها تخبئ طفلها تحت ملابسـها متعثرة فى سـيرها . ولما إقتربت منى وجدته كلبها . عدت الى داخل المنزل وأنا أبتسـم وأهز رأسى . ذهبت الى (الثلاجة) للمرة الثالثة . صرت أنظر داخلها أتحسس الأشـياء بيدى إهتمام . قفلتها وذهبت مرة أخرى الى النافذة . كم أنا جائع ولكن نفسى تأبى الطعام .
لم تكن السـيدة الكبيرة مرتاحة لوجودى أو هكذا تخيلت . عندما هجد الجميع أخذت حقيبتى وتسـللت خارجآ . كنت أحس أنها تراقبنى ولكنى لم أهتم لذلك فكنا متفقين على أن أذهب. ذهبت الى عربة أخرى بعيدة وبالقرب من الحمام قضيت ليلتى نائمآ على الأرض .
صحوت باكرآ مع حركة متعمدة من إحدى السـيدات تريد الدخول الى الحمام . أخذت حقيبتى وذهبت الى مكان آخر . أحسـست بالجوع فذهبت الى (السـنطور) . قابلنى شـيخ جليل وأخبرنى أن أعود بعد سـاعة زمان فالإفطار له مواعيد . وجدت نافذة مفتوحة وكان الجو صحو . أخرجت رأسـى أملأ رئتاى بالهواء النقى . أبطأ القطار فى السـير مرورآ ( بمحطة ) صغيرة يبدو أنه لا يتوقف عندها .
رأيت من البعد جمهرة من الناس . مددت رأسى خارج النافذة ترقبآ والقطار يقترب منهم . كانوا فتية وفتيات يطاردون القطر الذى يسـير متمهلآ يبيعون أشـيائهم الى المسـافرين . إلتقت عيناي بفتاة جميلة تلبس طرحة بيضاء ولباس أبيض ووجه جميل أخذنى حتى الغيبوبة . كانت تجرى وعيناها معلقتان بعينى وتحمل مناديلآ بيضاء فى يدها إبتسـامة سـاحرة . إقتربت منى وهى تمد لى منديلآ . تعلقت به كالغريق وأخذته بكل جوارحى . وهى دون أن تتكلم لا تزال تعدو وتنظر إلىّ بإبتسـامتها الفاتنة . إزدادت سـرعة القطار قليلآ فتنبهت بأنى لم أدفع لها شـيئآ . أخرجت (محفظة) نقودى بإرتباك وأنا أنظر إليها بإنجزاب جارف فسـقطت من يدى (المحفظة) . جزعت وأنا أنظر إليها والقطر تزيد سـرعته . توقفت الفتاة وإلتقطت (المحفظة) وصارت تعدو نحوى . فرأيتها على البعد تشـير الىّ ورمت (بالمحفظة) إلى أحد المسـافرين بالقطر . أدخلت رأسى وصرت أعدو داخل القطر ولكن لم أعرف من أسـأل وماذا أفعل . ضاعت نقودى ولم أجد طريقى الى حقيبتى .
عدت الى غرفتى و إسـتلقيت على السـرير وأنا أفرك وجهى بقوة بيدىّ . كأنى أطرد الجوع الذى تنوء به بطنى . أخذت الهاتف وإتصلت بصديقى فى الجوار . جاوبتنى زوجته وأخبرتنى بأنه غير موجود ولكنه قد يأتى فى أى لحظة . أردفت بأنه خرج لإحضار خبزآ . ومتداركة قالت : ( تفضل معنا لقد طبخت اليوم (ملاح) بامية رااااااائع)
إنفجرت ضاحكآ بصوت مجلجل وهى تصيح ماذا هناك وأنا لا أسـتطيع التوقف من الضحك . تمالكت نفسى ومسـحت دموعى وقلت لها : (أنا فى طريقى إليكم )
يا له من يوم لا ينسـي . تعطل القطار فى قلب الصحراء . إفترشـت الأرض خارجآ مثل كل المسـافرين . غطيت وجهى بالمنديل الأبيض الذى لم أسـخط عليه بل أحببته . شـعرت بيد تربت على كتفى . وجدته ذلك الشـيخ الجليل ذو الوجه المريح . قال لى متسـائلآ : (لم تأتى للفطور يا إبنى)
أخبرته بصوت خافت بأنى فقدت نقودى . لم يسـألنى عن شئ وسـحبنى من يدى وأخذنى الى غرفته داخل القطار . أجلسـنى على طاولة صغيرة . ومن "ثلاجة" صغيرة أخرج (صحن) به "بامية" وقطعة من الخبز . إعتزر لى بإنه بارد قليلآ وتمنى لى شهية طيبة وخرج لكى يزيل الحرج عنى . كان أشـهى( صحن بامية) أكلته فى حياتى .
فجأة دخل رجل آخر تبدو عليه صرامة وضيق خلق شـديد . نظر إلىّ شـزرآ ونظر الى (الصحن) أمامى وفتح الثلاجة بعنف وصار يصيح بصوت عال وغاضب . (عصماااااان فين البامية الى كان هنا أنا كنت عايز ناكله)
تمنيت لحظتها لو إبتلعتنى الأرض وهرولت خارجآ وهو ينادى (تعالا يا إبن ... إهرق ..... أهلك)
أواصل ......
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
أشار على جارى الذى سـبقنى بأربعة سـنوات بقراءة الصحف اليومية لإكتسـاب اللغة . ونصحنا أسـتاذ اللغة أن نتصنت أحاديث الآخرين فى المركبات العامة (لتسـليك) الأذن .
جلسـت ذات مرة بالقرب من زوجين بينهما خلاف حاد . لم يعتنيان بوجودى وقد يكونان متأكدين من جهلى بلغتهما . شرح الرجل وجهة نظره للزوجة فى محاضرة مهذبة ( ليس بها أى منطق) محملها كل أخطاء الزوجية . ترقبت منها ثورة ولكنها كانت باردة تمامآ كمن أراد الإغتيال كما نسـمع فى نشـرات الأخبار (بدم بارد) ردت بأنها لم تسـمع جيدآ ولا تفهم ما يقول . فرد بنفس البرود : (أفهم تمامآ قأنت لا تجيدين اللغة العربية ) غالبنى الضحك وغادرت مكانى . لاحظت المرأة ذلك وضحكت لا أعتقد بأنه فهم فقد كان مغتاظآ .
كنت جالس أمام منزلى على (بمبر) صغير أحتسى كوبآ من القهوة . أتى جارى (المقاول) غاضبآ . طلب منى أن أحضر له كرسى ليجلس . كنت أعرف إنه يريد أن يشكى ظلم زوجته كعادته . تنازلت له من (البمبر) وجلسـت على كوم صغير من الرملة . تجاهلت غضبه وتمنيت فى نفسى أن لا يتحدث عن زوجته . ولكنه كان مبيتآ للأمر فبدأ حديثه مباشرة : (هذه المرأة لا تفهم كأنى أتحدث معها (باللاوندى))
ضحكت مغيرآ الحديث متسـائلآ بإهتمام مفتعل لأى جنس تنسـب هذه ( اللاوندية ) ؟ تجاهل ما قلته وإسـترسل . بأن وضعه الآن جيدآ وعمله ناجح جدآ ولكنه يسـتنزف كل وقته . طلب منها ترك العمل والتفرغ للمنزل والصغيرة . ولكنها متمسـكة بعملها وراتبها الذى لا يكفى (شربة موية) بتعبيره . عذرها بأنها تخاف غدر الرجال بعد أن (تجرى) النقود فى أيديهم . أردف غاضبآ :
(هذا عيب الزواج من المرأة المتعلمة )
داعبته قائلآ : ( كنت تفضلها "مرة سـرير وحلة ملاح")
لم يتجاوب مع غمزى فى تغير مجرى الحديث . فكنت دائمآ محايدآ أو أسـاند الزوجة . وفيما يبدو هذا ما يجعله يختارنى للشـكوى ويريحه رأيي فى زوجته التى يحبها كثيرآ . يفرغ ما فى جوفه ويعود إليها مرتاحآ .
قال غاضبآ : (كلما أتيت (بحبشـية) للإعتناء بالطفلة فى غيابنا أعود الى المنزل أجدها قد تخلصت منها )
ضحكت عاليآ ضحكة زات مغزى . فلم يتمالك نفسـه وخرج عن وقاره وضحك حتى أصابه السـعال . طلب منى كوب من القهوة فإقترحت عليه الذهاب الى (سـحس) صاحب قدرة (الفول) نأكل فوله (المدنكل) ونحتمل أكاذيبه التى لا تنتهى .
جلسـت على مقهى وطلبت من النادلة الإيطالية الحسـناء كوب من القهوة . تناولت صحيفة يومية . قد أقرأ بنصيحة صديقى ولا يضير أن أعلم ماذا يجرى حولى . تخطيت عدة صفحات بحركة آلية وتوقفت أمام صورة ثلاثة فتيان وثلاثة فتيات فى العقد الثالث متعانقون وعيونهم ملئها السـعادة . العنوات تجربة مثيرة يخروجون منها بصداقة متفردة . بدأت القراءة متعثرآ كبداية أكادمية تتأمل الأفعال والتصريف اللغوى .بعد فقرة والثانية صرت أقفز للوسط وقبل الأخير والخاتمة . فى أى مصيبة نحن . أتت الحسـناء بالقهوة مبتسـمة بوقار . لم أبتسم متقذذآ وقررت حرمانها من كلمة الشكر المعتادة .
جلسـت داخل البص فى مقعد منزوى . جائنى خاطر بأنى ألبس ثوب رياء . هذه حياة قد تكون أشـجع من حياتنا . تقابل هؤلاء الشـباب خلال إعلان فى الصحف . الفكرة كسـر رتابة الزواج فى جلسـات جنس جماعية لتبادل الزوجات . قالت أحداهن : (بعد أن عاشرت الإثنان وعدت الى زوجى إسـتطعمته كما لم أفعل من قبل !)
(نادية عبد الفراج) أشـهر مقدمة برامج الجنس فى أشـهر المحطات الألمانية تفخر بأنها سـودانية . تذكرت جارتى المغتربة بمصر . عادت فى عطلة ومعها صديقات جدد. طريقة لبس مختلفة وثقة فى التخاطب أقرب الى الإسـتعلاء كأنهم فى زيارة دولة أخرى لم تصلها حضارة بعد . الحديث متهللآ بإحساس الزائر أو السـائح . تحمس جارى الشـاب فى إكرامهن . وسـخر سـيارته فى ترحيلهن بين ضفاف النيل والهلتون و المريديان وبيوت االأعراس .
قابلته بعد فترة وسألته عن صديقاته . لعنهن وقال : (بعد إسـتنزافى تمامآ قالن هن يعملن فقط فى القاهرة )
ذهبت إلى محطة القطار وجلست أراقب المسـافرين
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
يجب أن أكون غدآ باكرآ فى موقع عملى الجديد و الأرق الليلى يطاردى . أغمضت عيناى وأنا أسـتجدى النوم . يبدوأننى قد نمت وأنا أحلم بأنى لا أزال أغالب النوم . أفقت على طرق شـديد على الباب . نهضت وكلى خدر كأنى أسـير على بسـاط من ثلج هش أغرز قدماى فيه وأخلعها عنوة . فى طريقى تنبهت بأننى قد سـمعت الباب يرن عدة مرات قبل الطرق ولكنه ضاع فى رنين أحلامى .
فتحت الباب ووجدت أمامى فريق من الشـرطة رجلان وفتاة . لم أتبينها جيدآ وحاولت أن أنظر خلفهما ولا أدرى عن ماذا كنت أبحث . تراجعت الى الخلف معطيهم ظهرى ولكنى عدت مرة أخرى متراجعآ .
تمتم أحدهم بإقتضاب معنزرآ عن إيقاظى وطلب إذن بالدخول . فسـحت الطريق وسـمحت لهم بإشـارة من يدى .
تقدم فقط بضع خطوات داخل المنزل وإكتفى بها . من خلفه الفتاة تجول بنظرة سـريعة فى أركان المكان بدون إهتمام بينما إكتفى الثالت بالتقدم خطوة بعد الباب متابعآ الحديث بينى وبين زميله . كان ثلاثتهم يلبسـون ملابس زاهية تدلى منها سـلاسـل فى مناطق متفرقة . وكل لديه سـلاح فى غمده فى الجهه اليمنى متدليآ قليلآ وقد تم تحريره مثل رعاة البقر .
بعد تعريفه لنفسـه سـألنى عدة أسـألة عن هويتى بدون تدوينها . وبأدب صارم شرح لى طبيعة مهمته . جارتى (العزيزة الشـمطاء) قد فقدت قطتها وفى إفادتها ذكرت رأتنى أداعب القطة قبل أيام . رددت بالإيجاب وبأنى لا أعرف عنها شـيئآ . لم يجادل وقد بدآ كأنه يهم بالإنصراف . فإسـتوقفته بذكاء مفاجئ إعترانى وطلبت منه أن يفتش معى المنزل ربما أتت القطة دون علمى . شـعرت بالإرتياح فى قسـمات وجهه كأنى زللت له شئ قد لا يكون حرج بل شئ من هذا القبيل . تم التفتيش بطريقة غير دقيقة .
بعد إنصرافهم لعنت نفسـى مالى أنا ومداعبة هذا القط الكريه . وأنا بطبعى لا أحب الحيوانات فعلتها فقط توددآ لهذه الشـمطاء .
عدت الى سريرى وإسـتلقيت على ظهرى أنظر الى السـقف . مر بخاطرى رجل السـوارى وهى يفرق الجموع المصطفة فى بوابة (الشـعب) فى سـينما أمدرمان . يغوص بحصانه بين أجسـاد المتجمهرين وصوت السـوط يطرقع فى الهواء فينزوى النسـاء على بعضهم البعض جزعآ وهم على الطرف الآخر من الشـارع . قال صديقى هل شـروط تعيين الشـرطة هى (المسـاخة) ؟
حكى لى صديقى ذات يوم ليلة القبض على التجانى الطيب . كيف إسـتيقظوا عند الفجر (بطقطة) فوق سـطح المنزل . إمتلأت أسـطح المنازل بالجنود . قفلت المداخل بمدرعتان وعربة شـرطة مصفحة . إسـطف أهل (الديم) فى وجوم والشـرطة تخرج ذلك الرجل الذى عاشـوا معه وعاشـروه ردحآ من الزمان بإسـم آخرلا يزالون يتزكرونه به كأنهم لم يصدقوا كذبة العسـكر . ضحك محدثى عاليآ وهو يوصفهم وهم ملتفون حوله كل يبحث عن مكان يقبضه منه لينل شـرف ما . مسـلحين يصوبون أسـلحتهم من أعلى أسـطح المنازل . وآخرون منبطحون على الأرض . وهو يبتسـم لأهله معتزرآ . لم يغضب منه أحد بل صار بطلآ آخر .
تزكرت أن التوقيت الشـتوى سـيتعدل اليوم فقمت لضبط سـاعة الحائظ
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
فى ذلك الصباح كانت موظفة الإسـتقبال ليسـت بشـوشة كطبعها . زميلها تبرع برد بتحيتى نيابة عنها . عند بلوغى درجى وجدت زميلتى واجمة تمامآ وهربت الروح من وجهها وهى متعلقة بعينى جاهدة تقرأ فيهما. شـعرت بشئ جلل فسـألتها بلهفة ماذا هناك . تأكدت بأنى لا أعرف شـيئآ . قامت من مكانها وأرتمت على كتفى وهى تنخج بالبكاء :
(لقد ماتت "نويمى")
كانت أيضآ شـقراء . ليسـت على جانب من الجمال ولكنها تمتلئ حيوية . دائمآ تعمل بجد ولكنها لا تكف عن الثرثرة التى تتخللها الضحكات الصاخبة . دائمآ سـاخرة وتلوك الجنس فى فمها فى موضعه و غير موضعه . كانت تنادينى بالأسـود مما يسـبب الحرج لزميلتى فى المكتب . كنت أداعبها بأنها لو جربت الأسـود لما إلتفتت ثانية الى الأصفر أغمز إلى صديقها الفيتنامى . تضج ضحكاتها وهى تدلك على ظهر يدها تلقائيآ . عندما تعود الى العمل بعد غياب يوم أو إثنين تقابل بترحاب كأنها غابت دهر من الزمان . أشـعلت فى جسـدها النار. لم تسـتطيع إحتمال بلوغ حتفها والنار تحرقها فقذفت بنفسـها من الطابق الخامس طالبة الموت السـريع أو هلعآ منه .
أى سـر فى حياتها . تذكرتها وهى تدلك ظهر يدها كعادة لم نلحظها . لم نسـمع عنها جديدآ سـوى ثرثرة هنا وهناك . أحد عملاء العمل المنتظمين عمد وهو يخاطب موظفة الإسـتقبال بوجودى أن يقول :
(يجب التحقيق مع صديقها)
لم يفوتنى ما يغلفه قوله . وافقته كأنى لا أفهم ما يرمى إليه :
(نعم صديقها قد يكون أدرى بأسـرارها )
خرجنا جميعنا وإسـتقلينا البص فى طريقنا الى المرسى فى رحلة نهرية منحتنا لها (الشـركة) . تذكرتها تعتزر عن الذهاب لأنها تخاف الماء وتصاب بدوار البحر .
وأنا أرقب سـطح النهر الهادئ تذكرت سـطح البحر فى بورتسـودان . تري الحياة تحت الماء كاملة التى قد يعكرها الريس حبشى وهو يبحث عن القواقع و(الأنتابوتا) كأنه كائن بحرى .
ظهيرة يوم صيف حار ترتفع درجة رطوبته فوق الإحتمال كادت أن تخلو أركان ذلك السـوق الصغير من أرجل المارة . البنيان الضخم للمحلات تتوسـطه (زريبة) الفحم بسـورها القصير تزيد غيظ النهار . أتت ربيعة ذات التسـعة ربيعآ بجسـمها المتتلئ تشـترى بعض الأغراض من صالح اليمانى . إسـتدرجها الى داخل (الدكان) وفك عزريتها .
توارت عن الأنظار وحل سـكون فى منزلها كما تقطنه الأشـباح . أعتاد أهل الحى على هذا الهدوء ولا تجد من من يعيره إهتمام حتى فى ثررة النسـاء . أتى غرباء ودخلوا المنزل فى سـكون وخرجوا بجسـمان والدتها الى مثواه الأخير . إكتفى والدها بقفل الباب دون أن يلقى نظرة على موكب الجسمان . لم يشـارك أهل الحى وإكتفوا بهمهمات إحترام لموكب الجثمان .
لم أر والدها مغادرآ أو عائدآ للمنزل . كنت أنضم لجوقة الأطفال ونتسـلل ببطء من تحت المنزل الخشـبى الزى يرتفع عن الأرض حوالى متر حال كل منازل بورتسودان القديمة . نتسـلل إليها حاملين أكياس الإسـمنت الفارغة ونعود فى اليوم التالى نجدها قد صنعت لنا منها أكاس من الورق متقنة الصنع نبيعها فى سوق الخضار . نحضر لها معنا بنصف الثمن الحلوى و (حلاوة الطحنية) التى تحبها . كانت تتودد إلىّ كطفل غريب لا تعرفه ولكتى رفضت الإقتراب منها وهى لا يسـعها الدخول تحت البيت وقد صارت إمرأة . كان يتسلل لها الصبية الذين يكبرونا سنآ لمآرب أخرى .
عدت وأنا يافعآ وكان أهلى قد تركوا ذلك الحى . ذهبت لزيارة أصدقائى بالحى القديم . قضيت معهم عطلة جميلة بين رحلات صيد السـمك فى (خور كلاب) نغتسل فى ذلك النبع العذب العجيب الذى يلاصق البحر . ومناوشـة الغربان والسـباحة الى السـفينة الغارقة فى منطقة (الملاحات) .
أتى إسـمها مرة فى مداعبة عابرة بين الأصدقاء . سـألت عنها بلهفة وكنت قد نسـيتها تمامآ . رد صديقى بأسـى مملؤ بزكريات الطفولة بأنها قد ماتت .
فتحت باب المنزل إقتحامآ وهى تعدوا فى الطرقات وهى تصرخ كتلة من النار ملتهبة . يهرب الناس من أمامها لهول الصدمة وفظاعة المشـهد . حتى سـقطت فى قلب الإسـفلت . لم يسـتطيع أحد الإقتراب منها حتى فارقت الحياة .
صافرة الباخرة معلنة نهاية الرحلة قابته أوصالى بإرتياح تام
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
جارتى السـوداء .. تزوجت .. من إمرأة بيضاء .. هذا ما حدث !!
لم أعلم مصادفة . وجدت بطاقة دعوة فى بريدى. لم أتخيل لحظة أن الشـريك إمرأة . كدت أتصل بها تلفونيآ وأشـكرها على الدعوة ولكنى عدلت . قد تكون مشـغولة وتنعدم بيننا خصوصية العلاقة . تتزامن مواعيدنا أمام منزلها صباحآ وأنا فى إنتظار البص وهى تقود سـيارتها خارجة الى العمل . تبادلنى التحية بإيماءة بالوجه وإبتسـامة مهذبة . تحية يفرضها إنتماء اللون وغربة الواقع .
ذهبت متأخرآ قليلآ عمدآ تفاديآ الإختلاط بجموع المدعوين لأتجنب حرج الغربة . وصلت كنيسـة الحى وبدت خالية من الخارج فقد بدأت المراسم بالداخل . كان عدد المدعوين لا يسـتهان به . وأنا أتلمس طريقى للجلوس تلاقت نظراتنا فحييتها بإيماءة بوجهى جاوبتنى بإبتسـامة عريضة كلها إمتنان لحضورى .
كانت ترتدى فسـتانآ عاديآ داكن اللون وبجانبها إمرأة بيضاء ترتدى فسـتان أبيض تكاد تكون عارية . كنت أحسـبها (شـبينتها) . توالت المراسـم بتفصيل مسـرحى الطقوس . كنت متابعآ لا ينتابنى أى ريب أو ظن . هب الحضور واقفين لحظة عقد القران ووسـط تصفيق الحاضرين تبادلت المرأتان قبلة محمومة . تسـمرت فى مكانى متابعآ القبلة لحظة بلحظة . تضخمت كل أحاسـيسى وشـعرت بكل شـعرة تنبت فى رأسى . تلمسـت طريقى خارجآ من وسط الجمع هلعآ كمن يسـابق أحشـائه للوصول إلى موضع يناسـب إسـتفراغها .
وأنا متكئ على الأريكة تترائى لى تلك القبلة والشـفاه تغوص بتشبث متلاحق محموم كتلاهف ذروة المتعة. لا أتابع كثيرآ ثرثرة صديقى على الهاتف و صخب ضحكاته وهو يترك لخياله العنان متخيلآ كل ما يمكن أن يحدث بين زوجين . وعرج على مكايدة أم العروس و(الحردان) ..... وتعالت ضحكاته وهو يقول لو تثنى إلى (الشفه ضكر) أن تأتى الى هنا لصارت من الوجهاء .
(الشـفه ضكر) رأيتها عن بعد مرة احدة فى غابة (أم بارونه) . تقبلت دعوة أصدقاء من حى (دردق) لحضور حفل زفاف . صداقة حديثة و حميمة جمعتنا فيها منافسـة مدنى الرياضية . قضيت الليل فى ضيافتهم وفى اليوم التالى وبنشـوة الأفراح قرر أهل العرس الذهاب (رحلة) إلى الغابة . جلسـنا متقاربين وبنشـوة الأمس واصل الفتيات الغناء والرقص بحرية كاملة وكل الحضور من الأقارب 0
كنت تقريبآ الوحيد الأكثر تحفظآ وأرى حولى جيدآ بينما الآخرون على سـجيتهم فى سـمر ونشـوى . إقترب منا فريق من الشـباب فى طريقهم بحثهم عن مكان يبدو أنهم يريدونه أكثر إنزواءآ وذلك فى ترددهم فى الإختيار مشـاورين بالأيادى فى إتجاهات تفاضلية .
حدث إختلال فى فريقنا من الإناث .سـكن الغناء و بدت حركتهن مترقبة بإنزعاج فضولى وإنتابهن تنبه أشـبه بالتنبه الذى يعترى الفريسـة وهى تشـعر بدنو الخطر قبل أن تبدأ رحلة الهروب . تردد إسـم (الشفه ضكر) فى الأفواه مما نقل لى عدوى الإسـتنفار . رأيتها عن بعد فى لبس رجالى ولو كنت وحدى لحسـبتها رجل .
أتت الى مدنى بتحويلها الى سجن المدينة لقضاء ثلاثة سـنوات من الحكم . يتردد بأن حكمها لتورطها فى جريمة إغتصاب صبي فى مدينة أخرى . إسـتقرت بالمدينة بعد قضاء حكمها . تقطن مع إمرأة مسـنة تنتظرها أمام المنزل حتى عودتها مهما تأخرت . تنفصل عن مرافقيها على مبعدة من المنزل وليس لديها نوع من التقارب مع أهل الحى الذى تقطنه .
لديها صديقة فى (الحلة الجديدة) فى منزل عام تقوم بالوصاية عليها وتردد هى التى أتت بها. تعودها غالبآ فى فترة الظهيرة ونادرآ أن تقضى معها الليل . كانت صديقتها صبية هادئة قليلة الحركة . كانت تلبى خدمات النساء فى المنزل بدون تزمر من رسـم الحناء و (مشـاط) الشـعر وما إليها من حياة لنسـاء . عند حضور صديقتها تتسـلل إلى غرفتها معها ولا تغادرها وتبقى بها فترة طويلة بعد تغادر صديقتها المنزل .
لم تكن (الشـفة ضكر) تمارس الفتوة أو العدوانية ودائمآ صامتة ولا تلتفت لأى تحرشـات ومناوشـات غالبآ ما تتعرض لها . رفاقها مجموعة متفرقة لا يجتمعون إلا لمامآ وجلهم من الرجال . يُقال إنهم يقومون بعمليات سـطو ليلية على العابرين فى المناطق الخلوية . لا يعتدون على الضحايا إذا أسـلموا ما لديهم ولم يقاوموا . يقتسـمون غنائمهم فوريآ ويتفرقون .
ذات يوم ذهبت على غير عادتها الى صديقتها صباحآ . كانت الصبية تبيع الهوى مع رجل . فزعت النسـوة وحاولن منعها من الدخول . إقتلعت (الشـعبة) من قلب (الراكوبة) المنصوبة ولوحت بها أمامها مفرقة النسـوة . إقتحمت الغرفة وبوحشـية إنهالت على الرجل ضربآ . ولولا تحطم العصى الغليظ على الحائط لقضى نحبه . تحين اللحظة هاربآ تاركآ ملابسـه خلفه . لم تتبعه وتحولت الى الفتاة وإنهالت عليها بقسـوة ضربآ بيديها تأديبآ وهى تنعتها بالعاهرة .
فزعت على صوت إرتطام على الباب من الخارج . هرولت جزعآ وفتحت الباب وجدت قارورتين من الحليب اليومى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
جلست على حرف الكرسى فاردآ جسـدى الى الأمام و بجانبى كوب من القهوة وأنا أفض خطابات البريد . خطاب من شركة المواصلات به كبون سـفر مجانى مع وجبة الإفطار رحلة بالقطار الى منطقة الشـلالات . بطاقة تخفيض بنصف الثمن على بعض السـلع من مركز القرية التجارى . خطاب تهنئة بعيد ميلادى من رئيس البلدية .
وضعت باقى الخطابات جانبآ وشـرعت أرتشـف كوب القهوة بتأنى وأمامى عدة علب من الهدايا وصلتنى من زملائى ومن صديقتى الجديدة . لم أتعود الإحتفال بعيد ميلادى . أعياد الميلاد قاصرة فى ذهنى على الأطفال . فلم أشـعر بمفارقة الإحتفاء به فى يوم لا يمت لميلادى بصلة . تاريخ الميلاد فى جواز سـفري يكبرنى سـنتان ونصف السـنة . مكان الميلاد لا صلة لى به . حتى إسـمى ليس صحيح فى النطق بالحروف اللاتينية . يحتوى على كل أدلة التزوير . إسـتخرجته بنفسـى ومن مكتب الجوازات فى الخرطوم !
وأنا أسـتخرج جواز سـفرى كنت فى سـجلات الشـرطة فى مدينة أخرى . لتحديد إقامتى إسـتخرجت إذن بالسـفر للعزاء فى مدينة شـندى ليتثنى لى عدم مراجعة الشـرطة لمدة خمسـة أيام . توجهت الى مصلحة الجوازات وكان يزاملنى أحد رجال الشرطة . قمت بكل الإجراءات وحدى . وجوده بجانبى مداعبآ زملائه ينزل الطمأنينة على موظف الأمن فى إسـتكمال تعامله .
أتممت الإجراءات كاملة وإسـتلمت جواز سـفرى . لم أكن أشـعر بخوف أو رهبة . لم أكن أنتمى لحزب أو تنظيم . كنت فقط أحد الثرثارين بتعبير رجل الأمن عند إعتقالى وتقديمى لرئيسـه . تصادف أن أحد المسـئولين فى الأمن تعرف على إسـمى . لم يقابلنى ولكنه أرسل لى أحد الجنود تأكيدآ . لم أعرف من هو وما علاقته بنا حتى الآن . أُخلوا سـبيلى بخطاب الى مركز الشرطة ينص بالمراجعة اليومية حتى إشـعار آخر.
تقلص شـعور النضال الذى يولده الإعتقال هنا عندما حدثنى صديق عن بيوت الأشـباح وإمتهان التعزيب . أرانى آثار حروق طفيفة على جسـده . قال مواسـيآ نفسـه بأنه محظوظآ فقد كان فقط (طفاية) لآخر وردية ورُحل بعدها مباشـرة مع كل المعتقلين الى السـجن العام تفريغآ للمعتقل . حكى لى بأسى عن من عن الذين ماتوا والذين فقدوا أعضائهم . عندها فقط إنتابنى شـعور الهارب .
فى مطار الخرطوم وفى نفس الليلة تمت إجراءاتى بكل يسر وكان رجل الأمن آخر خطوة قبل الطائرة . تخطيته ليس قصدآ . (تنحنح) مسـتنكرآ إهمالى لوجوده . لم أكن أعلم بأنه رجل أمن . فهو جالس على طاولة صغيرة مثل الآخرين خالية تمامآ من كل الأدوات التى رسـمتها مخيلتى . داعبته قائلآ : (هل أنت أيضآ لديك نصيب عندى ؟)
إبتسـم بجفاء قائلآ بأنه صاحب الحظ الأوفر بمقابلتى . إجتاحنى عدم إرتياح وهويتصفح جوازى . ودون أن يرفع عينيه عنه همهم : ( جواز جديد )
وافقته و مازحآ : (جديد قديم)
موضحآ إنتهاء مدة صلاحية جوازى القديم . سألنى إن كنت سافرت من قبل أجبت بأنى تغربت سـبع سـنوات بالسـعودية . أوضح بأنه يعنى أوربا فأجبت بإقتضاب كاذبآ بالإيجاب . لحسن حظى كان لايزال ينظر للجواز . بعد فترة صمت أعاده لى وأيضآ بصمت . أخذت جوازى مودعآ ولم أتلقى أيضآ جوابآ .
سألنى المحق عن مدة إعتقالى . إنتابنى شـعور غريب فقررت تجاهل كل الوصايا التى تلقنتها . بهدوء وسـكينة عجيبين قلت له حوالى ثلاثة سـاعات وصمت . قال يحثنى أن أتابع يسـألنى بأى تهمة تم إعتقالك فقلت مبتسـمآ : (ثرثار)
نظر إلى زميله بسـرعة وكأنه فقد كل أجندته فردد بإهتمام خالى من أى سـخرية بأنى أعتقلت ثلاثة سـاعات بتهمة الثرثرة فهربت خارج البلاد ! أجبت بالإيجاب وصمت . عاد الى الخلف فى جلسـته وتحدث مع زميله بلغة كنت لا أفهما حينذاك . شـعرت بسـخافة موقفى . بدون إذن واصلت حديثى : (هم طلبوا منى مغادرة البلاد )
بدأ عليهما إهتمام بالغ وطلبا منى أن أتابع .
فى المعتقل سـلمنى أحدهم قصاصة من الورق . وجدت بها إسـم ورقم . بعد الإفراج عنى إتصلت بالرقم وسـألت عن الإسم . طلبوا منى عنوانى . تم لإتصال بى وإشـتركت فى توصيل عدة رسـائل تلفونية مبهمة . طلبوا منى مغادرة البلاد ربما لحمايتهم وليس لحمايتى ما قد يتسـرب منى . رجل الشرطة الذى رافقنى الى مكتب الجوازات كان أحدهم .
راهن أصدقائى بأنى خرقت كل مواثيق طلب الحماية وسـيتم إبعادى و كنت أسرع من وصلته الموافقة .
إجراءاتى فى السـفارة كانت جاهزة مرهونة بتجديد الجواز . موظف الإسـتقبال قبل الجواز الجديد مكتفيآ بتطابق الإسـم متغاضيآ عن الأخطاء الإملائية فيه وفيما يبدو لم يطابق البيانات الأخري . وحقيقة أنا أيضآ لم ألحظ هذا التباين . بيانات التأشـيرة فى السـفارة من واقع الجواز القديم وبياناتى هنا من واقع الجواز الجيد . أى تطابق فى البيانات أكون من المزورين .
إعترانى شـعور بأنى شـخص آخر . وضعت كوب القهوة الذى وجدته فارغ وأنا بصدد إرتشـافه . سـمعت المفتاح يدور فى الباب . لم أتحرك من جلسـتى على حرف الكرسى وجسـدى ممدود الى الأمام فى إسـترخاء ونظرى معلق بالباب . دخلت صديقتى بخطواتها السـريعة حاملة عدة أشـياء . وضعتهم على الطاولة وطبعت قبلة سـريعة على فمى لم أجاوبها ساكنآ. تعدتنى الى (المطبخ) وهى تردد السـؤال عن يومى .
لحقت بها وهى نصف عارية تبدل ملابسـها. إلتصقت بها وأنا أزحيح شـعرها وأدس أنفى تحت عنقها . بهتت لحظة وتنصلت أخرى فإحتويتها أكثر حصارآ . سـكن جسـدها إسـتسلامآ و زحفت فيها أنوثتها شـيئآ فشـيئآ . كلما إسـترخى جسـدها إزددت بها عناقآ كأنى أبحت عن نفسى .
إمتزجزت تدفقات أنوثتها مع شـبق عناقى حتى قمة العطاء. ظللت متشـبثآ بها بعد سـكون جسـدينا متحاشـيآ نظرة العتاب فى عينيها وهى تداعب شـعرى بيدها . همسـت فى أذنها أذكرها بيوم ميلادى كأنى أعتزر . أجابتنى بإبتسـامة حانية وقبلات صغيرة شـملت أنفى و عيناى كأنها تهون علىّ الأمر .
تزكرت نظرة اللوم فى عين تلك الفتاة السـمراء وهى تقول لى وهى فى أحضانى : (أهذا كل ما أعنيه لديك ؟)
أحداث مارس الطلاب كانت حمى تصاعدت فى إجتياح عم كل الطلاب . تصدت الشـرطة بعنف لجموع الطلاب فأفشـلت كل تظاهراتهم . إحتمى الطلاب معتصمين بمدارسـهم . صارت المدرسـة عرين الدفاع عنه إحتفاظ بوطن صغير . كانت حرب بها ميمنة وميسرة . للنداء بالخطر يتدافع سـيل الطلاب بكل الأسـلحة من حجارة وعصى الأشـجار وصخب الهتاف . تراجع الشـرطة كان زهو الإنتصار وتدفق للثورة . كنا طلاب المرحلة الأولى وقود هذه الثورة .
الصراع الأزلى بين اليمين واليسـار ولّد صراع آخر داخل الأسـوار . تناقل أن أحد قاة اليمين من مدرسـة مجاورة مدسـوس بيننا لإفشـال ثورتنا . كنت من ضمن الفريق الذى تصدى له . تسـلل خارج المدرسـة بعد صدام شـرس مع فريقه حال بيننا وبينهم حلول الظلام . الليل لم يخلو من حراسـة وترقب . أغلب الطلاب قد تسـللوا الى منازلهم مما نقل لنا إحباط الحصار بعد نشـوى الإحتلاال .
تردد بين الطلاب موت ذلك الفتى اليمينى . وتواردت الإشـاعات ووردت أسـماء كنت من بينها . تحولت الثورة الى جزع . ظهر من تبرع بحمايتنا . تحت جنح الليل كنا فى عربة تطوى بنا لأرض . مع خيوط الصباح توقنا فى نقطة تكاد تكون خالية من البشـر . تزودنا بطعام عبارة عن لحم مجفف عجبت عنما علمت أنه لحم للدجاج . تحركنا فى السـاعة العاشرة وقبل غروب الشـمس كنا فى مدينة الدلنج .
لم تكن هى من أهل المنطقة . كانت معلمة فى إحدى المدارس الإبتدائية . لم تكن تعرف طبيعة وجودنا ولكن تتملكها نشـوة حلول رفقة النضال فى ديارها . وهبت نفسـها لخدمتنا بحماس و إنتماء الكفاح . أشـرفت على طعامنا وتنقلاتنا وإجتماعاتنا فصرنا وفد زائر ولييس فريق هارب . نمت بيننا إلفة لم تغب عن الآخرين . كانت من الذكاء والدراية لترتيب لقاءات عفوية بيننا . تحولت الى لقاءات ملتهبة .
تزوجت وهى فى الحادية عشـرة من عمرها من شـيخ فى السـبعين . كان زوجها شـيخ مسـموع الكلمة ضارب فى النسـب بين القبائل . آلف بين قبيلتين متناحرتين بعد سـيل من الدماء وكانت هى بين العطايا التى وهبتها له القبائل إمتنانآ . توفى زوجها بعد خمسـة أشـهر من زواجها .
حضر العزاء إبنه الذى يعيش خارج حدود البلاد من فترة طويلة . يشـاع أن والده لم يكن راضيآ عليه . رأها بين أرامل والده . إنفطر قلبه عليها وكانت تصغر أصغر أبنائه . لم يجد ممانعة من إخوته بالوصاية عليها . أرسـلها الى مدرسـة داخلية فى منطقة بعيدة وتكفل بكل مصاريفها ولم تراه بعدها . بعد إكمالها للثانوية العامة إنقطعت أخباره عنها .
عملت كاتبة بسـجن شـالا . تعرفت بأحد السـجناء اليسـارين ونمت بينهما عاطفة قوية . ولكنه توفى بمرض فى الكبد داخل السـجن . تواصلت مع السـجناء فكان عالم جديد إنجزبت إليه بقوة . تشـبعت بالقصائد الوطنية والبيانات الثورية . عملت على تسـريب الرسائل للسـجناء وحازت على حب الجميع وكانوا ينادوها بالرفيقة .
زارها أحد ضباط السـجن سـرآ فى الليل فى مقر إقامتها ناقلآ لها خبر أمر صدر بإعتقالها . أشـار عليها مغادرة المدينة الفورى . دبر خروجها ليلتها بعربة عسـكرية تجلب التموين من خارج البلدة . زودها بالمال و عنوان أحد أقربائه بالدلنج . إسـتقرت بالدلنج معلمة فى إحدى المدارس الإبتدائية .
لم أكن أنتمى لأى من الأحزاب . سـهل لى ذلك علاقتى بكل السـودانين الموجيدين هنا بالتميز خارج كل الحسـاسـيات أو المكاسـب الحزبية . الجالية هنا ليسـت كبيرة و متفرقة فى أنحاء البلاد . يجتمعون فى الأعياد الدينية والقومية متناسـيين خلافاتهم . قضينا عيد الأضحى فى إحدى المدن الكبرى حيث يتمركز أغلب أعضاء الجالية . تعانقت مع صديقى و رفيق شـبابى فى شـوق عظيم . رغم تواصلنا الذى يكاد يوميآ على الهاتف لم يقلل من لهفة اللقاء . لم تتغير زوجته كثيرآ ودهشـت حقآ لرؤية أطفاله وقد غدوا كبارآ .
عدت للمنزل مسـاء . وجدت صديقتى بالمنزل وتفوح رائحة الطعام فى أرجاء المكان . كانت جالسـة على على كرسى تطالع فى كتاب . إسـتقبلتنى بإبتسـامة هادئة . تقدمت إلىّ مرحبة طابعة على فمى قبلة سـريعة . سـاعدتنى فى خلع ملابسـى المبللة بمياه المطر . وسـبقتنى الى الحمام واضعة الملابس وخرجت طابعة قبلة أخري على فمى أكثر إلتصاقآ . إسـتمتعت بحمام دافئ كأنى أغسـل من جسـمى أثر السـنين وأنا أتذكر أطفال صديقى .
خرجت من الحمام فوجئت بإطفائها لكل أنوار المنزل وأضاءت ركن صغير ببعض الشـموع حيث جلسـت مرتدية ثوب للنوم شـفاف يظهر جسـدها منه على ضوء الشموع عارية تمامآ . أمامها طاولة تعج بأصناف الطعام وزجاجتان من النبيز . تقدمت إليها ووضعت شـفتى على شـفتيها فى قبلة طويلة أسـلمتها لى كاملة . جلست قربها وزاد النبيز من نداوة اللقاء وسـط ضحكاتها الغانجة . تعاطينا الجنس على الأريكة وإنتقلنا الى غرفة النوم . مارسـنا كل مجون الجنس ونشـوة الخمر تزيد لوعته و حرارته .
صحوت صباحآ أشـعر بصداع و ألم فى كل أنحاء جسـدى . توجهت الى الحمام ثم الى المطبخ فوجدت القهوة طازجة و سـاخنة ولكنى لم أجد أثر لها . تناولت قهوتى وعدت الى سـريرى . تخلصت من كل أغطيته المعطونة برائحة الجنس على الأرض وإرتميت نائمآ . صحوت فى منصتف النهار . فارقنى الصداع ولكن تزال آلام متفرقة فى بدنى . تأكدت من غيابها . آعددت كوب من القهوة وجلسـت فى المطبخ . كانت أوانى الأمس نظيفة وأعيد ترتيبها بعناية . وقع بصري على ورقة على الطاولة وضعت بعناية أيضآ . قرأتها مرارآ كُتبت بعناية وطُبعت قبلة فى نهايتها . (حبيبى .. لسـت نادمة على أى لحظة قضيتها معك . كانت أسـعد لحظات حياتى . قررت الزواج فأنا أصلح لأشـاء أخري أيضآ لم تتثنى لى معك . سـأزورك يومآ . أحبك)
وضعت الورقة بعيدآ وأحسـسـت بعلقم فى حلقى .
تذكرتها وهى فى أحضانى تحاصرنى بنظرات العتاب . قالت لى : ( سـتعودون الى الخرطوم غدآ ؟)
جلسـت قربها على حرف السـرير أجمع ملابسـى مطرقآ للأرض وهى ظلت مسـتلفية سـحبت الغطاء فوقها يغطيها حتى فوق صدرها بقليل . خاطبتها دون أنى أنظر إليها : (هل عرفت سـبب وجودنا هنا ؟)
أجابت بإيمائة برأسـهاا بالإيجاب . إسـترسـلت وأنا أحشـر نفسـى فى ملابسـى : ( لقد قبضوا على الجناة ولا يوجد سـبب لهروبنا )
بعد صمت نظرت إليها وعينايا مغرورقتان بالدموع وبصعوبة قلت لها : (أنا أحبك )
هبت نصف جالسـة وسـقط الغطاء من على صدرها وعانقتنى بقوة . تسـاقطت دموعى وأنا أقول : ( لسـت يسـاريآ ولا زلت طالبآ)
تمتمت : (أعرف .. أنا أيضآ أحبك .. لا تحزن .. أنا أكبُرك سـنآ .. لن أنسـاك أبدآ)
فى اليوم التالى كانت ترافقنا ببشـاشـة ونحن نحزم أمتعتنا . قالت مخاطبة زميلى: ( كنت أود بقاؤكم لحضور زواجى الشـهر القادم . خطيبى فى الخارج حضر معى لوداعكم )
لم ألتفت إليها وأنا أعلم إنها تواسـينى .
جائنى صوت عمتى عبر الهاتف مهللآ : (كم أنا سـعيدة بسـماع صوتك . كنت أتمنى أن تكون هذه اللحظة بجانبى رجلآ فى خطوبة أختك )
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
جلسـت نهار الأحد فى الحديقة العامة للقرية . كانت تبدو مهجورة . تسـاقطت أوراق الشـجر بسـاط سـميك على الأرض . الأشـجار العارية تبدو بلا حياة ولا تحجب أشـعة الشـمس التى كنت أسـتمتع بملامسـتها وجهى . تبدو أكوام متفرقة من ورق الشـجر جُمعت بواسـطة عمال البلدية وتعفنت بواسـطة الأمطار فى عطلة نهاية الأسـبوع . كان جاري (البرتغالى) يضيق من عملية تنظيف ورق الأشـجار . يقول تسـاقط ورق الأشـجار فى الخريف من جمال الطبيعة وليسـت أوسـاخ لنظافتها . هؤلاء بإدمانهم للنظافة نظفوا حتى الجمال فى أنفسـهم وصاروا بلا طعم أو لون . سـألته : (هل فى (البرتغال) تتركون الطبيعة على سـجيتها ؟)
رد بإشـمئزاز : (بل ينظفوها أيضآ )
تأكدت إن إحسـاس الغربة متملك منه أيضآ . هنا أحسـسـنا بعيوبنا فى بلادنا التى عشـناها ولا نراها . أحيانآ إخفاقات الآخرين تكون مرآة لإخفاقاتك .
رأيت فى مدخل الحديقة ذلك الزوج الذى طالما شـد إهتمامى . إمرأة بيضاء فى الثمانين من عمرها تبدو دائمآ أنيقة ومهتمة بشـعرها وتعلو وجهها إبتسـامة دائمة . ورجل أسـود فى مثل سـنها ولكنه يبدو أكثر تماسـكآ . شـعره أفريقى قصير بياضه ليس ناصعآ ويبدو كأنه لم يهذبه يومآ فأصبح دوائر صغيرة متفرقة تظهر فروة رأسـه بينها . يضع نظارة سـوداء ويتوكأ على عصا سـوداء كانت جزء من هندامه أكثر من أن تكون معاونآ له . دائمآ يسـبقها فى السـير ويتوقف فى إنتظارها وهى تحث السـير لتحازيه . كان مشـهد متكرر كجزء من مسـرحية صامتة . يجلسـان فى حديقة مقهى القرية فى مكان معهود أمامه كوب من القهوة وأمامها زجاجة من المياه المعدنية .
شـعرت برغبة ملحة لرؤيتهما عن قرب وشـجعنى وجودنا وحدنا فى الحديقة القاحلة . صرت أتابعهما بنظراتى حتى إسـتقروا فى مجلس من الإسـمنت فى وسـط الحديقة . صرت أرقبهما عن بعد ولا أجد أى طريقة أتسـبب بها للوصول إليهما . كانا يجلسـان متباعدان والمرأة تنظر الى ناحيتى . فجأة هب واقفآ وخطى عدة خطوات وتوقف ينظر إليها . كمن يجمع أطرافه نهضت وتلفتت حولها كمن يبحث عن شئ سـقط منه وتابعت سـيرها نحوه . قبل أن تبلغه كان قد واصل السـير . تابعته حتى إختفى خارج الحديقة . تحولت بنظرى إليها وهى تحث السـير دون جدوى فى زيادة خطواتها . فجأة سـقطت على الأرض جالسـة . هببت أنا واقفآ . لم أبرح مكانى و سـقط فى يدى ماذا أفعل . بعد قليل عاد الرجل وقف بجانبها ينظر إليها متكئآ على عصاه . فجأة حول نظره الى ناحيتى مما شـجعنى فأسـرعت السـير نحوهما .
سـاعدتها على النهوض وإعترانى حزر أشـبه بالخوف وأنا أشـعر بعظامها تتحرك فى يدي . إحتويتها بيدى الثانية برفق كمن يحمل طفل حديث الولادة . إسـتوت واقفة وهى تتشـبث بيدى . تابع هو سـيره بعد تأكد من وقوفها على الأرض . همسـت أسـألها هل هى بخير . لم تجاوبنى وهى تنظر إلىّ بإبتسـامة لا تخفى آلامها . إسـتعادت ثقتها فى السـير ولكنها لم تتخلى عن يدى وتابعت معى السـير غير عابئة باللحاق بريفقها فظللت أتبعه أنا .
إنتظرنا على باب المنزل الذى وجدته خلف منزلى تمامآ . طيلة هذه السـنوات لم أفكر أن أرى ماذا خلف بيتى . لم ينتظرنا وولج داخلآ فتبعته وهى لا تزال متعلقة بيدى . جلس على كرسـى وثير كأنه عائد من يوم شـاق . سـرت معها ، وأصبحت هى تقودنى هذه المرة ، الى داخل غرفة بها سـرير وثير عتيق . لم تترك يدى حتى إسـتقرت كاملآ على السـرير . سـاعدتها على الإسـتلقاء وسحبت الغطاء حتى نصف جسـدها وشـاغلت نفسـى بترتيب السـرير حولها وهى فقط ترقبنى بإبتسـامة ما فارقت وجهها .
خرجت ووجدته جالسآ فى مكانه وبيده العصى السـوداء . تلفت حولى أنظر فى المكان الضيق المكتظ بالأثاث الوثير العتيق . السـتائر أيضآ عتيقة وسـميكة و مسـدلة تمامآ . توجد سـاعة حائط خشـبية ضخمة تعمل فى إنتظام . يوجد باب مقفول ينبئ بوجود غرفة أخرى . الحمام والمطبخ متجاوران ولكنهما بدون أبواب فقط سـتارة خضراء معلقة فى السـقف . خاطبنى بصوت قوى صحيح دهشـت له كأنه ينهى الزيارة : (سـتكون بخير )
جاوبته متمنيآ أن لا يكون قد أصابها مكروه وأنا لا أزال أحس بهشـاشـة عظامها فى يدى وأنا أسـاعدها على النهوض . أشـرت عليه بأنه من الحكمة أن نسـتدعى الطبيب . ردد حاسـمآ بأنها سـتكون بخير . لم أجد ما أفعله ودعته وإنصرفت مغلقآ خلفى الباب برفق .
عدت إلى منزلى تسـيطر علىّ هذه الأحداث . لا زال صوته يتردد فى أذنى . لهجته مثل أهل البلد وليسـت مثل الأجانب . ظهور خليط اللون الأسود هنا حديث جدآ لا يتعدى العشـرون سـنة وهو شـيخ تخطى الثمانين . عدت بزاكرتى لصديقى النوبى ونحن نتسـامر عن هجرة النوبيين قديمة الأذل . ملاحظاتنا شـملت تعلقهم بثقافتهم التى توازى بسـاطة أهل القرية . قد تفجأ بأن محدثك على (برش) فى رمضان أمام منزل من (الجالوص) (بجلابيته) الداكنة اللون الخشـنة الملمس وحذائه الذى وضعه سـاندآ يديه عليه متكئآ، تكتشـف إنه خريج جامعة (الصربون ) . أو قد يكون يحمل أكثر من جواز سـفر أجنبى .
حكى لى صديقى النوبى الذي يكبرنى جيلآ. حكى لى وهم صبية فى قرية نائية فى أرض (المحس) فى أقصى شـمال البلاد أتى فريق من المغامرين الشـباب مارآ بقريتهم . ثلاثة فتية وفتاتان وهم من إحدى الدول (الأسكندنافية) . كانوا فى رحلة على الأقدام من مصر من مصب النيل عازمون بلوغ منابعه سـيرآ على الأقدام . يلبسـون ملابس سـميكة رثة وأحذية جلدية ضخمة مثل أحذية الجنود فى ميادين الحرب شـعورهم متلبكة لم يصلها الماء ردحآ من الزمان . إسـتقبل الصبية الفريق إسـتقبال الزوار يعتريهم الفضول والإندهاش . حاولوا التواصل معهم بلغة (إنجليزية) ركيكة من الجانبين حيث كانوا النوبيين يتلقون تعليمهم فى الدولة (المصرية) فى تلك الحقبة من الزمان . كان هناك شـيخ جالس تحت شـجرة نخيل بالقرب من النيل يصتنط الى الحديث . قال صديقى أن هذا الرجل يملك الأرض الذين هم يقفون عليها ويقضى جل نهاره فى الحقل تحديدآ تحت هذه النخلة كأنه خلق تحتها . يعود الى القرية ليلآ يتسـامر مع أفراد قليلون فى مثل عمره على بسـاط أمام أحد المحلات العتيقة يملكها أحدهم .
وهم يحاورون الفريق نادى الشـيخ بكلمات غريبة وهو فى مكانه . إنتبه أفرد الفريق إندهاشـآ ونادوا عليه بلغتهم فجاوبهم من مكانه . تهللت أسـاريرهم وذهبوا إليه عدوآ . تبعناهم وجلسـنا صامتين نتابع حديثهم ولا نفهم شـيئآ . إنحصر الحديث بينه وبين إحدى الفتيات حيث زادت عيناها إتسـاعآ وتألقآ ووضعت يديها على فمها تكتم شـهقة عالية وبإندفاع إرتمت فى أحضانه وجلسـت ملتصقة به بإعجاب شـديد متابعة بإهتمام حديثه مع الآخرين بفرح وهم ينهالون عليه بالأسـئلة وهو يجاوبهم وترتفع ضحكاتهم . إلتفت إلينا وقال بالنوببة (هؤلاء سـيمكثون معنا خمسـة أيام وسـتقومون بخدمتهم ومرافقتهم فى أنحاء البلدة)
سـأله صديقى بلهفة من أين يعرفهم . رد وهو يربت على الفتاة بعطف ولطف : (هذه الجميلة والدها كان صديقى وزميلى فى الدراسـة فى بلدتهم . وكنت أنا أحد شـهود عقد زواجه من والدتها)
عدت من العمل مسـرعآ نحو المنزل والمطر ينهمر بغزارة . لحظت عربة (إسـعاف) تخرج من خلف بيتى . إعترانى شـعور غريب فتوجهت الى منزلهما مباشـرة . طرقت الباب عدة مرات ولم يأتنى رد . هممت أن أغادر ولكنى توقفت والباب يفتح بهدؤ . طل من الباب و نظر الىّ وعاد الى الداخل تاركآ الباب مفتوحآ . دخلت ورائه وشرعت فى التخلص من ملابسـى المبتلة على حامل للملابس عند مدخل الدار حتى لا أبلل المكان بينما جلس هو على نفس الكرسى حاملآ عصاه السـوداء مشـغول بنظافتها . قال لى بدون أن ينظر الىّ : (لقد أخذوها)
كنت قد فهمته تمامآ ولكن إسـتردادآ للأمل سـألته : (هل سـاءت حالتها )
ألتفت إلى ونظر إلىّ قائلآ : (لقد رحلت)
فقلت منفعلآ : ( لماذا لم تذهب معها)
رد مطرقآ: (سـأذهب .. هذا إتفاقنا)
عدت الى منزلى حزين . تذكرت أمى وهى تنزل الى القبر . عندها شـعر بثقل فى قلبى وخدر فى أرجلى وسـقطت على الأرض فاقدآ الوعى . أفقت و خالتى تجلس بجانبى تمسـك بيدى وتطلب منى البكاء بإلحاح . بكيت حتى بللت الوسـادة وكنت أقبض اللحاف بيدى وتمنيت سـاعتها أن أجد يد خالتى .
واظبت إلتزامآ أن أزوره يوميآ بعد العمل أعد له وجبة غذاء أشـاركه فيها . أرافقه فى عطلة نهاية الأسـبوع الى مقهى القرية ونجلس على نفس الطاولة . كان يطاوعنى كأنى أصبحت أمل جديد فى حياته . ذات يوم ونحن جلوس فى المقهى أتشـاغل عنه بمطالعة صحيفة باغتنى قائلآ : (أنت من السـودان أليس كذلك ؟)
فوجئت بالسـؤال خاصة وهو قليل الحديث . وأنا لم أحس يومآ أنه غريب منى . أجبته الإيجاب . طلب منى على غير عادته العودة الى المنزل . سـاعدته على النهوض بدون سـؤال وعدنا الى منزله . جلس على كرسـيه الوثير كعادته . كنت أهم بالمغادرة عندما سـمعته يقول : (قد أكون أنا أيضآ سـودانى)
لم أفهم قصده تمامآ فجلسـت على كرسى بالقرب منه أنتظره أن يوضح دون أن أسـأله . بعد صمت كأنه جمع ذاكرته وأراد أن يريح نفسـه من حمل ثقيل قال : (كنت أعيش فى جزيرة صغيرة بالقرب من مروى)
بذكر مروى إنتابنى تنبه غريب وجائنى صوته كأنه من بئر عميق له صدى صن أذنى . شـعرت بأنى أمام إنسـان آخر بانت لى ملامحه فجأة واضحة كأنى أراه لأول مرة . إسـترسـل كمن جمع أمره : (لا أدرى من أين جزورى لقد حضرنا لتلك المنطقة رقيقآ)
دون أن أشـعر كمن وطئ جمرة صحت : (هل كنت مملوك .. أعنى..)
أجاب بثبات نافيآ الصفة عنه : (كانت جدتى)
أصبت بلطمة فى رأسـى . لم أقبل فى عقلى يومآ العبودية وما كنت أاطالعه فى التاريخ أو تتناقله الأفواه يعبر من فوق تصورى وتمر بى مثل قصص الأساطير التى تنتهى من العقل بنهاية سـردها . إسـتطرد : ( كنت أعيش مع أمى ولا أعرف لى أب)
وكأنه عزم أن يقول كل ما عنده بعد تخطيه أصعبها فطلب منى كوب من الماء . شـرب نصف الكوب وشـرع يحكى . كانت والدته لا تملك من النخيل شـيئآ ولكن تصلها حصصآ من التمر لا يدرى كيفية إسـتحقاقها تحضرها بنهاية كل عام وتبيعها لجارنا الذى لا يدفعها نقدآ ولكنها كانت ترسـله الى ذلك الجار عندما تكون بحوجة الى المال . يحضر له المال فى ظرف مقفول بدون تأخير أو جدال كأن مالها محفوظ لديه منفصلآ . كانت تملك حقل صغير على النيل يظهر بإنحسـار النيل ويضيع فى فيضانه . كانت تفلحه وحدها وتبيع حصادها وحدها فى سـوق القرية . منزلهما عبارة عن غرفة من الطين والقش تقوم بصيانتها وحدها كل عام . يقضوا حاجتهم فى العراء ليلآ بعيدآ عن المنزل .
تعثر فى السـرد بإطراق أعاقته ذكرى مؤلمة . كان هناك رجل آخر يأتى الى منزلهم كل حين . فور وصوله يعطيه قطعة من النقود ويطلب منه الذهاب الى القرية لشـراء الحلوى . لم يكن يرتاح لزيارة ذلك الرجل ذو الثوب الفضفاض و الشـال الداكن على كتفه ونظرته الصارمة على وجهه . عندما يعود الى المنزل لا يجده وتبدو والدته حزينة ويسـمع بكاؤها مكتوم ليلآ .
فى إحدى المرات فقد قطعة النقود فى الطريق فقفل راجعآ للمنزل . سـمع والدته تبكى فى داخل الغرفة . فاجعآ دلف الى الغرفة وجدها راكعة على الأرض تحمى رأسـها بكلتا يديها والرجل واقفآ أمامها يضربها على رأسـها بالعصا بقسـوة ويوصفها بالأمة الكاذبة . إرتفع صوته ورفع العصا التى بيده وصاح بغضب : (هذى العصا)
إسـترسـل يحكى : (تعلقت بالعصا بكل قوتى وهى يسـحبها منى ...)
هنا أنفصلت العصا فى يده إاى جزئين أحداهما مدية طويلة مثل الرمح .هب واقفآ مسـك بها ممثلآ المشـهد وصاح : (وغرزتها فى صدره)
لا أدرى وأنا أتابعه لم أشـعر بفظاعة ما حدث بل كنت فى حماس كأنى أغرز معه المدية فى صدر الرجل . قال أن والدته أخرجت المدية من صدر الرجل وأعادتها الى مكانها وأعطتها له وأمرته بالهرب . صمت كأنه أزاح جبل من على ظهره . سـألته بجزع وماذا حدث بعدها . أجاب بهدؤ : (حضرت الى هنا)
لاحظ عدم الإسـتقرار الذى حل بى وهو يختم قصته . نظر لى ولأول مرة أراه مبتسـمآ وقال : (هذه قصة أخرى . أحضرتنى هنا والدة زوجتى . ولكنى سـأقصها عليك)
سـكن فى كرسـيه مسـتسـلم لنوم عميق . نظرت للعصى ترقد فى يده . ولأول مرة أكتشـف أنها من الأبنوس الأسـود . (إذآ هذه عصا النخاس ) فكرت فى نفسـى وأنا أحس برغبة فى التقيؤ .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
تخيل إلىّ سـماع طرق خفيف على الباب . أزحت الصحيقة من أمامى ونظرت إلى الباب بكل حواسى . لم يتكرر الطرق , ذهبت الى الباب مسـرعآ مشـككآ فى إحسـاسى . فتحت الباب لم أجد أحد . تلفت حولى وجدتها تحث السـير مبتعدة . قبل أن تغيب بإلتفاتة منها رأتنى . وقفت مترددة وقفلت راجعة . حتى بلغتنى كانت تسـير و هى تنظر على الأرض تتحاشى النظر إلىّ . أزحت لها الطريق وطلبت منها الدخول . إسـتنكرت ورفضت . وأمرتها حاسـمآ أن تدخل . دخلت وهى مترددة ووقفت فى منتصف الغرفة وبصوت متردد يشـوبه حزر وحرج قالت : (أريد أن أتكلم معك ولكن أرجو أن تتفهمنى)
طلبت منها الجلوس أولآ . جلسـت على حرف الكرسى ونظرت الى الأرض ويديها متشـابكتان كأنها ندمت على حضورها . دخلت الى المطبخ وتأخرت قليل عمدآ فى جلب زجاجتين من العصير . وجدتها جالسـة بدون تبديل فى وضعها . مددت لها زجاجة عصير فأخزتها فى يدها فى صمت . جلسـت على الكرسى الآخر أنظر إليها وهى مطرقة الى الأرض كأنها لا تعرف من أين تبدأ . بعد فترة صمت قررت أن أزيح الأمر تمامآ سـألتها حاسـمآ : (هل أنت مرتبطة ؟)
بإيماءة خجولة من رأسـها أشـارت بالإيجاب . إنتسـمت لها بود حتى أزيح الحرج من نفسـها . طلبت منها تناول العصير لكى نذهب معآ إلى منزلهم . وضعت الزجاجة على الطاولة وهبت واقفة . دون أن أتخلص من زجاجتى ذهبت معها نحو الباب . عندما أصبحنا خارجآ عادت إليها ثقتها قليلآ وسـألتنى ماذا سـأفعل . قلت لها أننى سـعيد بصراحتها وأتمنى لها كل خير . لم تكن مرتاحة قالت أن أختها سـتحزن كثيرآ . و إنها سـببت حرج كبير بينى وبين صديقى . هونت عليها بأن كل شـئ سـيكون على ما يرام .
عدت لمنزلى متأخرآ بعد أن تناولت طعام العشـاء معهم وزال كل الحرج . لم أدر هل كنت مرتاحآ أم كنت حزين . هى أخت زوجة صديقى . أتت فى زيارة قصيرة عابرة الى السـودان . كانت مبتعثة فى دورة تدريبة الى دولة تجاورنا. حلمت أختها بأن تبقى أختها بجانبها . وإتصلت بى بعد أن تداولت الأمر مع زوجها . لدى من العلاقة معهم خلال السـنوات السـابقة ما يزيل أى حرج . دون إعلام أختها عرضت علىّ الزواج من منها . راق لى الأمر تمامآ . وجدتها مناسـبة جدآ وكنت قد أحضرتها معها من محظة القطر لغياب زوجها ذلك اليوم . أعجبت بها كثيرآ أما الآن بعد أن فقدتها أحسـسـت بأنه أكثر من إعجاب .
شـعرت بحزن عميق . إنها الأنثى الثانية فى حياتى التى تمنيتها لنفسـها و ليس لنفسـى . كانت ليسـت فى كليتى . جمعنا جدال سـياسى بدار الطلاب . لم تكن المتحدثة ولم أكن . وصفت المتحدث بالبلاهة فوصفتنى بالغباء فوصفتها بأن رأسـها أجوف مثل الطبل . أرادت أن تصفعنى مسـكت يدها وحزرتها بقسـوة من تكرار ذلك وغادرت المكان .
بعد يومين وأنا خارج من إحدى المحاضرات وجدتها تنتظر على البعد تنظر إلىّ . كدت أهملها ولكنها أتت نحوى مباشـرة وبدون مقدمات خاطبتنى قائلة إنها هنا لتعتزر . أرتبكت قليلآ وهى فى ثبات تنتظر ردة فعلى . قبل أن أرد تابعت بأن ليسـت جوفاء . إعتزرت لها وطلبت منها مرافقتى إلى دار الطلاب لنناقش الأمر بهدؤ . رفضت بحزم وقالت هى تكتفى هكذا وذهبت .
فى اليوم التالى وجدتها تنتظرنى فى نفس المكان . ذهبت إليها مبتسـم بسـعادة . قالت لى إنها قبلت دعوة الأمس . ضحكت عاليآ وسـألتها مداعبآ ما هو الطارئ الجديد . وقفت ونظرت إلىّ بتحد وصوت واضح قائلة : ( إكتشـفت أننى أحببتك)
كان بقربنا مجموعة من الفتيات والفتيان . أصابوا بوجوم صمت مفاجئ أعقبه ضحكات عالية . إحدى الفتيات نادتها بإسـمها بإسـتنكار لا يخلو من إعجاب . عرفت إسـمها من هذه الصرخة . سـحبتها من يدها بعيدآ وأنا أعنفها واصفها بالمجنونة . تابعتنى مسـتنكرة وصفها بالجنون لأنها صرحت بأنها تحبنى . فجأة نزعت يدها من يدى بقوة وتوقفت صائحة بغضب : ( لماذا تسـخر منى .. لم أسـمع جوابك .. هل تحبنى ؟)
إنتفى خيار النفى فصحت بغضب : (نعم نعم .. نعم)
إسـترخت أسـاريرها ووضعت يدها فى يدى وواصلت سـيرها . كانت متوسـطة الطول وجمالها طفولى عزب . لا تضع مسـاحيق النسـاء . قوامها اللدن الرشـيق لا تطفى عليه أنوثة مفتعلة ولكنه يتمايل مع عفويتها برشـاقة وبهاء . متفوقة فى كليتها لدرجة النبوغ . أصدقائها وصديقاتها متعودون على أسـلوبها ولا يوجد من يسـتنكره . من مداعببتهم لها عرفت بأنى أول علاقة لها فى الجامعة طيلة الثلاثة سـنوات الماضية فى .
تعودت عليها وأحببتها بجنون . لم يضايقنى أو أحس بأى غيرة من علاقاتها مع زملائها عكسها تمامآ . كانت الغيرة تأكلها وأنا أخاطب إحدى الزميلات . سـحبتنى مرة من يدى بعيدآ عن الآخرين بخطوات واسـعة . ذهبت معها منزعجآ أسـألها عن الأمر . توقفت حيث لا يسـمعنا أحد وقالت : ( لم تقبلنى يومآ )
ضغت على يدها حتى تأوهت . قدتها خارج الأسـوار حتى صرنا وحدنا تمامآ وقبلتها بحرقة . لم تتوانى معانقتى بدون قيد . عندما تماديت تملصلت منى مبتعدة بجسـدها ولكنها تاركتآ شـفتيها آخر ما تسـحبه . عدنا والسـعادة تتملكها قالت مداعبة بدلال : (الباقى بعد الزواج )
وفجأة توقفت وسـألتنى بجدية بالغة : (سوف تتزوجنى أليس كلك ؟)
تلقفتنى خالتى من أمام الباب بين أحضانها فزعة وقادتنى داخل المنزل . بكيت على صدرها بحرقة وكنت أهذى و أوصالى كلها ترتجف كمن تملكته الحمى. أسـرعت بإحضار قرص من الدواء . إبتلعته وأنا أرتجف لا أدري كيف ولكنى إسـتغرقت فى نوم كله أحلام متشـابكة . رأيت أمى تبكى وجدتى تربت على ظهرى فى حنان وجارى بذبح إحدى بهائمه . زارنى كل الأموات . إسـتيقظت كأنى خارج من أعماق البحر . وجدت خالتى بجانبى . دفعت لى بكوب من الماء شـربته بكامله بدون أن أحس بطعم الماء . طلبت آخر لكنها تشـاغلت عنى وهى تداعب شـعرى بيدها وقالت : (من هى .. وكيف ماتت ؟)
تدفقت الدموع فى عينى وهى تحثنى بإلحاح على الكلام . قلت لها إنها زميلتى ماتت فى حادث فى طريق كوسـتى قبل يومين وقد علمت الخبر فقط اليوم . تدفقت دموعها وهى تحضنى عليها بقوة . ربما تذكرت زوجها الراحل قالت لى وأنا أدفن وجهى فى صدرها وقد عاودتنى نوبة البكاء : (من نحبهم دائمآ يمضون بسـرعة)
أقمت يومين مع خالتى لم تفارقنى فيهما لحظة . دلفت إلى الغرفة وهى تكمل لباسـها العسـكري الذي ترائى لى أنه زاد من قوامها طولآ . ظهرت السـنون قليلآ تحت أجفانها وشـعرها زينته رزمة من الشـيب الأبيض لا تتناسـب مع سـنها . قالت لى وهى تراقب سـاعة يدها بأنها مضطرة للذهاب الآن ولن تغيب . طمأنتها مودعآ بأنى بخير ولا تقلق حالها وسـأكون بإنتظاها .
نظرت الى صورة زوج خالتى على الحائط داخل بدلته العسـكرية بنظرته الواثقة يبدو جميلآ جدآ . تأملته بإعجاب كأنى أراه للمرة الأولى . تزوجت منه قسـرآ لإرادة والدها بل لإرادة أهلها وجيرانها وربما أصدقئاها . تقابلت معه فى السـلاح الطبى حيث تعمل ممرضة هناك . كان مصاب بكسر فى سـاقه فى معارك الجنوب الأولى . ُأخذ أسـيرآ ولم يتلقى العناية الطبية الكافية . عاد الى الخرطوم منخرظآ فى الجيش السـودانى بعد معاهدة السـلام .
تقرر كسـر سـاقه وإعادة جبرها الى وضعها الصحيح وكانت هى مطببته . تعلقت به وتعلق بها . تحول لدينها تزليلآ لإرتباطهم . رغى جدى وزبد وهو سـليل أعراب الشـمال و نسـبه التركى جليآ فى عيون خالتى وشـعر أمى . رفض مصاهرة الأسـود سـليل الغابات وباقى تجارة النخاس . خالتى قد تكون قوة شـكيمته قد ورتتها منه . تمسـكت بصلابة وقوة إكتسـبتها من عسـكريتها ومهنتها . مات جدى حسـرة وحملتها والدتها دم أبيها .
لم تمضى سـبعة أعوام من زواجها مات زوجها بإنفجار لغم فى إحدى العمليات فى جنوب البلاد حكت لى أمى . صارت وحيدة مع أحزانها و مرضت نحو أربعة عشـر شـهرآ فى المسـتشفى و كانت أمى تزورها سـرآ . عندما علم أبى الأمر صار يعودها جهرآ مع أمى مما قطع وصالها مع جدتى التى لم أراها حتى توفيت . أحضرها والدى للبيت بعد إخراجها من المسـتشـفى وعاشـت معنا ردحآ من الزمان مما جعل تعلقى بها والدة أخرى .
عدلت عن الإتصال بخالتى . مشـاعرى تفضحنى أمامها ولا أسـتطيع أن أخفى عنها شـيئآ .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه (Re: رأفت ميلاد)
|
سـطع نور أبيض غمر الكون . خيوط ضوئية منهمرة من فراغ مهول تهطل فى مدى سـحيق لا قاع له . لاسـماء ولا أرض لا حدود . صمت مطبق ورؤى كالحلم . وزنى هلامى معلق فى الهواء . لا أعرف إن كنت أحلق أو أدور . خطوط الضؤ تخترقنى كأنى نافذة زجاجية . لا ترمش عيناي وأحس بجفونى تغيب الى أعلى وجهى .
تضائل بريق النور متلاشـيآ لا أدرى إن كنت أبتعد عنه أو هو يبتعد منى . نزلت داخل فجوة رخوه كأن جسمى يزوب فيها . بدأت أنزلق إبتلاعآ فى إنحدار سـحيق بسرعة تفوق طرفة عين فى مدى ليس له قاع . لا إحساس لا تفكير لا آلام لا جزع . كالحلم أحس أنى مازلت هناك .
أصبحت فى فضاء فسـيح ضيائه كالمغيب و لا حدود له . ليس له غطاء وليس له قاع . كأنى داخل سـحابة من البلور. كأنى أقف على الهواء و أسـير إنجزابآ بدون أرادة بسرعة زاحفة . يحيطنى مئات المئات من البشر متشـابهون . لا هم نسـاء ولاهم رجال ولكنهم بشـر . لا أراهم ولكنى أحس وجودهم . بعضهم متوقف تمامآ وبعضهم يسير ببطئ وبعضهم أكثر سرعة وبعضهم إنسحابآ . بعضهم بسـرعة أكاد لا أراهم . جميعهم بهم إنحناءة كأنهم يسـقطون . ولا أدرى إن كانوا بجانبى أو فوقى أوخلاي يعبرون . وجودهم خرافى مثل وجودى .
كأنى وصلت إلى مكان أكثر إظلامآ . زاد ظلمة فوق ظلمة لا أدرى إن كنت أدخل أنا الظلام أم يبتلعنى الظلام . ضاق الفضاء الأسـود الجديد . كنت كأنى أتخطى بعضهم وبعضهم يتخطانى وبعضهم يكاد يلفحنى . صار الفضاء نفق أسـود متداخل كأنه يدور حولى . ترائى لى آخره لون داكن كلما صار أقرب تحول الى أحمر قانى كأمواج تتلاطم . على البعد تترآئى الأجسـاد كظلال فى ضؤ النور الأحمر وعنده تغيب وتتلاشى .
إعترتنى رجفة وزبزبات تأتى وتغيب مثل وخز الإبر . بدأت أحس بأصوات تأتى من بعد سـحيق . رنوت لها بوجود جديد. تملكت شـيئآ من عقلى . قاومت زحفى فأحسـت بأنى توقفت . بدأت أحس بالذين يتخطونى أكثر إدراكآ . قررت النظر خلفى . تأقلمت قليلآ بالجزء القليل العائد منى . أصبحت أدور ببطء كأنى أعوم فى داخل كائن بحرى لزج . كلما زاد إحسـاسى بلزوجته زاد ادراكى لوجودى . فى دورة كأنى أزيح جبل إلتففت حول نفسى .
آخر النفق الأسود فى الجزء الآخر هالة ضؤ بيضاء . يزيد إتسـاعها ويضيق كأنها تلتف حول نفسـها . تجمعت بكل ماتبقى فىّ أو بالأحري ما عاد إلىّ لكى أسـير نحو الضوء . لكنى تجمدت تمامآ . راقبت نفسـى و أنا أفقد إحسـاسـى وأصبح جسـدى يميل للأمام قليلآ ويدور كأنى أعوم فى الهواء الى وضعى الأسـبق الى الضؤ الأحمر بسـرعة أكثر من من دورتى للخلف . فقدت كل نفسـى وعدت فى إسـتسـلام تام .
صدى صرخة صاعقة شـقت روحى . ألتأم شـملى وشـعرت بأن لى عينان . صدى الصرخة الذى لازال يتلاطم شـق أذنى وكاد يفجر رأسى . تصلبت كل أعضائى وأنا أتابع رنين صدى الصرخة يرتطم فى أرجاء الفضاء . أحسـست أنى أألفه . تردد مبتعدآ وكأنى سمعته يردد أسـمى . قذفت بنفسـى جزعآ خلفه وغبت داخل الضؤ الأبيض. لم تكن خيوط بيضاء بل ضؤ سـاطع أري خلاله أشـباح تتحرك .
بسـكون صدى الصرخة تلاشى الضؤ الأبيض . إنقشـعت غشـاوة من عينى وتحلول الأشـباح أناس بملابس بيضاء يلتفون حولى ويحدقون بى . ناديت بغير صوت . أتوا إلىّ وتكلموا معى ولكن أذنى كانت صماء . أحدهم وضع أذنه على صدرى . تقدم إثنان أحدهم مسـك زراعى وأحدهم غطى وجهى بقناع شـفاف . لم أشـعر بملمسـهم على جسـدى . تعلقت عيناى على حاجز زجاجى كأنى أرى خلفه صديقى وزوجته يلتصقان به ينظران إلىّ . نظرت إليهما متوسـلآ و قليلآ قليلآ ضاعا منى .
أفقت فى غرفة سـاكئة وأنوار خافتة . حاولت الجلوس ولكنى كنت مكبل برزمة من الإسـلاك وحزمة من الأنابيب البلاسـتيكية . عدلت عن النهوض وأنا أشـعر بدوار فى رأسى . بإلتفاتة منى فزعت وأنا أجد إمرأة جالسـة قربى على كرسى وثير مسـتغرقة فى النوم . كانت فى رداء راهبة . تأملتها وهى نائمة تعلوا وجهها إبتســامة خفيفة . خطت السـنون بدون رحمة على وجهها ولكن لم تسـتطيع طمث جمال نضر ورثته من شـبابها .
غفوت وأنا أنظر إليها وأنا لا أدرى إن كانت فى حلمى . وعندما أفقت كانت هى تنظر الىّ . منحتنى إبتسـامة عزبة وأحتضنت كفى بكلتا يديها بقوة . تركتنى مسـرعة وعادت معها ممرضة شـابة . دخلت الممرضة مسـرعة وتخطتنى مراقبة عدة أجهزة فوق رأسى لم أنتبه إليها قبلآ . عادت وتناولت يدى من مرفقى وهى تراقب سـاعة يدها بإهتمام . نظرت إلىّ بإبتسـامة منتصرة وتناولت يدى بكلتا يديها وقالت بحرارة . (مرحبآ بك مجددآ)
تهللت الراهبة المسـنة وتناولت يدى وأخذت تترنم بنغمات ملائكية . إبتسـمت لها وأسـلمتها يدى كاملة . تزكرت أمى وهى تغنى لى وأنا طفل فخلدت إلى نوم عميق .
تناولت إفطارى تحت إلحاح الراهبة . كانت تسـاعدنى بتقطيع الخبز وطليه بالعسـل وتحضير كوب الحليب . سـألتنى فجأة بإهتمام . ( ما قصة صديقك الذى أتى هنا بمسـاعدتنا )
لم أسـتوعب جيدآ . شـرحت لى بأنى فى هذيانى زكرت لها بأن صديقى ممنون جدآ لهم ولم ينسـى أبدآ رعايتهم له . عرفت من تعنيه . عرفت منها بأنى قضيت معهم ثلاثة أيام لم أفيق فيها إلا يوم أمس .
حكى لى بأنه أخذ العصا من أمه وأخذ يجرى لا يلوى على شـئ . عند أطراف القرية قابلته إمرأة يعرفها عائدة من المدينة . كانت تحزره أمه من الذهاب الى هذه المرأة . وكان يذهب إليها سـرآ لأنها تحبه وتغدق عليه بقطع النقود الصغيرة . كانت قد فقدت صغيرها غرقآ فى النيل . وكانت تعلم أن أمه لا تحبها فحافظت على علاقتها به سـرآ . تمتهن تجارة الخمور البلدية ويقال أيضآ إنها تبيع الهوى .
قبضت عليه وهى فزعة تسـأله كيف تحصل على هذه العصا . حكى لها وهو يلهث بطفولة مرتبكة كل ما حدث . جزعت وأخذت منه العصا وخبأتها تحت ثوبها ومسـكت على يده وقفلت به راجعة الى المدينة . كانت على طول الطريق تتلوا بآيات وجمل منظومة بصوت كأنه العويل دون أن تخاطبه . وصلا مدينة مروى التى كان يراها لأول مرة . أثقل خطواته مترهبآ من المدينة منبهرآ بتزاحم الناس ومناداة الباعة داخل السـوق . صارت تقتلعه إقتلاعآ وتحثه على السـير بتوسـل حتى بلغا محطة القطار .
وقف مشـدوهآ ينظر الى ذلك القطار العملاق لا يرى له آخر . الدخان يتصاعد منه كثيفآ ويطلق صافرته بين الهنية والأخرى وصوت من الأجراس السـميكة . والناس يتصادمون فى عجالة . متراصون بين مودعين ومسـافرين . ويحشـرون أمتعتهم حشـرآ داخل القطر . وتختلط أصوات النحيب بالضحكات العالية يعتلى الفضاء مسـحة من الغبار العالق من كثرة الأرجل الزاحفة .
بجانب القطار جلسـت على الأرض وإحتضنته بعنف وهى تردد كلام منظوم أشـبه بالنحيب وهى تهزه يمنة ويسـرى يكاد يفقد أنفاسـه بين يديها . وكلما تلاحق صفير القطار إرتفع صوتها بالعويل . تحرك القطار ببطء وعلت أصوات المودعين وطرقعات قفل الأبواب . حملته عاليآ وقذفت به داخل القطار وقد علا صوتها بالنحيب . هرع الى النافذة ورآها جالسـة على الأرض تهيل التراب على رأسـها .
صار يتجول داخل القطار بدون هدى يطالع الناس وهم يرتبون فى أغراضهم المتكدسـة ولا أحد يعيره إهتمام . أخذ يتنقل من عربة الى أخرى وكلما توغل الى الأمام قل عدد الركاب وتبدلت مقاعدهم أكثر نظامآ وأصبح الناس يراقبونه كأنه دخيل غير مرغوب فيه . وصل الى عربة هادئة تمامآ أبوبها مغلقة ولا يوجد أحد فى الطرقة الضيقة أمام الكبائن المغلقة . سـمع صوت غناء جميل منظم صادر من إحدى الكبائن . وقف عند الباب ينصت بإهتمام وزاد فضوله ففتح الباب برفق . وجد فى الداخل أربعة سـيدات بيض البشـرة فى ملابس بيضاء طويلة وغطاء أبيض للرأس . صمتوا عن الغناء وهن ينظرن إليه بدهشـة . مدت إحداهن له يده تشـجعه بالدخول ولكنه فر هاربآ .
بعد عدة ساعات وكان عاد الى مؤخرة القطار وإختلط بإزدحام المسـافرين هناك شـعر بجوع شـديد وهو يرى إمرأة تطعم إبنها . جلس يرقبهم فلحظت ذلك إمرأة أخرى فأعطته قطعة من الخبز الجاف . جلس فى ركن يأكلها . لاحظ البعض وجوده منفردآ بدون مرافق . كثرت الهمهمات وحاول أحدهم إسـتدراجه بالسـؤال عن عائلته ولكنه التزم فقط الصمت وكان يتحين إنصرافهم عنه ليعود لقطم قطعة الخبز بيده . يبدو تدوال الناس الأمر وقرروا الإبلاغ عليه .
رأى عن بعد رجال قادمون فى زى مختلف أقرب للزى العسـكرى ومعهم ذلك الرجل الذى كان يحادثه . أحس بخطر وهو يرى تركيز أعينهم عليه فلاذ بالفرار . صغر حجمه وخفته سـاعدته فى تخطيهم وسـط تلاطم الأجسـاد الجالسـة على أرض القطار . وصل الى مقدمة القطار وتوقف يلقط أنفاسـه . سـمع همهمتهم قادمين فلم يتوانى أن يفتح كابينة السـيدات ويندس داخلآ ويقفل الباب . وجم النسـاء وهن يرون الرعب فى عينيه . خرجت إحداهن وأغلقت الباب خلفها . عادت بعد قليل وأبخفة رفعته فى سـرير علوى وغطته بمجموعة من الملابس . بدأن يتحدثن بلغة لم يفهمها ولكنه كان يعلم إنهن يختلفن عليه .
ربما نوع من الهروب من واقع مجهول إسـتغرق فى مخبأه لك فى نوم عميق . أفاق بصعوبة وإحدى السـيدات تهزه بشـدة . أحسـت براحة عندما فتح عينيه كأنها جزعت عندما لم يلبى ندائها . إعتنوا به حتى بلغ القطار الخرطوم وأخرجوه متخفيآ داخل ملابس أكثرهن بدانة حتى عربة تجرها الحصين التى كانت فى إنتظارهن .
شـب وترعرع فى مدرسـة الراهبات بالخرطوم وصار إسـمه (يورج) . تبنته إحدى السـيدات من بعثة تبشـيرية . كانت تسـكن فى منزل صغير هى ووحيدتها داخل حوش الكنيسـة . أخذته معها لدى عودتها وتحصل على تعليم مهنى وتزوج من إبنتها . أعطته العصا فى يوم زواجه وكانت تحتفظ بها منذ وصوله . وكانت العصا هى الجزور التى تربطه بأرضه بكل ما بها من مر الذكرى. سـألتنى الراهبة عن إسـمه الحقيقى . لم أسـأله يوم عن إسـمه الحقيقى ولا أعرف إن كان يتحدث العربية أو النوبية .
وأنا أبحث فى المحطات الفضائية كانت تزدحم بأخبار حادث إنفجار القطار . تم إعتقال عدد من المشـتبه بهم جلهم من أهل شـرق آسـيا .
| |
|
|
|
|
|
|
|