|
هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه
|
جاء صوته عبر الهاتف بنفس "اللكنة" الخفيفة على لسـانه التى تميزه بين آلاف الأصوات : ( هل أنت نائم)
رددت بنبرة متكاسلة وصوت متقطع و أنا أمط جسـدى أمامى إلا ما لا نهاية بتلزز الخمول وخدر النوم : (بعض الشئ)
قال بصوت مليئ بالأسف : (آسف أدعك تنوم)
رددت بلهفة متداركآ بصوت كله تنبه خوفآ أن يتنازل من الحديث : ( لا لا أنا كنت قد صحوت لتوى )
ضحك فى حبور وأردف بسـخرية بأنه لم يتبقى لنا من زكرياتنا سـوى هذه المكالمات . كانت الحياة تدب فى جسـدى وهو يجترها معى كأنها بالأمس .
سـألنى بلهفة : (هل إتصلت به ؟)
كذبت عليه دون تردد بأنى لم لم أتمكن من الإتصال . بدأ يحكى لى كيف حصل على هاتفه . وكيف إتصل به مرارآ وكان الهاتف دائمآ مشـغولآ .
ربما كان مشـغولآ معى أو لم يضعه جيدآ . تحايلت عليه ليابدلنى الحديث . ولكنه إكتفى أن ينادينى بعد فترات صمت بكنية كان يحب أن يطلقها علىّ فى صبانا . كان يكابد البكاء أو هكذا خيل لى أنهيت المكالمة وأنا أتكلم كأنى فقدتها . لم يكن لى خيار آخر . فأنا أيضآ لم أقوى على الإسـترسـال .
كيف وصل به الحال الى هذا الحد من الإنكسـار ؟
أفقت على صوت صديقى على الهاتف : (كم كان جسـور . كان يقتحم "القطاطى" ويخرخ من واحدة ويدخل الأخرى كالحصان الجامح)
لم أر يومآ حصانآ جامحآ فى حياتى فتخيلته وهو ثائر ذلك الحصان . خلفه "الفلاته" يضربونه بالعصى وهو أمامهم يخترق "القطاطى" غير آبه بالعصى التى تنهال على جسـده وترتسـم على وجهه المتعب إبتسـامة زهو وتحفز . توقف فجأة وتوقف مطارديه وتوقف الزمن . كأنهم أمام مارد من الجن . لم يعبأ بهم وعاد نحونا ومطارديه يتبعونه كحاشـية تزفه خوف أو فخر . إنضم إلينا وتابعنا سـيرنا فى صمت . لم يتبعوننا ولكن وقفوا يرصدوننا حتى غادرنا القرية تمامآ .
لم أكن أدرى هل كنت أحبه ؟ الحقيقة لم أكن أكرهه . كنا برفقته دائمآ فى مصادمات كان من الحكمة تفاديها . ولكن وجوده يحول الحكمة الى تخازل والعقل الى خوف وكنا مرغمين على القتال . معاركه لا تنتهى وكان دائمآ هو الخاسر . مواجهته دائمآ لمن هم الأكثر عددآ . لا يأبه بإصاباته حتى يفقد الوعى أحيانآ . لم يكن أعدائه سـعداء بمنازلته رغم تفوقهم بل يفضلون البعد عن طريقه .
واجهته يومها بعنف وحال بيننا الأصدقاء . لم يتحرك من مكانه وهو جالس على الأرض يعمل أصابعه فى التراب . وكنت أرقبه خفية وأعلم إنه يعلم أننى أراقبه وليس قادر أن أغير من الموقف شـيئآ . فجأة هب واقفآ وترك المكان دون أن يلتفت الى الخلف . شـعرت بنظرات العتاب فى أعين الرفاق .وكنت أعلم وكانوا يعلمون كم أنا مميز عنده . فشـعرت بالأرض تهوى من تحت قدميّ .
هالنى صوت صديقى على الهاتف كأنه يجول فى خاطرى يقول : (لم تكن هى تلك المرة الأولى التى تقهره فيها . أتذكر تلك المرأة التى كانت تعمل فى الحقل خلف القرية ؟ فقد كان يعشـقها)
شـعرت مرة أخرى بالأرض تميع من تحتى . شـعرت بأنفاسها تلفحنى . وريحة الحصير والقماش المعطونة تزكم أنفى . كانت تعمل فى فى الحقل طيلة النهار كأن الكون توقف من حولها . لا ترى إلا الأرض وهى تفلحها . إلتف جسـدها بإحكام بثوب أزرق مهترى مظهرآ سـاعديها المفتولتين ومفاتنها رسـمآ مفصلآ . لا تعيرنا إنتباه ونحن نمر بجانبها تلتهمها أعيننا بشـبق الفتوة المتدفق . لم أراها يومآ فى سـوق السـبت فى القرية حيث يأت البعيد قبل القريب فقط فى الحقل وهى تفلحه فكأنها جزء منه . عندما يسـدل الظلام يترائى ضوء خافت من "قطيتها" فى ركن من الحقل يبعد من القرية قليلآ . قد يكون منار للمخمورين الذين الى يلجون القرية بعد ليلة حمراء قضوها فى الجوار .
تسـللت يومها الى "قطيتها" بعد زوال الشـمس بقليل حيث يري الإنسـان بالكاد موطئ قدمه . أزحت ببطء الثوب الأسـود الذى تدلى مغلقآ الباب , لم أبحث عنها فكانت أول ما وقعت عليه عيناى. كانت مسـتلقية على الحصير وعيناها مثبتان على عينيى كأنها تعلم بمقدمى . لم تتحرك ولم أع ما في عينيها . ولكنه لم يكن رعب أو إسـتعداء أو قبول .
تسـللت داخلآ تاركآ الثوب يسـقط خلف ظهرى يعزلنى معها عن كل العالم . جلست قربها . تلاحقت أنفاسـى ويدى تزحف ملامسـة يدها نحو صدرها . قبل أن أبلغ غايتى و بحركة خاطفة قبضت على يدي . . لم يتحكرك فىّ سـاكنآ رغم قبضتها التى أوجعت مرفقى . لم تزيح يدى بعيدآ بل وضعتها على نهدها برفق وعيناها لا زالتا مثبتان على وجهى . صارت تحركها حيث تريد هى . دون أن يتحرك جسـدها أطفأت شـعلة النار بيدها الأخرى . جذبتنى نحوها برفق وأطعتها حتى لامسـتها وهى مازالت بنفس القوة ممسـكة بيدى . طافت بها فى مواضع أخري من جسـدها وأنفاسـها تلفح وجهى . وبحركة مباغتة أخري كبلت يدى الأخرى وصارت فوقى . و فى ذلك الظلام الحالك كنت أشـعر بعينيها ترمقانى بثبات . تحركت ببطء زاد عنف وعنفوان . أصيبت ببعض إغماءه وأنا فى ذروة الألم . عندما تمالكت نفسـى وهدأت أوصالى وجدتها مسـتلقية بقربي وشـعلة النار متوهجة وهى ترمقنى بنظرة أخري .
تعالت ضحكات صديقى حتى تحشـرجت الكلمات فى حلقه وهو يقول : (هل شربت شـيئآ يوم أن ذهبت إليها ؟ )
وأعفانى إسـترسـاله فى الحديث من الرد على سـؤاله : (أتذكر تلك الجثة التى وجدناها بالقرب من مخفر الشـرطة ؟ لا أعتقد بأنهم من قتلوه فقد كانت متعفنة الى حد ما .)
تزكرت ذلك اليوم ولكن طاف بى شـبح آخر . ذلك الطفل وهو محمول من ذلك الرجل وهو يحث السـير ورفيقه يحاول من إصلاح وضع ذلك الجسـد النحيل بين يديه.
إنها تلك الشـجرة "المسـكونة" . كانت شـامخة فى وسـط الحقول وحيدة تراها من من كل مكان وكل صوب .
يحكى بأن فقيه كان مسـافرآ للحج جلس تحتها يأخذ قسـطآ من الراحة . هجم عليه قطاع الطرق وقتلوه وإسـتولوا على زاده و ماله . منذ ذلك الحين وعند مغيب الشـمس تُسـمع منها أصوات. وتشـتعل النار فيها ليلآ . أو هكذا يقولون .
فى موسـم الزراعة لا يتثنى فى الطريق الى المدرسـة إلا أن يمر الأطفال من تحتها . كانوا يعبرون هرولة كأنه جزء من الطريق يجب إجتيازه هكذا . تتلاحق أنفاسى عندما أصير تحتها ويصيب قدماي خدر سـرعان ما يزول بعد أن أتخطاها .
فى الليالى المقمرة كنا نتجمع كل أطفال القرية كأنه إتفاق ملزم لنلعب " شـليل وحرينا وأم الحفر ..." وكل ألعاب القمر .
وكان هو طفل رشـيق الحركة نحيل الجسـد . يكاد يكون متفوق فى كل ضروب ألعاب القمر التى لا تخلو من البدائية فى عنفها وصلابتها كأنها حرب لها قوانينها وصرامتها العسـكرية والكفاح فيها لا يقبل التهاون أو التأنى .
بيننا ولد لايكبرنا كثيرآ فى عمره له جسم مفتول وثقة زعامة غير محببه . وكان الجميع يعلم غيرته من ذلك الطفل الرشـيق الذى يتفوق عليه . يعيد اللعب مرارآ بأعزار واهية ويبذل فى كل مرة كل طاقته ويكون دائمآ هو الخاسـر .
ليلتها كأنه كان على موعد مع القدر. تفوق من المرة الأولى . فأصاب الجميع وجوم كأنهم كانوا يحسـون بخطر ما . وقف الصغير فى إسـتسلام برئ ليلبى رغبة المنتصر . إنتبه الجميع متوجسـين من الحكم الذى يفرضه المنتصر .
أشـار الى الشـجرة بتشفـى كأنه يحقق حلمآ . أمره بالذهاب تحت الشـجرة والبقاء هناك ويحسـب له إلى الألف .
ذهب الولد نحو الشـجرة بين وجوم الأطفال وإبتلعه الظلام . تصايح الأطفال بأنفاس متلاحقة بدون توافق فى الأصوات الحسـاب بصوت عال نحو الألف . بنهاية العد لم يحضر الولد . بدأت الأصوات تتلاحق بمناداته ولا يجرؤ أحد من التقدم نحو الظلام الذى يلف الشـجرة . أتى رجلان عدوآ على الأصوات المحمومة التى تنادى . ودخلا الى الظلام وعادا يحملان ذلك الجسـد النحيل مفارقآ للحياة .
تكاسل صوت صديقى عبر الهاتف وأصبح يتمتم بعبارات غير مرتبة تنزر بإنتهاء المكالمة . لم أجزع ولم ألجأ الى فخ إجتزابه لمواصلة الحديث بما يثير مكامن الرغبة . لقد إكتفيت كما أكتفى هو لهذا اليوم .
فجأه دبت الحياة فى صوته وهو يقول : (نعانى هذه الأيام من تتبع الشـرطة فى كل مكان . وإلتزمت المنزل تمامآ . أحد المجهولين يُعتقد إنه سـودانى قد إعتدى على ثلاثة من رجال الشـرطة أحدهم الآن فى المسـتشفى بالعناية المكثفة )
لم أبد إهتمامآ فلقد كنت قد وصلت الى قناعة نهاية الحديث . إسـتودعته متمنيآ له وبسـخرية حظ أوفر مع الشـرطة . وأردفت ضاحكآ : ( لقد كُتب علينا مواجهة الشـرطة الى الأبد .)
ضاع النوم تمامآ. خرجت من الغرفة فى طريقى الى "المطبخ" . وكدت أن أخطئ وأفتح الباب الى خارج المنزل . الثلاثة أبواب فى "متر مربع" (حمام ، مطبخ ، غرفة نوم) .
(ماذا تريد منا الشـرطة فنحن فى سـجن طواعية) . فكرت فى نفسـى متهكمآ .
فتحت "الثلاجة" وصرت أبحلق داخلها دون أن أعرف ماذا أريد .أغلقتها برفق ووقفت خلف النافذة أنظر لذلك الكسـاء الأبيض يغطى كل شئ وبعناية وتنسـيق .
(لماذا كل السـودانين ؟ قبل فترة قتل معتوه إحدى عشـرة شـخصآ داخل "كنيسـة" بإطلاق النار عليهم . لم تتابع الشـرطة بنو جلدتهم جميعآ . هل إذا كان القاتل سـودانيآ كان الحال هو الحال ؟ لقامت الدنيا ولم تقعد (ونصير كلنا قتلة ) .
ضحكت بصوت مسـموع وأنا أتذكر صديقى الذى ذهبت به زوجته الى مخفر الشـرطة بتهمة الشـروع فى إغتصابها .
ها قد صرنا محمد "المكوجى" عن أى عنصرية نتحدث نحن !!
كان محمد من قبائل جبال النوبة . كان يعمل "مكوجى" يأتى مرة فى الأسـبوع . هو رجل هادئ قليل الحديث . يؤدى عمله بإتقان ونظام تام . يتناول وجبة الطعام وحده ويعيد "العدة" نظيفة بدون كلمة شـكر فكانت جزء من مخصصاته . آخر النهار دون أن يُراجع عمله ودون أن يحسـب أجره يأخذه ويذهب .
إختفى محمد عن كل المنطقة وإختفت معه أشـياء ثمينة من المنزل . تم إبلاغ الشـرطة التى قامت (بإجراءات أمنية واسـعة النطاق !!) كما قالوا . لقد ألقت القبض على كل أبناء النوبة فى (الحلة) .
ذهبت مع أبى الى مخفر الشـرطة نسـأل عن القضبة .
كان مركزآ صغيرآ يتناوب عليه أربعة جنود وظابط نادرآ أن يأتى . رحب بنا عند الباب أحد الجنود وطمأننا أن لا نقلق فالتحقيق فى مسـاره الصحيح . فى الداخل تبادلنا التحايا مع آخر وعرفنا من زميله إنه المحقق . ذكر المحقق بأنه لا مانع لديه حضورنا جلسـة التحقيق .
أمر المحقق بإحضار المتهمين . فُتح الباب وأدخل أربعة رجال عاريين تمامآ ويمشـون على أربع وخلفهم شـرطى يأمرهم بالزحف كما يقود الدواب . رأيت من بينهم حسـن الذى كان يعمل معنا قبل محمد . قفز والدى واقفآ كمن لدغته عقرب . وغادرغرفة التحقيق وأنا أركض خلفه . ذهب الى الجندى خلف المكتب وطلب منه حالآ تحرير تنازل عن "البلاغ" وبين زهول الشـرطى أتى آخر وأكمل أوراق التنازل بدون جدال وبدأ عليه إضطراب واضح . وعند خروجنا من المخفر على البعد كان المتهمين يحثون السـير و هم لا يزالون يكملون إرتداء ملابسـهم .
رن جرس الهاتف ولكن الهاتف فى نفسى كان أقوى فلم أرد .
قد أواصل .....
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-20-06, 12:29 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | محمد مكى محمد | 11-20-06, 01:35 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-20-06, 03:43 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | ابراهيم برسي | 11-20-06, 08:29 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-21-06, 11:12 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-21-06, 01:29 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | Muna Khugali | 11-21-06, 01:39 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-21-06, 05:54 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-22-06, 08:52 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-23-06, 08:43 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-24-06, 03:57 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-26-06, 01:55 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 11-29-06, 11:04 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-03-06, 05:28 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-06-06, 09:06 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-12-06, 07:41 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | محمد مكى محمد | 12-12-06, 07:48 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | محمد مكى محمد | 12-12-06, 07:58 PM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-13-06, 06:29 AM |
Re: هاتف النفس و جدار من الوهم نحن صانعوه | رأفت ميلاد | 12-20-06, 05:38 PM |
|
|
|