دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله
|
نشر الكاتب القادم للكتابة السودانية بقوة عبدالغني كرم الله القصة التالية في صحيفة الراي العام بملحق عيسى الحلو الثقافي الذي يصدر كل اربعاء ويشارك فيه الكاتب الشاب بهمة وقد اعجبتني القصة ورايت فيها ما رآه الكاتب الحسن بكري في تصوير عبدالغني الدقيق بحيث ثبدو القصة الواردة هنا جزءاً من نسيج حكي طويل . واراها حركة موسيقية في سيمفونية حكي طويلة تترى عسى ان يستمتع قراء المنبر بها. أوردها هنا نقلاً عن الصحيفة دون إذن منها ولا من الكاتب فإلى النص وهذا بمثابة تحيةلروائيي الدوحة: النور حمد /هاشم كرار/امير تاج السر/الحسن بكري/ولكاتب هذا النص الغني عبدالغني .إنهم ابناء زمن الرواية السودانية الجدد.كل عام وأنتم والنور والنور وعمادومعتصم وربيع وكل المبدعين الآخرين بخير. عدت من الدوحة محملاً بزاد وفير يكفيني لقطع بيداء اخرى في عامي الجديد. الاربعاء27ديسمبر2006 قصة قصيرة جديدة
طفولة صبيحة الغد، امتحان الجغرافيا
بقلم: عبد الغني كرم الله
أمرت أمي، أخواتي الصغار بالخروج من الغرفة، والغناء في حوش الدار، لعرس وهمي، وعلى طبل من جالون شل، والعروس سارة، والعريس هبة، بمقدور أخواتي ان تتزوج البنت بنتا، وتلد بعد دقائق من العرس فارسا، لا يشق له غبار..
غرفتي بعيدة عن سعال حبوبتي، وقريبة من غرفة اختي الكبرى «حديثة الولادة»، والتى اختزل وليدها كل اللغات في البكاء فقط، سواء أكان جائعاً، ام عطشاً، أو يريد الغطاء، أو حتى فرحاً وعلى أمومة أختى ترجمتها كما ينبغي، وبسرعة البرق، فهو لم يتعلم الصبر بعد، كأمي.
خرست الدار بأوامر أمي، «أمي تحلم بدكتور بهي الطلعة»، ولكن لم يخرس نباح الكلام ونهيق الحمير، وطيف آمنة،وهو أخطرهم جميعاً، ونقّاط الزير، والذي يثير كنه الوقت، بإيقاعه الموزون، مستغلا عتمة الليل، وسكونه...
وضعت أمي فانوس الزيت وسط الغرفة، ألسنة اللهب تتراقص مع النسيم الواهن، والذى يدخل من النافذة، وكأنه يتكاسل من الذهاب لباب الحوش البعيد، مثلي، رغم جبروتها، وقدرتها على إلتهام حقل قمح كامل، كما فعلت في عام تعيس لمخزن خالي دفع الله، تستسلم للنسيم رغم حرارتها القبيحة، ومع هذا لم ينفر منها النسيم، كم تنفر أناملي حين تحرقني على غرة، ويظل مهيمنا عليها، لا يريد ان يقتلها، يتلاعب بها كغزال ولبوة، وهي راضية، ويظهر هذا في رقصها المستسلم، ومعهما يرقص ظلي على الحائط الطيني الخشن، تمتد أنفي حتي الركن، بل تنحني مع الركن، وكأنها تريد ان تشم أي تمرة مخفية، أو طحنية، ومع هذا لم أحس بألم، من تمطط أنفي على حائطنا الطيني، ولكن فانوسنا الزيتي مهجساً بهذه الرسومات السريالية..
تتموج الظلال على صفحة كتاب الجغرافيا، كنت راقداً في السرير، هذه عادتي في القراءة، أمواج من ضوء تتموج على صفحة الكتاب،وبين السطور، نار ونور، كما يلد عصب الحيوانات موسيقى، ضوء شاحب، يحاكي ضوء القمر، جعل غرفتي كمعابد الهنود، مناخ ديني عميق، خلقه نور الفانوس الزيتي، خوف لذيذ، أشبه بخوف الراهب من غرائزه النائمة والظلال التى تختبئ من لهب الفانوس، تتراقص الظلال، في لعبة الاختباء، بسرعة وذكاء، كي لا يراها اللهب، وللحق لم ير اللهب الظلال على الإطلاق، كما لم نر العدم في حياتنا، رغم جري خيالي خلفه طوال الليالي، كل الاشياء تلعب لعبة الاختباء، في ظلالها على حائط الاوضة، وعلى ارضيتها الترابية، ظلال علبة السكر، وبرطمانية الدلكة، والراديو، وترسم اشكالاً غريبة، لم تحلم بها ريشة بيكاسو..وعيون اللهب لم تر الظلال الذكية، الماكرة، حتي الآن..!!
الصفحة «63» من كتاب الجغرافيا، بلا غلاف، متآكل الأطراف، مزخرفة صفحاته ببقايا طعام، وزيت وطحنية، وشعيرية جافة، علقت كالدودة، الصفحة الأخرى مطوية، وممسك الكتاب بيدي اليسرى، واليمنى تحت رأسي، يبدأ الكتاب من الصفحة «17»، وينتهي في الصفحة «113»، والصفحة «17» تتخذ شكل المثلث، كل سطورها ناقصة، ما عدا الأخير، أما الأول فيبدأ بحرف واحد، «ك»، والسطر قبل الأخير ينقصه حرف واحد، أطراف الكتاب منفوشة، حين اضعه على المخدة يبدو كهرم مقلوب، ولكني دائماً ما اضعه تحت المخدة، خوف ان تلتهمه معزتنا الجائعة، القلوب والاسهم التى تخترقها، تملأ اغلب صفحاته، واسماء ثلث فتيات الحلة مدونة عليه، لست انا المجرم،وإن اضفت اسم «آمنة»، في وسط القلب، والسهم يخترقه، وثلاث دمعات حارة، ورب الكعبة، خفت أن تثقب صفحات الكتاب كلها، ولكني خير خلف لخير سلف، بل هناك اسماء فتيات مكتوبة بصورة طفولية، وفيهن من تزوجن، وانجبن، وتطلقن..
«خريطة نهر النيل، المنبع الى المصب». نهر النيل، قريتي تنام وتصحو وتلعب وتبكي وتفرح على ضفافه، يبدو كخيط رهيف، يتعرج من أسفل الصفحة حتى أعلاها، حسب حبه للوهاد، وخوفه من الجبال والتلال، ليس بمقدوره ان يتسلق الجبال كالقرود، ولا أن يطير كالصقور، ولكنه يحبو مثل «سعد ابن اختي الصغيرة، المزعج». والمدن الكبيرة تبدو عبارة عن نقاط سوداء «جوبا ملكال كوستي الخرطوم عطبرة دنقلا، مدني» لا أثرلقريتي، أحسست باضطهاد ما، وبغرور يحتضر، وبخوف من السماء.
حين خرج النيل من يوغندا، هل كان يعرف وجهته، قاصدا أهله مثلاً؟ أما كان يتسكع كمتشرد، جاعلاً من المشى وسيلة وغاية، كالشعراء، هل كان يعلم؟ أو يحس بحدسه المرهف، بأنه سوف يلتقي بشقيقه النيل الأزرق في مقرن الخرطوم، أم كانت مفاجأة سعيدة، جعلتهما يلتحمان في حضن سرمدي، يجرى يسارا، ثم يعود، يميناً ثم يعود، يبحث عن شئ نفيس ضائع، ذهب أم قبر ولي أم شجرة سماوية، كي يقيل فيها، ويروي جذورها السعيدة، هل كان يدرك بأن الخرطوم ومروي ستشيدان على ضفافه، وحقل خالى دفع الله يروى منه، وعباس ابن خالي، سوف يغرق فيه، وأدريس يتوضأ فيه، نعمة ونقمة، حين يثور، يبدو كثور، لم يقتل، كملاك الموت، عاقلا، بل مبشراً بالجنة، بل يعيش فيها، من الذى قتل عباس، النهر أم ملاك الموت، أم هما شئ واحد، هل خرج ملاك الموت، الساكن في الجنة الى الأرض كي يغرق عباس، وجاء للارض، فارق جنته، أم الجنة بداخله، تبدو لي، ان الجنة بداخله، لأنه خالد فيها أبدا، نعم ملاك الموت عاقل، وحكيم، ورحيم، ولهذا يسكن الجنة.. حتى تلك التى بداخله، إنه رحيم، رغم تلوثه بالدماء، وإلا لما سكن الجنة، خالدا فيها أبدا..
دائماً النيل يخرجني عن مذاكرتي، ويجعلني احب الشعر، أكثر من كل الاشياء، أمي حريصة علي، وأنا حريص على غريزتي، أود ان اطير، وأحلق، وأدخل المقابر، واتكلم مع العصافير، وأنام مع جذور الاشجار، وأمي تريدني مجرد دكتور، محاطاً بمرضى، ويملأ أذنيه العطاس والانين والسعال.
صوت الجالون، بل الطبل يخرجني من عالم الداخلي، كعادته كل مساء، يعلو صوت الجالون، الطبل الحديدي، فقد خرج الفارس، من خيال أخواتي، كي يلعب معهن، يتصارعن في الزواج به، سارة وهبة ورشا، يخرج صوت الفارس من فم رشا:
اريد الزواج من سارة!!
تغضب هبة، وتضرب وجه الفارس، وجه رشا، فيبدأ العراك والصراخ، حقيقة لا مجازاً فتصرخ أمى من وراء الحجرات:
اسكتوا يا بنات، مدثر بذاكر!!
ويبدأ العرس الوهمي مرة أخرى، ويعلو صوت الجالون الحديدي، وهذه المرة الغناء من اجل الغناء، أنهن اعضاء بارزات في مدرسة «الفن للفن»..
تصرخ أمي، وتعصى اخواتي، بل لا يسمعن صراخها مع ضجة وهرج العرس اليومي، وللحق، لا أحد يخاف من أمي، وخاصة أخواتي، وأنا.
اسكتو يا بنات..
أمي لا تعرف، ان طيف آمنة بداخلي، أعلى وأغلى وأحلى، من أصوات اخواتي، العاريات، الجائعات أغلب الاوقات، النائحات، في فرحهن، حياة متمسكة بقشة القوت، كي لا تنقرض كالديناصورات، كثقافة شفوية عظمى، ابتلعها فم الزمن، ذلك الماحي العظيم..
فجأة يخرس المكان، تنتهي اليقظة ويبدأ النوم عند أخواتي، بلا نزاع، كحائط كبير أبيض وأسود، وخط مستقيم يفصل بينهما، بين اليقظة والنوم، وكأن اليقظة أخذت حقها كاملاً، وآن للجسد ان ينام، كما يطفأ النور، هكذا تتلاشى اليقظة، كالنور، ويعم ظلام النوم، بل ضياء النوم، فتغرق اخواتي في نوم هنئ، في فسحة الحوش، على اديم الارض، وظل الجالون واقفا، بعد ان فقد روحه، كان طبلا، يوزع وينفخ الموسيقي في جسد الدار الفاترة، تصل ايقاعاته الى الفئران والدجاج والماعز، فتحس بأنس، ويقشعر جلدها له.. وقرونها..
لم يعد سوى جالون، مطفق، مهترئ، بردت اطرافه، من فراق ايدي اخواتي الغضة، والتى تنفخ فيه الروح كالمسيح، بل أنضر، وأخضر.
بيوتنا، نبتت كالنيم من الأرض!!
النهر يجري من أسفل الضفة الى أعلاها، حفر مجرى طويلاً، بلا طورية أو كوريك، كم قويةرقة الماء، ألم تقتل رقة عبلة، عضلات عنتر، لا أثر للتراب على ضفافه، هل ألتهم التراب؟ أم جرى به في بطنه، كحامل، وألقى به في البحر القصي، هل زحف نحو الخرطوم كي يطوقها، بل الخرطوم لم تكن، حين كان، «أين كانت»، اقشعر جلدى، حين محي الخرطوم وقريتي من الذاكرة، وتخيل مكانها غابات كثيفة، وكان النيل يجري لوحده بينها، يا له من زمن، يمحو ويثبت، منذ بداء الزمان، كالارقام، لا نهاية له، ولا بداية..
***
توقظنا الشمس، بعد ان ايقظ الديك، أمي في عتمة الليل، إن كانت حقا قد نامت، وللحق، لم أرى أمي نائمة، كنت انام وهي صاحية، واصحو وهي صاحية، بل كثيرا ما كنت اصحو، في منتصف الليل، كي اتبول، فاسمع صوتها «أولع ليك الفانوس»، فأرفض، لأني اعرف طريقي بضوء الذاكرة، وخلال عتمة الليل، تبدأ وردية البول، فتصحو اختي، ثم رشا، ثم سارة، حتي صياح الديك، كنت اتمنى أن اسبق امي في اليقظة، أصحو قبلها، ولكن هل «يسبق الغزال قرنيه»؟
**
تخرج اختي رشا من الدولاب، وأخرج أنا من تحت العنقريب، والنسيم المحمل برائحة الجرير من النافذة، حين نسمع صوت أمى:
- الفطور جاهز..
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: Hussein Mallasi)
|
عزيزي ملاسي..
عساك طيب، وشوق بحر، وكل عام وانت بخير وصحة وعافية..
Quote: و في انتظار أن يهدي لنا كرم الله قصة لبشرى الفاضل |
... أحس، بأنك سعدت مثلي، بصداقة (حكاية البنت التي طارت عصافيرها)!! منذ اهدائها: ( إلى وهيبة عبد الخالق، ووالدتنا، الحاجة نفيسه عبيد نقد!!
إلى (لودميلا)، زوجته، والتي كم عزف (تخلت عن عاصمة القرن العشرين سعياً ورائي في القرون الوسطى..)..
وللحق القصة الكبرى، هي (أسلوبه في الحياة)، سيرته المعاشة... في جلسة صغيرة، مع سرب من مبدعي وطني (استاذ صديق محيسي، واستاذ محمد سليمان، واستاذ بدر الدين،)، والمبدع المتعدد، (ذو العقل المتوقد)، كما وصفه استاذ بشرى، أخي وصديقي محمد الربيع، إليك، ما أحسست به، وليت الحرف يغني عن الاحساس، ليته!!
Quote: عزيزي عماد... كيفك ... صباح حنون، وباسم!!
بشرى (.....!!!)، كنت اعجب من أبطاله، قمزه، وشخوصه، وغرابتهم، في الجينات والملامح والاهتمام، فوجدته هو الغريب، ومن شابه اباه ما ظلم.. كل إناء بما فيه.. يسكر، ويسقى، ويغرق!!
إنه حكاء عظيم، بشخصه، بسمته، نظراته، حركة يديه الدائمة، وعينيه المفتوحه لأخرها (دهشة من الماثل، والغائب، والغامض!!.)
إنه الفتى، الذي طارت عصافيره، وأحلامه لأفق بعيد، عصى الفهم، وبكر الخطو، ومضلل... ولن تجدي (حملات عبد القيوم، أو حتى حملات، رولان بارت) في حشره في زمرة المصطلحات، والتعريفات القسرية)، طوبى له، ولنا، بهذا الضلال... الجميل!! كم تصرخ نصوصه (اللعنة على القارئ العادي)!!..
كنت اراقب وجهه، ويديه (كثيرة الحركة، كأنه يحارب، كدون كيشوت، الجور الماثل في العيون والعقول، والغد) كم ممتع مراقبة شكله، حديثه، تعابير جسده، افكاره، رؤاه، (حقا، غابة ماثلة، وصحراء، وبيداء، وبراق، يعرج بك للغرابة، حين تكون واقع ملموس،)، كل هذا جرى في (دار استاذي صديق محيسي)، فأحسست بأنه معنا، وليس معنا، (أن جسمي هنا، وقلبي هناك، وأنا الصب ما بين هذا وذاك)، هل ترحل إلى (عوالمك .. بالجسم)، والخيال معا، حتى تفتن فقه الأدب (أكان المعراج بالجسد أم الروح)، كلاهما وطن واحد، لروح طليقة، ما رأيك في أشعة اكس؟ انها تخرب توهمات العين الشحمية، وتبني فوقها، بل فيها، تصورات أخر (حتى الضلوع تظهر، كالشمس، وكالقمر)، يالها من أشعة ماكرة، كشخوصك، تتغلل في الجوهر، تكي تعري الذات من لبوسها، واقنعتها الكاذبة، اذن ما رأيك في عين القلب؟ (العين الثالثة، كما يقول الرهبان، والغدة الصنوبرية كما يقول العلم)، أنها أيضا تفسد الروية، وتشكل عالم آخر، أي تزخرف هذا العالم الماثل، بكشف حقيقته، بكشف عصافيره التي طارت، ولم تجد مأوى كي (ترك)، ( شق ثوب الوهم عن ذاتك، ينشق غطاها، وأدخل الجنة في ديناك وأنعم بشذاها)، قد ندخل الجنة (بسكرة كاربة بقزازة عرقي، أو افيون، أو حالة نشوة وتأمل عميق، فتبدو (الاشياء "متماسكة، ومتناسقة، وما الموت إلا وجه من أوجه الحياة) كما تقول آية الطيب صالح...وآياتك.. الأكثر جنونا، وتعقلا..
لا أدري، سافرت به، ببراقه وسمته، لعوالم أخرى، (اشبع غريزة السندباد فيني، برحلات بلا سفينة، أو بوصلة، وبشر) رحلات في معاني مجردة (ومجسده)، ، أحسست بتتداخل العوالم فيه، ومعه، ياله من طفل، سقته المطره وبللته بلخمر والحليب، وقدرات التنويم المغناطسي، والطيران كالخيال، والحبو كالماء،...وكأولياء ود ضيف، صارت المعجزة عادتهم، وسلوكهم اليومي...
تقفز خواطره، (وهو يتحدث بكل جسمه)، كالطفل، من غصن إلى أخر، غارقا في ثراء (الفقر والبساطة)، مندهشاً من (النمل، والحصى، والبصل، والعادة المملة).... عيناه (المتسعة دوما من شئ يراه هو) كبساط سحري، ينقلها الهوى والرغبة والحلم لأصقاع بعيدة، تختفي من نفسك، كي تجدها أنضر وابهى واعمق، ومع هذا تتنكر لها، ..كي تعيد طلاء جدرانها بلون الماء، كي تسقي، كعادتك، القلب بالنشوى، والعقل بالحيرة..
حكى لنا، ذاكرة في بئر، قصة وليدة، لرجل غاب عن الوطن، عقدين، أو ثلاث، لينتهي به المطاف في شارع الاربعين، دخل البلاد من دارفور، (كتبت حين كان الصراع كامنا)، ثم هوى البطل في بئر، وظل حيا (لنفسه)، ميتا للأخرين، ولم يبقى له قوت (سوى الذاكرة)، اجترار ما مضى، بذاكرة تتسع، وتستنهض كل ما جرى له، ولحواسه ولعينه ولقلبه، والرجل غائص في بئر، وماء عكر، وقاع معتم (لقد شوهت النص بطرحي هذا، ..)، حكاها بطريقته (المنسي رجل نادر بطريقته)، وهو يحكي بطريقته (ما اكثر الطرق في بلدي، من البرهانية، والنقشبندية، إلى البشراوية)... الأدب صنو الفلسفة والأديان، ومحاولة لاكتشاف الذات (كما قال اورهان باموق في خطبته الاخيرة امام لجنة نوبل)..
ثم جرى الحديث مريود، (حيوات الانجيل كما قال الروس)، وما عرفوا بأن اديم بلدي، غني بالكرامات والمعجزات والترهات والشطحات، والعبقرية، ثم جرى الحديث عن، عبد الله الشيخ البشير، وعن عوالم ، د. عبد الله الطيب، (ومد يديه ليصف عوالم تتناقض وتتسع لعبد الله الطيب) الغابة والصحرا، والسوفيات، والجامعة... (شنطة، ويسير هائما على وجهه)... يتذوق الحكايات كموز، ويجسدها بيديه، وجسمه، وقلبه، بكل بساطة..
لم تكتب؟ كي تثير ذهنك، كي تغمس يديك بفضول في كباية شاي الساخنة بقلبك، الشاي السادة (يقال بأن مكتشف الشاي راعي يمني نشطت خرافه بعد أكل النبتة السحرية)، بعد أن قرأت الخراف (حكاية البنت التي طارت ... ومزقت انوثة الذكورة)، تنبع منها أنوثة اسطورية، هذا القصة، وكأن الأمومة هي الاثير الماثل، وكذا الانوثة الساحرة، (اعترافات القديس اغوسطين، ورسو)، تتشبه بك، فالسيرة والسيريرة كتلة، بل عملة واحدة، ذات وجه واحد، شخوصك واحلامك وانت، شئ واحد، قمر واحد، شمش واحدة،!!!
.. سوف (أقرأك من جديد)، كم تشبه كتابتك، الخالق الناطق...(مجانين إلا أن سر جنونهم على اعتابه يسجد العقل)... أنت القصة، الحقيقية، الماثلة، يالك من طعام شهي، يسيل بمكره، وبرائحته، لعاب الفرح، والغموض والانخطاف..
أراك ماثلاً، وفي دواخلي ينتفض الحس، والرغبة، في مقاربة بشرى الفاضل، القاص الخاص، والنبي، والخاطئ، وال... لك القدرة، كرائحة الموز، في سيلان لعاب الفرح، والبهجة، والتعمق!!
(احبكم والحمام رسائلي)... كانت ليالي الدوحة، حبلى، بأطفال بلا ملامح، كالإله، وكالغد الغامض، كم انت حكاء بالفطرة، (ملح الارض،عرفوا أو لم يعرفوا)، كم حكاء بسيرته، وقلمه، كم وكم..
سلام سلام سلام.. الجميل بشرى،... القصة الماثلة فيك، أكبر من كل القصص، المقرءوة، والمسموعة، والنائمة.. والمنتظرة!!
|
والله ده كان احساسي، لو الحروف بتنقل الاحاسيس كما هي، رغم انها (حمال هزيل)..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: Bushra Elfadil)
|
استاذي الجميل، والمتفرد... بشرى (كذات)، وكقاص، و...
عيد سعيد، وباسم وضاحك، دوما..
لا تتصور اخي، كم سعدنا (محمد الربيع وانا)، بتلكم الامسية، سعدنا من جوة القلب، والله ما قادر اصف شعوري، على الإطلاق، كنت مأخوذ، بحق..
عميق، شكري لتشجعيكم، بالطبع كنت بخاف وأتردد أن اعرض بضاعتي المزجاة، على (النور حمد، وعلى .. وعلى، وعليكم)، فنحن نحبو على هذا الدرب الطويل، والشاق، والمحبب...
حبي، وتقديري،، وعام سعيد، وحنون، وخلاق!!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: عبدالغني كرم الله بشير)
|
الستاذ بشرى والأستاذ عبد الغني لكما الشكر جميعا لبشرى لأنك أهديتنا هذه القصة الرائعة ولعبد الغني لأنك غنيتنا هذا اللحن الجميل ، فعلا هؤلاء هم جيل الإبداع الرائع في وطني ، أعرف عبد الغني منذ أن كان طائرا محلقا في سماوات أم الربيعين مرهف الحس رائع الكلمة نقول هنيئا للسودان بك وبزملائك بشرى والربيع( مرسي الزناتي) ودي بيعرفها الولد محمد الربيع وهو يعبق سماوات مدينة المدن وساحات إتحاد الطلبة فرحا طفوليا جميلا .. أفتقدكم كثيرا وشكرا لمنتدى سودانيز الذي جمعنا من بعد غيبة. وشكرا لك أستاذ بشرى (أمبدي [email protected]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: محسن خالد)
|
أخي محسن، السمح، والمجاز، والكناية، والجن كمان..
صباحك سكر...
Quote: تحياتنا للصديق المشينا الدوحة وما قدرنا نشيل معاهو "فنجان شاي" زي الشايلو دا، |
والله حزنت بشدة، لم جيت الدوحة، وكنت في السودان.. ولكنك معي (باحداثياتك، وكلبك، وحياة الاشياء السرية)، وبرضو بضرب تلفونك، ويرجع الصدى، ياخليج؟ ياواهب...
كيفك.... كم سعداء بإطلالتك، كم وكم..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: ست البنات)
|
ست البنات كيفك؟ شوق بحر، والله ده تواضع من استاذي الكبير بشرى، فنحن لا نكاد ندرك أثار سيرهم نحو حقيقة الحياة، والدهشة.. فوطني، ملي بالغريب (ميلودراما)، ماثلة، في دروايش، وفراش بكاء، وكرامة ولي،
حكى لي أحد الأخوان، بأنه حضر محاضرة قيمة في الابيض..
تحدث الخطيب بملكة في التحليل، والصفاء، والعمق، بشكل مثير، ولا ينسى.. وبعد يومين وجد الخطيب (يبيع الطماطم في سوق الابيض)...
وهو كان يتوقعه فوق (الجامعة)...
في قرية بالقرب منا، (القلابات)، استاذ ابتدائي، غريب، يتدهش بسرعة مفرطة، وتناسق أفرط، عن النفس البشرية، بل ألف كتاب اسمه (الانفلات الحلمي)، قميصة ممزق.. لا أزال اذكر شكله في قرية بلا نور، سوى ضوء القمر، وهو يتهم علما النفس بأنهم (مؤرخين للحياة النفسية)، وليس علماء نفس...
وقائع يومية، مجرد ذكرها يثري خيال الانس والجن...
أتمنى كتابة (سودانية)، تهضم، آليات الغرب، وتتمثلة، ولكن بنكهة (سودانية مية المية)!!
فالسودان (قلب الوجود)، حتى شكله يحمل هذه التأكيد..
هناك حدث رأيته بعيني، ثعبان يخرج من الججر، ويمضي لدرويش، ويقبله، ويلفه حول عنقه، كشال، ويمضي وهو من دروايش (الشيخ ابوشلمة)...
فالمعجز، عادة سودانية...
عوالم ..عوالم، عوالم،... وقوعنا في الخط الاستواء، لم يكن صدفة (فالعقل القديم يعرف مبتغاه)...
ست البنات، كيفك، وعميق احترامي، وعام جميل، وخصب وحنون وسعيد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: Bushra Elfadil)
|
دسم على وزن دنف...هكذا العبد الغني
خيوط نسج حرفك تراصت على كرة الأحتفال رقصنا ورشا والجالون علي حافة النيل نلتمس لون ضياء شمس غاربة .. وتراصينا مصدات رياح عروس النيل قد تأتي ... أضأنا النيل حتى دلتاالإنتهاء... وكان رسمك هناك ماخبأته هوج الرياح يحتبس المد .. وتارة يمد جزرا لك الله يافتى أقلق مضاجع عشتار وقت السحر والليل شتاء وشكرا بشرى البشارة هكذا يهب الرحيق .. الورد الفراشة فهل من مزيد؟؟ لسنا جهنم الرب لكنها لظي الحشاشة بردا وسلامة نور الهادي هكذا ظن بي أبي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: Bushra Elfadil)
|
الأخ القاص عبد الغنى -
كل عام وأنت بخير -
تحية لهذا الأبداع والنسج المحبك -
كنت حين أقرأ ماركيز أو محمد شكرى - أحسب الصفحات كى أطمئن بأن الرواية لم تنتهى حتى
لا تتوقف متعة المتابعة !وعين الأحساس لازمنى حين قرأت ( حكاية البنت التى طارت عصافيرها )
للدكتور بشرى الفاضل .انه احساس جميل أن يفتنك القاص وما يقص فتتقمصه !
وكان يلازمنى احساس قوى بأن ما أقرأ من ابداعى وأنى كاتبته !
وحين قرأت قصتك التى أهدانا د. بشرى كفاتحة جميلة للعام الجديد - تملكتنى نفس الأحاسيس -
وعاودنى الأحساس بأنى كاتبتها - فاللغة والمفردات - والمحتوى - رغم بساطتها فهى صعبة الآ
على قاص مبدع مثلك !
فلك التحايا - ونتمنى أن يتواصل انتاجك - فأنت تملك جميع مقومات القاص المبدع !
ست البنات .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله (Re: نجوان)
|
الأعزاء. د. بشرى الفاضل، والسرب الجميل..
محبة وشوق،،،
لزم التنوية، هذه ليست قصة قصيرة، ولكنها فصل من رواية طويله، (الفصل الثامن)، وعلى اعتاب الميلاد، وتأخرت بسبب (حروب لنبان، حيث دار النشر)...
وهذا الفصل باسم (النيل الازرق يرقص ويسافر ويبطش معا)...
وهي كما يلي:
(الفصل الثامن)
النيل الازرق يرقص ويسافر ويبطش معاً!!
صبيحة الغد، امتحان الجغرافيا...
أمرت أمي، أخواتي الصغار بالخروج من الأوضة، والغناء في حوش الدار، لعرس وهمي، وعلى طبل من جالون شل، والعروس سارة، والعريس هبة، بمقدور أخواتي ان تتزوج البنت بنتا، وتلد بعد دقائق من العرس فارسا، لا يشق له غبار...
غرفتي بعيدة عن سعال حبوبتي، وقريبة من أوضة اختي الكبرى (حديثة الولادة)، والتي اختزل وليدها كل اللغات في البكاء فقط، سوى كان جائعا، ام عطش، أو يريد الغطاء، أو حتى فرحاً وعلى أمومة أختي ترجمتها كما ينبغي، وبسرعة البرق، فهو لم يتعلم الصبر بعد، كأمي، وكالإله في السماء!!
خرست الدار بأوامر أمي، أمي تحلم بدكتور بهي الطلعة، ولكن لم يخرس نباح الكلاب ونهيق الحمير، وطيف آمنة، وهو أخطرهم جميعا، ونقاط الزير، والذي يثير كنه الوقت، بإيقاعه الموزون، مستغلا عتمة الليل، وسكونه..
وضعت امي فانوس الزيت وسط الغرفة، ألسنة اللهب تتراقص مع النسيم الواهن، والذي يدخل من النافذة، وكأنه يتكاسل من الذهاب لباب الحوش البعيد، مثلي، رغم جبروتها، وقدرتها على إلتهام حقل قمح كامل، كما فعلت في عام تعيس لمخزن خالي دفع الله، تستلم للنسيم رغم حرارتها القبيحة، ومع هذا لم ينفر منها النسيم، كم تنفر أناملي حين تحرقني على غرة، ويظل مهيمنا عليها، لا يريد أن يقتلها، يتلاعب بها كغزال ولبوة، وهي راضية، ويظهر هذا في رقصها المستسلم، ومعهما يرقص ظلي على الحائط الطيني الخشن، تمتد أنفي حتى الركن، بل تنحني مع الركن، وكأنها تريد أن تشم أي تمرة مخفية، أو طحنية، ومع هذا لم أحس بألم، من تمطط أنفي على حائطنا الطنيني، ولم تفارقني أرنبة أنفي، ولكن فانوسنا الزيتي مهجساً بهذه الرسومات السريالية...
تتموج الظلال على صفحة كتاب الجغرافيا، كنت راقداً في السرير، هذه عادتي في القراءة، أمواج من ضوء تتموج على صفحة الكتاب،وبين السطور، نار ونور، كما يلد عصب الحيوانات الموسيقى، ضوء شاحب، يحاكي ضوء القمر، جعل غرفتي كمعابد الهنود، مناخ ديني عميق، خلقه نور الفانوس الزيتي، خوف لذيذ، أشبه بخوف الراهب من غرائزه النائمة والظلال التى تختبئ من لهب الفانوس، تتراقص الظلال، في لعبة الاختباء، بسرعة وذكاء، كي لا يراها اللهب، وللحق لم ير اللهب الظلال على الإطلاق، كما لم نر العدم في حياتنا، رغم جري خيالي خلفه طوال الليالي، كل الاشياء تلعب لعبة الاختباء، في ظلالها على حائط الاوضة، وعلى ارضيتها الترابية، ظلال علبة السكر، وبرطمانية الدلكة، والراديو، وترسم اشكالاً غريبة، لم تحلم مخيلة بيكاسو العذبة..وعيون اللهب لم تر الظلال الذكية، الماكرة، حتي الآن..!!
الصفحة 63 من كتاب الجغرافيا، بلا غلاف، متآكل الأطراف، مزخرفة صفحاته ببقايا طعام، وزيت وطحنية، وشعيرية جافة، علقت كالدودة، الصفحة الأخرى مطوية، وممسك الكتاب بيدي اليسرى، واليمنى تحت رأسي، يبدأ الكتاب من الصفحة (17)، وينتهي في الصفحة (113)، الصفحة 17 تتخذ شكل المثلث، كل سطورها ناقصة، ماعدا الأخير، أما الأول فيبدأ بحرف واحد، (ك)، والسطر قبل الأخير ينقصه حرف واحد، أطراف الكتاب منفوشة، حين اضعه على المخدة يبدو كهرم مقلوب، ولكني دائما ما اضعه تحت المخدة، خوف ان تلتهم معزتنا الجائعة، القلوب والاسهم التي تخترقها، تملأ اغلب صفحاته، واسماء ثلث فتيات الحلة مدونة عليه، لست انا المجرم، وإن اضفت اسم (آمنة)، في وسط القلب، والسهم يخترقه، وثلاث دمعات حارة، ورب الكعبة،خفت أن تثقب صفحات الكتاب كلها، ولكني خير خلف لخير سلف، بل هناك اسماء فتيات مكتوبة بصورة طفولية، وفيهن من تزوجن، وانجبن، وتطلقن..
(خريطة نهر النيل، المنبع إلى المصب)، نهر النيل، قريتي تنام وتصحو وتلعب وتبكي وتفرح على ضفافه، يبدو كخيط رهيف، يتعرج من أسفل الصحفة حتى أعلاها، حسب حبه للوهاد، وخوفة من الجبال والتلال، ليس بمقدوره أن يتسلق الجبال كالقرود، ولا أن يطير كالصقور، ولكنه يحبو مثل (سعد ابن اختي الصغير، المزعج)، والمدن الكبيرة تبدو عبارة نقاط سوداء (جوبا.. ملكال.. كوستي... الخرطوم.. عطبرة ...دنقلا ، مدني)، لا أثر لقريتي، أحسست بإضهاد ما، وبغرور يحتضر، وبخوف من السماء، أهي أيضاً.
حين خرج النيل من يوغندا، هل كان يعرف جهته، قاصدا أهله مثلاً؟، أما كان يتسكع كمتشرد، جاعلاً من المشي وسيلة وغاية، كالشعراء، هل كان يعلم؟ أو يحس بحدسه المرهف، بأنه سوف يلتقي بشقيقه النيل الأزرق في مقرن الخرطوم، أم كانت مفاجأة سعيدة، جعلتهما يلتحمان في حضن سرمدي، يجري يسارا، ثم يعود، يمنا ثم يعود، يبحث عن شئ نفيس ضائع، ذهب أم قبر ولي أم شجرة سماوية، كي يقيل فيها، ويروي جذورها السعيدة، هل كان يدرك بأن الخرطوم ومروي ستشيد على ضفافه، وحقل خالي دفع الله يروى منه، وعباس أبن خالي، سوف يغرق فيه، وأدريس يتوضأ منه، نعمة ونقمة، حين يثور، يبدو كثور، لم يقتل، كملاك الموت، عاقلا، بل مبشر بالجنة، بل يعيش فيها، من الذي قتل عباس، النهر أم ملاك الموت، أم هما شيئاً واحد، هل خرج ملاك الموت، الساكن في الجنة إلى الأرض كي يغرق عباس، وجاء للارض، فارق جنته، أم الجنة بداخله، تبدو لي، أن الجنة بداخله، لأنه خالد فيها أبدا، نعم ملاك الموت عاقل، وحكيم، ورحيم، ولهذا يسكن الجنة...حتى تلك التي بداخله، إنه رحيم، رغم تلوثه بالدماء، وإلا لما سكن الجنة، خالدا فيها أبدا..
*****
النيل يخرجني عن مذاكرتي، ويجعلني احب الشعر، أكثر من كل الاشياء، أمي حريصة علي، وأنا حريص على غريزتي، أود أن أطير، وأحلق، وأدخل المقابر، وأتلكم مع العصافير، وأنام مع جذور الاشجار، وأمي تريدني مجرد دكتور، محاط بمرضى، وتملأ أذنيّ العطاس والانين والسعال.
صوت الجالون، بل الطبل يخرجني من عالمي الداخلي، كعادته كل مساء، يعلو صوت الجالون، الطبل الحديدي، فقد خرج الفارس، من خيال أخواتي، كي يلعب معهن، ولهذا خلقنه، الخيال مغرض، يتصارعن في الزواج به، سارة وهبة ورشا، يخرج صوت الفارس من فم رشا:
اريد الزواج من سارة!!
تغضب هبه، وتضرب وجه الفارس، وجه رشا، فيبدأ العراك والصراخ، حقيقة لا مجاز، فتصرخ أمي، من وراء الحجرات:
اسكتوا يابنات، مدثر بذاكر!!!
ويبدأ العرس الوهمي مرة أخرى، ويعلو صوت الجالون الحديدي، وهذه المرة الغناء من اجل الغناء، أنهن اعضاء بارزات في مدرسة (الفن للفن)..
تصرخ امي، وتعصي اخواتي، بل لايسمعن صراخها مع ضجة وهرج العرس اليومي، وللحق، لا أحد يخاف من أمي، وخاصة أخواتي، وأنا.
اسكتو يابنات...
أمي لا تعرف، أن طيف آمنة بداخلي، أعلى وأغلى وأحلى، من أصوات اخواتي، العاريات، الجائعات أغلب الاوقات، النائحات، في فرحهن، حياة متمسكة بقشة القوت، كي لا تنقرض كالديناصورات، كثقافة شفوية عظمى، ابتلعها فم الزمن، ذلك الماحي العظيم...
فجأة، يخرس المكان، تنتهي اليقظة ويبدأ النوم عند أخواتي، بلا نزاع، كحائط كبير، ابيض واسود، وخط مستقيم يفصل بينها، بين اليقظة والنوم، وكأن اليقظة احذت حقها كاملاً، وآن للجسد أن ينام، كما يطفئ النور، هكذا تتلاشى اليقظة، كالنور، ويعم ظلام النوم، بل ضياء النوم، فتغرق اخواتي في نوم هنئ، في فسحة الحوش، على اديم الارض، وظل الجالون واقفا، بعد ان فقد روحه، كان طبلا، يوزع وينفخ الموسيقى في جسد الدار الفاترة، تصل ايقاعاته إلى الفئران والدجاج والماعز، فتحس بأنس، ويقشعر جلدها له..
لم يعد سوى جالون، مطفق، مهترئ، بردت اطرافه، من فراق ايدي اخواتي الغضة، والتي تنفخ فيه الروح كالمسيح، بل أنضر، وأخضر..
بيوتنا، نبتت كالنيم من الأرض!!
النهر يجري من أسفل الصحفة إلى اعلاها، حفر مجرى طويل، بلا طورية أو كوريك، كم قوية رقة الماء، ألم تقتل رقة عبلة، عضلات عنتر، لا أثر للتراب على ضفافه، هل ألتهم التراب؟ أم جرى به في بطنه، كحامل، وألقى به في البحر القصي، هل زحف نحو الخرطوم كي يطوقها، الخرطوم لم تكن، حين كان، (اين كانت)، اقشعر جلدي، حين محى الخرطوم وقريتي من الذاكرة، وتخيل مكانها غابات كثيفة، وكان النيل يجري لوحده بينها، ياله من زمن، يمحو ويثبت، منذ بدء الزمان، كالارقام، لا نهاية له، ولا بداية، وبينهم يمد نهر الزمن قامته..
****
توقظنا الشمس، بعد ان ايقظ الديك، أمي في عتمة الليل، أن كانت حقا قد نامت، وللحق، لم أرى امي نائمة، كنت انام وهي صاحية، واصحو وهي صاحية، بل كثيرا ما كنت اصحو، في منتصف الليل، كي اتبول، فاسمع صوتها (أولع ليك الفانوس)، فأرفض، لأني أعرف طريقي بضوء بالذاكرة، وخلال عتمة الليل، تبدأ وردية البول، فتصحو اختاي، رشا، ثم سارة، حتى صياح الديك، كنت اتمنى أن اسبق امي في اليقظة، أصحو قبلها، ولكن هل (يسبق الغزال قرنيه)؟
***
تخرج اختي رشا من الدولاب، وأخرج انا من تحت العنقريب، ، والنسيم المحمل برائحة الجرجير من النافذة، حين نسمع صوت أمي:
(الفطور جاهز)...
ويخرج صوت مونتي كارلو من باب البرندة، حيث خالي، خالفا كرعيه، وتهتز سبحته، كما أرها كل يوم، وأنا ألعب تحت العنقريب، ذو السقف ، المنسوج من الحبال المتداخلة كشبك جميل.
| |
|
|
|
|
|
|
|