دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
ثم جاء بشري الفاضل فانتشل القصة من الرتابة والتكرارية !
|
كانت القصة السودانية قبل بشري الفاضل لا زالت تراوح مكانها حيث تركها رواد القصة في الستينات تحبو في استحياء ، تعيد وتكرر مضامين باردة بلغة رتيبة ممجوجة خالية من روح الابداع والفردانية والاضافة الي ان جاء بشري الفاضل فكانت ثورة حقيقة وقفز بالقصة السودانية الى آفاق ما كانت تحلم بها من قبل . ولا عجب في ذلك فبالاضافة الى موهبته الفذة فقد نهل بشري من منهل القصة الروسية، فالمعروف ان الروس كانوا روادا في فن القص العالمي وتاثر بهم ابرز الكتاب الاوربيين وما ذكرت القصة الحديثة الا وذكر نقولاي قوقل وديستوفسكي تشيخوف . وبشرى الي جانب موهبته القصصية، فهو شاعر وناقد متمكن، وكان يظن نفسه مجرد شاعر الي ان نشر اول قصصه فكان الميلاد ، قاص عظيم .
* *
" بشري الفاضل كاتب يدرك مسئولية المبدع تجاه كل قضايا مجتمعه ، وهذا النوع من الكتاب - المدركين - كثيرا ما يقع فريسة لاغراءات الحلول السهلة ، والمبدع المسئول مطالب بايجاد تلك المعادلة الصعبة بين الامتاع والافادة . والاسلوب الذي اعتمده بشرى لايجاد صيغة مناسبة لحل تلك المعادلة ، يذكرني - ولعلي ذكرت ذلك لبشرى في مرات سابقات - بما ابتدعه الكتاب الايرلنديون من تناول كوميدي لاكثر المآسي عنفوانا ومرارة . وقد نجحوا في تلك المزاوجة نجاحا فريدا حدا بمؤرخي الادب ان تنسب اليهم ما تواضعوا على تسميته المنهج التراجوكوميدي أو الماسملهوي . "
د. خالد الكد
" قرأت الطفابيع ، تجاوزت مرحلة الدهشة ،ان سفهني اسمها ، كأنه يقول لي : ( هكذا يجب ان تكتب القصة ) ، فهمت ، وما قدرت حتى لحظتي هذه ان اتفهم الدرس . قرأ بشرى زمانا بعدها قصتي ( كلب من صبار ) ، عنده ابتسامة بطعم قراصة التمر ، لا تضر القلب ولا المعدة ، رغم أنف الاطباء . قال : " يا استاذ نبوية وعبد الحق ليست اسماء سودانية" . غيرتها على طول . المهم كانت الطفابيع ، مخطوطة بخط نسيق ، وهي قصة بديعة ذات خلق قويم . هذا البشرى جم التواضع ، تصور بعد ان سافر بشرى الى حيث يتلقى العلم ، ضاعت الطفابيع من مكتبي . كانت فيما علمت نسخته الوحيدة . خفت خوفا شديدا . لعنت الذين لاحقوي ، يطردونني من مقام الى مقام . حسبما يشتهون . أخذت كل عفشي ورحلت الى غر مقام . ضاعت الطفابيع . جعلت اتصور ما يمكن ان يقوله الناس . صدق بشرى كلامي . ابتسامته قراصة التمر ، لا تضر القلب ولا المعدة ، على كل جسده . تخيلت من الحاقدين جيوشهم تقول : على المك لايريد لبشرى ان ينتشر في الناس . اتذكر كم كان حقد ساليري ، على موتسارت ، عظيما . ساليري كان مؤلفا مويقيا جيدا ، ولكنه لم يكن عبقريا ، ولذا فقد لعن الزمان الذي جعله يعيش في عصر موتسارت ، وحين خسر ساليري حربه الضوس قال كلمة الحق واعترف بالعبقري . ولست ساليري ، ولكن بشرى يملك ذلك الناي السحري .والان عادت الطفابيع ، ولا نامت للحقد أعين . "
البروفسير : علي المك
" البدايات استهلال رائع لميلاد فذ . " حينما خرجت الخيول المسرجة تبحث عن فرسانها ، ضحكت البيوت على ابوابها وعلى عروشه الشجر انكفى " - الطفابيع . النثر دوزنة ايقاعية حيث يتكيء على جدائل اللغة المعاصرة ويستنيم : " عندي مثلك احبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري .. خرجت ذات يوم من لدنها مليئا بها حتى غازلني الناس في الشوارع " - البنت التي طارت عصافيرها . الوصف تطويع للغة العصية ، وخروج عنها ، وعودة اليها على ذري خيال متسامق : " أطلت جمجمة من الكوة المتاحة ، كانت جمجمة مثقوبة من الجبهة في نفس موضع هلال العرس ، مثل شوكة سمك البلطي انسلت الجمجمة من القبر - حملة عبد القبوم الانتقامية .الوصف يمنح المألوف بطاقة ابداع ..." د. احمد البكري
"أفاد بشرى الفاضل كثيرا من الاسطورة الاحجية السودانية والاسطورة في قصته تاخذ موقعها كجملة مفيدة في جسم العمل الفني ، حتى لكأنها لا تنفصم عن العملية الابداعية ككل . وهي تختلف شيئا عن الاسطورة عند الطيب صالح والتي أفادت من حكايات المتصوفة " فضيلي جماع
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: ثم جاء بشري الفاضل فانتشل القصة من الرتابة والتكرارية ! (Re: Agab Alfaya)
|
وفي قصة ( الغازات ) يواصل بشرى الفاضل أسلوبه المفضل في السخرية والتهكم ، ليس بغرض إثارة الضحك من أجل الضحك ، وإنما الضحك على ما يبكى ، عملا بقول المثل " شر البلية ما يضحك " فهو يحول مآسي شخصياته إلى كوميديا ، حيث تدخل المأساة . كما يقول بشرى . إلى أقليم الكوميديا فيضحك الناس في الظاهر ويدونون ابتساماتهم المؤقتة ويختزنون أحزانهم في ذاكرتهم الجمعية الدائمة ، فالغرض البلاغي عنده من السخرية والتهكم هو التحريض على الرفض والاحتجاج .
وتحويل المأساة إلى كوميديا أسلوب معروف في الآداب الحديثة لا سيما في أدب العبث واللا معقول . ويعرف بالتراجيوكومدي أو المأسمالهوي وأحيانا يعرف بالكوميديا السوداء . وتدور أحداث قصة ( الغازات ) داخل باص مكتظ بالركاب يعمل في أحد خطوط المواصلات بالأحياء الشعبية في مدينة كبيرة . وبفعل الازدحام والحر الشديد والعرق والغبار وتصاعد السموم وبفعل الضغوط النفسية ، يرتبك الركاب داخل الباص وتلتصق أعضاؤهم بعضها ببعض . وعند وصول الباص إلى آخر محطة يجد الركاب أنفسهم قد تحولوا إلى غازات تتبخر عبر الأبواب والشبابيك ، ثم ما تلبث أن تبرد وتستحيل إلى مسوخ مشوهة .
الكمساري حاول أن ينزل فوجد نفسه قد تحول إلى سحابة ثم مرت عليه نسمة باردة فاستحال إلى سلحفاة ، رجلاه كرجلي ضفدعة . عبد المنعم اشتعل غازه نارا وتلاشى في الهواء . الراوي استحال إلى دخان أسود ما لبث الدخان أن برد وجمد واستحال إلى قرد أو خنزير ، لا يدري . بيد أنه تحسس جسمه فلم يجد ذيلا . محمود المخمور كان يدخن سيجارة ساعة تلبك فأختلط دخان سجائره بدخان جسده وهبت سموم فلفحته إلى مخزن فتلقفه صاحب المخزن وعبأه في علب بنسون صنعت خصيصا للسودان . صاح الدرويش مدد ا فهتف هاتف ، أن أصعد فصعد تحرسه العناية حتى فني في حب المعبود .
خرج دخان السائق محتارا فوجد سحابة صيف فامتطاها بلا جواز سفر فعدت به وسافر . طالبات الجامعة الخمس استحال دخانهن إلى سعالي وعند وصولهن إلى الحرم الجامعي انقضت عليهن جماعات متوحشة بهراوات غليظة على رؤوسهن مشفوعة بكافة التعاويذ من الشياطين والسفلة . وعند انقطاع التيار الكهربائي توقفت ماكينات المصنع فوقعت ( دخاناية ) سعد خلال فوهة المدخنة وارتطمت بالبلاط ثم استحالت إلى ضفدعة تعيسة ، فداس عليها عامل بفعل غليظ فماتت غير مأسوف على الانسان الكامن فيها .
قاسم الشرطي ، تدحرج من السلم وانزلق على الأسفلت ثم هبت النسمة الباردة فجمد الدخان وتحول إلى قنبلة مسيلة للدموع . أما عطا الموظف الغلبان فقد حط دخانه بمستشفى للأمراض العصبية وعاد إلى حالته الأولى رجلا كما كان ، فجن جنونه وأصبح وجوده مشروعا في ذلك المستشفى حتى فارق الحياة ذات مرة تحت ضربات أحد الغرباء في محاولة الامساك به عندما حاول الهرب من المستشفى .
وهكذا بهذه النهاية الكوميدية السوداء تنتهي القصة . وما أروع وصف الكاتب للمصير الذي آل إليه كل من ركاب الباص . وأنت تتابع هذه المصائر المأسملهوية للركاب لا تدرى أتبكي أم تضحك ؟ ولكن لا تلبث أن تنفلت منك بين الفينة والأخرى ضحكة مكتومة تنتهي بابتسامة باهتة .
ولعل القاص أحس بقتامة المصير السوداوي للركاب فحاول أن يختم نهاية القصة بكلمات متفائلة ، حيث يقول في ختام القصة : " .. في ذلك اليوم بكت السحب فوق طلل تلك المدينة بكاء الأطفال ومع ذلك فإن سائل الحياة وماءها يجرى وفوق ذلك فإن النيل بنيل .. فهل من عاصم من التيارات ومن ملجم لهديرها ؟ هيهات ا " .
على أن هذه الخاتمة قد تبدو تقريرية ومفتعلة وفيها خروج على بنية القصـة . ويا حبذا لو كان القاص قد وضع خاتمة القصة مباشرة بعد فراغه من وصف المصير الذي استحال إليه الركاب دون أية زيادة . هذا إضافة إلى أن الاسهاب في وصف حالة ( عطا ) بعد دخوله مستشفى الأمراض العقلية قد جعل ايقاع القصة يبطئ بعض الشئ وبالتالي يتأخر الوصول إلى نهاية القصة في الوقت المناسب .
غير أن ذلك لا يقلل بأية حال من أهمية ونجاح هذه القصة المدهشة والمشحونة بالاستعارات والتشبيهات الطريفة والمبتكرة والتي تظهر مقدرة القاص في تطويع اللغة وتسخيرها لخدمة الدلالة العامة للقصة .
ولا يخفى تأثر أسلوب بشرى الفاضل في هذه القصة ، بأساليب أدباء العبث واللا معقول لا سيما فرانز كافكا ويوجين يونسكو . فاستحالة الركاب في القصة إلى مسوخ مشوهة . تذكرنا بقصة ( المسخ ) للكاتب التشيكي كافكا والتي تحكى قصة ذلك الشاب ، جريجوري سامبا ، الذي استيقظ ذات صباح فوجد نفسه قد تحول إلى خنفساء أو حشرة كبيرة . كما تذكرنا أيضا بمسرحية ( الخرتيت ) للأديب الفرنسي ذي الأصل الروماني ، يوجين يونسكو ، حيث تحول الموظف المثالي ، بسبب الروتين إلى خرتيت أو وحيد قرن .
يتبع ..،
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ثم جاء بشري الفاضل فانتشل القصة من الرتابة والتكرارية ! (Re: Agab Alfaya)
|
ويبلغ التجريب مداه عند بشرى الفاضل في قصة ( الطفابيع ) والطفابيع من الاختراعات اللغوية لبشرى . وهي كلمة كما يقول في هامش القصة : كلمة جاء بها من عنده كما يبتدع الأطفال الكلمات . ومفرد الطفابيع ، طفبوع كقولك في جرابيع جربوع ، والطفبوع هو المقابل الهزلي للسفاح ، ففي حين أن السفاح يقتل فتنجم عن فتكه بالآخرين مرارة . نجد أن الطفبوع يقتل بصورة مباغتة ومأساوية للحد الذي تدخل فيه المأساة في إقليم الكوميديا .
وتصور قصة ( الطفابيع ) قضية القهر السياسي ، والارهاب الفكري بأسلوب مأسملهوي تجريدي . وتتألف القصة من قسمين ، القسم الأول قصير مكون من سبعة أسطر تقريبا ، وهو بمثابة مدخل تمهيدي للقصة ، وكتبه بلغة سيريالية تختلف عن لغة السرد المستخدمة في القسم الثاني والرئيسي من القصة ، حيث تتداخل الصور والجمل وتتقاطع بلا رابط منطقي يجمع بينها كأنما أراد الكاتب بهذا الأسلوب السيريالي الحالم أن يمهد المسرح للا معقولية الأحداث التي تجري في الجزء الأساسي من القصة وهو الجزء الثاني .
تبدأ القصة باستيلاء ( الطفابيع ) على السلطة ومطاردة الناس في الشوارع بالفؤوس والفتك بهم دونما أسباب واضحة فينشرون الهلع والرعب .
" في تلك السنة اختلط الحابل بالنابل ولم يعد المرء يشعر بالاطمئنان على حقه في أن يكون له بيت يأوي إليه أو قطعة خبز تشبعه ، وامتد الأمر إلى الاعضاء .. فجأة تجد من ينازعك في قارعة الطريق زاعما أن الرجل التي تتدحرج عليها ليست رجلك والرأس التي تفكر بها استوردها فلان " .
وإزاء هذه الفوضى وضياع هوية البني آدم يهرع الناس للبحث عن أوراق هوياتهم التي ألقي بها في النيل . فالسلطة التي تطالب الناس بإثبات ذواتهم عن طريق الأوراق ترمي بهذه الأوراق في النيل ثم تعود لتطالبهم بإبراز هذه الأوراق لاثبات هوياتهم . كأنما هذه السلطة غير مسؤولة عن الوسائل التي يتحصل بها الناس على هذه الأوراق والمستندات .
وحتى الحصول على هذه المستندات ليس كافيا لاثبات آدمية الانسان فلابد من ترقيم الأعضاء البشرية وتدوينها على هذه الأوراق الثبوتية كما ترقم السيارات:
" ثم تلفت فوجدت حشدا مشغولا بتجفيف مستنداته فجففت مستنداتي ثم رأيت الحشد يرسم أعضاءه في الأوراق فرسمت ساقي في أوراقي ثم رأيتهم يبصمون فبصمت ورأيتهم يرقمون أعضاءهم : 9خ ، 8خ ، فرقمت أخ .. قال صديقي ويحك ا قلت ، ماذا ؟ قال : يظن الطفابيع أنها أعضاء جديـدة مســتوردة ( سيوبر ) " .
وقد أبرز القاص ( الطفابيع ) في صور كاريكاتورية ساخرة : " ونظرت فرأيت ذلك الطنبوع الهولاكي يخطو حثيثا في طلابي والطفابيع لا تجري لأن مركز ثقلها الخلفي متكور أكثر مما ينبغي ، ولكن الطفابيع تباغت " .
وقد طال البتر والتشويه الذي ألحقه الطفابيع في البلد .. كل شئ ، حتى المقدسات فصلاة الطفابيع ليست كصلاة سائر الناس :
" صلاة الطفابيع أخذت من صلاتنا شكلها ولكنهم يركعون على قفاهم ويسجدون كالقوس وعيونهم مفتوحة على جيرانهم . ينحنى الطفبوع عكسيا على ظهره ويسجد كالقوس ضد القبلة وكأنه وهو سائر للسجدة يراقب الجمهور " .
وبعد أن اشبعوا الناس تقتيلا أو شبعوا هـم مـن تقتـيل الـناس ، يعلـن ( الطفابيـع ) العفو العام وذلك بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لقدومهم للسلطة . إلا أن المفارقة الصارخة والموحية هي أن الراوي يلقى حتفه بفأس أحد الطفابيع في يوم العفو العام نفسه ، وذلك بسبب نفاذ مستنداته الثبوتية والتي استنسخ منها عشرات النسخ لكنها نفذت جميعا تحت إلحاح الطفابيع ، المنتشرين في كل مكان ، مطالبين الناس بإبراز صور من مستندات هوياتهم .
وكان بشرى الفاضل ، قد استهل هذه القصة البديعة ، بأبيات من قصيدة " أقول لكم " لصلاح عبد الصبور وهي :
هذا زمان الحق الضائع لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله ورؤوس الناس على جثث الحيوانات ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك فتحسس رأسك
ويرى بعض النقاد أن هذه الأبيات مستوحاة من مسرحية " الخرتيت " أو وحيد القرن ، ليوجين يونسكو ، والتي تحكي عن خرتيت بدأ يطارد الناس في الشوارع وأماكن العمل ثم يكتشف الناس أن كل إنسان قد تحول إلى خرتيت . فالزوجة التي جاءت إلى مكتب زوجها تشكو إلى زملائه أن خرتيتا كان يطاردها في الطريق ، تكتشف أن الذي كان يطاردها هو زوجها . وذلك الموظف الذي يقدس روتين العمل يجد نفسه وقد تحول هو الآخر أيضا إلى خرتيت . ويقول يونسكو في مذكراته بعنوان ( لا ) أنه استوحى مسرحية " الخرتيت " من شخصية هتلر .
وكان صلاح عبد الصبور قد عبر عن إعجابه بطريقة يونسكو في الكتابة المسرحية إلى الحد الذي جعله يستعير أسلوب يونسكو في الكتابة والذي عرف بأسلوب العبث أو اللا معقول في مسرحية ( مسافر ليل ) والتي تحكي عن مسافر يجلس وحيدا في أحد القطارات ، فيظهر له الكمساري في زيه الذي يشبه الزي العسكري ويطالبه أولا بالتذكرة فيأكلها ثم يطالبه ببطاقة الهوية فيلتهمها الكمساري أيضا فتتوحد في هذه الأثناء في ذهن الراكب صورة الكمساري بصورة الطغاة عبر التاريخ : الاسكندر ، هانيبال ، تيمور لنك ، هتلر ، الخ .. ويواصل الكمساري تعذيبه للمسافر حتى يقضي عليه أخيرا بطعنة من خنجر .
فالملاحظ أن القاسم المشترك بين هذه الأعمال الثلاثة : " الخرتيت " ليونسكو و " مسافر ليل " لصلاح عبد الصبور و " الطفابيع " لبشرى الفاضل ، هي معالجة قضية القهر السياسي والارهاب الفكري بهذا الأسلوب الفني العبثي .
يتبع ،،
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ثم جاء بشري الفاضل فانتشل القصة من الرتابة والتكرارية ! (Re: Agab Alfaya)
|
بين الشعر والقصة :
يقول بشرى ، في إحدى الحوارات الصحفية ، أنه حتى تخرجه في الجامعة لم يكن يكتب غير الشعر ، كان يظن نفسه شاعرا وليس قاص ، وحينما تحول إلى كتابة القصة احتفظ اسلوبه بكثافة اللغة الشعرية .لكن الشاعر في بشرى لم يفصح عن نفسه ، بل أفصح عنها في قصة ( حكاية البنت التي طارت عصافيرها ) .
وهذه القصة هي التي لفتت إليه الأنظار كقاص جديد ومتفرد ، وهي ثاني قصة تنشر له منذ أن بدأ كتابة القصة في نهاية السبعينات ، ولعل النجاح الذي حظيت به هذه القصة وسط جمهور القراء يعود إلى الطاقة التعبيرية الضخمة وللغزارة الشعرية التي تنضح بها لغة القصة .
والراوي أو الأنا السارد في قصة ( حكاية البنت التي طارت عصافيرها ) شاب متسكع متشرد ، يشكو الفاقة والتبطل ويعاني من إنعدام التوازن العاطفي . فهو مع أنه شاعر وعلى مستوى جيد من الثقافة إلا أنه فاشل في حياته العاطفية ، وربما يرجع سبب ذلك إلى أنه يتخذ من التثاقف جسرا للتواصل العاطفي بديلا للتعبير الماشر عن عواطفه ، شأنه شأن سائر الشباب المثقف ، فبالرغم من علاقة الحب التي تربطه بتلك الفتاة المثقفة إلا أنه يبدو أن هذه العلاقة تفتقر إلى الحرارة والعمق العاطفي . فيلتقي مصادفة في وسائل المواصلات فتاة صاعقة الحسن والجمال فيلاحقها ويجري وراءها حتى يتمكن أخيرا من استمالتها وإقامة علاقة صداقة حميمة معها .
" وهكذا أصبحنا صديقين لشهر كامل استمرت مقابلتي لها في الشارع العـام ، نركض ، نضحك ، نتحاور فلم أصل غورها وخفت أن تكون لامست غوري " .
إلا أن سعادة ( الأنا ) السارد بهذا الحلم الذي تحقق بهذه العلاقة لم يدم طويلا ، إذ تلقى الفتاة التي طارت عصافيرها ، مصرعها في حادث قتل غامض على الشاطئ . لكنا لا نعلم شيئا عن تفاصيل الحادث وأسبابه ولا شيئا عن القاتل وكيفية القتل . ولعل الكاتب أراد أن يستخدم هذا الغموض الذي يكتنف حادث القتل كرمز للتعبير عن خيبات الأمل المتلاحقة التي ظلت تلازم الأنا السارد على كل الأصعدة . فكأنما كتب عليه أن يبقى شقيا مظلوما محروما طول عمره .
ولعل من أروع المشاهد التي تبرز الكثافة الشعرية والطاقة التعبيرية لهذه القصة ، وصف القاص للفتاة التي طارت عصافيرها ووصفه لحظة لقائه بها :
" كان النهار أخضر لا كعادة الصيف ، وكنت ملتويا بالبهجة كعمامة أعرابي يزور المدينة للمرة الثانية " .
" كنت لا أنوي التجول ، فتجولت . الناس مكدسة ، بطيخ بشرى كل يوم ينتظر وسيلة مواصلات ، دنوت من أحد الأكوام وأخرجت أدوات انتظاري .. أخرجت أولا كوعي ثم راحة يدي فعاونا رجلي في حمل الجسد المستهلك يوميا والمتعب على مدار العام ، ومن بعد أخرجت عيني ثم طفقت أنظر ، أنظر وأختزن .
" رأيت امرأة بدينة لدرجة أنها حين تنادي وليدها ( يا هشام ) نحس بحرف الهاء يطن في أذنيك مليئا بالشحم . "
" وفجأة رأيتها . قفز الدرويش ، مكان قلبي . فارعة الطول من غير أن تتأرجح ، قمحية لا كالقمح الذي نعرفه ولكن كالقمح حين يكون قمحيا مثلها ، أخذت من الضابط أحسن ما فيهم ، مشيتهم ، ومن الناس أخذت ألبابهم .
" كان أنفها كالخضر .. الطازج ، ولها عنق فرعوني ذو وترين مشدودين أنيقين لا يبدوان إلا إذا التفتت .. وإذا التفتت هربت البائعات بفولهن المدمس ، وتساليهم المملوح ، وهربت الشوارع من حفرها والروائح النتنة من أماكن بيع اللحوم وهربت ذاكرتي إلى مستقبل أتمناه " .
ويقول في مشهد آخر : " أجيئها غاضبا وأخرج من عندها هاشا باشا كأن لديها مصنعا للفرح خرجت في ذات يوم من لدنها مليئا بها حتى غازلني الناس في الشوارع " .
يتبع ...،
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ثم جاء بشري الفاضل فانتشل القصة من الرتابة والتكرارية ! (Re: Agab Alfaya)
|
هاء السكت :
ومن القصص التجريبية الناجحة قصة ( هاء السكت ) وهي قصة رمزية تتألف من مجموعة أقاصيص قصيرة تنبني كلها على فكرة واحدة بالرغم من أن لكل أقصوصة موضوعا مختلفا عن غيرها . وهاء السكت أو الوقف أي السكوت معروفة في النحو إلا أن الراوي يقول أن هاء السكت : " مرض يشل قوى التفكير والحيل ويحل في زمن المنعطفات إذ تنتاب المصاب به حيرة لا قبل له بها فيلزم الصمت " .
" مثال ذلك شاب عينوه كاتبا ففرح وتحرك حركة فعينوه باشكاتبا ثم تحرك حركتين فعينوه مديرا للقسم ثم تحرك حركة ذات أبعاد فعينوه مديرا للمصلحة ووعدوه بالوزارة فتحرك حركة عظمى فعينوه وكيلا للوزارة . وقيل له تحرك أكثر تكن وزيرا وجاء يوم أخرج فيه مخزونه الحركي واستعد وتحفز وقبل البدء دهمه قرار من ذوي الشأن فألقي به قرب شباك المعاشات وهناك أصابته هاء السكت فسكت " .
وهكذا فإن كل شخصيات القصة تواجه بأزمات طاحنة ومنعطفات حـادة لا حول ولا قوة لها بمقاومتها فتلوذ بالصمت والانبهات .. والطريف أن الراوي نفسه يصاب في نهاية القصة بهذا الداء العضال . ففي الأقصوصة الأخيرة التي تحمل عنوان ( عدوى ) والتي تتألف من سطر واحد يقول " بينما كان الراوي يتجول في عنابر مرضى هاء السكت أصابته العدوى . وسكت " .
الآن وبعد هذه القراءة لأهم قصص مجموعة ( حكاية البنت التي طارت عصافيرها ) لبشرى الفاضل يمكن القول أننا أمام موهبة قصصية ، تمتلك كل أدوات هذا الفن المراوغ . أكثر من ذلك أن بشرى على وعي تام بطبيعة العلاقة الجدلية بين الخصائص الأسلوبية لفن القصة وبين الوظيفة الاجتماعية لهذا الفن ، لذلك لا عجب أن وفق إلى حد كبير إلى إيجاد معادلة متوازنة بين الافادة والامتناع . " على أن الاغراق في الرمزية " كما يقول الدكتور خالد الكد الذي قدم لهذه المجموعة مع آخرين " من شأنه أن يفسد نكهة المنهج المأسملهوي الذي ربما بلغ فيه شأنا بعيدا إن سلك دربه فيه ونفسه على سجيتها " .
انتهي .
عبد المنعم عجب الفيا
| |
|
|
|
|
|
|
|