مابين العولمه و الارهاب ... مقالات للحوار

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 01:01 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عصام جبر الله(esam gabralla)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-14-2004, 06:04 AM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مابين العولمه و الارهاب ... مقالات للحوار

    المقالات ادناه تطرح عدد من الاسئله والافكار قد تساعد فى ايجاد رؤيه اوضح و اوسع حول ترابطات المشهد العالمى بعيدآ عن المع والضد المطلقين، التى تحاول اطراف كثيره سجننا فيها

    Quote: من "الحرب على الإرهاب" إلى "صدام الحضارات"
    ألان غريش
    Alain GRESH

    العراق يحترق. يمكن اعتبار ذلك نتيجة جهل الاميركيين بالحقائق على الأرض ـ الفلوجة لا تشبه مدينة في تكساس ولا تشبه مرسيليا أو تولون اللتين حررتا عام 1944 ـ أو لعجرفة القوة العظمى. لكن هذه الخيبة هي بصورة أعمق النتيجة المباشرة لمبدأ "الحرب على الإرهاب" الذي أطلقه الرئيس جورج والكر بوش غداة 11 أيلول/سبتمبر.

    في هذا الإطار من التفكير يمكن إدراج أحداث العراق كافة ضمن نهج منطقي إذ لا تكون الهجمات التي تشن في "المثلث السني" سوى أفعال أنصار صدام حسين أو إرهابيين دوليين مرتبطين بـ"القاعدة"، ولا تكون مقاومة السيد مقتدى الصدر سوى نتيجة للتحريك الإيراني، احد أطراف محور الشر، كما أن كل عمل مسلح لا يكون سوى دليل على كراهيتـهم" للقيم الغربية. وكما يقولها بسذاجة كابورال أميركي في العراق: "علينا قتل الأشرار [1] .لكن كلما قتلت الولايات المتحدة "شريرا" خرج آخر من حطام مبنى مدمر ومن قرية تتعرض لحملات المداهمة المنظمة".


    يمكن أيضاً مقاربة المأساة العراقية بصورة مختلفة وأكثر بساطة. فبعد أن ارتاحوا لتخلصهم من ديكتاتورية بشعة للغاية وخروجهم من نظام العقوبات التي أفرغت بلادهم من محتواها طوال 13 عاما، يطمح العراقيون إلى حياة أفضل كما إلى الحرية والاستقلال. لم يتحقق ايّ من وعود إعادة الإعمار: الكهرباء لا تزال مقطوعة في الغالب وحبل الأمن مضطربا والبؤس يتسع مداه. أما القوات الاميركية فقد سددت الضربة القاضية إلى دولة كان الحصار أنهكها وذلك عندما تركت هذه القوات الوزارات تحترق وعندما أعلنت حل الجيش العراقي تبعا للنموذج الذي نفذته في ... اليابان.


    من جهة أخرى فان العراقيين لا يريدون العيش تحت نير الاحتلال الذين يشككون في انه يغلّب مصالحه النفطية والاستراتيجية. فزمن الاستعمار ولّى. ثورة العشرين في العراق ضد المحتل البريطاني والتي يحتفل بذكراها منذ عقود تركت في الضمائر ذكرى لا تمحى شبيهة بالمقاومة أو التحرير في فرنسا. أنه توق إلى الاستقلال يتشارك فيه العراقيون مع سائر الشعوب ولا حاجة لاستكشاف "نفسيتهم" أو إخضاع الإسلام والقرآن إلى التفسير والاجتهاد من اجل إدراك هذا التوق. كما أن لا حاجة لاعتبار هذا البلد موقعا متقدما في الحرب على "الإرهاب الدولي". إن تصرف العراقيين عقلاني تماما والحل الوحيد يأتي من انسحاب سريع للقوات الاميركية وعودة السيادة الكاملة إلى العراق.
    إن الطريقة التي يقرأ بها المسؤولون في دولة عظمى الأحداث الطارئة في هذا المكان أو ذاك من العالم، تحدد خياراتهم الاستراتيجية والديبلوماسية: أي فوائد نجني منها؟ ماذا ستكون ردة فعل أعدائنا؟ من هم حلفاؤنا؟ طوال عقود شكلت الحرب الباردة نموذجا لفهم التطورات على مستوى العالم. فإذا حصل تغير ما في بلد بعيد كان يسارع الخبراء الاستراتيجيون كما الصحافيون والباحثون في المعسكرين إلى طرح الأسئلة: هل هذا مفيد للاتحاد السوفياتي؟ هل هو في صالح الولايات المتحدة؟ وكان يمكن تقدير نتائج هذه الرؤية الثنائية، أسود أم أبيض، خلال نزاعين حصلا في السبعينات والثمانينات في كل من نيكاراغوا وأفغانستان.


    في تموز/يوليو 1979 استولى الساندينيون على السلطة في نيكاراغوا بعد صراع طويل أنهى حقبة الحكم الديكتاتوري لعائلة سوموزا. وقد أطلق الساندينيون برنامجاً جريئاً للإصلاح بخاصة في القطاع الزراعي. كانت الحريات الأساسية مصونة وحرية العمل السياسي مفتوحة أمام الأحزاب وكانت تلك بارقة أمل لإخراج البلاد من بؤسها وتخلفها. لكن الإدارة الاميركية لم تكن ترى الأمور من هذا المنظار بل تعتبر أن هزيمة احد حلفاء الولايات المتحدة لا يعني سوى تقدم للشيوعية السوفياتية داخل "محميتها" الاميركية الوسطى. فراحت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية تسلّح الحرس السوموزي القديم وبدأ "مقاتلو الحرية" حربهم انطلاقا من هوندوراس وهم لا يترددون في استخدام الإرهاب ضد النظام النيكاراغوي الجديد فيما تحاول واشنطن تعبئة الرأي العام والحلفاء ضد خطر تفشي التوتاليتارية في أميركا الوسطى. من الجهة المقابلة كثفت هافانا وبعدها موسكو من دعمهما للساندينيين لتصبح نيكاراغوا عالقة في فخ المواجهة بين الشرق والغرب. وفي النهاية أدى الضغط الاميركي المتواصل وإفقار البلاد بفعل العقوبات الاقتصادية إلى هزيمة الساندينيين في انتخابات 25 شباط/فبراير 1990. بين ليلة وضحاها توقف اهتمام واشنطن بنيكاراغوا وتخلت عمن كانوا في الأمس تحت حمايتها فغرقت البلاد في البؤس لكنها لن تتحول إلى "الشيوعية".


    المثل الأفغاني أكثر نموذجية. ففي نيسان/ابريل من العام 1978 وبالرغم من تحالفه مع الاتحاد السوفياتي سقط النظام في كابول بفعل انقلاب شيوعي وقام الحكم الجديد بإصلاحات فظة وجذرية في بلد محافظ ليصطدم بمقاومة قوية لا سيما في الأرياف. بدأت واشنطن بتسليح المجاهدين وفي كانون الأول/ديسمبر اجتاح الجيش السوفياتي أفغانستان وغيّر إدارة البلاد في عملية من الطراز الاستعماري أدانتها المجموعة الدولية. وقد رأى الغرب وواشنطن في ذلك برهانا على رغبة الكرملين في الهيمنة وتأكيدا لرغبته في التوسع في اتجاه بحور الخليج "الدافئة". ووجدت إدارة ريغان في هذا الاجتياح فرصة لجعل الجيش الأحمر ينزف ولو من خلال تحالف مع الشيطان. فراحت وبمساعدة من المخابرات الباكستانية والسعودية تسلح الأصوليين الأكثر تطرفاً على حساب المعارضة المعتدلة. كما عارضت جميع محاولات التوصل إلى حل سياسي وديبلوماسي من خلال الأمم المتحدة من اجل إطالة أمد النزاع عمداً [2] . النتيجة معروفة، فالسوفيات قرروا الانسحاب من أفغانستان لكن غداة انتصارها تخلت الولايات المتحدة عن البلد وعن الشبكات الإسلامية المتطرفة التي ساهمت في إقامتها بمساعدة المدعو أسامة بن لادن. هكذا غرقت أفغانستان في حرب أهلية أولاً ثم سقطت بين أيدي حركة "طالبان" عام 1996. وبات معروفاً اليوم أن القرار السوفياتي بالتدخل في أفغانستان لم يكن جزءاً من مشروع للتوسع بل اتخذه مكتب سياسي منقسم على نفسه حريص قبل كل شيء على أن لا يقع بلد حدودي وحليف تقليدي للاتحاد السوفياتي بين أيدي الإسلاميين المتطرفين. وصرنا نعرف أيضاً أنه وبالرغم من المظاهر فإن الاتحاد السوفياتي كان عاجزاً عن تهديد العالم وبالتالي عن السيطرة عليه. لكن في الغرب كانت الفزاعة السوفياتية مفيدة لتعبئة الرأي العام باستمرار. في العام 1983 أي قبل عامين من وصول السيد ميخائيل غورباتشيف إلى رأس السلطة في موسكو، أعلن السيد جان فرنسوا ريفيل، الثاقب النظرة، نهاية الديموقراطيات الغربية لأنها عاجزة عن مكافحة العدو الأكثر بأسا بين أعدائها الخارجيين أي الشيوعية وهي الشكل الراهن والمكتمل للتوتاليتارية [3] ... لكن هذا "النموذج المكتمل" قضى نحبه بعد سنوات معدودة.


    بالطبع كان للمقاربة "شرق غرب" ما يبررها حيث أن واشنطن وموسكو كانتا تدافعان عن مصالحهما كدولتين عظميين لكن الحياة السياسية في كل بلد من البلدان ما كانت لتختزل إلى لعبة الشطرنج الضخمة التي يتواجه فيها البيت الأبيض مع الكرملين، الأول يدعم من دون ندم ديكتاتوريات أميركا اللاتينية وتلك التي يتزعمها سوهارتو في اندونيسيا، بينما الثانية تتدخل عنوة في المجر (1956) أو في تشيكوسلوفاكيا (196. وقد أدى هذا التبسيط إلى تبخيس قدر الحقائق الوطنية التي لا تندرج في هذا السياق كما سائر التحديات التي تواجه البشرية من تراجع البيئة إلى البؤس المزمن وانتشار أمراض جديدة لاسيما الإيدز... خرج العالم في النهاية من الحرب الباردة وانتصرت الولايات المتحدة لكن التحديات باقية وأسباب انعدام الاستقرار باقية.


    إن نهاية الاتحاد السوفياتي لم تيتّم فقط العسكريين والمخابرات الاميركية (والغربية بصورة أشمل) إذ حرمتهم عدواً يبرر وجودهم وموازناتهم التي لا حد لها بل أيضاً مراكز الأبحاث التي نسجت بكل جدية حول تفوق موسكو الاستراتيجي لا بل تكهنت باجتياح سوفياتي لأوروبا الغربية. لكن بماذا كان يمكن استبدال "إمبراطورية الشر"؟
    في مطلع التسعينات لم تحصل نظرية "نهاية التاريخ" سوى على نجاح تقديري، وكان قد أطلقها الجامعي الاميركي فرنسيس فوكوياما معلناً بالصوت العالي الانتصار النهائي لليبيرالية الغربية المحكومة بالامتداد إلى أرجاء المعمورة. لكن شريحة من اليمين المحافظ التي عارضت سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفياتي وأي توافق مع السيد ميخائيل غورباتشيف كانت تبحث على العكس عن "عدو استراتيجي جديد". فأعلنت أن الولايات المتحدة، ولو أن لا منافس لها، مهددة من قوى غامضة أكثر خطراً من الشيوعية وهي الإرهاب والدول المارقة وأسلحة الدمار الشامل. في موازاة ذلك راح عدد متزايد من المفكرين والصحافيين يحذرون من تعاظم دور خصم جديد هو الإسلام المتمتع بايدولوجيا قوية وبقاعدة محتملة تصل إلى مليار كائن بشري.


    في العام 1993 نشر الاميركي صموئيل هنتنغتون مفهوم "صدام الحضارات" [4] وقد كتب هذا الأستاذ الجامعي: "تقول فرضيتي أن النزاعات في العالم الجديد لن ترتكز على الايديولوجيا أو الاقتصاد بل أن الأسباب الرئيسية لانقسام الإنسانية ومصادر النزاعات الكبرى ستكون ثقافية. ستستمر الدول القومية في لعب الدور الرئيسي في الشؤون الدولية لكن ستتواجه في النزاعات العالمية الكبرى دول ومجموعات تنتمي إلى حضارات مختلفة. سيهيمن صدام الحضارات على السياسة العالمية".


    لكن الأمور بقيت في مجال التكهن ولم تتفق النخب على خيار واحد من الثلاثة إلى أن كان 11 أيلول/سبتمبر فترسخت الفكرة القائلة بان الغرب منخرط في حرب عالمية تلي الحرب الباردة والحرب العالمية الثانية. والتحق الرأي العام تحت وقع صدمة الاعتداءات على مبنى مركز التجارة العالمي والبنتاغون بفكرة "الحرب على الإرهاب" يكون فيها "من ليس معنا ضدنا". لكن من هو هذا العدو الجديد الذي يحل محل الشيوعية والنازية؟ الإرهاب؟ لكنه ليس أيديولوجيا بقدر ما هو نهج عمل ولا ندرك الجامع بين الاستقلاليين في جزيرة كورسيكا والجيش الجمهوري الايرلندي وتنظيم "القاعدة". "القاعدة"؟ لكن الحرب عليها من اختصاص الشرطة ولا تحتاج إلى تعبئة عسكرية. الدول المارقة؟ إذا كان من المبالغة وضع إيران وكوريا الشمالية في السلة نفسها فان من الصعوبة بمكان الموازاة بين الخطر الإقليمي لهذه الدول وما كان يمثله الاتحاد السوفياتي من تهديد.


    لكن ما يرتسم يوما بعد يوم عبر الأهداف المختارة ومن خلال الحملات الايديولوجية، هو صدام بين الإسلام والغرب. باستثناء كوريا الشمالية وكوبا فان الولايات المتحدة تستهدف بلدانا مسلمة هي العراق وإيران وسوريا والسودان وما يؤكد هذا الانحياز هو الدعم غير المشروط الذي توفره واشنطن لحكومة السيد أرييل شارون. فالرئيس بوش يعلن جهاراً أن الحرب واقعة بين "الحضارة" و"البربرية" ليجيبه أسامة بن لادن: "انقسم العالم إلى فسطاطين، واحد تحت راية الصليب كما قال زعيم الكفرة بوش والآخر تحت راية الإسلام".


    إذا صحت هذه النظرية فما من تسوية تبدو ممكنة "لأنهم" يكرهوننا، ليس بسبب أفعالنا بل لأنهم يرفضون مثل الحرية والديموقراطية التي نؤمن بها. فلا جدوى إذاً من إعطاء أي أولوية لحل مشكلة أو رفع ظلم واقع على العالم الإسلامي. من جهة أخرى، يفضي هذا المفهوم إلى اعتماد استراتيجيا حربية تدرج كل مواجهة في سياق نزاع الحضارات وهو نزاع ابدي لا حلول له: كفاح الفلسطينيين، اعتداء إرهابي في جافا، المقاومة في العراق، حادث ذو طابع معاد للسامية في إحدى مدارس باريس الثانوية، تمرد في إحدى ضواحي المدن، كلها تعد عناصر لهجوم إسلامي شامل. فالاشتباك واقع على جميع الجبهات بما فيها الجبهة الداخلية في إطار حرب كونية.


    في حزيران/يونيو 2003 عين الجنرال وليم بويكن وهو من قدامى قوات "دلتا" (وحدة التدخل الاميركية العسكرية المتخصصة في مكافحة الإرهاب) مساعداً لوزير الدفاع لشؤون الاستخبارات في الولايات المتحدة. إنه مسيحي إنجيلي كان قد صرح في ولاية اوريغون أن المتطرفين الإسلاميين يكرهون الولايات المتحدة "لأننا أمة مسيحية ولأن جذورنا وأساسنا يهودي ـ مسيحي. والعدو يدعى الشيطان" [5] . وكان أعلن في مناسبة أخرى: "نحن جيش الله في بيت الله وفي مملكة الله، تربينا من أجل هذه المهمة". وحول الحرب في الصومال ضد أمراء الحرب المسلمين: "كنت أعلم أن إلهنا أكبر من إلههم وأن إلهنا إله حقيقي وإلههم صنم" [6] . بعد هذه التصريحات قدم الجنرال اعتذاره وحافظ على مركزه وتمكن من ممارسة مهاراته من خلال تصدير نظام الاعتقال في غوانتانامو إلى العراق مع النتائج المعروفة في باب التعذيب [7] . مع أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أصر على الدفاع عنه في البداية إلا أن مستشارة الأمن القومي السيدة كوندوليزا رايس حاولت الإيضاح بأن "هذه الحرب ليست حرب ديانات". لكن يصعب تصديقها عندما نقرأ شهادات التعذيب في العراق وكيف أرغم المعتقلون على إنكار دينهم أو إجبارهم على أكل لحم الخنزير [8] . وأيضاً عندما نصغي إلى العديد من وسائل الإعلام الاميركية وأحياناً الأوروبية والتي تخفي بالكاد عداءها للمسلمين. آن كولتر هي إحدى المعلقات الأكثر شعبية في صفوف اليمين الاميركي وكتبها تحقق أرقام مبيعات قياسية وهي مدعوة بانتظام للتحدث عبر اكبر شبكات الراديو والتلفزيون، من "صباح الخير أميركا" إلى "أوريلي فاكتور". في رأيها سوف يتسلم المسلمون السلطة في فرنسا في غضون عشرة أعوام وتقول: "طيب، عندما كنا نحارب الشيوعية كان لديهم قتلة للجموع وسجون الغولاغ لكنهم كانوا بيضاً وأصحاء العقول. نحن نخوض اليوم حرباً ضد متوحشين حقيقيين". وتوضح: "نتلقى هجمات المسلمين المتوحشين المتعصبين منذ 20 عاما. ليس القاعدة من احتجز رهائننا في إيران ولا هي وضعت قنبلة في ملهى في برلين الغربية الأمر الذي دفع رونالد ريغان إلى قصف ليبيا". لكن ليبيا ليست إسلامية؟ "يمكنكم تقديم هذه الحجة لكني ما زلت أرى المسلمين يقتلون الناس" [9] .


    وها هو رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني يؤكد فرحاً في 26 أيلول/سبتمبر 2001: "علينا أن نعي تفوق حضارتنا (...) ونظام القيم الذي أمّن للبلدان التي اعتنقته الازدهار الضامن لحقوق الإنسان وحرياته الدينية". ويعتبر رئيس الحكومة الإيطالي أنه نظراً "لتفوق القيم الغربية" فإنها "ستفرض نفسها على شعوب جديدة" موضحاً أن الأمر حصل قبلاً "مع العالم الشيوعي وجزء من العالم الإسلامي لكن للأسف فإن قسماً آخراً من هذا العالم بقي متخلفا 1400 عام" [10] .


    في كتابه "هوس العداء لأميركا"، يمتدح جان فرنسوا ريفيل قيام جورج بوش وغيره من الزعماء الغربيين بزيارات للمساجد بعد اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر تفادياً لتحويل العرب الاميركيين خصوصاً في الولايات المتحدة إلى أهداف لعمليات "ثأر دنيئة". ويؤكد: "أن هذا الحرص الديموقراطي يشرف الاميركيين والأوروبيين لكنهم لا يجب أن يعميهم عن الكراهية التي تكنها للغرب غالبية المسلمين المقيمين بيننا" [11] . نعم، "غالبية المسلمين" حرفياً... ولا ندري إذا كان المؤلف سيقترح إبعادهم...


    تلقى هذه التصريحات صدى لدى الرأي العام. الحرب الباردة لا سيما في الثمانينات لم تخلق أجواء من التعبئة بل انحصرت عموماً في قيادات الأركان حيث كانت الشيوعية خسرت الكثير من جاذبيتها والفزاعة الحمراء ما عادت تؤدي إلى "مطاردة الساحرات" كما يقال في إشارة إلى الحملات التي كانت تشن في الغرب على أنصار الشيوعية. أما الحرب على الإرهاب فإنها توقظ أصداءاً أخرى إذ آن قسماً من الرأي العام الغربي والمسلم مستعد للتصديق أن النزاعات الحالية تعبير عن صدام بين الحضارات. فالانقسام لا يعود بين الأقوياء والضعفاء أو بين الأغنياء والفقراء وأصحاب الامتيازات والمحرومين بل "بيننا" و"بينهم". هكذا يتخلى البلد الغربي عن مفهوم صراع الطبقات البائد لينضوي تحت لواء "الصراع مع الآخر" لتبدأ حرب الألف عام التي لن تكون نتيجتها سوى تأبيد الفوضى القائمة



    Quote: جواب على السؤال: ما الارهاب؟

    رشيد بوطيب / ألمانيا

    -1-

    لم يخطئ الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا القول، حين صرح في محاضرته التي ألقاها بمناسبة تلقيه لجائزة أدورنو، بأنه لا يعتقد البتة بالبراءة السياسية لأحد فيما يتعلق بجريمة 11 من سبتمبر. ولم يجانب الصواب حين تابع قائلا: "وإذا كان تعاطفي مع كل الضحايا هو بلا حدود، فذلك لأنه لا يتوقف فقط عند أولئك الذين قضوا نحبهم في 11 من سبتمبر بالولايات المتحدة، إن هذا هو تأويلي لما نسميه منذ أمس، حسب تعبير للبيت الأبيض "عدالة لا نهائية": أن لا يتبرأ المرء من أخطائه وأخطاء سياسته، حتى في اللحظة التي يتوجب عليه فيها أن يدفع ثمنا رهيبا، يتجاوز كل المقاييس"(1). إن دريدا لا يريد إلصاق جريمة نيويورك بحفنة من الإرهابيين كما تفعل وسائل الإعلام الأمريكية، بل هو يشير أيضا إلى مسؤولية الإدارة الأمريكية عن الأحداث. وهو رأي يتقاسمه العديد من المفكرين الأحرار الذين لم تلجم مناصب المؤسسة وأموالها روحهم النقدية. وسمير أمين، أحد هؤلاء الذين كتبوا بأن: "الرعب الغريزي الذي يشعر به كل آدمي لمرأى مقتل أعداد كبيرة من الناس الأبرياء، ينبغي أن لا يجعلنا ننسى الدور الذي لعبته في الأحداث سياسة الولايات المتحدة وسياسات حليفاتها..."(2) وهو يشير أيضا إلى العلاقات الوطيدة التي جمعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالإسلام السياسي، والدعم المادي والإيديولوجي والإعلامي الذي قدمته لهذه الحركات، ليس فقط في حربها ضد الشيوعية، ولكن أيضا لأن هذه الحركات من شأنها أن تخلق الظروف الملائمة لسيطرة الرأسمال الأمريكي على المنطقة العربية ـ الإسلامية. ذلك: "أن الإسلام السياسي يلقي بالشعوب في مصيدة تجعلها عاجزة أمام تحديات العولمة الرأسمالية الليبرالية"(3). لا غبار إذن عن المسؤولية المشتركة، والأصوب عن المسؤولية المباشرة للإدارة الأمريكية عن أحداث 11 من سبتمبر، بما أن هذه الإدارة هي التي وقفت ولعقود طويلة إلى صف الإسلام السياسي، وهي التي جنت ولعقود طويلة أيضا ثمار جرائمه. وفي مقالنا هذا، لا نريد التعرض لهذه السياسة، ولا للأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تقف خلف الإرهاب وتشعل فتيله، بل نريد تفكيك البنية الرمزية للإرهاب. الإرهاب في بنيته الثقافية الأحادية البعد، الإمبريالية المعنى. الإرهاب المؤسساتي وإرهاب الأفراد أو الجماعات المتطرفة، بما أنهما وجهان لعملة واحدة، إذ كما كتب إدواردو غاليانو: "هنالك الكثير من الأرض المشتركة بين إرهاب التقنية الرديئة وإرهاب التقنية الفائقة، بين إرهاب متطرفي الأديان وإرهاب متطرفي الأسواق، بين اليائسين والمتجبرين، بين المختلين المنفلتين من العقال والمحترفين الذين يرتدون الزي الرسمي ويقتلون بدم بارد. كلهم يشتركون في احتقار الحياة الإنسانية"(4) إن ادواردو غاليانو يمدنا بالكلمة ـ السر: احتقار الحياة الإنسانية. ويرى بأن الرأسمالية، أو أصولية السوق شأنها في ذلك شأن الحركات الدينية الدوغمائية تدوس على الإنسان وعلى كرامته وحقوقه إذا ما كان ذلك يخدم مصالحها المادية أو يتوافق مع مبادئها الطهرانية المريضة. ولنبدأ الآن بتفكيك البناء الرمزي لهذا الغول الميتافيزيقي الجديد الذي يسميه غاليانو بأصولية السوق، دون أن نغفل عن الوجه الآخر أو التوأم الشقيق لهذا الغول: الأصولية الدينية، أو ما يمكن أن نطلق عليه سوق الأصولية.

    -2-

    أصولية السوق أو إمبريالة العقل، إذا استعملنا لغة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، الذي لم يتوان مرارا عن توجيه سهام نقده لكلاب الحراسة الجدد، والذي كان من الأوائل الذين أشاروا إلى همجية العقل الغربي في تعامله مع الأطراف، أو بالأحرى إلى إنتاج العقل للاعقل، وإخراسه للآخر المختلف، متخفيا خلف ستار العلمية والعالمية والحرية وحقوق الإنسان. يقول بورديو في محاضرة ألقاها سنة 1995 بمعرض الكتاب بفرانكفورت:

    "ينبع من أعماق البلدان الإسلامية سؤال أساسي، يتعلق بالعالمية الغربية الخاطئة، ما أسميه إمبريالية العالمي. كانت فرنسا تجسيدا بامتياز لهذه الإمبريالية، تجسيدا تسبب في ظهور شعبوية قومية في هذا البلد (ألمانيا)، ترتبط بالنسبة لي باسم هردر. وإذا كان صحيحا بأن بعض أشكال العالمية ليست سوى قومية تدعي العالمية (حقوق الإنسان، الخ) لكي تفرض نفسها، فإنه يصبح من الصعب أن نتهم بالرجعية كل ردّ فعل أصولي ضدها. العقلانية العلموية، عقلانية النماذج الرياضية التي تلهم سياسة صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، عقلانية الشركات القانونية، شركات تشريعية متعددة الجنسيات تفرض تقاليد القانون الأمريكي على الكوكب بأكمله، عقلانية نظريات الفعل العقلي، الخ، هذه العقلانية هي في نفس الآن، التعبير والضامن لاستكبار غربي، يدفع للتصرف كما لو أن بعض البشر يحتكرون العقل لأنفسهم، وينصبون أنفسهم، كما يقال عادة، شرطيي العالم، يعني كمالكين لاحتكار العنف الشرعي، قادرين على استعمال السلاح في خدمة العدالة العالمية. العنف الإرهابي، عبر لا عقلانية اليأس، الذي يتجذر بها أغلب الأحيان، يعود إلى العنف الداخلي للسلط التي تتذرع بالعقل. القهر الاقتصادي يختفي دائما خلف القانون. الإمبريالية تحتمي بشرعية مؤسسات دولية. وعبر نفاق هذه العقلانيات نفسها المخصصة للتعتيم على سياستها في الكيل بمكيالين، تنحو إلى بذر أو شرعنة داخل الشعوب العربية، وشعوب أمريكا اللاتينية، والشعوب الأفريقية، تمردا عميقا ضد العقل، لا يمكن فصله عن تجاوزات السلطة التي تتسلح أو تستعمل العقل (الاقتصادي، العلمي أو أي شكل آخر). هذه "اللاعقلانيات" هي في جزء منها نتاج عقلانيتنا، الإمبريالية، الغازية، الجذابة أو الرديئة، البليدة، الدفاعية، الإنكفائية والمتسلطة حسب الأمكنة والأزمنة. وإنه لمن قبيل الدفاع عن العقل، توجيه سهام النقد لهؤلاء الذين تتخفى خلف مظاهر العقل الخارجية، تجاوزاتهم، أو الذين يستعملون أسلحة العقل من أجل تنصيب أو شرعنة سلطة اعتباطية."(5)

    إن العولمة التي يحاول بعض مثقفي المقاعد المريحة إقناعنا بأنها قدر الإنسانية الذي لا بد منه ولا مفرّ، هي أيديولوجية دوغمائية مغلقة، تهدف إلى تحويل الإنسان أو ما تبقى من إنسانيته إلى مستهلك خاضع وعقل تقبلي وإرادة طيّعة. إذ أنه في عالم العولمة لا مكان للآخر الذي يفكر وينتقد، لأن من شأن ذلك أن يثير القلاقل ويقف ضد عجلة التاريخ، عفوا، ضد الرأسمالية. في عالم العولمة الأحادي البعد، الإمبريالي المعنى، يطالعنا "الواحد" من جديد، هذه النظرة إلى العالم التي سيطرت على الفكر الغربي منذ العصر اليوناني. إن هايدغر قد بين بوضوح في "الهوية والاختلاف" بأن الفلسفة الأوروبية منذ أفلاطون تأسست على الواحد، على الهوية وأقصت الآخر، المختلف والمتعدد(6). إن فلسفة الواحد، التي تعتبر العولمة الامتداد الطبيعي لها، هي بلا شك فلسفة كليانية. والمجتمع المعولم هو مجتمع تختفي فيه المعارضة، مجتمع سجين ثنائية الخير والشر. وإذا كان نقد هايدغر يظل نقدا مدرسيا، فإن هربرت ماركوزه، أحد أبرز وجوه النقد الاجتماعي، قد قدم نقدا تاريخيا وملومسا للمجتمع الرأسمالي. إن النظرة النقدية عند ماركوزه هي تفكيك لصناعة الوعي وصناعة الثقافة في المجتمع الغربي. نقد لمجتمع الاستلاب والعقل التقبلي، عقل أشبه ما يكون بذلك الذي عبر عنه هيغل في أصول فلسفة الحق قائلا: "ما هو عقلاني هو واقعي، وما هو واقعي هو عقلاني".

    إن ماركوزه يصف المجتمع الرأسمالي في كتابه المركزي "الإنسان ذو البعد الواحد" كمجتمع لاعقلاني. وهذه اللاعقلانية ترجع إلى سوء استغلال وتنظيم الثروات. سوء الاستغلال هذا، هو الذي يقف وراء التدمير المستمر للتطور الحرّ للحاجيات البشرية. إن وظيفة كل نظرية نقدية في نظره، هي أن تحصّن نفسها ضد حقائق ومؤسسات هذا المجتمع. إن عليها أن تفهم المجتمع الرأسمالي كمجتمع تاريخي، كمرحلة من تاريخ البشرية، وليس كما يدعي أنبياء الليبرالية الجديدة، كنهاية للتاريخ. إن الحرية في هذا المجتمع الأحادي البعد، مجرد وهم. إنها حرية الرأسمال الكاملة في التصرف بالحياة البشرية بما يتوافق مع مصالحه المادية. ليس فقط الحرية ، لكن التقنية والتقدم والتعددية، هي كلها أوهام ، ووظيفة النقد الاجتماعي هي التأكيد على أنها مجرد أوهام، وفضح هذا الوعي الخاطئ وهذا التشيئ للإنسان وهذا الاستلاب المستمر لإرادته. إن المجتمع التقني قد اكتسح في نظر ماركوزه الحرية الداخلية للإنسان، لقد صنع إنسانا على مقاسه، بلا وعي وبلا ميزات خاصة به. إنه يريده مقلدا، مستهلكا، متماهيا معه. فعنف التقدم يستعبد العقل، ويخرس كل صوت معارض(7) وأن ذلك لا يتم إلا عبر صناعة لوعي استهلاكي، وزرع حاجيات جديدة بعقل الإنسان، من شأنها أن تؤبد انسجامه مع القيم السائدة. إنسان شبيه بذلك الذي تحدث عنه فرانسوا بيرو في "التعايش السلمي"، أشبه بآلة هو أو بشيء. فليس المجتمع مهتم بطاعته أو بتحمله للعمل الشاق، ولكنه مهتم بتحويله إلى مجرد وسيلة، إلى مجرد شيء. حتى الثقافة تحولت في هذا المجتمع إلى سلعة. إنها لا تجرؤ على النقد، بل تحاربه. أضحت سجينة لقيم السوق المبتذلة. لذلك أصبح من المستحيل الحديث عن ثقافة مستقلة ونقدية وخلاقة داخل المجتمع الرأسمالي. فمنطق هذه الثقافة كمنطق هذا المجتمع يقوم على التقليد والطاعة(. وأهم تمظهرات هذه الثقافة، اللغة، التي يعتبرها ماركوزه سياسة لنشر الأوهام وصناعة العقول. إن اللغة كما عبر بارت فاشية، ذلك أن الفاشية ليست منعا للكلام ولكن إرغام على الكلام(9) إن اللغة في هذا المعنى تعبير عن سلطة. لذلك أصبح من المستحيل الحديث عن حياد اللغة، تماما كما هو مستحيل الحديث عن حياد التقنية، وليس عجبا في ظل هذا الاستغلال السياسي للغة، أن تتسمى أحزاب رأسمالية بالاشتراكية أو حكومات مستبدة بالديمقراطية، وانتخابات أشبه بالمهزلة بالانتخابات الحرة على حد تعبير ماركوزة، أو أن تعلن أمريكا حربها الاستعمارية على العراق باسم الديمقراطية والعدالة اللانهائية. لغة وثوقية هي أقرب إلى الشطط الميتافيزيقي منها إلى العقل، مطلقة النبرة والمعنى.

    -3-

    وإذا كانت اللاعقلانيات القومية والدينية نتيجة لإمبريالية العقل وعنفه حسب تعبير بورديو، فإن هذا لا يمثل صك براءة بحقها، ذلك أن هذه اللاعقلانيات تتماهى في وفاء مع دورها الذي اختاره لها المركز، نوع من التماهي مع المتسلط. إنها الوجه الآخر لدوغمائية السوق، أو هي التسويق المستمر لأيديولوجيات دوغمائية، مغلقة، لاتاريخانية تعتقل أنفاس التاريخ وتسجن فكر الإنسان في عرق أو عقيدة أو ملاحم بائدة. ولا ريب أن الفكر العربي المعاصر في خطه القومي والأصولي خير تعبير عن هذه السوق الكاسدة تاريخيا: سوق الأصولية. فهذا محمد عابد الجابري، المحسوب على التيار النقدي بهذا الفكر، يرتدي بزة عرافة شرقية ويطلع علينا في أطروحاته العشر حول العولمة والهوية الثقافية(10) بخطاب لا يختلف عن عقلية "جاهلية القرن العشرين" في لغته وتفكيره. لم يفهم الجابري وهو يكتب أطروحاته تلك، أن التاريخ يطرح أسئلة ولا يقدم أجوبة. فليست هناك حلولا نهائية تعتقل أنفاس التاريخ، لأن التاريخ بلا هوية، والاتجاه نحو المستقبل يمر دائما بالقطع مع كل مفهوم مفارق للهوية. لكن "العقل" العربي يتمادى في لاعقلانيته، عقل تقبلي، يقدس الهوية، ويعتبر الوفاء للأموات أهم من الوفاء للواقع. باختصار فإن "العقل" العربي ممثلا في أطروحات الجابري حول العولمة والهوية الثقافية في حاجة إلى عقل. ففي أطروحته الأولى المعنونة كالآتي: "ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، بل ثقافات"، يعتبر الجابري أن الثقافة هي المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم. لم يفهم الجابري أن الثقافة لا تحقق نفسها إلا ضد الأصالة والخصوصية، وأن التاريخ لا خصوصية له خارج أسئلته، والثقافة ليست دائما ذلك التعبير الأصيل. هناك فقط توجه يدعي الأصالة لنفسه، لأنه يتشبت بحقائق الماضي. لكن الأصالة قد تفهم أيضا كوفاء للحاضر، كوفاء للأحياء لا للأموات، لحاجات الإنسان وأسئلته الملحة. ومزج الجابري بين الثقافة والأصالة، أو اختزال الثقافة في الأصالة هو رفض للتعدد وحجب لدور الآخر وتأثيره، وتناس لحركية الواقع وأسئلته. إن الثقافة الأصيلة هي أشبه بنعامة تدفن رأسها بالرمل، والرمل قد يعني الذكريات إذا استعملنا لغة الجابري الرومانسية، وقد يعني نصوصا تغتصب التاريخ وعمائم تبتلع الحاضر والإنسان. والقول بأنه ليست هناك ثقافة عالمية بل ثقافات، قول فيه الكثير من التفاؤل المجاني، ذلك أن الثقافة اليوم تنحو نحو العالمية، إبداع من الآخر وقراءة وتقليد من الأنا، تختفي الأنا خارج التاريخ، إنها أشبه بالمصريين القدامى الذين ظلوا دائما أطفالا لأنهم لم يتجاوزوا جدران المعبد. إن الآخر يفرض ثقافته، ليس لأنها إنسانية، متحضرة أو عقلانية، ولكن لأنها ثقافة الأقوى، أما الضعيف فلا ثقافة له، وقد تكون له ذكريات! أمس منحتنا الثقافة اليونانية فكرة "العقل"، واليوم تمنحنا الثقافة الأوروبية فكرة "التاريخ"، وكما ضيعنا العقل، ها نحن نواصل اليوم وبإصرار أعمى نفي التاريخ، أو نفي أنفسنا خارجه. أما أطروحة الجابري الثانية، ذات النغمة الدينية المطلقة، فتؤكد أن الهوية مستويات ثلاث: فردية وجمعوية ووطنية قومية. إضافة إلى أن هذا التقسيم اعتباطي، وخصوصا في ظل مجتمعات قومية أو أصولية تعادي الفرد وتقمع حريته وتسجن حاضره بماضيه، فإننا نؤكد مرة أخرى أن لا هوية للثقافة، وأن الثقافة المتنورة تقف ضد كل هوية، فالهوية منطق انكفائي وعقل جوهراني، والثقافة التاريخية نقد وجدل مستمران، وهذا ما يميزها اليوم عن الأمس. أمس كانت الثقافة تتمركز حول هوية أو نص أو عقل محدد، أما الثقافة التاريخية فهي صيرورة لا هوية، وربط الأنا بالهوية هو فرض للماضي على الحاضر واستسلام لاجتهاد السلف. وتقول الأطروحة الثالثة أن الهوية الثقافية لا تكتمل إلا إذا كانت مرجعيتها جماع الوطن والأمة والدولة. ويقول الجابري معرفا الوطن:"الأرض والأموات، أو الجغرافية والتاريخ وقد أصبحا كيانا روحيا واحدا يعمر قلب كل مواطن". أي معنى للوطن يقدمه الجابري؟ وأية لغة طلسمية يستعملها؟ الوطن هو الأرض والأموات. أوَليس مثل هذا التفكير هو من حول الوطن إلى أرض موات؟! لما لا نقول بأن الوطن هو الرغيف المسروق الذي يجب انتزاعه من جديد، أو هو العدالة الاجتماعية، أو هو الحرية السياسية أو هو الإنسان الذي عفرت آدميته بالتراب. لكم كان صادقا ذلك الشاعر العراقي المنفي حين قال: "نحن اثنان بلا وطن يا وطني". ومن قال بأن الأموات هم التاريخ؟ الأموات هم الماضي، هم الماضي الذي مازال يرخي سدوله المدلهمة على الحاضر. والأمة ليست نسبا روحيا. الأمة مشروع سياسي مؤجل. الأمة ليست نصا نهائيا، ومتى أرادت أن تخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فعليها أن تنجز نسبا جديدا، نسبا مع التاريخ. فليست الأمة ما أنجزناه، ولكن ما يجب أن ننجزه.

    * كاتب من المغرب مقيم بألمانيا
                  

09-14-2004, 02:49 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقالات للحوار... تفجر التعريفات:إدوارد سعيد (Re: esam gabralla)

    Quote: تفجر التعريفات
    :إدوارد سعيد


    كل من يفهم، وإن بالقدر القليل، كيف يتم عمل الحضارات، يعرف أن عملية تحديد حضارة ما، وكشف ما تمثله في نظر أبنائها يفتح دائماً الباب على جدل كبير وديموقراطي حتى في المجتمعات غير الديموقراطية. إذ يجب انتقاء السلطات المناسبة وإخضاعها بانتظام للنقد وحملها على النقاش وتكليفها مجدداً أو إعفائها. كما يجب تحديد وبحث وإعادة البحث في فكرة الخير والشر والانتماء أو عدم الانتماء (المشابه والمختلف) وسلّم القيم والتوصل إلى اتفاق أو عدم الاتفاق حول هذه المسائل وبحسب الحالات.

    من جهة أخرى فان كل حضارة تحدد أعداءها في ما هو خارج حيزها ويشكل خطراً عليها. فبالنسبة إلى اليونانيين، وبدءاً من هيرودوتوس، كل من لم يكن يتكلم اللغة اليونانية هو تلقائياً بربري، هو "آخر" يجب بغضه ومحاربته. في كتاب صدر مؤخراً تحت عنوان "مرآة هيرودوتوس" يبين الأختصاصي في الآداب الكلاسيكية فرنسوا هارتوغ بكل وضوح كيف شرع هيرودوتوس [1] بكل تروٍ ودقة في تشكيل صورة الآخر البربري في حالة "الشيت"، أكثر حتى من الفرس.

    إن الحضارة الرسمية هي حضارة الكهنة والأكاديميات والدولة. وهي تعطي تحديداً عن المواطنية والشرعية والحدود وما سمّيته الانتماء. هذه الحضارة الرسمية هي التي تتكلم باسم المجموع والتي تحاول التعبير عن الإرادة العامة، عن الفكرة والأخلاقيات العامة، والتي تتمسك بالماضي الرسمي، بالآباء والنصوص المؤسسة، بمجامع الأبطال والخونة، والتي تنقي هذا الماضي من كل ما هو غريب أو مختلف أو غير مرغوب فيه. ومن هنا يأتي تحديد ما يمكن أو ما لا يمكن قوله، وتحديد الممنوعات والتحظيرات الضرورية في كل حضارة راغبة في إقامة سلطتها.

    كما أن من الصحيح تماماً أنه على هامش الحضارة المهيمنة، الرسمية أو القانونية، تقوم حضارات منشقة أو مخالفة، غير أرثوذكسية، هرطوقية، تشتمل على العديد من التيارات المناهضة للاستبدادية معارضة الحضارة الرسمية. ويمكن إطلاق تسمية الحضارة المضادة على مجموعة ممارسات تنسب إلى مختلف المنافسين الضعفاء، مثل الفقراء والمهاجرين والبوهيميين والمهمومين والمتمردين والفنانين. ومن هذه الحضارة المضادة يصدر نقد السلطة ومهاجمة كل ما هو رسمي وأرثوذكسي. فالشاعر العربي المعاصر الكبير أدونيس قد كتب الكثير عن العلاقة بين الأرثوذكسية والهرطوقية في الحضارة العربية وبرهن أن ما بين الاثنين يقوم نوع من الديالكتيك والتوتر المستمر. فلا يمكن فهم أي حضارة إذا لم يكن هناك إدراك، أياً يكن نوعه، لمصدر هذا التحريض الخلاق الماثل باستمرار والمتمثل بهذه المواجهة بين اللارسمي والرسمي. فإهمال هذا الحراك داخل كل حضارة والاعتقاد بوجود تجانس تام بين الحضارة والهوية يعني التنكر لما هو حيوي وخصب.

    في الولايات المتحدة مرّ الحوار حول ماهية أميركا بالعديد من التحولات وحتى بخضات لافتة. ففي طفولتي كانت أفلام الوسترن تبرز هنود أميركا كأنهم شياطين مؤذية يفترض تدميرها أو إزاحتها. كانوا يسمّون "البشرة الحمراء" كما انه بقدر ما أمكن توظيفهم في مجمل الحضارة كانوا يستخدمون لإبراز تطور الحضارة البيضاء (وهذا ينطبق أيضاً على التاريخ الأكاديمي كما في الأفلام). أما اليوم فان هذا كله تغير، فبات هنود أميركا يعتبرون ضحايا تقدم الحضارة الغربية في البلاد وليس كمجرمين.

    حتى وضع كريستوف كولومبوس قد تغيّر. أما بالنسبة إلى وضع الأميركيين الأفارقة أو المرأة فقد شهد خضات لافتة أكثر. فلقد بيّنت توني ماريسون تشبث الأدب الأميركي الكلاسيكي بالانتماء إلى العرق الأبيض كما شهد على ذلك وبطريقة بارعة موبي ديك من ملفيل وأرثر غوردن بيم من ادغار الن بو. لكنها توضح أن الكتّاب الأميركيين الرئيسيين من الذكور والبيض، وهم الرجال الذين أضفوا المعايير على الأدب الأميركي كما نعرفه، قد وظفوا في نتاجاتهم الانتماء إلى العرق الأبيض كوسيلة لتحاشي أو لإخفاء أو لطمس الوجود الإفريقي في مجتمعنا.
    لقد انتقلنا من عالم ملفيل وهمنغواي إلى عالم دوبوا وبولدوين ولانغستون هيوغز وتوني موريسون، ومجرد أن تحقق روايات وانتقادات توني موريسون نجاحاً باهراً إلى هذا الحد فهذا شاهد على حجم التغيير القائم. فما هي رؤية أميركا الحقيقية والتي يمكن القول إنها تمثلها وتحددها؟ إن هذه المسألة معقدة ومثيرة إلى أقصى حد لكن لا يمكن الإجابة عنها عبر تلخيص القضية ببعض الكليشيهات.

    إن كتاب آرثر شليزنغر الصغير "أميركا تفقد وحدتها" [2] (La Désunion de l’Amérique) يعطي نظرة حديثة عن الصعوبات الملموسة في أشكال النضال الحضاري الهادفة إلى إيجاد تحديد للحضارة. فشليزنغر يتخوف، كمؤرخ ينتمي إلى التيار السائد، ويمكن تفهمه في ذلك، من كون مجموعات المهاجرين التي تبرز في الولايات المتحدة تعترض على الأسطورة التوحيدية الرسمية لأميركا كما تعوّد المؤرخون الكلاسيكيون الكبار في هذا البلد أن يقدموها، مثل بانكروفت وهنري أدامز وحديثاً جداً ريتشارد هوفستايدر. فهذه المجموعات تريد كتابة تاريخ لا يعكس فقط صورة أميركا كما بناها وقادها بعض السياسيين والملاّكين، بل أميركا لعب فيها العبيد والخدم والعمال والمهاجرون الفقراء دوراً مهماً لا يتم الاعتراف به حتى الآن.

    إن روايات هؤلاء الأشخاص، التي يتم التعتيم عليها في الخطابات الطنانة الصادرة من واشنطن ومن مصارف الاستثمار في نيويورك ومن جامعات إنكلترا الجديدة ومن الثروات الصناعية الكبرى في الغرب الأوسط، قد جاءت تعكر التطور البطيء وصفو الرواية الرسمية الرصينة. فهم يطرحون الأسئلة ويروون تجارب المحرومين اجتماعياً ويعبّرون عن مطالب الناس في أسفل السلّم الاجتماعي، من النساء والآسيويين والأميركيين الأفارقة وسائر الأقلية الجنسية أو الاتنية. وسواء أكنا نوافق شليزنغر أم لا في "صرخته الصادرة من القلب"، فانه لا يمكن رفض المقولة التي يتضمنها كتابه والتي ترى أن كتابة التاريخ هي الطريق الأسمى لتحديد بلدٍ ما، وأن هوية مجتمع ما هي، في جزء كبير منها، وليدة التفسير التاريخي، وهو المجال الذي تتواجه فيه التأكيدات موضوع الخلاف أو التأكيدات المضادة. في هذا الوضع من تدافع التحديدات تغرق الولايات المتحدة في الوقت الحالي.
    هذا النص مقتطف من كتاب
    “ The Clash of definitions ”, publié dans Reflections on Exile and Other Essays (Harvard University Press, 2000
                  

09-15-2004, 04:10 AM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السوق تصدر الأوامر ...ماذا تبقى من الديموقراطية؟ (Re: esam gabralla)

    Quote: السوق تصدر الأوامر
    ماذا تبقى من الديموقراطية؟
    جوزيه ساراماغو*
    José SARAMAGO

    في كتابه "السياسة" يقول لنا أرسطو بدايةً: "في الديموقراطية الفقراء ملوك لأنهم الأكثر عدداً ولأن إرادة الأكثرية تصنع القانون". وفي مقطع آخر يحاول الحد من وقع جملته الأولى، فيوسع معناها ويكملها بالمسلّمة التالية: "من الإنصاف داخل الدولة أن لا يتمتع الفقراء وفي مطلق الأحوال بسلطة اكبر من الأغنياء وان لا يسودوا وحدهم بل أن تكون السيادة لجميع المواطنين قياسا على عددهم. إنها شروط لا غنى عنها كي تستتب العدالة والحرية في الدولة بصورة فعالة".

    يقول أرسطو أيضاً إن المواطنين الأغنياء ولو ساهموا من خلال الشرعية الديموقراطية في حكم "المدينة" فإنهم يبقون أقلية نظراً إلى نسبتهم العددية. كان محقاً على الأقل في هذه النقطة إذ أن الأغنياء ومهما عدنا في الزمن لم يكونوا يوما أكبر عددا من الفقراء. بالرغم من ذلك هم حكموا العالم على الدوام أو تحكموا بأصحاب السلطة فيه. ما زلنا نعيش الأوضاع نفسها ولنلاحظ في المناسبة أن أرسطو يعتبر الدولة شكلاً أخلاقياً راقياً...

    تعلمنا كتب القانون الدستوري أن الديموقراطية "تنظيم داخلي للدولة يرجع مصدر السلطة وممارستها إلى الشعب، ويسمح هذا التنظيم للمحكومين أن يحكموا بدورهم عبر ممثليهم المنتخبين".

    إن القبول بتعريفات صارمة من هذا القبيل يعني إهمال ما نعاينه في أجسامنا مثلاً من تدرج لامتناه للحالات المرضية. بمعنى آخر إن التعريف الدقيق للديموقراطية لا يعني أنها تعمل بانتظام في الواقع. ويقودنا الدخول السريع إلى تاريخ الأفكار السياسية إلى ملاحظتين غالباً ما يصار إلى تهميشهما بحجة أن العالم يتغير. الأولى أن الديموقراطية ظهرت في أثينا في نحو القرن الخامس قبل الميلاد وكانت تفترض مشاركة جميع الرجال الأحرار في حكم المدينة وكانت ديموقراطية مباشرة تتوزع فيها المهام والمسؤوليات في مزيج من القرعة والانتخاب كما كان للمواطنين الحق في التصويت وتقديم المقترحات في الجمعيات الشعبية.

    لكن، وهنا الملاحظة الثانية، لم ينجح النظام الديموقراطي في فرض نفسه في روما، مكمّلة اليونان. وجاءت العقبة من السلطة الاقتصادية اللامحدودة لطبقة المالكين الأرستقراطيين الكبار والتي رأت في الديموقراطية عدوا مباشرا لها. بالرغم مما يحمله التشبيه من مخاطر هل يمكننا أن لا نتساءل إذا كانت الإمبراطوريات الاقتصادية المعاصرة هي بدورها عدوّة راديكالية للديموقراطية وان كانت المظاهر لا تزال محترمة حتى الآن؟

    تحاول هيئات السلطة السياسية حرف انتباهنا عن مسلّمة مفادها أن هناك نزاعاً داخل آلية الاقتراع بين الخيار السياسي المتمثل في التصويت والتنازل عن حق مدني. أليس صحيحاً آن الناخب عندما يرمي ورقته في الصندوق ينقل بين أياد أخرى، ومن دون مقابل سوى وعود الحملة الانتخابية، الجزء الذي كان يملكه من السلطة السياسية في صفته عضوا في مجتمع المواطنين؟

    قد لا يكون حذراً دور محامي الشيطان الذي اضطلع به. انه لمن باب أولى أن نتفحص ديموقراطيتنا وفائدتها قبل ادعاء فرضها على العالم في هوس يسيطر على زماننا. إن كاريكاتير الديموقراطية هذا الذي نسعى إلى التبشير به كديانة جديدة لباقي العالم، ليس ديموقراطية الإغريق بل هو نظام ما كان الرومان أنفسهم ليترددوا في فرضه على مقاطعاتهم. فهذا النوع من الديموقراطية المكبوح بألف معيار اقتصادي ومالي كان لا شك لقي ترحيب الأرستقراطية الرومانية وحوّلها إلى صفوف أنصار الديموقراطية المتحمسين.

    قد تتبادر الشكوك إلى أذهان بعض القراء حول اقتناعاتي الديموقراطية وخصوصاً أن ميولي الإيديولوجية معروفة[1]... فأنا أدافع عن عالم ديموقراطي فعلا يتحول أخيراً إلى حقيقة بعد 2500 سنة على دعوات سقراط وأفلاطون وأرسطو وعلى هذا الوهم الإغريقي في قيام مجتمع منسجم لا يميز بين الأسياد والعبيد كما يتصوره أبرياء ما زالوا يؤمنون بالكمال. قد يعارضني البعض بالقول أن الديموقراطيات الغربية ليست حصرية ولا عنصرية وان صوت الغني والأبيض مساو لصوت الفقير أو الأسمر. في الظاهر نحن في أقصى الديموقراطية.

    ولو اضطررت للحد من حماسة هذا البعض أقول أن هذا الإطار المثالي يبدو مثيراً للسخرية أمام الواقع المر الذي نعيشه، وأننا، وفي شكل من الأشكال، سنقع في نهاية المطاف في حضن جهاز متسلط يتلبس أجمل حلل الديموقراطية. هكذا فان حق الاقتراع المعبّر عن إرادة سياسية هو في الوقت نفسه فعل تخلّ عن هذه الإرادة كون المقترع يفوضها إلى المرشح. فالاقتراع هو بالنسبة إلى قسم من المواطنين على الأقل شكل من التنازل المؤقت عن العمل السياسي الشخصي الذي يكتم في انتظار الانتخابات التالية حيث يعاد تكرار الآلية نفسها.

    يمكن أن يشكل هذا التخلي بالنسبة إلى الأقلية المنتخبة الخطوة الأولى في آلية تفتح المجال أمام تحقيق أهداف غير ديموقراطية قد تشكل انتهاكا فعليا للقانون وذلك بالرغم من انتظارات الناخبين غير المجدية. في المبدأ لن يخطر في بال احد إيصال الفاسدين إلى البرلمان ولو أن التجربة المؤسفة تعلمنا أن الدوائر العليا للسلطة على المستويين الوطني والدولي تضم هذا النوع من المجرمين أو ممثليهم. ما من امتحان دقيق للأوراق المرمية في صندوق الاقتراع يمكنه تبيان الإشارات الفاضحة للعلاقة بين الدولة والمجموعات الاقتصادية التي تقود العالم بأفعالها الإجرامية وحتى حربها إلى الكارثة.

    تؤكد التجربة أن الديموقراطية السياسية غير المرتكزة على ديموقراطية اقتصادية وثقافية لا فائدة ترجى منها. ففكرة الديموقراطية الاقتصادية عانت الاحتقار ورميت في سلة المهملات الخاصة بالصيغ القديمة العهد لتترك المجال واسعا أمام السوق المنتصرة حتى الفجور. وحل محل فكرة الديموقراطية الثقافية فكرة لا تقل فجورا وهي الثقافة الجماهيرية الصناعية: نوع من الخليط يخفي سيطرة ثقافة معينة على باقي الثقافات.

    يخيل إلينا أننا نتقدم فيما نحن في الواقع نتقهقر ويصبح التحدث عن الديموقراطية أكثر سخفاً إذا ما استمررنا في ربط هذه الديموقراطية بمؤسسات حزبية وبرلمانية وحكومية من دون أن نتحقق من استخدام هذه المؤسسات للتصويت الذي أوصلها إلى سدة الحكم. إن الديموقراطية التي لا تمارس النقد الذاتي محكومة بالشلل.

    لا تحكموا عليّ أني ضد الأحزاب فأنا أناضل في صفوف احدها. لا تعتقدوا أني كاره للبرلمانات فأنا اقدّرها خير تقدير لو انصرفت إلى العمل بدل الكلام. ولا يخيل إليكم أني مخترع وصفة عجائبية تتيح للشعوب العيش الرغيد في غياب الحكومات. لكني أرفض القبول بأنه لا صيغة للحكم إلا تلك التي نشاهدها، وهي ناقصة وعديمة الانسجام.

    لا أجد لها صفات أخرى لان الديموقراطية الحقة التي كالشمس تغدق أنوارها على الشعوب يجب أن تبدأ من اقرب مكان إلينا، من البلاد التي ولدنا فيها والمجتمع الذي نعيش فيه والحي الذي نقطن فيه.

    إذا لم يحترم هذا الشرط ـ وهو ليس محترما ـ فكل النظريات السابقة أي الأساس النظري وآلية العمل الاختبارية للنظام تكون فاسدة. تطهير مياه النهر الذي يخترق المدينة لا يفيد إذا كان التلوث قائما في النبع.

    إن قضية السلطة هي السؤال الرئيسي المطروح على كل نوع من أنواع التنظيم البشري منذ كان العالم عالماً. والاهم هو تحديد من يمسك بزمام هذه السلطة والتأكد من طريقة حصوله عليها ووجهة استخدامه لها والأساليب التي يعتمدها والأهداف التي يسعى إليها.

    لو كانت الديموقراطية هي فعلا حكم الشعب من اجل الشعب وعن طريق الشعب لتوقف النقاش. لكن الأمور ليست في هذا السياق بتاتا والتفكير اللئيم وحده قادر على الادعاء أن عالمنا في أفضل حال.

    يقال أيضاً أن الديموقراطية هي النظام السياسي الأقل سوءاً من دون أن ينتبه أحد إلى أن هذا الرضوخ لنموذج يكتفي بأن يكون "الأقل سوءاً" يشكل كابحاً أمام البحث عن "الأفضل".

    إن الحكم الديموقراطي مؤقت في طبيعته ويرتبط بثبات نتائج الانتخابات والموجات الإيديولوجية والمصالح الطبقية. يمكن اعتباره ميزاناً عضوياً يسجل التحولات في إرادة المجتمع السياسية. لكن ها نحن نشهد العديد من التغيرات والتداول الراديكالي في الظاهر للسلطة تتبدى أثرها الحكومات من دون أن يترافق هذا التبديل مع تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية تعكس في عمقها ما بدا انه إرادة الناخبين.

    ففي الواقع إن تسمية حكومة ما "اشتراكية" أو "اشتراكية ديموقراطية" أو أيضاً "محافظة" أو ليبيرالية" ومن ثم اعتبارها "السلطة"، ليس سوى تجميل رخيص للحقيقة. إنه افتراض بوجود السلطة حيث لا وجود لها لأن السلطة الفعلية هي في مكان آخر، في السلطة الاقتصادية التي لا نرى سوى ظلالها التي تهرب منا إذا اقتربنا وتشن علينا هجوما مضادا إذا ما سعينا لتقليص هيمنتها باسم قواعد المصلحة العامة.

    في كلام أكثر وضوحاً، إن الشعوب لم تنتخب حكوماتها كي تقدم هذه الحكومات شعوبها "هدية" إلى السوق. لكن السوق تتحكم بالحكومات كي "تهديها" شعوبها. في زمن العولمة الليبيرالية الذي نعيشه، السوق هي الأداة الممتازة للسلطة الوحيدة الجديرة بهذا الاسم ألا وهي السلطة الاقتصادية والمالية وهي ليست ديموقراطية لأنها غير منتخبة من الشعب ولا يديرها الشعب وبصورة خاصة لا تهدف إلى إسعاد الشعب.

    تقدمت هنا بحقائق أولية، فمخططو السياسة من كل الأطياف فرضوا صمتا حذرا كي لا يلمح أحد أننا مستمرون في الكذب وشركاء فيه. فالنظام المسمّى ديموقراطيا يشبه حكومة الأغنياء أكثر منه حكومة الشعب. ويستحيل إنكار الحقيقة الدامغة أن جماهير الفقراء المدعوين إلى الاقتراع لم يدعوا أبداً إلى المشاركة في الحكم. ولو افترضنا قيام الفقراء بتشكيل حكومة يمثلون فيها الأكثرية، كما تخيلها أرسطو في كتابه "السياسة" فإنهم يفتقرون إلى الوسائل التي من شأنها تعديل نظام عالم الأغنياء الذين يسيطرون عليهم ويراقبونهم ويخنقونهم.

    لقد دخلت الديموقراطية الغربية المفترضة في حقبة تحول تراجعي لا يمكن وقفها ستفضي كما هو متوقع إلى نقيض لها. فلا حاجة أن يقدم أحد على تصفيتها فهي تنتحر يوميا.

    ما العمل؟ نصلحها؟ نعرف أن الإصلاح كما يقول مؤلف كتاب Le Guepard [2] هو تغيير كل ما من شأنه منع التغيير. نجددها؟ أي زمن ماض كان ديموقراطياً بما فيه الكفاية كي نرجع إليه وننطلق منه لإعادة إعمار ما يتداعى بمعدات جديدة؟ عهد الإغريق؟ جمهوريات القرون الوسطى التجارية؟ الليبيرالية الإنكليزية في القرن السابع عشر؟ عصر الأنوار الفرنسي؟ أسئلة لا طائل منها بقدر الأجوبة عليها...

    ما العمل إذن؟ فلنتوقف عن اعتبار الديموقراطية قيمة ثابتة ومحددة لا يمكن المس بها. في عالم يعاد النظر فيه بكل شيء يبقى ثمة محرّم واحد: الديموقراطية. كان ديكتاتور البرتغال طوال 40 عاما، سالازار (1889 ـ 1970) يؤكد قائلا: "لا يعاد النظر في الله ولا في الوطن ولا في العائلة". اليوم يعاد النظر في الله والوطن والعائلة تعيد النظر في ذاتها. إلا الديموقراطية فلا نناقشها.

    أقول إذن: فلنعد النظر فيها في سجالاتنا وإذا أعدمنا وسيلة لإعادة اختراعها فلن نخسر الديموقراطية فقط بل كل أمل في رؤية الحقوق الإنسانية محترمة في هذا العالم. سيكون فشلاً مدوياً يهتز له عالمنا ودليل خيانة تدمغ البشرية إلى الأبد.

    * أديب برتغالي، حامل جائزة نوبل للآداب عام 1998. من مؤلفاته

    Le Dieu manchot, Seuil, Paris, 1995 ; La Caverne, Seuil, Paris, 2002 ; et Essai sur la lucidité , à paraître au Seuil cet automne.
                  

09-15-2004, 12:10 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
جدليات العولمة فى ظل اللاعولمة (Re: esam gabralla)

    Quote: جدليات العولمة فى ظل اللاعولمة
    محمد عبد الشفيع عيسى
    الحوار المتمدن
    الأبعاد الاجتماعية والثقافية)

    أن للعولمة جدلياتها أو (الديالكتيك )الخاص بها .. ونقصد بذلك طابعها التناقضى ؛ أذ لاتوجد العولمة ألا فى وجود نقيضها أو "نقائضها " . فظاهرة العولمة التى يعرفها معظم الناس ويتحدثون عنهاهى فى الحقيقة "عولمة رأس المال " , والمعبر عنها من خلال سلوك ممثلى الرأسمال ,بقيادة التحالف بين شركات" احتكارات القلة" الكبرى وحكومات دول المركز الرأسمالى المتقدم اقتصاديا, والذى يجمع أمريكا الشمالية و أوربا الغربية بالأضافة ألى اليابان . إن هذه هى (العولمة الرأسمالية( .
    وتعايش العولمة نوعا من التناقض الداخلى , أذا صح هذا التعبير , ونقصد بذلك: التناقض فى داخل بنية ظاهرة العولمة الرأسمالية نفسها , والناجم عن الاختلاف وربما " التضاد"بين التوجه ناحية العولمة , والميل القوى الى اللاعولمة ..
    ولكن هناك شكلا آخر للتناقض الذى تعيشه العولمة , وهو التناقض "الخارجى " أذا صح التعبير ..ويمكن
    أن نعبر عنه بالتناقض بين عولمة رأس ا لمال وعولمة الشعوب . وربما يصبح السؤال الأساسى هنا هو :ماالتوجهات التى تبنتها قوى العولمة الرأسمالية ، على الصعيد الاجتماعى والثقافى تحديدا، لمقابلة عولمة الشعوب _سواء بغرض تدمير نسيجها او تشويهها أوارباكها و"تسميم" مسارها الفكرى والسياسى
    او اضعاف أرادتها أو ربما تحطيمها كلية ..؟
    هذا هو السؤال الذى نحاول الأجابة عليه هنا . ونبادر فى البداية ألى القول ان التوجهات المذكورة هى أقرب ألى الميول والنزعات ، منها ألى االحتميات او الضرورات المطلقة . فرأس المال فى حقيقة الأمر لايرضى بأقل من القضاء بصورة حاسمة ونهائية على كل شكل من أشكال المقاومة الجذرية لسيطرة القوى الأساسية الممثلة له ، اى الشركات الاحتكارية وأجهزة الدولة المساندة لها وخاصة الجهاز العسكرى . وهذا ما يبدو بصورة جلية الآن على سبيل المثال من خلال تطور الأحداث فى المنطقة العربية ، وخاصة على ساحتى فلسطين والعراق .
    ولكن هذا يبقى فى نهاية الأمر مجرد "ميل " او " نزوع " وليس أكثر ، وتتكفل الأرادة الكفاحية للشعوب
    "" بتعطيل هذا الميل – كحد أدنى اوبالقضاء عليه بالخسارة الصافية ، استراتيجيا أو تكتيكيا _ كحد أقصى . وهذا ما دعانا منذ البداية ألى تبنى منهجية "الجدل الاجتماعى " فى تناول ظاهرة العولمة ، بفعل تركيزها على التناقضات الكامنة فيها ومن حولها .
    وانطلاقا مماسبق , وبالتركيز على الأبعادالاجتماعية والثقافية أساسا، فأننا نحدد عددا من التوجهات الرئيسية, نعرضها على نحو أقرب الىطريقة تحديد(الأجندة ) أو جدول الأعمال للمجال الاجتماعى –الثقافى للعولمة ، منظورا الى هذا المجال باعتباره "ساحة " للتفاعل والتناقض بين العولمة الرأسمالية وعولمة الشعوب .
    وفيما يلى نقدم "جردة "بهذه التوجهات ، ثم نثنى بنبذة موجزة عن كل منها :
    1-نزعة التنميط –او الميل الى "الغربنة " و " الأمركة ".
    2-اعادة هيكلة الحركات الاجتماعية.
    3-فورة "العرقيات "مقابل (بناء الأمة ) .
    4-تعميق الاستقطاب الاجتماعى فى عصر "اقتصاد المعرفة " والانقسام الرقمى ".
    5-تشويه الثقافة والفنون السمعية _ البصرية .
    6-عولمة أنماط المعاش ، او تكنولوجيا الانتاج والاستهلاك.
    7-محاولة احتواء السلوك الاجتماعى .
    8-محاصرة (قوة العمل ) .
    ولنتناول هذه التوجهات الثمانية تباعا .

    أولا :نزعة التنميط :
    وتتضمن هذه النزعةميل القوى الرئيسية للعولمةالرأسمالية ( من حكومات وشركات )الى محاولة تعميم نمط الحياة الغربى عموما ، والأمريكى خصوصا، على سائر مناطق العالم..تحت دعاوى مختلفة, تنطلق من مقولة الحداثة ( وما بعد الحداثة )-وبالتالى : التحديث modernization أى (رفع) العالم غير الغربى، اذا صح هذا التعبير ، ألى المستوى (الحضارى ) لأمريكا الشمالية وأوربا الغربية ، وذلك عن طريق تبنى القيم الرئيسية للحضارة الرأسمالية الغربيةوالقائمة على عدة أسس فى مقدمتها " الليبرالية. وترتكز الفكرة "الليبرالية " أساسا على اولوية مصلحة الفرد مقابل مصلحة المجتمع ، مع ما يتضمنه ذلك-من ناحية الأيجاب-فىتثبيت " المشروع الخاص الرأسمالى" باعتباره الوحدة التنظيمية الرئيسية للنشاط الاقتصادى، وتاكيد " آلية السوق الطليقة "كاسلوب اساسى للادارة الاقتصاديةالكليةالى جانب تكريس المدخل الشكلىالى الديموقراطية، والقائم على المفهوم البورجوازى المجرد للنيابة والتمثيل عن طريق ممارسة التصويت والانتخابات . ومن ناحية السلب ، فان الفكرة الليبرالية تتضمن عن طريق "المقابلة"استبعاد التركيز على مفهوم العدل الاجتماعى الجذرى والعدالة التوزيعيةوالدور الأساسىللجماعة ( او الغالبية الاجتماعية المنتجة )- والممثلة ديموقراطيا فى الدولة –فى السيطرة على تسيير الوسائل الرئيسية للانتاج واداء السوق حيثما وجد ،بالأضافة لاستبعاد الوسائل غير ( الاقتراعية ) للتعبير والتمثيل الشعبىبما فى ذلك الحكم المباشرللجماعات الذاتية والاستفتاء (الصحيح ) .
    ورغم ان هذه المعالم الاقتصادية والسياسية لليبرالية قد تبلورت أساسا فى المجتمعات الغربية وعبرت عن مشكلات تطورها الاقتصادى والاجتماعى الخاص فى العصر الحديث ، باعتبارها افرازا طبيعيا للثورة البورجوازية بكل انجازاتها التاريخية( ابراز حقوق الفردفى مواجهة السيطرة " الكليانية"للأقطاع والكنيسة والملك- وبالتالى تثبيت الحقوق المدنية والسياسية للفرد الذى أصبح مواطنا فى الدولة ،مع فرض حكم القانون فى ذلك ) _ رغم كل ذلك فأن قوى العولمة الرأسمالية الحالية تنزع الديموقراطية البورجوازية والاقتصاد البورجوازى من سياقهما التاريخىوتدعو الى مجرد "استنساخهما "فى مجتمعات الشرق والجنوب .
    أن المشكلة الرئيسية فى مثل هذا " الاستنساخ " انه يتجاهل ( السلبيات ) التاريخية الجوهرية الناجمة عن سيطرة الرأسماليةفى التاريخ العالمى الحديث، وخاصة من خلال الاستعمار ( وما لحق به فى حالة امريكا من ممارسة الأبادة الجماعية-للهنود الحمر ، وفرض العبودية "القاتلة" علىعشرات الملايين من الأفريقيين) والظلم الاجتماعى الطبقىالقاهر اقتصاديا داخل الدول الرأسمالية فى مرحلة الثورة الصناعية ، ثم تشويه الشخصية الأنسانية( الأنسان ذو البعد الواحد _ماركوز )فى مرحلة الثورة العلمية التكنولوجية بموجاتها المتتالية . ثم أنه يتجاهل ان " الأيجابيات " التاريخية للحضارة الغربية هى وليدة زمانها ومكانها بالذات ، وأن محاولة نقلها خارج قيود الزمان والمكان ، محاولة مستحيلة التحقق أصلا .
    فماالذى يدعو دوائر العولمة الرأسمالية أذن للتبشير الآن بالقيم الغربيةوخاصةاليبرالية الاقتصادية والسياسية، ممثلتين فى الملكية الخاصة لوسائل وموارد الانتاج-حتى التى هى ملك للجماعة بطبيعتهامثل المواد الأولية ومصادر الطاقة كالنفط –وتطبيق التعددية السياسية المفتوحة على أسس الانقسام التقليدى والقديم : العرقى والقبلى والطائفى ..؟
    ألا يدعونا ذلك ألى الاستنتاج بأن ( الترسانة ) الفكرية للعولمة الرأسمالية الغربية الحاليةقد ترى فى تبنى هذه المنظومة القيمية (اليبرالية) من قبل النخب الفكربة والسياسية خارج الغرب ولاسيما فى الوطن العربى ، الوسيلة المثلى _من وجهة النظر الغربية والأمريكية –لتحقيق مصالحها مثل السيطرة على النفط العربى، ثم الحيلولة دون نهوض عربى حقيقى ، فى الأطار الحضارى للهوية القومية –الدينية ,يكون من شأنه القضاء على الركائزالنهائية للهيمنة الأمريكية ، وخاصة الكيان الصهيونى أسرائيل ..؟
    بلى ، وانه لكذلك. وان بناء الحرية الحقيقية, والتقدم الاقتصادى -الاجتماعىالعربى , رهن بالتخلى عن أوهام التحديث على النسق الغربى ، والبدء من حيث تجب البداية: أى من واقعنا وقيمنا الحضارية التاريخية ،
    دون اى انعزال عن الحضارات الغربية ، وأولاها الحضارة الغربية- بمافى ذلك سليلتها الأمريكية .. !
    وقد عبرنا عن ذلك فى مقام آخر بمقولة ( استئناف التطور الحضارى) كبديل لدعوى التحديث.
    ثانيا أعادة هيكلة الحركات الاجتماعية
    تسعى قوى العولمة الراسمالية بقيادة الولايات المتحدة المريكيةالىاعادة رسم الخريطة الاجتماعية للعالم ،ويصل طموحهاالى حد التطلع الىالمصادرة نهائيا على (حلم الثورة العالمية)وليس مجرد تأجيل الأزمة العالمية للرأسماليةولو الى " أجل غير مسمى " ..!
    ومن أجل تحقيق ذلك الحلم (العولمى ) تقوم تلك القوى بمحاولتها الكبرىفى هذا السبيل من خلال السعى الىتشكيل قوى اجتماعية جديدة او تسريع ولادة مبتسرة لمثل هذه القوى، او احتوائها فكرياوعمليا ،ان وجدت ، ومن ثم رسم خطوط حركتها ضمن التضاريس المعقدة لكل مجتمع .
    ونستطيع تقديم امثلة لهذه المحاولة من خلال العرض الموجز للخطوط الأربعة التالية :
    1-الدعوة والتشجيع العملى لحصر مسار الحركة لما يسمى ( المجتمع المدنى )على المستويين المحلى والعالمى وذلك عن طريق تكريس الخط المحافظ للطبقة المتوسطة ،وان شئت فقل للبورجوازية الصغيرة-بالتعبيرالكلاسيكى-وهى الشريحة الطبقية التى تكره الاستعمار وتخاف الشعب فى نفس الوقت ،كما يقولون .
    تعمل القوى العولمية وخاصة الأمريكية على اجتذاب أقسام مؤثرة من هذه الشريحة، تسميها بالفئات الحديثة،
    وتحاول دعم قوة الدفع نحو تصدر هذه الفئات لمقدمة المسرح الاجتماعى والسياسى ، سواء من خلال وكالات المعونة الخاصة بها أومن خلال المنظمات المتخصصة للأمم المتحدة .
    وهكذا بدلا من ان ترتبط الطبقة المتوسطة بالحركة العمالية ، على نحو مافكر لينين وجرامشى مثلا ، لرفدها بالفكر الطبقى من خارجها كما قال الأول ، او تجسيد مفهوم "المثقف العضوى " كما قال الآخر –فان الشرائح الوسطى تنكفىء على نفسها من خلال (مجتمعها المدنى ) ، بالتركيز على مايسمى بالنقابات المهنية (للمحامين والمهندسين والأطباء ..الخ )ورفع القضايا المطلبية أو الاقتصادية لمنتسبيها بصفة اساسية .
    بيد ان جدلية الحركة الاجتماعية تفرض نفسها هنا من ناحيتين : اولاهما انجذاب بعض قوى المجتمع المدنى نحو هذا (البند) او ذاك من جدول الأعمال الكفاحى للمجتمع ، ربما بسبب التراث النضالى لبعضها ولأسباب تاريخية . واما الناحية الثانية فهى تكون حركة دولية او (أممية ) للمجتمع المدنى العالمى وموجهة بالذات-ويالسخرية التاريخ الواقعى –ضد العولمة ..!
    وتشاء موافقات التاريخ هاهنا ان يتواجه منتديان عالميان كبيران متكافئان فى القوة تقريبا : واحد للعولمة (الرأسمالية)،ويعرف بمنتدى"دافوس"، والآخر (ضد العولمة ) او هونصير عولمة الشعوب ، ويعرف بمنتدى "بورتو الليجرى ".
    واما الحركة الفعليةللمجتمع المدنى العالمى من اجل قضايا الشعوب فقد أصبحت من البروز والقوةلدرجة لم تعد فى حاجة معها الى بيان، ومن ذلك نشاطها او انشطتها من أجل "فضح " ومواجهة" أجندة " الدول الغنية السبعة أو الثمانيةبمناسبة كل اجتماع من اجتماعاتها الدورية ، ومن اجل حماية البيئة فى مناطق مختلفة من العالم ضد اكبر القوى المخربة او الملوثة لها وهى الشركات الرأسمالية الكبرى ولاسيماشركات النفط ..وكذا من أجل السلم العالمى ومناهضة الحرب مثل الحرب الأمريكية على العراق (2003).
    والحق ان الحركية الجدلية للمجتمع المدنى كظاهرة اجتماعية، على النحو السابق، تضع الصفوات الثقافية والسياسية فى البلاد النامية والمتخلفة اقتصاديا –فىالعالم الإسلامى والوطن العربى بالذات –أمام تحدّ هائل .فالعمل ضمن إطار التجمعات ( المدنية ) حمال أوجه ، فى عصر العولمة الرأسمالية . فمن وجه أول ، يمكن أن يتحول هذا العمل إلى مجرد خط احتياطى من خطوط الحركة لقوى العولمة ا لرأسمالية" المشخصة"، – إذا صح هذا التعبير –اى لأجهزة الدول والشركات الكبرى فى العالم الرأسمالى المركزى بقيادة أمريكا ، وخاصة فى حالة التمويل الأجنبى المباشر أو غير المباشر لذلك العمل . ولكن فى الجهة المقابلة ، فإن العمل ( المدنى )-فى حال تفرعه عن حركة سياسية وطنية نشيطة ،يمكن أن يكون رافدا من روافدبناء ( القوة الشعبية )-على المستوى الأهلى القاعدى ، اى عند ( الجذور )Grass-roots . وفى هذه الحالة يسترد المجتمع المدنى معناه الحقيقى ، حتى فى الإطار التداولى –اللغوى للمصطلح فى الثقافة الغربية نفسها . فقد ظهر المصطلح تاريخيا –فيما يبدو- ضمن إطار التقابل بين المجال الدينى فى أوربا الحديثة والمجال السياسى ، الذى عرّف إلى حد كبير باعتباره نشاط الحكومة والذى كان يفترض حينذاك بأنه يعبر عن " الشعب "-فى الديموقراطية " الليبرالية الوليدة خلال القرن الثامن عشر ( انظر جون لوك : الحكومة المدنية ) . ولكن خلال نصف القرن الأخير أخذ المصطلح يغتنى بمصادر غير ليبرالية تقليدية، فأصبح ينصرف إلى حد كبير نحو تمثيل المجتمع المدنى –بمعنى " الأهلى "-فىمقابل الحكومة ( وإن كان ليس بالضرورة ضدها) .
    وأخيرا أصبح المصطلح أكثر تعبيراعن الحركة فى ( المجال الاجتماعى –بالمعنى الضيق ) وبعيدا عن(
    المجال السياسى-المباشر ) والذى تعبر عنه الأحزاب والمنظمات السياسية .
    ولابأس..! بل مرحى ..! فالعمل الأهلى عند الجذور يمكن ان يكون مدخلا بالغ الفاعلية لبناء الحركة الوطنية والقوة السياسية الشعبية . ويقتضى إعمال هذا المدخل أن تعطى الأولوية لعملية البناء المذكورة، والتى تمثل الشرط ( الضرورى ) وربما ( الكافى ) لتأسيس الديموقراطية الشعبية الحقيقية فى المستقبل ..!

    2-الحركة النسوية. وأطلق البعض عليهامسمى (الحركة النسوانية )FEMINISM وقد نشأت هذه الحركة أصلا فى الدول الغربية ،وخاصة فى أمريكا ، تعبيرا عن مشكلات وحاجات التطور الاجتماعى فيهاعبر مدارج الانتقال على مدارج الحداثة ومابعدها ، وفى ظل المنظور الرأسمالى للصراعات الاجتماعية،وفى الأطارالثقافى
    القائم على نظرة معينة للعلاقة بين الدين والمجتمع تحت لواء العلمانية الغربية .
    وتحاول أجهزة الثقافة والسياسة الغربية والأمريكيةجاهدةنقل آخر ماوصلت اليه حركة (تحرر) المراة فى الغرب وأمريكاالى أبناء الحضارات الأخرى ولاسيما الحضارة الأسلامية, انتهاءبالحركة النسوية. وتنظر هذه الحركة الى تحرر المراة باعتباره فى الأسا س تحررا من الرجل او من سيطرة الرجل ..اومن المجتمع الذكورى بشكل عام . والحق ان هذه قضية فى بلادنا بالغة الجدية والخطر . فالمرأة –من جوانب عديدة _لاتحتل المكانة التى تستحقها ، وتعانى من ظلم او حرمان لاتستحقه. ولكن كل هذا لايحدث لها باعتبارها " امرأة " ، او هو لايحدث لهذا السبب فقط . وانما يكمن السبب الجذرى لدونية وضع المرأة فى بعض الجوانب منطبيعة النظام الاجتماعى نفسه ، والذى تسبب دائما فى اكبر معاناة للرجل نفسه . أن شح الموارد و (صعوبة ) "العمل "فىانشطة الصيد والمطاردةثم فلاحة الأرض، وفى الثورة الصناعية الأولىقد مكن لصيغة معينة لتقسيم العمل الاجتماعى على أساس النوع ، كان من شأنها الأضرار بمركز المرأة الاجتماعى من جوانب معينة. وقد تسبب الظلم الاجتماعى الملازم للصيغة الراسماليةلأسلوب الأنتاج، والمظالم القومية والطبقية المتولدة عن الاستعمار –فى تدهور هذا المركز فى حالات عديدة . ولقد لعبت الطبيعة الجسدية للمرأة فىغير صالحها ،من حيث تراتبية العلاقة بينها وبين الرجل فى كثير من الأحيان . ومارست المرأة" آليات تعويضية " عديدة للتخفيف من وطأة الطبيعة ، أو لتحويل نقمتها أحيانا ألى نعمة ، ولو بالمفهوم الجزئى . ولكن شعور المرأة بالغبن ظل قائما ، ثم تعمق فى ظل المكتسبات الحضارية الحديثة ، وخاصة من جراء التوسع فى فرص التعليم والعمل بأجر .
    وقد جاءت الثورة العلمية والتكنولوجية لما بعد الحرب العالمية الثانية فأوجدت لأول مرة فى التاريخ البشرى أمكانية القضاء على الشعور بالغبن لدى المرأة ، بصفةكاملة ونهائية ، وذلك بواسطة التغيير فى طريقة الانتاج
    : بالتحول من الأنتاج الالعضلى والعمل ( المميكن ) ألى العمل الذهنى بصفة خالصة او شبه خالصة . وعلى هذه القاعدة الجديدةيمكن أن توجد لأول مرة الشروط الاقتصادية والاجتماعية للمساواة الكاملة بين الجنسين، انطلاقا من عملية العمل .
    ولكن هنا بالذات اخذت تتغير قواعد اللعبة .فتحقيق التحرر للمرأة (والرجل ) من خلال عملية العمل ، يقتضى تغيير شروط العمل ننفسه ، وبالتالى تغيير أسس تقسيم العمل الاجتماعىبما قد يعنيه ذلك فى المدى الطويل من تغيير النظام الاجتماعى بالذات . وبعبارة صريحة ،فأن انطلاق العمل الذهنى الخلاق ، بصفة كاملة ، يقتضى ان تتغير صيغة توزيع القيمة ، أى طريقة اقتسام عائد العمل الاجتماعى ، مما قد يؤدى ألى الغاء نظام الأجرة نفسه ، أو (العمل الماجور ) ، ونهاية القسمة التقليدية لأسلوب الأ نتاج الرأسمالى بين عنصرى العمل ورأس المال- لصالح العمل بالطبع ، اى بألغاء الملكية الرأسمالية لوسائل الأنتاج. وفى جملة واحدة :انتهاء النظام الرأسمالى عبر الزمن .
    ولقد اختارت الرأسمالية ألا تضحى بنفسها . واختارت ان تضحى بالمرأة . ضحت بها فى عصر الثورة العلمية التكنولوجية ، كما ضحت بها سابقا ، ولكن بصورة مختلفة ، فى عصر الثورة الصناعية الأولى فى القرن التاسع عشر .
    واخذت ( الأضحية ) الجديدة شكل حركة جديدة للمراة . حركة لاتضع نصب عينيها استكمال تحرير المراة انطلاقا من عملية الأنتاج والعمل ، أى على قاعدة الصراع حول صيغة اقتسام العوائد.وانما تضع نصب عينيها
    خلق (وهم التحرر)، على قاعدة خوض الصراع ضد كائن آخر اسمه الرجل ..!
    وهكذا بدلا من ان يتضامن الرجل والمراة ضد الرأسمالية ، تدفع الراسمالية بهما كليهما فى معركة خاسرة لهما معا، وبدلا من ان تكون لعبتهما هى العمل (حيث يتلاشى الفرق فى العصر التكنولوجى بين العمل واللعب)- أذا بالمراة تصبح لعبتها الرجل ، ويصبح الرجل لعبته المرأة ..!الراسمالية اذن انحرفت بالنضال النسوى من أرضية العمل ألى ارضية الجنس أو النوع او ( الجندر ) كما يقولون هذه الأيام .!
    وأما جدول أعمال ( الجندر ) – كما نقلت بواسطة الوكالات الأمريكية والأمم المتحدة _فهو يتضمن طيفا عريضا من القضايا ،ابتداء من أعطاء بطاقة الأنتخاب للفقيرات قبل رغيف الخبز ، وانتهاء بختان الأناث ..
    وبذا تتم محاولة أعادة تشكيل الحركة النسائية .
    ولكن حديث اعادة تشكيل ا الحركات الاجتماعية لم ينته بعد .

    3-التعامل مع شعار (تداول السلطة ) :
    أن تداول السلطة وفق المفهوم الراديكالى للديموقراطية هو الأمر الطبيعى المعبرعن انتقال عملبة توجيه دفة الحكم من قوة او تشكيلة اجتماعية معينة ألى أخرى ، على سلم التطور الاجتماعى الارتقائى للمجتمع . وبهذا
    المعنى ، فان التطور الديموقراطى هو جزءلايتجزأمن مسيرة الكفاح الاجتماعى ككل _على الصعيد القومى،او التجمع النوعى عموما، وصعيد التطور الطبقى والروحى-وذلك سعيا نحو رفع ا لوزن النسبى بصورة جذرية
    لقوى الغالبية الاجتماعية المنتجة .
    هذا هو المفهوم الذى يمكن أن يعبر عن(عولمة الشعوب ) . ولكن قوى العولمة الرأسمالية وخاصة الأمريكية تروج مفهوما آخر..هو تداول السلطة داخل وبين النخب المسيطرة بالفعل .
    وتظل معادلة العلاقة بين (الحكم الاستبدادى) و(الحكم المنفتح ) تمثل عقدة مستعصية أمام القائمين على عملية صنع السياسة الخارجية الامريكية . ففى عصر ازدهار حركة التحررالوطنى فى (العالم الثالث )فى الخمسينات والستينات ومطلع السبعينات من القرن المنصرم ، استقر قرار الدوئر الأمريكية الحاكمة بالذات على الدعم غير المشروط للأنظمة الأكثر استبدادية فى ذلك العالم الثالث مثل ا لأنظمة العسكرية فىالبرازيل والأرجنتين والمكسيك فى الستينات ، والتخطيط لانقلاب ( بينوشيه) فىشيلى عام 1973 –عدا عن ( الأنظمة العميلة ) فيما سمى (جمهوريات الموز)فى منطقة الكاريبى . وهذه الأمثلة من أمريكا اللاتينيةوالتى تعرف بانها ( الفناء الخلفى ) للولايات المتحدة الأمريكية ، والتى سعت دائما الى ان تطبق عليها السياسات الاستعمارية التقليدية، سواء عن طريق الحروب المستمرة ( مع أسبانيا والمكسيك .الخ )اوسياسة مناطق النفوذ ( بمقتضى ما يسمى " مبدأ مونرو "). ولكن الحال لم يختلف ايضا فى حالة آسيا: شرقيها (شيانج كاى شيك فىتايوان ،وبارك شونج فى كوريا الجنوبية، وسوهارتو فى اندونيسيا، وماركوس فى الفيليبين.الخ) وغربيها ( النظام الشاهنشاهى فى ايران، وبعض الأنظمة التقليدية فى المنطقة العربية ) . كما تنطبق نفس القاعدة على افريقيا
    ، من خلال تبنى الأنظمة العسكرية التى قامت أثر الانقلابات على انظمة التحرر الوطنى مثلما حدث فى غانا بعد نكروما ، وفى الكونغو بعد لومومبا..الخ .
    ولكن هذه الأنظمة التى كانت (مفيدة) جدا للأمريكيين فى عصر ازدهار حركة التحرر الوطنى ، ولعبت بالفعل
    دورا أى دور ضمن الاستراتيجية الأمريكية لمحاصرة السوفييت وقمع بل ومحاولة وأد حركة التحرر الوطنى-
    أن هذه الأنظمة أصبحت تمثل عبئا ثقيلا على أمريكا نفسها، وخاصة بعد أن ( اختفى ) عدوها المزدوج : السوفييت وحركة التحرر الوطنى ،وذلك بمناسبة الحدث المزدوج لعام 1991 :انهيار الاتحاد السوفييتى وحرب الخليج الثانية . وفى تلك اللحظة بالذات أعلن الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب قيام( النظام الدولى
    الجديد ). واحتاج الأمر برهة تاريخية لكى تعلن النخبة الأمريكية على اوسع نطاق فى عهد خليفته كلينتون
    اسما(تجاريا ) لهذا النظام . هذا الاسم هو (العولمة ) ..!
    ومذذاك تغيرت قواعد اللعبة لدى صانعى السياسة الخارجية الأمريكية ، وخاصة على مستوى العالم الثالث (السابق ). لقد أصبح الاسم الرمزى او (الكودى ) للسياسة الدولية للعولمة هو : الديموقراطية.
    وبعدها أخذ الجميع يتصايحون : الديموقراطية . . الديموقراطية .! ليس للتخويف كما فى شعار ( الذئب ..الذئب .!) ولكن للترحيب والمباركة .
    ولكن كيف تقوم الديموقراطية ؟ ذلك عن طريق تداول السلطة .(وايضا عن طريق حركة المجتمع المدنى والنسوية وحقوق الأنسان..! ) .
    فما المدلول السياسى لتداول السلطة فى اطار العولمة .. العولمة الرأسمالية ؟
    يتحدد هذا المدلول فى بعدين، من وجهة النظر الأمريكية بالذات ، وهما الاحتواء واتنفكيك .
    فأما الاحتواء فيقصدبه العمل على احتضان التيارات الجديدة والمتجددة الساعية الىممارسة الحق الطبيعى للانخراط فى عملية السلطة ، للتعبير عن ،أو لتمثيل قوى اجتماعية معينة . ان هذه التيرات اذا تركت لحركتها الحرة ، وفى اطار التفاعل الاجتماعى ( الصحى )بين الطبقات والفئات الاجتماعية وبين الرجل والمرأة وبين مختلف الأجيال ، يمكن أن تسفر عن بلورة شكل معين من أشكال ( عولمة الشعوب ) – ومن ثم يجب القضاء عليها ، او محاصرتها أو احتواؤها على الأقل ، من وجهة نظر قوى العولمة الرأسمالية .
    ويمكن ان يلعب شعار تداول السلطة دورا فعالا فى هذا المجال ، عن طريق استبعاد التيارات المذكورة من طرق النضال الراديكالى للمشاركة فى حركة عالمية للبحث عن البديل الأنسانى للرأسمالية ، ومحاولة ادماجها فى دورة الممارسة الشكلية لعملية الحكم .
    هذا عن الاحتواء . اما عن التفكيك فهو يمكن أن يتحقق بكل سهولة عن طريق التلاعب المحلى والخارجى بمتغيرات العلاقات السياسية الداخلية، مما يتيح الفرصة لأكبر قوة عالمية يمكن أن( تدس أنفها ) فى صميم الشئون المحلية للدول الصغيرة والمتوسطة ، وهىقوة أمريكا ، من أجل ( احتلال ) مكان ما داخل الخريطة السياسية الداخلية ، اما من خلال سياسة ( فرق تسد ) أو من خلال لعب دور الحكم بين القوى السياسية المحلية نفسها ..! وهذا ما حدث ويحدث بالفعل فى أحيان وأحوال كثيرة .

    أما اذا كانت التشكيلة السياسية القائمة برمتها لاتروق للرأسمالية الأمريكية او لبعض شرائحها ( المجنونة ) فان هذه لاتتورع عن خلع رداء العولمة كله , وان تقلب لها ظهر المجن ، كما يقولون ، وان تتحول ببساطة ، او بصعوبة .!- الى ( اللاعولمة )حتى ولو تم ذلك عن طريق التدخل العسكرى او الحرب المسلحة واسعة النطاق ، تحت أى ذريعة ، بما فى ذلك نزع أسلحة التدمير الشامل ، أو حتى البحث عنها ليس غير ..!
    ولكن هذا كله لا يستنفد حقيقة التفكيك .. اذ تتطلع قوى ( العولمة واللاعولمة ) الرأسمالية الى هدف أبعد
    اذا لم يكن له بديل من وجهة نظر مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية ( وغيرها .!)- وهذا الهدف ، ذو الطبيعة الاحتياطية ، هو تفكيك البنية الاجتماعية نفسها ، او النسيج الاجتماعى كما يقولون . . وذلك من مدخل تداول السلطة ومن مداخل أخرى .
    غير أن طغيان المفهوم العولمى –الأمريكى لتداول السلطة السياسية على مستوى الفكر والحركة العالمية ، بأبعاده السلبية المشار إليها ،لايعنى استنفاد الجدل حول حقيقة تداول السلطة . ذلك أن الرفض المطلق او ( المجانى )للعمل من أجل تداول السلطة ، من حيث المبدأ وفى جميع الأحوال ، قد يعنى التخلى _ دون مقابل-عن أحد أساليب العمل ، بله النضال، السياسى الضرورى . ويتوقف الأمر فى جميع الأحوال على الإطار الذى يمارس فيه العمل . فإذا تمت الممارسة فى ( الفراغ ) –الفراغ السياسى – فإنها لن تؤدى فى الغالب إلى أكثر من أداء ( تمارين ) سياسية تصل فى افضل أحوالها إلى ما يسمى –فى دراسات النظم السياسية – بظاهرة " دوران النخبة " ، بالأحرى " إعادة تدوير النخبة "، حيث تتكرر أنماط الممارسة رغم تغير الوجوه . وفى الأغلب سوف تكون هذه مصحوبة بظاهرة أخرىتسمى " تشرذم النخبة "- كأثر للتكالب على مقاعد الحكم .
    أما إذا كان العمل السياسى يتم فى إطار حركة وطنية، فعالة نسبيا وذات أفق اجتماعى متطور ، فحينئذ يمكن ان يكون العمل فى تداول السلطة أحد الأدوات العديدة –أو الكثيرة- التى تلجأ إليها تلك الحركة من اجل قلب اتجاه التداول عكس ما تخطط له العولمة الرأسمالية ، وبالتالى يصب فيما يمكن أن يعتبرمعززا لما أطلقنا عليه " عولمة الشعوب " .
    4- حقوق الأنسان .
    ترجع الفلسفة المعاصرة لحقوق الأنسان فى لثقافة الغربيةومن ثم العالميةالى الاطار الفكرى للثورة الفرنسية ( 1789 ) والذى تمت ترجمته من خلال ( الاعلان العالمى لحقوق الأنسان ) لعام1948 ، كجزء من الصياغة العالمية لعصر التنظيم الدولى والقانون الدولى ، تحت مظلة منظومة الأمم المتحدة
    ورغم ان الحضارة العربية الأسلامية، وخاصة فى حقبة الازدهار (600-1258م) ،قد شهدت تبلور صيغة حضارية –انسانية ارقى نسبيا مما سبقها وعاصرها من حضارات ، الا ان حقبة ( الانقطاع الحضارى) التى أعقبتها والتىامتدت حتى تباشير التجديد الدينى والأدبى والاجتماعى والسياسى فى اواسط القرن الثامن عشر
    قد ألقت بظلالها على الوطن العربى فى اطار من الموجة الاستعمارية الكثيفةبعدذلك ، حتى عاودهذا الوطن النهوض البطىءمن خلال الاستئناف –المتردد- للتطور الحضارى حتىالآن . وقد جاءت المشاركة فىعصر التنظيم الدولى والقانون الدولى بعد الحرب العالمية الثانية لتضيف مددا ألى حركة التحررالقومى العربيةحتى مطلع السبعينات من القرن المنصرم. وفى ظل اانحسار هذه الحركة _ مع انحسار كامل حركة التطور الوطنى فى العالم الثالث –أصبح تمسك الحركات الوطنية الشعبية بمبادىء الأعلان العالمى لحقوق الأنسان والوثائق المكملة له ، اكثر أهمية مما سبق . فقد استطاعت معظم الأنظمة العربيةان تستثمر أجواء الأزمةالاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وأن تنتهج آليات لأدارة الأزمة ، فى ظل تصاعد ممارسات العنف من جانب جماعات متمردة ،كان من شأنها ( عسكرة ) هذه الأنظمة او تشديد العسكرة ان وجدت . وفى أجواء العسكرة انقسمت الأنظمة الى قسمين ، أحدهما لايبالى بتزايد حدة الأزمة ، بل وبتعمق أزمة شرعيته القانونية والسياسية ،واخذ يما رس السلطةمع أدنى حد ممكن من التفتح ، سواء تمت هذه الممارسة فى الأطار التقليدى والدينى او فى الاطار ( الثوروى ) الحديث . واما القسم الثانى فقد أخذ ( يجارى ) الموجة القادمة من اتجاهات متعددة والتى تدعو الى الأخذ بعين الاعتبار ضرورة تحقيق درجة معينة من التفتح فى اطار مايسمى بالتعددية السياسية .، من مقيدة نسبيا أو مفتوحة (نسبيا . . أيضا ) . وفى جميع الأحوال كانت عسكرة الحكم هى السمة السائدة . وقد وجدت أمريكا نفسها فى ورطة . فهى منغمسة حتى أ ذنيها فى اللعبة السياسية فى كل بلد على حده ، باعتبارها ( رجل الجندرمة ) العالمى . وقد رأت أن مسألة حقوق الأنسان يمكن أن تحل لها مشكلة ، أذا هى جعلتها أحد الموجهات الأساسية للسياسة الخارجية . ، سواء فى ظل العولمة او بدونها ،أى اللاعولمة .
    فهى تصلح ذريعة ، وتصلح( تكأة )، وفى النهاية تحقق الهدف . فأما أنها ذريعة، فهذا مايصلح للتعامل مع الحكومات ، حيث تستخدم تلك المسألة دائما مثل (فزاعة ) ، وبطريقة انتقائية متقنة .
    وأما انها( تكأة) فان هذا يصلح للتعامل مع الحركات الشعبية لحقوق الأنسان من اجل احتوائها ، حالة بحالة .
    وأما أنها يمكن أن تحقق الهدف ، فأن هذا يفترض أن يتم من خلال استراتيجية التفكيك .وقد أسلفنا عنهاالحديث.
    ولاشك ان الموقف الأمريكى ، قائد العولمة واللاعولمة الرأسمالية، يضع الحركات الشعبية لحقوق الأنسان
    فى ركن شديد . ويمكن لها أن تخرج من هذا المأزق فى حال نشوء وتبلور حركة وطنية حقيقية توزع الأدوار بين أطرافها بشكل فعال .وحينذاك يصبح افضل دور يمكن أن يوكل ألى منظمات حقوق الأنسان هو تجريدالأنظمة المعسكرة من القدرة على ممارسة التعذيب بكافة صوره ضد ( المواطنين ) ، وفى الحد الأدنى :
    مناهضة التعذيب .
    وهذه ساحة اخرى مفتوحة لممارسة الجدل الاجتماعى بين العولمة واللاعولمة الرأسمالية من جانب ، والعولمة
    واللاعولمة الشعبية من جانب آخر ..!

    وفى الأخير ، فىنهاية هذا الحديث المسهب نسبيا عن إعادة تشكيل أو هيكلة الحركات الاجتماعية فى ظل العولمة والعولمة المضادة ، نجد أنفسنا أمام حقيقة اساسية ربما تتمثل فى مأزق : إن العناصر الفعالة من النخب الثقافية والسياسية تواجه معضلة بالغة التعقيدعند التفتيش عن أسلوب ملائم وربما ممكن واقعيا فى ضوء تشديد عسكرة النظم السياسية ( العربية..مثلا ) , وميل هذه النظم إلى ملء شواغر السلطة والحكم باكثر الفئات والأفراد موالاة لها , ومن ثم حجب فرص النشاط فى ( المجال السياسى ) أمام ( الآخرين ) . وحينئذ لايجد أولئك الآخرون منفذا أمامهم للعمل فى المسألة الاجتماعية ومسألة السلطة سوى الالتجاء إلى تلك الحركات النى تجرى إعادة هيكلتها بهمة ونشاط .! فما العمل .؟
    وبالفعل فإنا نجد فى بعض البلدان مثل مصر العربية أن عناصر النخبة قد امتلأت بها الحركات الاجتماعية والسياسية امتلاء ، على اختلاف بينها فى مسار العلاقة بالقوة الشعبية والأطراف الأجنبية . ونرى أن الطاقات الهائلة التى تختزنها القوى ذات البعد الوطنى الاجتماعى الحقيقى يجب أن توجه إلى ( إعادة هيكلة ) ممارساتها باتجاه توظيف نشاطها الغامر متعدد القنوات ( من قناة الحركة النسائية إلى حركة المجتمع المدنى إلى النشاط فى حقل حقوق الإنسان ، بل وفى بعض الأطر السياسيةالعاملة على قضية السلطة )_ من اجل ( إعادة بناء ) الحركة الوطنية الاجتماعية ، فى افق المستقبل . وهذه مهمة كفاحية تاريخية ، تستحق جدالا ثريا فى مقامات أخرى .
    وعل سبيل افتتاح مثل هذا الجدال فقط ، نقول إن المهمة الرئيسية لعناصر النخبة الملتزمة اجتماعيا هى المساهمة الفاعلة فىبناء القدرات الذاتيةللقوى الشعبية فى مضمار التفاعلات الاجتماعية ، الصراعية وغير الصراعية ، وعيا فكريا وتنظيما مؤسسيا . وفى المقدمة من عناصر هذه المهمة ، بناء المظمات العمالية والفلاحية المستقلة , وتلاحمها مع المؤسسات المهنية والسياسية التى تكونها أو تقودها عناصر( الإنتلجنسيا) من أجل بناء اتحاد تاريخى للقوى أو القوات الشعبية . ومن خلال عملية البناء هذه لابد أن تتعرف القوى المنتجة والقابعة على الدرجات الدنيا من سلم الدخل – على نفسها . . وبالتعبير الماركسى التقليدى ، تتحول هذه القوى تدريجيا من( طبقات فىذاتها ) إلى( طبقات لذاتها )- أى تكتسب الوعى والمقدرة ، على خوض العملية العسيرة والمعقدة للكفاح والصراع الاجتماعى ، وبالتالى تضع ( قائمة مطالبها التاريخية ) – بقوة- على طاولة الجدل والجدال الاجتماعى ، ومن ثم العمل بكل الأساليب على تحقيقها فى إطار اتحاد القوى الشعبية
    أو كما يقول البعض :التحالف الوطنى الشعبى ، أو حتى : تحالف قوى الشعب العاملة .
    وبهذ يمكن إرساء التمهيد التاريخى من أجل ولادة صيغة حقيقية للديموقراطية الشعبية ، المتطورة جدليا عبر التاريخ ، أو الديموقراطية –الاشتراكية ، إن شئت ؛ أو: الاشتراكية-الديموقراطية ..ولم لا..؟




    ثالثا فورة العرقيات مقابل بناء الأمة .
    تمثل قضية ( الأمة والدولة والعلاقة بينهما ) واحدة من أهم القضايا التى واجهت الأنسانية فى العصر الحديث .وقد حلت أوربا العقدة المستعصية لهذه القضية من خلال المسار الخاص لتطورها الاجتماعى فى وقت مبكروبصورة تدريجية انتهت الى ما يعرف بصيغة ( الدولة-الأمة ) او " الدولة القومية ". وهكذا تكونت أوربا سياسيا على هيئة عقد متناثر الحبات من الدول القومية أو السائرة على طريق التشكل القومى ، مكونة فى نفس الوقت نوعا من " المنتظم الدولى " القائم على ما يعرف بالسياسة التقليدية لتوازن القوى ، مع وجود دولة معينة تسمى ( الأولى بين المتساوين ) بحكم تفوقها النسبى ، مما يسمح لهابأداء دور يعرف ب ( حافظ التوازن )- وكانت هذه الدولة هى بريطانيا . وقد تأسس المنتظم الدولى الأوربى على قاعدة قانونية شارعة هى المعاهدات الدولية ، والتى تمثلت فى معاهدة وستفاليا عام 1648 ومعاهدة أوترخت عام 1713 ومعاهدة فيينا لعام 1815 . ولاريب أن هذا ( النظام الدولى الأوربى الأقليمى ) كان يمثل الأداة السياسية والتنظيمية التى مكنت أوربا من تأسيس نظام استعمارى عالمى وانتهاج سياسة استعمارية مستمرة على مدى ثلاثة قرون على الأقل تجاه أفريقيا وآسيا والأمريكتين (مع اختلاف فى المدى الزمنى بين هذه القارات ) .
    وقد حذت أمريكا الشمالية حذو أوربا الغربية ، وخاصة بعد استقلال الولايات المتحدة عام 1776 حيث عمل مؤسسوها على اقامة دولة ( توسعت تدريجيا ) ومحاولة أقامة ( أمة من المهاجرين ) تتشكل من أفراد وجماعات لايجمعهم ويجمعهاإلا حلم الثراء الاقتصادى ، وحيث تصبح الدولة بمثابة ( مشروع رأسمالى قومى).
    انطلاقا من هذه الخبرة التاريخية الساسية الغربية الخاصة جدا أخذ علم السياسة الأمريكى بعد الحرب العالمية الثانية يطور مجالا خاصا للبحث فى التطور السياسى للبلدان المستقلة حديثا فى افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية . وشمل هذا المجال فرعا مستقلا من فروع العلوم السياسية ، ضمن شجرة النظم السياسية والسياسات المقارنة .وقد انصبت أهم مقولات الفرع العلمى الجديد على جملة قضايا ، أبرزها : المشاركة السياسية ،والاستقرار السياسى، وبناء الأمة .
    ولكن علم السياسة الأمريكى ،بشكل عام أو" تعميمى" ، علم وضعى الطابع ، امبيريقى المنهج، سلوكى أو (
    مابعد سلوكى ) من حيث المدرسة الفكرية .
    ولذلك انحصر الجهد الفكرى لعلماء السياسة الأمريكيين فى الخمسينات والستينات وأوائل السبعينات من القرن المنصرم على مفهوم النظام أو ( النسق ) ثم التغير التدريجى فى هذا الأطار . ومن ثم كانت فكرة الثورة والتغيير الثورى والتحرر الوطنى الجذرى والتنمية الشاملة والعدل الاجتماعى العميق _ بعيدة كل البعد عن اهتمامات علم السياسة الأمريكى .
    وفى هذالأطار جاء اهتمامهم بموضوعة الدولة والأمة والدولة-الأمة . فانطلاقا من الخبرة السياسية الغربية _كما أسلفنا_ أخذ الفكر السياسى الأمريكى فى التنظيرلبناء الدولة وبناء الأمة وفق المفهوم الغربى والأمريكى . الدولة هنا هى الدولة ( الليبرالية-اقتصاديا وسياسيا ) ، وهى جزء بالتالى من العالم ( الليبرالى ) المسمى بالعالم الحر .! وهو المصطلح الرمزى لمعاداة السوفييت . . او هى –بتعبير رواد مدرسة مقاومة التبعية مثل سمير أمين _ دولة تابعة . أما الأمة فهى ليست أمة بالمعنى الرحيب المستمد من مجمل الخبرة الأنسانية ، ولكنها ، بالمدلول الغربى-الأمريكى " أمة الدولة " ، أى الشعب الذى تصادف ان سكن الأرض المقامة عليها الدولة.!مثلما تصادف ان سكن الأمريكيون على تلك الأرض .!
    ومن هنا ينزع البعد التاريخى عن مسألة الأمة ، أى بعد الماضى والمستقبل . ففىالعالم السياسى العربى مثلا _ من وجهة النظر المفترضة لعلم السياسى الأمريكى –ربما لاتوجد أمة عربية فى التاريخ ، امة تكونت فى الماضى . فالمهم – عندهم- أن وجدت دول عربية . ومن ثم فان رابطة التضامن القومى فى أطار المنتظم السياسى العربى غير قائمة ، أو أن الأمر ( الطبيعى ) ألا تكون قائمة.
    هذاعن الماضى فى التاريخ القومى . أما عن المستقبل فيأتى مثاله من أفريقيا . وفى هذا السياق ، ليس المهم ، من وجهة النظر المفترضة لعلم السياسة الأمريكى ، أن تتشكل الأمم الأفريقية من رحم التكوينات القبلية المتجانسة ، ذات الأطار الحضارى الثرى فى ظل مضامين التاريخ الأسلامى الأفريقى والأديان الطبيعية – ليس ذلك كله مهما . وأنما المهم هوالحشد والتعبئة السياسية من وراء مقولة " الشعب "، شعب الدولة .

    فى هذا السياق تم تمجيد الدولة وتعظيم مبدأ السيادة ، سيادة الدولة –الدولة الليبرلية و( الحرة .!) على أى حال .
    ولكن مع التدهور التدريجى لحركة التحرر الوطنى فى العالم الثالث ، منذ اواخر السبعينات ، اخذت تتوارى تدريجيا أفكار تمجيد الدولة فى العالم الثالث وتعظيم سيادتها وخاصة على مواردها الطبيعية ، وبالأخص موارد الطاقة والنفط .!
    ومع الحدث ( الدراماتيكى ) المزدوج لعام 1991 _كما أشرنا سابقا – وظهور الفكرة الأمريكية حول ( النظام الدولى الجديد) ثم انبثاق دعوة العولمة ، اخذت تتخلق فى الفكر الأمريكى والغربى والعالمى فكرتان : ان الدولة المشار اليها ينبغى ان تكون ليبرالية –قلبا وقالبا ، كما يقال . وقد عبر عن ذلك جماعة ( الليبراليين الجدد ) فى امريكا وأوربا . وكانت شهرتهم فى ذلك الوقت ( اوائل التسعينات وأواسطها بل واواخرها أيضا )
    توازى شهرة ( المحافظين الجدد – المجانين ) الآن ( 2003 ).! . هذا كله من جهة أولى . ومن جهة ثانية ، فقد قيل ان سيادة الدولة هى مفهوم عفا عليه الزمن .! وكان ذلك فى الحقيقة تبريرا مخاتلا لتعاظم نفوذ الشركات عابرة الجنسيات واعتدائها المنظم والمنهجى على سيادة- او سيادات.!_ الدول الصغيرة والمتوسطة المضيفة لها . كما كان تبريرا أيضا للتدخل العسكرى لأمريكا ومن بعدها أوربا فى الدول الأخرى ، ولو تحت مسمى ( التدخل الأنسانى )- وهو ما أطلق عليه " عسكرة العولمة " .
    كانت سيادة الدول الصغيرة والمتوسطة تتناقص ، وتقص أجنحتها ، ويقنعون النخب المتخاذلة فيها بالتخلى عن مفردات الخطاب الوطنى والقومى ، بينما كانت أمريكا بالذات تتحول حثيثا الى مزرعة سياسية لحفنة من تحالف اليمين الدينى المسيحى- الصهيونى والاتجاه المحافظ الجديدتحت راية النزعة المغالية فى ( الوطنية-العنصرية ) .
    ومع انحسار الظل الرسمى للعولمة ، وخاصة بعد ما عرف بأحداث الحادى عشر من سبتمبر ، ظهر أن وراء الأكمة ماوراءها ، كما يقولون .!
    الدولة عندهم إما ان تكون ليبرالية وإلا فلا .. وبما أن الدولة – فى العالم الأسلامى والعربى بالذات - لم تنجح فى تطبيق ( الوصفة اليبرالية ) على المقاييس الأمريكية ، أى هى ، بالمصطلح الرسمى الأمريكى ، "دولة فاشلة " فهى لا تستحق أن تعامل كدولة ذات سيادة .
    أما اذا كانت حاولت ان تمارس سيادتها فى وجه أمريكا مباشرة فهى ، بالمصطلح الرسمى الأمريكى أيضا ،
    تسمى ، وتعتبر ، " دولة مارقة " أو " خارجة على القانون " .
    اما إذا كانت تلك المحاولة من هذه الدولة محاولة مسلحة ، ولو فى وقت سابق ، فحينئذ يطبق عليها نموذج
    العراق لعام 2003..!
    ان هذا هو أسلوب التعامل الأمريكى مع مفهوم الدولة وسيادة الدولة فى ظل ( اللاعولمة ) . فماذا عن أسلوب التعامل مع مفهوم الأمة ؟
    هنا يجرى التلاعب بالمكونات القومية أيما تلاعب . فمع أعادة تشكيل الدول يعاد النظر فى الأساس القومى للدولة نفسها . هنا يكف مفهوم ( بناء الأمة ) عن السريان كأساس للدولة – فليس المهم تعميق التجانس وبناء صيغة للتكامل الوطنى-القومى . بل المهم هو العكس .! أىأعادة بناء الدولة على أساس ( الشتات التقليدى ) ، أى على أساس الانقسامات الفرعية : القبلية والطائفية والعرقية والمناطقية ..الخ .

    ان ( فورة الأثنيات-أو العرقيات ) التى برزت بعد تحلل( المادة اللاصقة) للنظام الدولى عام 1991 تحل محلها الآن صيغة هجين ل( نظام الدول ) .. ما بين دول ملفقة صنعت على عجل ، او فى حالات اخرى: هدمت على عجل أيضا ( فى أوربا الشرقية والبلقان وآسيا الوسطى ) .وما بين دول تحللت او يجرى تحللها على مهل (فى القرن الأفريقى ووسط أفريقيا وربما غربها ) .. ودول يرادلها عبثا أمريكيا ان يعاد بناؤها من الشتات العرقى والطائفى ( العراق العربى ..الخ ) .. او دول يريدون تغيير الأنظمة السياسية فيها قسرا ..
    انها ظروف تشبه تلك التى سادت قبل الحرب العالمية الأولى وقبل الحرب العالمية الثانية – فهل تسوقنا الرأسمالية العالمية ألى حرب عالمية جديدة – وهذه المرة على أيدى طغمة أمريكية معادية للأنسانية الحقيقية ؟
    أم سوف تسارع قوى ( الخير ) فى أمريكا وأوربا والعالم إ لى إنقاذ البشريةمن ( امبراطورية الشر ) ..؟





     . والآن نكون قد تناولنا بالتفصيل النسبى أهم ثلاث قضايا على جدول الأعمال الاجتماعى-الثقافىللعولمة ، وهى: النزوع إلى التنميط ، وإعادة هيكلة الحركات الاجتماعية ، واستغلال فورة العرقيات بدلا من بناء الأمم . وبذلك نجد الطريق ممهدة أمامنا إلى حد كبير من أجل معالجة القضايا المتبقية بقدر أكبر من اليسر ، وقدر أقل من الكلمات-فى فقرات محدودةنخصصها لكل منها ؛ مع الإحالة المرجعية ، كلما اقتضى الأمر ، إلى كتابات سابقة لنا فى الخصوص .

    رابعا تعميق الاستقطاب الاجتماعىفى عصر( اقتصاد المعرفة ) و( الانقسام الرقمى ) .
    يقولون – بحق- إن الاقتصاد الحديث يتحول تدريجيا ولكن حثيثا فى الحقبة التاريخية المعاصرة من اقتصاد قائم على الصناعة إلى اقتصاد ( جديد ) ، قيل فى البداية ومنذ أكثر من ثلاثة عقود إنه ( اقتصاد مابعد صناعى ) . ثم قيل فى السبعينات :اقتصاد المعلومات . وفى الثمانينات ومطلع التسعينات قالوا : بل اقتصاد الخدمات ( وخاصة مع مجىء منظمة التجارة العالمية ) . ثم ارتقوا بالمعلومات والخدمات إلى مستوىمحدد وأعلى فقالوافى منتصف التسعينات : اقتصاد المعرفة ( أو الاقتصاد القائم على المعرفة knowledge-based economy وفى آخر المطاف ارتفعوا بالمعرفة إلى نهاية قمتها التكنولوجية فقالوا : هو الاقتصاد الرقمى
    Digital economy أى الاقتصاد القائم على استخدام التكنولوجيا الرقمية فى تصنيع الإلكترونيات الدقيقة .
    وبالاستناد إلى مؤشرات اقتصاد المعرفة قام الاقتصاديون بمحاولات لقياس الفجوة المعرفية ( والرقمية إلى حد كبير ) من خلال بحث حالة التعليم والبحث العلمى ، والاستخدام العمومىلتكنولوجيا المعلومات ممثلة خاصة فى الحاسبات ، وتكنولوجيا الاتصالات ممثلة فى الهواتف ، والتكنولوجيا المعلوماتية- الاتصالية ممثلة فى ( شبكة الشبكات ) او الإنترنت .

    وتشير المعلومات المتاحة إلى أن تعميم آليات العولمة الرأسمالية – ممثلة فى اقتصاد السوق والقطاع الخاص بما فيه الاستثمار الأجنبى – يميل إلى تكريس الانقسام، على الصعيدين المحلى والدولى ، بين من يملكون ومن لا يملكون ، وهو ما أسميناه فى مقام آخر بالاستقطاب المزدوج أو الثنائى .
    ويتسم الاستقطاب الجديد بدخول عامل جديد للتمييز الطبقى على الخط : هو الاختلاف الجذرى بين فئات المجتمع فى مدى الاستفادة من خدمات التعليم والتعليم العالى والتكنولوجيا الحديثة ، او من الأصول المنتجة الجديدة ، الأصول المعرفية . ويؤدى ذلك إلى تكريس الانقسام التاريخى:بين من يملكون أصول الثروة التقليدية ( الأرض ورأس المال ) ومن لا يملكونها – بين الفقراء و الأثرياء .
    وتحاول قوى الرأسمالية العالمية ان تخفف من حدة الآثار المترتبة على إطلاق حرية الحركة لآليات العولمة ،
    وذلك تحت مسميات براقة متعددة بدءً من مواجهة الفقر إلى التنمية البشرية بل و ( الإنسانية .!) . . ولكن ذلك ينبغى ألا يصرف الأنظار عن النتائج المترتبة ، او التى يمكن ان تترتب ، على الحركة الطليقة للشركات عابرة الجنسيات وعملائها المحليين من القطاع الخاص الكبير وزبائنها الكثر من بيروقراطية الحكومة وجهاز المصارف وسماسرة تجارة أجهزة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات .! عدا عن الحركة الطليقةلاقتصاد السوق والقطاع الخاص فى المجالين الحرجين للتعليم والصحة .
    وفى مواجهة هذه النتائج للعولمة الرأسمالية ، تبرز مهام كبرى امام قوى عولمة الشعوب ، على الصعيدين التكتيكى والاستراتيجى ، تبدو كمعارك اجتماعية ، ونذكر منها: معركة مجانية التعليم – ومعركة توفير الدواء
    مع خدمة الوقاية والعلاج للجميع .

    خامسا تشويه الثقافة والفنون السمعية- البصرية
    حفلت الكتابات الاجتماعية والفلسفية ، و خاصة فى أوربا ، وبصفة أخص فى ألمانيا وفرنسا ،بالنقد الموجه على أسس مختلفة إلى الممارسة السائدة فى الغرب فىحقول الثقافة والفن والاتصال بالجماهير . وتركز الجزء الأعلى قيمة فى هذا النقد علىتعميم مبدأ ( المردود) او العائد أو الربح علىجانب النشاط الإبداعى فى هذه الحقول ، وهو ما أطلق عليه أيضا مصطلح ( التسليع )- أى تحويل ما يفترض أنه بمثابة نفحة من نفحات الروح المبدعة إلى مجرد سلعة أو بضاعة تباع وتشترى فى السوق . .وذلك عبر التركيز أساسا على جانبى العنف والجنس من لغة الجسد .
    إن الشركات الخاصة الاحتكارية فى مجالات النشر والصحافة والسينما والإذاعة والتلفزة والتسجيل المرئى والمسموع – فى الولايات المتحدة المريكية قبل كل شىء- هى الفواعل الرأسمالية النشطة على الصعيد العالمى
    كله فى حقول الثقافة والإعلام والفن .
    وقدطغت هذه الفواعل الرأسمالية العملاقة طغيانا تاما على عملية التشكيل " الذهنى – الانفعالى" للإنسان فى المجتمعات الصناعية عموما ، فى مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية – بالتوازى مع تصاعدالإنجاز العلمى – التكنولوجى وخاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية . وسبق ان تناول هذه الظاهرة فى الستينات الفيلسوف الأمريكى ، الماركسى-الفرويدى، من أصل ألمانى هربرت ماركوز، فى مجموعة من كتبه : الإنسان ذو البعد الواحد ، الحب والحضارة ، فلسفة النفى . ولم تزل أفكاره صحيحة فى مجملها : إن النظام الاقتصادى الاجتماعىللرأسمالية أدى ويؤدى إلىما يمكن ان يعتبر تشويها للشخصيةالإنسانية ، وذلك بطمس حقيقة الثراء الحيوى والروحى للإنسان، ومن ثم تحويله إلى إنسان ( ذى بعد واحد ) – عن طريق مايدعوه " آلية الحب المحبط ".وبحيث يتحول الإنسان إلى كائن متكيف مع" مبدأ الواقع" ، وغير قادر على ممارسة وظيفة " التفتح الحيوى " .
    وفى ضوء ذلك تستولى أجهزة النظام على أعين وآ ذان البشر، وعلى عقولهم وقلوبهم أيضا .
    وفى السبعينات ومابعدها قام فلاسفة الحداثة ومابعد الحداثة فىألمانيا ( هابرماس وآخرون ) وفرنسا (بودريار وليوتار و جيل دى لوز ) بالتأكيد على مثل هذه الحقائق ، من وجهات نظرهم .
    وفى الثمانينات والتسعينات ومطلع القرن الجديد انهمر سيل من الأبحاث والدراسات –فى أوربا وأمريكا نفسها _ذات طابع تجريبى ، تكشف الممارسات الاحتكارية الفجة للشركات الخاصة فى ميادين عديدة مثل : الإمداد بخدمات الإنترنت ، والصحافة، والأنباء ، وتلفزة الأخبار ، وشركات التليفزيون عامة- والتى قامت بتحويل الإنسان الأمريكى بالذات إلىعجينة طيعة بين أيديها –بالتحالف مع أباطرة المال ،وعسكريتاريا البنتاجون، واللوبى اليهودى . وماهوببعيد نموذج التغطية الإخبارية الأمريكية (ذات البعد الواحد ) لحرب العراق2003 .
    وقد أوحى تعاظم نفوذ الشركات الأمريكية على الصعيد العالمى للثقافة والإعلام والفنون وانتقالها من حيز الهيمنة على الإنسان داخل بلادها إلى الإنسان فى كل مكان على الكوكب الأرضى -فى حقبة العولمة بالذات-أوحى بظهور مقولة (الغزو الفكرى ) وخاصة فى بلدان العالم الإسلامى والوطن العربى . ولكن الأ مر أكثر تعقيد من ذلك . فقدتبنت معظم النخب فى بلدان (العالم الثالث ) منذ أمد بعيد ، نموذج التحديث على النمط الغربى ، اى تقليد الغرب عموما ، بدلا من استئناف التطور الحضارى القومى ، وذلك بتأثير من الضعف النسبى للتيارات القومية، وضعف النخب نفسها، وسياسات ( الاستيعاب ) الاستعمارية لتلك ا لنخب فى الميدان الثقافى- اللغوى .
    وهكذا حدث ذلك التلاقى التاريخىبين سياسة ثقافية أجنبية ذات طابع هجومى ،وبين نخب لديها ( قابلية للإستعمار) بتعبير مالك بن نبى .
    إن هذا التقابل الثنائى يفسر لنا الانتشار الكاسح مثلا للفنون السمعية- البصرية الأجنبية ، والاختفاء شبه التام
    للفنون والثقافات المحلية والوطنية والقومية ، فى مجالات فرعية عديدة مثل الموسيقى والغناء والرقص ، والحكى والملاحم والسير الشعبية ، والألعاب . أما إذا أضفت المجالات الثقافية الأخرى بالمعنى الواسع ،أو ما
    يسميه البعض بالأنظمة الرمزية او الإشارية للتواصل الاجتماعى ( رولان بارت . ..) ، مثل نظم وعادات الطعام والشراب ، والزى والملبس ، والسكن والمعمار ، وحتى التداوى ، فسوف يبدو الأمر كله مأساويا تماما .
    فقد خلت الساحة للتقليد الأجنبى ، ولم تبق إلا نتف متناثرة يسمونها بالفولكلور من ناحية اولى ، وإلا ردود أفعال بائسة وخاصة فىالغناء ويسمونها بالفن الشعبى ..من ناحية ثانية .
    غير ان طغيان الإنتاج الثقافى والفنى ( العولمى ) على هذا النحو تقابله - بحكم الجدلية الاجتماعية – ظاهرتان : أولاهما خروج منتجات اجتماعية وثقافية وفنية من الحيز الضيق لبعض المجتمعات إلى النطاق العالمى من حيث الانتشار ، وخاصة من الأطعمة والأشربة والأزياء . وثانيتهما عملية الإحياء الواعى – لكن المحدود –لبعض أوعية الفن الشعبى ، كما يحدث الآن فى الوطن العربى ، مشرقا ومغربا ، مثل الموسيقى الأندلسية و( المالوف ) فى بلدان المغرب العربى ، و (الموسيقى العربية والشرقية ) فى مصر وسوريا – بالإضافة إلى المقام العراقى .
    فكيف يمكن ان يحل ذلك التناقض بين ( الموروث والوافد ) بتعبير طارق البشرى .؟
    إنها( إشكالية) قديمة نسبيا . وقد عبروا عنها فى الستينات بقضية ( الأصالة والمعاصرة ) ويعبرون عنها الآن ب ( التراث والحداثة ) _ فماذا نحن فاعلون .؟
    سادسا عولمة أنماط المعاش (أو تكنولوجيا الإنتاج والاستهلاك ) .
    ربما تتركز المساهمة الرئيسية للحضارة الصناعية الغربية فى خلق نمط أو أسلوب جديد للإنتاج ، يتميز بتطوره التكنولوجى المستمر ، على صعيد البنية الداخلية لقوة العمل أساسا :من العمل ( المميكن ) إلى
    العمل ( المؤتمت ) –إذا صح هذا التعبير . وتلك ،بتعبير آخر ، هى تكنولوجيا الإنتاج الجديدة .
    بيد أن الطبيعة الاجتماعية للنظام الرأسمالى ، والقائمة على التملك الخاص – الرأسمالى لوسائل الإنتاج ،
    أى على الفصل بين العمل ورأسماله ، جعلت الغاية النهائية لعملية الإنتاج – او ما يسمى بالباعث الأساسى للنشاط الاقتصادى – هى ( تعظيم ) الأرباح . ويؤدى ذلك إلى تنافر ضرورى أو لازم بين مصلحة صاحب رأس المال الخاص فى مراكمة عوائده وبين مصلحة المجتمع ككل فى تلبية احتياجاته المادية والروحية وفى صيانة موارد ثروته وتنميتها وتطوير المحيط الطبيعى- الاجتماعى للمعاش .
    هذا من ناحية الإنتاج او تكنولوجيا الإنتاج ، إن شئت .
    ومن الناحية الأخرى ، فقد أدى أسلوب الإنتاج الرأسمالى إلىتحديد ( التشكيلة ) الخاصة من المنتجات السلعية والخدمية ، المطروحة للبيع فى السوق ، أى المتاحة للاستهلاك – وفق مبدأ الربحية . وبالتالى فقد انتفى من الناحية الفعلية ذلك المبدأ النظرى الذى حرص الفكر الاقتصادى الرأسمالى على إعلاء شأنه فى الفترة الأولى من نشوء الرأسمالية ، وهو مبدأ ( سيادة المستهلك ) . ويعنى هذا أن نمط أو أنماط الاستهلاك أصبحت تتحدد سلفا من قبل الرأسمال . وأدى هذا فى التحليل الأخير إلى جعل الاستهلاك – محددا من قبل أصحاب رؤوس الأموال – والاستهلاك غير الضرورى طبيعيا واجتماعيا ، وكأنه الغاية النهائية التى يسعى إليها الإنسان .
    فهو إنسان ذو بعد واحد إذن ، كما سبق أن لاحظ ماركوزه . ولذلك تغدو مسألة إعادة تحديد أنماط الاستهلاك، على أساس إنسانى- اجتماعى ، هى إحدى أهم شواغل الفكر الاقتصادى ، كما أكد إسماعيل صبرى عبدالله وجلال أمين .
    إنه فى ضوء هذا المنظور يمكن فهم ماتؤدى إليه توجهات الرأسمالية وقواها الكبرى بصدد عولمة أو ( لاعولمة ) نشاطها الاقتصادى . فإطلاق العولمة الرأسمالية على عواهنها يؤدى – وقد أدى بالفعل – إلى التحيز فى تكنولوجيا الإنتاج ناحية استخدام التقنيات المكثفة لرأس المال – العينى ثم البشرى – على حساب " رأس المال الذى يملكه أغلب الناس بالفعل ، وهو العمل نفسه ، إذ الإنسان العادى هو أثمن رأسمال _ كما قيل.
    ويسهم ذلك فى رفع معدل البطالة . ثم أنه يزيد من معدل ( التقادم التكنولوجى ) مما يهدد بإخراج الجزء الأكبر من التكنولوجيات المتاحة بالفعل – او التى يمكن إتاحتها –للبلاد منخفضة الدخل ، من حيز الطاقة الإنتاجية المستخدمة . واخيرا فإن نمط الإنتاج الرأسمالى يؤدى دائما إلى الاستغلال المكثف للموارد الطبيعية والطاقوية ، والمتوفرة لدى البلاد النامية والمتخلفة اقتصاديا ، فى صورتها الخام - وبأسعار بخسة أو ( غير عادلة ) ، مما يهددباستنفادها السريع قبل بناء قاعدة إنتاجية محلية .
    أما من ناحية تكنولوجبا الاستهلاك فإن الشركات عابرة الجنسيات تؤدى إلى نشر أنماط استهلاكية محققة لمصالحها المرتبطة بالعوائد الرأسمالية وليس بالحاجات الحقيقية للشعوب .
    ويبدو البديل الشعبى –الوطنى للتنمية هنا هو الخيار الحقيقى المجسد لجدلية العولمة . وذلك بتبنى الحركات الوطنية الاجتماعية لنمط تنموى يبنى أساليب للإنتاج والاستهلاك متفقة مع الجوهر الإنسانى الحقيقى والاحتياجات المجتمعية الضرورية .

    سابعا محاولة احتواء السلوك الاجتماعى .
    ونقصد هنا أمرين أساسين : 1-إن العولمة الرأسمالية تستدعى من باطنها –إذا صح هذا التعبير –فعلا او ربما رد فعل ، متمثلا فى الجريمة المنظمة ، بما فى ذلك ما يسمى " الجرائم الإلكترونية " . فهى تسهم بهذا
    فى إعادة تشكيل، او فى احتواء ، السلوك الاجتماعى على صعيد عابر للأوطان .
    2-إن العولمة أو اللاعولمة ، المتعملقةضد الشعوب ، تستثير رد فعل من نوع آخر ، هو التمرد المعادى لها –على المستويين الاجتماعى والسياسى . وهنا نلحظ الاحتجاجات الاجتماعية واسعة النطاق، على أسس مطلبية فى الغالب .. من طرف أول . ومن الطرف الاخر نجد العنف المجسد والموجه ضد الرموز الخاصة بالفواعل الرأسمالية الكبرى ؛ من الشركات والحكومات .. بعضه عنف مبرر ، وبعضه الآخر يصعب تبريره .
    ولئن كان الموقف من الجريمة المنظمة سهل التحديد نسبيا ، فإن تحديد الموقف من العنف أكثرصعوبة او دقة . وفى جميع الأحوال يجب على القوى الاجتماعية أن تطور أساليب مقاومتها للرأسمالية ، وخاصة الأمريكية التى تتحول سريعا ، وإن مؤقتا فيما نأمل ، إلى الممارسة الإمبريالية الصريحة – بحيث تتحول هذه المقاومة إلى مقاومة شعبية رحيبة ، متعددة الصور ، وفعالة . وهو أمر يقتضى إثارة أكبر قدر ممكن من النقاش الخلاق.

    ثامنا محاصرة قوة العمل .
    وهنا نجد أيضا نقطتين : 1-محاولة استبعاد القوى الرأسمالية الكبرى للقضايا المتعلقة بالعمال ، فىالحل والترحال ( الهجرة والإقامة والعمل ) ، من جدول اعمال منظمة التجارة العالمية ومايسمى ( اتفاقات الشراكة )، بما فى ذلك اتفاقات الاتحاد الأوربى مع دول جنوب المتوسط . وهنا يجب على القوى المناضلة من أجل وجه شعبى-إنسانى للعولمة فى اوربا خاصة أن تبنى صيغة فعالة للتضامن مع العمال العرب المهاجرين ، من أجل التوصل إلى حل يلبى متطلباتهم الإنسانية والاجتماعية والوطنية الأساسية .
    2-إن الخط التصاعدى للعولمة الشعبية يقتضى تسليح الطبقات المنتجة ، قوة العمل ، بالسلاح الذى ينقصها من جراء الآليات التمييزية ، طبقيا وقوميا ، وهو سلاح المقدرة المعرفية- الإبداعية. لم يعد( العمل الماهر ) كافيا لدفع القوى المنتجة ، وإنما ( العمل الابتكارى ) .ويتطلب ذلك الصمود فىمعركةتحقيق التوازن الاجتماعى المستقبلى لصالح هذه القوى، بما تتضمنه من معارك فرعية كثيرة على الطريق –سوف تحقق فى بعضها انتصارات مستحقةفى وقتها ، وفى بعضها الآخر قد تعانى من انتكاسات مؤقتة أو تراجعات . ولكن الشعوب تنتصر دائما فى النهاية .
                  

09-15-2004, 12:27 PM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
العولمة - المفهوم والمصطلح (Re: esam gabralla)

    العولمة - المفهوم والمصطلح
    توضيح معنى العولمة ليس مجرد مسألة معرفية


    مصطفى العبد الله الكفري

    إن مسألة البحث والتحليل وتوضيح معنى العولمة ليس مجرد مسألة معرفية ، مجردة، فحسب ، لان معرفة علمية بواقع (العولمة) أضحت ضرورة سياسية واقتصادية لتوضيح الأساليب والوسائل الجديدة للدفاع عن مصالح الشعوب العالمثالثية ومنها شعبنا العربي ، في وجه أنظمة العولمة الأكثر حداثة في السيطرة والاستغلال والأكثر شراسة في انطلاق التوحش الرأسمالي في أعلى قدراته من حيث استخدام أرقى منجزات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية وشبكات الاتصال ، بهدف أساسي : استثمار شعوب العالم وتحويل كل قدراتها إلى مؤسسات هائلة تملكها شركات محدودة العدد ، تسيطر على كوكب الأرض والفضاء الخارجي والحكومات.

    العولمة هي التداخل الواضح لأمور السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة ، أو الانتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية . فالعولمة هي إكساب الشيء طابع العالمية ، وجعل نطاقه وتطبيقه عالمياً .

    على المستوى الاقتصادي ، تفترض العولمة أن العمليات والمبادلات الاقتصادية تجري على نطاق عالمي ، بعيداً عن سيطرة الدولة القومية . بل : إن الاقتصاد القومي يتحدد بهذه العمليات . وهذا الوضع مغاير تماماً ، لما كان عليه الحال في السابق ، حين كانت الاقتصادات القومية هي الفاعلة ، أما الاقتصاد العالمي فهو ثمرة تفاعلاتها .

    أضحت ظاهرة العولمة الهاجس الطاغي في المجتمعات المعاصرة ، فهي تستقطب اهتمام الحكومات والمؤسسات ومراكز البحث ووسائل الإعلام . وتعاظم دور العولمة وتأثيرها على أوضاع الدول والحكومات وأسواقها وبورصاتها ومختلف الأنشطة الاقتصادية فيها . ما هي العولمة ؟ وما هي الآثار الاقتصادية للعولمة على البلدان العربية ؟ هذا ما تحاول الدراسة الإجابة عليه .

    ما هي العولمة ؟

    1 ـ هل هي ثورة المعلوماتية الكونية ؟ أم أوتوستراد المعلوماتية ؟

    2 ـ هل هي ثورة الاتصالات والمواصلات الفائقة السرعة ؟ أم الإنترنت ؟

    3 ـ هل هي من إفرازات ثورة المعلوماتية وما يرافقها من تطور في مجال الاتصال والإعلام ؟

    4 ـ هل تعني أن العالم قرية واحدة ؟

    5 ـ هل هي تسارع حركة التبادل التجاري وحريتها ، وتضخيم حجمها بأرقام فلكية على مستوى العالم كله ؟

    6 ـ هل تشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والإنتاج ؟

    7 ـ هل هي توحيد الاستهلاك وخلق عادات استهلاكية على نطاق عالمي ؟

    8 ـ هل هي الغزو الثقافي والدفق الآتي عبر الشاشات المختلفة ؟

    9 ـ هل هي الاستعمار ؟ أم الإمبريالية ؟ أم ما بعد الاستعمار ؟

    10 ـ هل هي هيمنة القطب الواحد على النظام العالمي؟

    11 ـ هل هي أمركة العالم ؟ كما قال أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية: (قدرنا أمركة العالم)

    12 ـ هل هي الانتقال الفكري والعلمي والمعرفي بين الشعوب؟

    13 ـ أم هي كل ما ورد أعلاه مجتمعاً ؟! وهل هي نعمة أم نقمة؟



    ثمة فارق بين العالمية International وبين العولمة Globalization ، لذلك لابد من التفريق بين العالمية والعولمة . [1]

    أولاً - المفهوم والمصطلح :

    لقد استخدمت مفردات متعددة للتعبير عن ( العولمة ) . على أن الكلمة الأكثر شيوعاً واستخداماً في هذا المجال هي Globalization وقد أخذت من كلمة Globe ومعناها : الكرة الأرضية ، الأمر الذي جعل البعض يترجمها إلى (الكونية) . وهناك من استخدم كلمة Mondialization من اللفظة الفرنسية Monde وتقابل بالإنكليزية World Universe . وهناك من استعمل مصطلح ( الشوملة ) وهي من (الشمولية )Totalitarianism .

    ومن الواضح والجدير بالإشارة معاً أن هذا المصطلح شاع في الوطن العربي وذاع وانتشر في الخطاب السياسي وفي وسائل الإعلام المختلفة ، شأن الكثير من المصطلحات الغربية ـ الأوروبية والأمريكية ـ الأكثر انتشاراً وتأثيراً على مجمل النشاط السياسي العالمي . مثلما شاع مصطلح ( الخصخصة) في السنوات الأخيرة أيضاً وترافق معه . وراح كل متحدث أو كاتب في شأن من الشؤون الاقتصادية يطلقه في معرض الإشارة إلى عملية تحويل مشاريع القطاع العام والمنشآت الاقتصادية التابعة لدولة ما من دول العالم الراهن ، إلى شركات خاصة يديرها أفراد من أبناء هذه الدولة نفسها أو من يشاركهم في إدارتها من خارجها .

    ويعرّف الدكتور إسماعيل صبري عبد الله العولمة والتي يفضل أن يستخدم مكانها مصطلح الكوكبة على أنها: ( التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية) . [2] ولا أعلم لماذا ابتعد الدكتور إسماعيل صبري عبد الله عن المفهوم الدقيق للعولمة ؟ والذي يعني هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي وانتشاره بعمق ، لا بل هيمنة النمط الأمريكي ، سيما وهو يقر بأن الرأسمالية كنمط إنتاج تتغير ملامحها وأساليبها في الاستغلال عبر الزمن. كما انه يربط بين نشأة العولمة وانتشار الشركات متعددة الجنسية .

    على المستوى الاقتصادي ، تفترض العولمة أن العمليات والمبادلات الاقتصادية تجري على نطاق عالمي ، بعيداً عن سيطرة الدولة القومية . بل : إن الاقتصاد القومي أو الوطني يتحدد بهذه العمليات . وهذا الوضع مغاير تماماً ، لما كان عليه الحال في الإطار السابق ، حين كانت الاقتصادات القومية هي الفاعلة ، أما الاقتصاد العالمي فهو ثمرة تفاعلاتها. [3]

    " العولمة وفقاً لهذا التحليل ، هي إذن وصول نمط الإنتاج الرأسمالي ، عند منتصف هذا القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول ، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها ، أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية ، وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً ، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله . العولمة بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره، قد تمت . بعبارة أخرى ، أن ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي ـ إلى هذا الحد أو ذاك ـ إلى الأطراف بعد حصرها هذه المدة كليا في مجتمعات المركز ودوله . في الواقع لان عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق بلغت حد الإشباع بوصولها إلى أقصى حدود التوسع الأفقي الممكنة وشمولها مجتمعات الكرة الأرضية كلها ـ باستثناء جيوب هنا وهناك ـ كان لابد لحركية نمط الإنتاج الرأسمالي وديناميكيته من أن تفتح أفقاً جديداً لنفسها وان تتجاوز حدوداً بدت ثابتة سابقاً، عن طريق نقلة نوعية جديدة بدورها تأخذ الآن الشكل المزدوج لعولمة دائرة الإنتاج ذاتها ونثرها في كل مكان مناسب تقريباً على سطح الكرة الأرضية ، من ناحية وإعادة صياغة مجتمعات الأطراف مجدداً ، في عمقها الإنتاجي هذه المرة ، وليس على سطحها التبادلي التجاري الظاهر فقط ، من ناحية ثانية ، أي إعادة صياغتها وتشكيلها على الصورة الملائمة لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته ". [4]

    وإذا كان الفكر الليبرالي الجديد Neoliberal هو الناظم الجوهري " للعولمة " فإن الليبرالية الجديدة تتجه الآن ضد الدولة القومية نفسها ، كأداة ضبط وتنظيم ، أي أداة تدخل ولجم على الصعيد القومي وعلى الصعيد العالمي ، والفكرة المطروحة حالياً إن الرأسمالية تنشط الآن على المستوى الكوني ، مديرة حركة رأس المال ، والخدمات والسلع وبالطبع العمل . [5] وهكذا فإن الاقتصاد المعولم يقع خارج نطاق تحكم الدولة القومية ، مما يزيد في إمكانات الصراع والتنافس ، ويريد من دور الشركات متعددة الجنسية ويحولها إلى شركات فوق قومية Trans – Nation ورأسمال طليق بلا قاعدة وطنية محددة وبإدارة عالمية . ويبدو أن "العولمة " لم تفقد الدولة القومية الكثير من وظائفها كناظم وضابط اقتصادي فحسب، بل إن انتهاء الحرب الباردة ، من جانب ثان ، ساهم مع العولمة في تقليص وظائف الدولة العسكرية ـ الأمنية … إلى حد غير قليل . [6]

    وقد أشار أحد الباحثين العرب المعروفين بالقول إنه إذا صدرت الدعوة إلى العولمة من بلد أو جماعة فإنها تعني إعمام نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة وجعله يشمل الجميع : العالم كله ، وإنه طالما صدرت هذه الدعوة من الولايات المتحدة الأمريكية ، فإن الأمر يتعلق بالدعوة إلى تعميم النموذج الأمريكي ، وفرضه وفسح المجال له ليشمل العالم كله . مما يعني أن العولمة الثقافية التي راحت تصل إلى أي مكان ، كل مكان تقريباً ، على وجه كرتنا الأرضية ، عبر وسائل الإعلام التي تتحكم الولايات المتحدة بمعضمها (خمسة وستين بالمائة من مجموع المادة الإعلامية في العالم) ، ستقود بالنتيجة المتوخاة إلى قطع الصلة شيئاً فشيئاً بين الإنسان ومجتمعه ووطنه ، والقفز فوق الوطن عبر صيغة العولمة هذه، وهذا ما يجب أن يرفضه العرب ، ويجب أن يفعلوا . لقد رفضه المثقفون الأوروبيون قبلهم انطلاقاً من فكرة تقول بتعارض العولمة مع التعددية الحضارية ومع صلة الإنسان بوطنه وضرورة توحد المجتمع الأوروبي ضد العولمة بصيغتها الأمريكية . [7]

    يقول الأمريكي توم فريدمان: " نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة ، العولمة هي الأمركة ، والولايات المتحدة قوة مجنونة ، نحن قوة ثورية خطيرة ، وأولئك الذين يخشوننا على حق . إن صندوق النقد الدولي قطة أليفه بالمقارنة مع العولمة . في الماضي كان الكبير يأكل الصغير ، أما الآن فالسريع يأكل البطيء ". [8]

    ولكن العولمة بالمفهوم المعاصر ( الأمركة ) ليست مجرد سيطرة وهيمنة والتحكم بالسياسة والاقتصاد فحسب ، ولكنها أبعد من ذلك بكثير، فهي تمتد لتطال ثقافات الشعوب والهوية القومية والوطنية ، وترمي إلى تعميم أنموذج من السلوك وأنماط أو منظومات من القيم وطرائق العيش والتدبير، وهي بالتالي تحمل ثقافة ( غربية أمريكية ) تغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى ، ولا يخلو ذلك من توجه استعماري جديد يتركز على احتلال العقل والتفكير وجعله يعمل وفق أهداف الغازي ومصالحه. وأكد ذلك الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حين قال بعد انتهاء حرب الخليج الثانية : " إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي " . [9]

    ولا مكان للدول النامية عامة والعربية خاصة … في ( العولمة ) إلا في الاتجاه السالب، أي تأثيرها عليها وتأثرها بها. ومع ذلك فنحن بهذا المعنى معولمون منذ زمان بعيد اقتصادياً وثقافياً … وسياسياً في بعض الأحيان . [10]

    ثانياً - ملامح العولمة في الاقتصاد العالمي: يمكننا تحديد أهم ملامح العولمة الاقتصادية من خلال المظاهر التالية:

    ـ الاتجاه المتزايد نحو التكتل الاقتصادي للاستفادة من التطورات التقنية الهائلة .
    ـ تنامي دور الشركات متعدية الجنسية ( عبر القومية ) وتزايد أرباحها واتساع أسواقها وتعاظم نفوذها في التجارة الدولية وفي الاستثمار .

    ـ تزايد دور المؤسسات المالية الدولية بشكل مباشر وبخاصة في تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي وسياسات التثبيت والتكيف الهيكلي في الدول النامية (والتحول إلى اقتصاد السوق).

    ـ تدويل بعض المشكلات الاقتصادية مثل الفقر ، التنمية المستدامة ، السكان والتنمية ، التنمية البشرية ، التلوث وحماية البيئة ، والتوجه العالمي لتنسيق عمليات معالجة هذه المشكلات والتعاون في حلها .

    ـ تعاظم دور الثورة التقنية الثالثة وتأثيرها في الاقتصاد العالمي ( التغيرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعية المنتج ) .

    ـ بروز ظاهرة القرية العالمية ، وتقليص المسافات نتيجة لتطور وسائل النقل والمواصلات وزيادة الاحتكاك بين الشعوب .

    ـ تطور وسائل الإعلام وتأثيرها على طبيعة البشر وتطلعاتهم وسلوكهم ،واثر ذلك على اختلاط الحضارات والثقافات .

    ـ تعاظم دور المعلوماتية ، والإدارة ، والمراقبة من إدارة نظم المعلومات .

    والعولمة الاقتصادية أخذت أبعادها في المرحلة الراهنة بانتصار القوى الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، وانهيار الاتحاد السوفيتي والأنظمة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية ، فاستعاد النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي هيمنته وانتشاره بدينامية جديدة مؤسسة على اقتصاد السوق والموجة الثالثة ( ثورة المعلوماتية ) وإدماج القسم الأعظم من الاقتصاديات الوطنية بالسوق الرأسمالية العالمية ، بحيث أصبحت هذه الاقتصادات أسيرة لمفاهيم السوق والمنافسة الاحتكارية التي تتحكم فيها القمم الاقتصادية العملاقة ، متخطية الحدود والقيود ، مستندة إلى قوى السوق وبأشراف مؤسسات العولمة الاقتصادية الثلاث ، صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي للإنشاء والتعمير ، المنظمة العالمية للتجارة خليفة اتفاقيات " الغات ".

    أهم مؤشرات الأغنى والأفقر بين دول العالم حسب المجموعات لعام 1997

    البيان
    مجموعة الدول الأغنى

    20 % من سكان العالم
    مجموعة الدول الوسط

    60 % من سكان العالم
    مجموعة الدول الأفقر

    20 % من سكان العالم

    إجمالي الناتج المحلي العالمي
    86 %
    13 %
    1 %

    إجمالي صادرات العالم
    82 %
    17 %
    1 %

    الاستثمار المباشر في العالم
    68 %
    31 %
    1 %


    مقارنة لتوضيح كيف يزداد الفقر والغنى بين دول العالم

    البيان 1960
    1994

    حصة الـ 20% الأكثر فقراً من اصل العائدات الإجمالية للعالم
    2.3
    1.1

    الفارق بين الـ20%الأكثر ثراء في العالم والـ20%الأكثر فقراً
    30 إلى 1
    78 إلى 1

    حصة الـ 20% الأعلى من الدخل العالمي
    70%
    85%

    حصة الباقي
    30%
    15%


                  

09-16-2004, 07:36 AM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مابين العولمه و الارهاب ... مقالات للحوار (Re: esam gabralla)

    Quote: المديونية الخارجية والعولمة[1]
    بقلم عبد السلام أديب
    باحث جامعي المغرب


    مقدمة:

    انطلق الحديث عن العولمة الليبرالية عمليا مع انهيار سور برلين وشروع البلدان الاشتراكية سابقا في الخضوع للبرامج التقويمية لصندوق النقد الدولي. لكن هذه الفترة تزامنت أيضا مع خضوع جل بلدان العالم الثالث لبرامج التقويم الهيكلي، حيث بدأت في اعتماد هذه البرامج ما بين 1982 و1985 واستمرت رسميا الى حدود 1993 و1995. وبطبيعة الحال فإن خضوع البلاد الاشتراكية سابقا وبلدان العالم الثالث لسياسات موحدة للتقويم الهيكلي جاء نتيجة تعرض هذه البلدان في مراحل متفاوتة لأزمة المديونية الخارجية. كما أصبح من الطبيعي أن نشاهد هذا الانتشار المنقطع النظير للشركات متعددة الاستيطان عبر العالم، نتيجة لتطبيق سياسات التقويم المشار اليها. من هنا يمكننا التأكيد منذ البداية على العلاقة الوثيقة القائمة ما بين ظاهرة العولمة الليبرالية والمديونية الخارجية. فالمديونية الخارجية كانت هي السبيل الناجع للتحكم المطلق للرأسمال على الصعيد العالمي، ويعتبر هذا التحكم المطلق هو التعبير الاقتصادي والسياسي عن بلوغ مرحلة العولمة الليبرالية.

    ويسود اعتقاد خاطئ اليوم لدى العديد من الناس بأن هذا النمط من العولمة الليبرالية السائدة حاليا أصبحت بمثابة قضاء وقدر أي أنها ذات طابع حتمي وأن كل من يتصور وضع آخر للمجتمع العالمي فهو متوهم. لكن العولمة الليبرالية في الواقع هي كأي نظام إيديولوجي اقتصادي واجتماعي آخر عبارة مجموعة من القوانين الاقتصادية التي تمكنت المنظومة الرأسمالية من فرضها على العالم في مرحلة معينة من تاريخها. كما تؤكد الشواهد التاريخية على أن التاريخ لا يترتب نتيجة قوانين اقتصادية خالصة، وإنما نتيجة هذه القوانين من جهة وردود فعل المجتمع عليها من جهة أخرى. فإذا كانت العولمة الليبرالية تشكل التعبير الصريح للتحكم المطلق لرأس المال على الصعيد العالمي، فإن ردود فعل المجتمعات ونضالاتها السياسية والاجتماعية من شأنها تغيير موازين القوى لصالحها.

    إن الحديث عن المديونية الخارجية والعولمة الليبرالية يجعلنا ننطلق من طرح عدد من التساؤلات التي تحدد الاجابات عنها الدور الحقيقي الذي تلعبه المديونية الخارجية في زمن العولمة الليبرالية. وأهم الأسئلة التي يمكن الانطلاق منها هي كما يلي:

    – ما هو السياق التاريخي الذي تطورت فيه المديونية الخارجية لبلاد العالم الثالث؟

    – ماهي دوافع الدول الرأسمالية لإغراق بلاد العالم الثالث بالديون؟

    – ما هي دوافع افراط بلاد العالم الثالث في الاستدانة من الخارج؟

    - ما هي عواقب المديونية الخارجية على بلاد العالم الثالث؟

    – ما هي الحلول المقترحة لعلاج اشكالية المديونية الخارجية على الصعيدين الداخلي والخارجي؟







    أولا: السياق التاريخي لأزمة المديونية الخارجية:

    دون الرجوع الى الدور الذي لعبته المديونية الخارجية في التمدد الاستعماري للقوى الرأسمالية في بلاد العالم الثالث منذ أواسط القرن التاسع عشر وإلى غاية أواسط القرن العشرين. نكتفي هنا بالإشارة إلى أن فرض الحماية الفرنسية على المغرب جاء عقب تعرضه لأزمة مالية خطيرة نتيجة تفاقم حجم مديونيته الخارجية وإفلاس السياسة العامة في تدبير هذه الأزمة. الشيء الذي اضطر المغرب آنذاك، فيما يشبه تحويل مديونيته الخارجية إلى استثمارات أجنبية، إلى فتح حدوده على مصراعيها أمام المعمرين الأجانب الذين سيطروا آنذاك على المراسي، والمناجم والاستغلاليات الفلاحية وتم توسيع أنشطة المستثمرين الأجانب الكبار من أمثال بنك باريس والأراضي المنخفضة والكونسرتيوم المكون من الأبناك الفرنسية وشركتا شنايدر وروتشيلد ومناجم الريف والشمال الإفريقي.

    فقد سهلت هذه الهيمنة المالية ثم الاقتصادية الأجنبية عملية فرض معاهدة الحماية على المغرب، من جهة لحماية استغلالات رؤوس الأموال الأجنبية ومن جهة أخرى لردع انتفاضة بعض المغاربة الغيورين على استقلال بلادهم . والملاحظ أن التاريخ يعيد نفسه اليوم، حيث يوجد المغرب في وضع لا يحسد عليه من جراء مديونيته الخارجية أو من جراء سيطرة الأجانب على مختلف هياكله الاقتصادية.

    إن ما يهمنا هنا هو التاريخ الحديث للمديونية الخارجية والذي بدأ منذ عقد السبعينات من القرن العشرين، وهنا لا بد من الاشارة الى التحول الذي طرأ على العلاقات الاجتماعية الدولية من الحرب العالمية الثانية، والذي قاد نحو التحكم المطلق للرأسمال العالمي وإلى ما يسمى بالعولمة الليبرالية. فمعظم الأبحاث تؤكد على أن الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تميزت بالاستقرار والرواج الاقتصادي والذي ساد الى أواسط عقد السبعينات. ثم بعد ذلك ستسود فترة جديدة من الفوضى والأزمة.



    1 – التوازن بين رأس المال والعمل عقب الحرب العالمية الثانية

    ففي الفترة المتراوحة ما بين 1945 و1975 عاش العالم في وضع من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لم يسبق له مثيل منذ ولادة النظام الرأسمالي منذ قرنين من الزمان.

    - ففي الغرب جاء الانتصار على الفاشية في صالح الطبقات العاملة مما أتاح تسوية تاريخية بين رأس المال والعمل، حيث ساد مشروع الدولة الاشتراكية الديموقراطية في الغرب. وهو مشروع دولة الرفاه الذي تميز بسيادة الأداء الاقتصادي الكينيزي الذي ارتكز على عدالة توزيع الدخل عبر العديد من الميكانيزمات وقيام الدولة بتوفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية.. الخ بالمجان.

    - كما أدى انتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب واندلاع الثورة الصينية الى خلق إطارا آخر ملائم للنضال السياسي شجع بدوره على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي من خلال التحدي الذي فرضه النمط الاشتراكي على رأس المال فألزمه بقبول التسوية مع الطبقة الكادحة. ورغم المؤاخذات على النظام السوفيتي الذي تم نعته برأسمالية الدولة وباستغلال البيروقراطية للمشروع الاشتراكي وغياب الديموقراطية وحرمان النظام من فرصة إعادة إنتاج نفسه مما أدى إلى انهياره، فإن كل ذلك لا يخفي المفعول المشجع لهذا النظام على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على الصعيد العالمي والذي ترتب نتيجة المنافسة السياسية والإيديولوجية بين "الشرق" و "الغرب".

    - كما استغلت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث ظروف الحرب ومساهمة شعوبها فيها من أجل تحقيق الاستقلال، وتبني ما يسمى بإيديولوجية التنمية في بلدان الجنوب انطلاقا من مؤتمر باندونغ المنعقد في اندنوسيا سنة 1955، وقد استغلت الحركات الوطنية المنافسة القائمة بين الشرق والغرب لتدعيم استقلالها وشروط تنميتها.

    ◄ فالازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي الذي تلى الحرب العالمية الثانية كان يدين بالأساس بقيام رأس المال بتكييف استراتيجياته مع مقتضيات العلاقات الاجتماعية التي فرضتها القوى الديموقراطية والشعبية. وهو الوضع الذي أفرزته تنافسية المشاريع المجتمعية الثلاثة في الشرق والغرب والجنوب.



    2 – اختلال التوازن لصالح رأس المال منذ عقد السبعينات

    لكن التوازن الذي حصل بين رأس المال والعمل سيبدأ في التآكل تدريجيا مع بداية عقد السبعينات.

    - فمشروع دولة الرفاه سيتآكل نتيجة الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي التي انفجرت مع بداية عقد السبعينات. فقد استغلت الأحزاب اليمينية والرأسمال العالمي هذه الأزمة لتسليط هجومها على النهج الاقتصادي الكينيزي وعلى الدور التدخلي للدولة، حيث تم تبني حلول جديدة لتدبير الأزمة تقوم على اطلاق الحرية الكاملة لرأس المال على الصعيدين المحلي والعالمي، كما تخول لكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقيات الكات مهمة دعم ومواكبة هذه الحلول.

    - أما المشروع الاشتراكي السوفيتي فقد بدأ هو الآخر في التآكل نتيجة تغييب الديموقراطية ومركزة القرارات وعدم القدرة على إعادة إنتاج النظام، فبدأ الاتجاه تدريجيا من نموذج رأسمالية الدولة إلى رأسمالية الأفراد نتيجة تحكم المافيات الكومبرادورية في هرم السلطة ونتيجة إغراق البلاد في المديونية الخارجية.

    - أما مشروع باندونغ لتنمية بلاد العالم الثالث فقد انهار هو الآخر مع تفاقم مديونية هذه الدول وهيمنة المؤسسات المالية الدولية على عملية صنع القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عملت على تكييفها مع شروط تراكم الرأسمال العالمي. وتوجد أغلب دول العالم الثالث اليوم تحت هيمنة الكومبرادوريات التي تقوت بفعل تأثير سياسات التقويم الهيكلي التي اعتمدت كسياسات لتدبير أزمة المديونية الخارجية المستفحلة.



    ◄ النتيجة إذن هي أن انهيار التوازنات السابقة خلق ظروفا جديدة ملائمة للعودة الى التحكم المطلق لمنطق رأس المال الأحادي الجانب في مختلف بقاع العالم. حيث أستطاع هذا المنطق اغراق مختلف الحكومات بمديونية خارجية لا تطاق ومن تم اخضاعها لشروط تتماثل مع شروط التراكم الرأسمالي العالمي. وقد استطاع تحكم رأس المال من خلال فرض شروطه عبر المؤسسات المالية الدولية من إلغاء المكاسب التاريخية للطبقات الكادحة والشعوب. فمع تزايد حدة الأزمة الاقتصادية الهيكلية للمنظومة الرأسمالية تزايدت شراسة النظام وتصميمه على بسط نفوذه على مختلف المصادر الاقتصادية على الصعيد العالمي.











    3 – دوافع الدائنين والمدينين في تصدير واستيراد رؤوس الأموال

    أ – دوافع الدائنين لتصدير رؤوس أموالهم

    هناك دوافع كثيرة تدفع الرأسمال العالمي الى تصدير أمواله على شكل قروض خارجية أو استثمارات أجنبية خاصة، وقد تحدث العديد من الاقتصاديين عن هذه القضية، حيث يتفق أغلبهم على ارجاع هذه الدوافع الى دافع رئيسي يتمثل في الأزمة الهيكلية الداخلية للنظام الرأسمالي ومحاولات الخروج منها، وتشكل العلاقة الجدلية القائمة بين الأزمة وسبل تدبيرها المحور المحرك لدينامية النظام الرأسمالي وتطوره.

    فهناك حقيقة أكدتها مختلف المدارس الاقتصادية، كالمدرسة الكلاسيكية والمدرسة الماركسية والمدرسة الكينيزية على الرغم من اختلاف منطلقاتها وتوجهاتها، وتتمثل هذه الحقيقة في أن معدل الربح يتجه في النظام الرأسمالي في الأجل الطويل نحو التدهور.

    كما تؤكد هذه الظاهرة نظرية الدورة الاقتصادية، سواء القصيرة الأمد المكونة من ثلاث سنوات (مثل دورة كيتشن) أو المتوسطة المكونة من عشر سنوات (مثل دورة جاجلر ) أو الطويلة المكونة من خمسين أو ستين سنة (مثل دورة كوندراتيف)، فنظرية الدورة الاقتصادية تفسر باتجاه معدل الربح نحو التناقص، حيث تبدأ الدورة الاقتصادية عموما بمرحلة قصيرة نسبيا من الإزدهار تم يليها بعد ذلك مرحلة طويلة نسبيا من الأزمة. من هنا صيغت المقولة الشهيرة التي تؤكد على أن تاريخ الرأسمالية عبارة عن سلسلة من الأزمات الدورية. وتجدر الاشارة هنا الى أن المتضرر الأساسي من هذه الأزمات هي الطبقات الكادحة، ففي فترة الرواج تكون تحت طائلة الاستغلال البشع، وفي فترة الكساد تعاني من البطالة ومن تخفيضات الأجور أو تجميدها.

    وعلى العموم فإن اتجاه معدل الربح نحو التناقص على المدى الطويل يحدث نتيجة التفاوت بين قدرة النظام الرأسمالي الكبيرة على الانتاج والتراكم المالي من جهة // وبين التدهور الكبير في القدرة على تصريف المنتجات واستهلاكها نتيجة سوء توزيع الدخل الوطني وتدهور القدرة الشرائية لدى العمال الذين يشكلون القوة الاستهلاكية الرئيسية للنظام من جهة أخرى. وتتجسد الأزمة في انتشار الكساد وتجميد الاجور وتسريح المئات من العمال وتفاقم حدة البطالة وتراجع مستوى الاستثمار وتفاقم معدلات التضخم. من هنا يشرع النظام في البحث عن سبل تدبير أزمته بدلا من علاجها، حيث يكون الهدف هو انتاج نفس الشروط السابقة للإنتاج والتراكم على الصعيدين الداخلي والخارجي ثم السقوط بعد ذلك في ازمة جديدة.

    ويشكل التفاوت الدائم بين القدرة الهائلة على زيادة حجم الانتاج وبين القدرة المحدودة على تصريف المنتجات، تناقضا أساسيا يهدد النظام الرأسمالي بعدم التوازن وبصعوبات تكرار الانتاج الموسع واندلاع الأزمات، لذلك يصبح تصريف فائض الانتاج داخل الاقتصاد الرأسمالي مع مرور الوقت مستحيلا. لذا وجد النظام الرأسمالي أن حل هذا التناقض يجب أن يكون خارجيا، أي خارج دائرة الاقتصاد الوطني، وفي بيئات غير رأسمالية، أي في مناطق وبلاد لم تتحول بعد الى النظام الرأسمالي، لأنه لو تمت محاولة التصريف في بيئات رأسمالية مماثلة ، فإن المشكلة تستفحل أكثر.

    من هنا يمكن ملاحظة أن توسع النظام الرأسمالي خارجيا وسيطرته وإخضاعه للبلاد الأقل تقدما في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية قد خفف كثيرا، من الميل المتأصل في الرأسمالية نحو الركود والبطالة والأزمات. لذلك فإن الازدهار والاستقرار الاقتصادي النسبي الذي عاشته الدول الرأسمالية الكبرى خلال الحقبة الاستعمارية كان رهينا بمدى توسعها وسيطرتها على شعوب أخرى.

    فغزو المناطق غير الرأسمالية ودفعها إلى أن تقوم بدور المنافذ المعوضة، وتكييفها لكي تحد من ميل معدل الربح نحو التدهور في العواصم الاستعمارية تطلب جعل أسواق هذه المناطق تبادلية. ولهذا عملت الرأسمالية الاستعمارية على تحطيم الاقتصاد الطبيعي في تلك المناطق وتدعيم علاقات الملكية الخاصة، واجبار سكانها على استعمال النقود وتوسيع العلاقات السلعية النقدية، وإغراقها في الديون الخارجية لإخضاعها.

    ودون الدخول في التفاصيل فإن الشواهد التاريخية تؤكد على مدى تطرف الحلول التي لجأت اليها الرأسمالية، للتخفيف من تناقضاتها وتخفيف أزماتها الهيكلية الداخلية، فالاستعمار والحروب شكلت الحلول الأكثر تطرفا حيث كانت تؤدي الى تهجير أعداد ضخمة من الموارد البشرية للتخفف من حدة الانفجارات الاجتماعية كما كانت البلاد المستعمرة تعد مجالا حيويا لاستيراد المواد الأولية وأسواقا لتصريف المخزون من الانتاج السلعي الفائض ومجالا لاستثمار رؤوس الأموال الفائضة.

    ورغم انتهاء فترة الاستعمار المباشر، ضل تصدير رؤوس الأموال الى الخارج بمثابة الحل السحري للحفاظ على توازن النظام الرأسمالي وحمايته من الانهيار، لذلك يتركز كامل اهتمام الدول الصناعية الكبرى اليوم على الدفاع عن استراتيجية اقتصادية تضمن من خلالها انفتاح جميع دول العالم أمام رؤوس أموالها وسلعها التي تشرف عليها شركاتها متعددة الاستيطان. ويقف اليوم وراء بلورة وتطبيق واستمرارية هذه الاستراتيجية كل من مجموعة الدول السبعة الأكثر تصنعا والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة الدولية للتجارة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وكذا المؤسسات الأمنية والعسكرية كمجلس الأمن والحلف الأطلسي.

    إن شروط تحقيق التراكم الرأسمالي تتطلب كما هو الشأن في اطار حدود الدولة الأمة وجود مناخ ملائم لاستغلال اليد العاملة والموارد الطبيعية والاراضي اللازمة، نفس الشيئ أصبح يتحقق تدريجيا على الصعيد العالمي عبر تكييف مختلف البلاد المتخلفة مع هذه الشروط في ظل ما يعرف بسياسات التقويم الهيكلي. لذلك تحرص المراكز الرأسمالية الكبرى على اقناع بلدان العالم الثالث باتاحة الامتيازات والضمانات والحوافز الكافية لاستقبال استثماراتها الخارجية.

    ب – دوافع الدول المدينة لاستيراد رؤوس الأموال

    عقب استقلالات البلاد النامية كان الهاجس الذي يتملك حكومات هذه البلاد هو التعجيل بالتنمية الإقتصادية ورفع مستوى معيشة شعوبها. وكان حل مشكلة التراكم وتمويل التنمية الاقتصادية يعد أحد الشروط الأساسية للنجاح. ذلك لأن الارتفاع بمعدل التراكم يعد شرطا هاما للارتفاع بمعدل نمو الدخل الوطني وزيادة فرص التوظيف وتغيير الهيكل الاقتصادي المشوه، ورفع مستوى اتناجية العمل الانساني ... الخ. ومعلوم أن انخفاض معدل التراكم في الدول النامية أعتبر أحد السمات الهامة لظاهرة التخلف الاقتصادي. لكن الاشكالية التي واجهتها هذه الدول هي اتساع الفجوة القائمة بين معدل الادخار المحلي المتواضع ومعدل التراك (الاستثمار) المطلوب. ولسد هذه الفجوة لجأت الدول النامية الى الاقتراض والتمويل الخارجي بصفة عامة.

    وقد استمرت الحاجة الى التمويل الخارجي قائمة ومتزايدة عبر الزمن، مما أدى الى أن يصبح رأس المال الأجنبي، على اختلاف أنواعه، مستأثرا بتمويل نسب هامة من اجمالي الاستثمارات المتحققة في هذه البلاد.

    على أن الخطأ الفادح الذي وقعت فيه معظم البلاد النامية في صدد استعانتها بالموارد الأجنبية لتمويل برامج تنميتها انها لم تنظر الى هذه الموارد على أنها عنصر ثانوي ومكمل للموارد الداخلية، بل اعتبرته العنصر الحاسم والحاكم في مسار عملية التنمية. فقد نظرت كثير من البلاد النامية الى رأس المال الأجنبي على أنه بديل لجهد الإدخار الوطني. ففي الوقت الذي كان من المفروض فيه على المسؤولين عن السياسة الاقتصادية العمل بشتى الطرق لكي تزيد قيمة المدخرات المحلية –على الأقل بقيمة الأعباء السنوية المترتبة على الديون الخارجية- سنجد أن السياسة الاقتصادية في هذه الدول لا تعمل على تحقيق ذلك، بل تترك الزيادة في الاستهلاك تلتهم معظم ثمار التنمية. فالفلسفة السائدة كانت تهدف الى رفع مستوى الاستهلاك في أقصر فترة ممكنة تحت دعوى تعويض الحرمان الذي عانته هذه البلاد في الماضي.

    لكن الاستمرار في التنمية –في ضل هذه الفلسفة لا بد أن يؤدي الى تزايد الاعتماد على التمويل الخارجي لتعويض النقص الذي يحدث في معدلات الادخار والاستثمار. ونظرا لتزايد أعباء التمويل الخارجي فإن المسار الحتمي الذي انتهت اليه هذه الفلسفة هو نقل عبء تمويل الزيادة التي حدثت في الاستهلاك في الأجل القصير والمتوسط الى كاهل الأجيال الأخرى التي تعيش الآن أزمة الديون الخارجية لمجتمعاتها ونتائج هذه الأزمة.

    وتبدو ضخامة مسؤولية البلاد النامية في تفاقم مشكلة ديونها في تفاقم مشكلة ديونها الخارجية بشكل أوضح فيما انتهجته هذه البلاد من استراتيجيات خاطئة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي خلال العقد الأول للتنمية (1960 – 1970). حيث اختارت كثير من هذه الدول استراتيجيات غير ملائمة لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، ولا تتناسب مع طبيعة الامكانات المتاحة بها، وتتعارض مع ما تتطلع اليه الجماهير العريضة من رفع حقيقي لمستوى معيشتها.

    فقد اعتمد واضعوا السياسة الاقتصادية في الدول النامية عند وضع استراتيجيات التنمية والخطط المتفرعة عنها على تطبيق نماذج جاهزة للنمو، وضعها الفكر الاقتصادي في الدول الرأسمالية المتقدمة دون مراعاة للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في هذه البلدان.

    وحينما لجأت الدول النامية الى أشكال التمويل الخارجي لم ترسم لنفسها سياسة واضحة وسليمة للاقتراض، وقد أدى غياب هذه السياسة الى حدوث أخطاء جسيمة ساهمت بشكل مباشر في تفجير أزمة الديون الخارجية لهذه الدول. وتتجلى السياسة الخاطئة للاقتراض الخارجي في:

    1 – عدم وجود رؤية واضحة حول حدود المدى الزمني للتمويل الخارجي

    2 – تمويل الواردات من السلع الاستهلاكية التي لا تساهم في زيادة الطاقة الانتاجية للبلد ولا تخلق موردا مباشرا أو غير مباشر، لتسديد أعباء هذه القروض.

    3 – كما تم استخدام قروض قصيرة الأجل ذات تكلفة عالية لتمويل استثمارات طويلة الأجل.

    4 – عدم مراعاة التزامن بين سداد القروض وتشغيل الطاقات الانتاجية الممولة بواسطة هذه القروض

    5 – حدوث أخطاء جسيمة في تقييم المشاريع الممولة بواسطة القروض الأجنبية

    6 – تنفيذ أنواع من المشاريع لا تلبي الاحتياجات الأساسية للجماهير ولا تؤدي الى الاستخدام الأمثل للموارد.













    4 – تطور المديونية الخارجية ابتداء من عقد السبعينات

    أ – سياق المديونية الخارجية:

    بدأ التاريخ الحديث للمديونية الخارجية مع بداية عقد السبعينات، حيث لم تكن تتجاوز المديونية الخارجية للمغرب مثلا في بداية هذا العقد 2 مليار دولار. غير أن عددا من العوامل ساهمت منذ ذلك الحين في انفجارها زكتها الفوضى التي أحدثتها الصدمتين النفطيتين الأولى والثانية (1973 و1979)، وكذلك ارتفاع سعر الدولار ومعدلات الفائدة التي بلغت مستويات خيالية، اضافة الى اشتعال اسعار صرف العملات نتيجة تعويمها، وما صاحب كل ذلك من توافر سيولة مفرطة في الأسواق المالية الدولية نتيجة بروز ظاهرتي اليورودولار والبترودولار.

    في ظل هذه الفوضى حدث تفاعل بين حاجة البلاد النامية المتزايدة الى السيولة المالية لتمويل وارداتها وانجاز بعض الاستثمارات العمومية؛ وحاجة الدول المتقدمة والأبناك دولية النشاط والشركات متعددة الجنسية التي تراكمت لديها فوائض مالية هائلة الى ايجاد منافذ لتوظيف هذه الفوائض درءا لاحتمالات تبخيس قيمتها.

    في ظل هذا الوضع تسارعت حدة استدانة البلاد النامية لدى الدول المتقدمة والأبناك والمؤسسات والشركات الدولية النشاط. ففي فترة وجيزة تتراوح مابين سنة 1975 و1982 عرفت المديونية الخارجية في البلاد النامية اشتعالا خطيرا في فترة تتسم بارتفاع معدلات الفائدة وارتفاع سعر صرف الدولار واسعار الطاقة، وهو ما يعني أن الاستدانة كانت تتم بأسعار مرتفعة باهضة التكلفة.

    وقد أدت هذه الظاهرة الى عواقب خطيرة على البلاد النامية مع حلول عقد الثمانينات، فقد انتقل حجم المديونية في المغرب مثلا من 2 مليار دولار في بداية عقد السبعينات الى 11 مليار دولار سنة 1983 مما دفع البلاد الى حالة من العجز عن الوفاء بمستحقاتها اتجاه الدائنين. فقد بلغت المديونية الخارجية الى حوالي 97 % من الناتج الداخلي الاجمالي وهي وضعية غير مقبولة من طرف الدائنين. حيث تقدم المغرب خلال سنة 1983 بطلب عروض دولي لاستيراد مادة السكر دون أن يستجيب العارضون الدوليون لطلبه نظرا لعدم ثقتهم في قدرته على الوفاء بالتزاماته.

    من هنا انطلق المسلسل المعروف والمتمثل في وضع المغرب تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية، صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ابتداء من صيف 1983 في اطار ما يسمى بمرحلة برنامج التقويم الهيكلي. وتقوم هذه الوصاية على المنطق الميكانيكي الذي طوره صندوق النقد الدولي والذي يقول: بما أنك دولة تعيش حالة من العجز عن الوفاء بالتزاماتك اتجاه الدائنين، فأنت في حاجة الى طلب اعادة جدولة الديون المتراكمة، بمعنى أنه عليك أن تعمل على تأجيل استحقاقات الدفع لمدة ثلاث سنوات مع امكانية مراجعة هذا التأجيل لعدة مرات، لذلك عليك أن تتحمل كلفة هذه التأجيلات.

    إن كلفة اعادة الجدولة لا تكون مالية فقط وإنما اقتصادية واجتماعية كذلك. فعلى المستوى المالي تعتبر عملية اعادة الجدولة باهظة الثمن، لأن المدين لا يؤدي فقط المتأخرات والتسديدات المؤجلة، وإنما يؤدي كذلك وجيبات التأخير المتزايدة بالإضافة إلى الفوائد، علما بأن هذه الأخيرة كانت جد مرتفعة خلال عقدي السبعينات والثمانينات. أما على مستوى السياسة الاقتصادية فتظهر كلفة اعادة الجدولة من حيث ضرورة الخضوع لسياسة اقتصادية ومالية واجتماعية انكماشية، تدعى بسياسات التقويم الهيكلي.

    ويشير منطق صندوق النقد الدولي هنا الى أنك إذا ما طبقت هذه السياسات فيجب أن تكون قادرا على استعادة التوازنات الهيكلية لإقتصادك، وبالتالي أن نستخلص ما أمكن من الفوائض المالية المتزايدة لتتمكن من الوفاء بالتزاماتك اتجاه الدائنين، وكسب ثقتهم مما يفتح المجال أمامك الى المزيد من الاستدانة. ويؤكد هذا المنطق على حقيقة صارخة تتمثل في أن العملية تصبح عبارة عن دائرة مفرغة بين نقطتين أولها الاستدانة وآخرها المديونية ثم العودة مرة أخرى الى الاستدانة فالمديونية.

    إن برامج التقويم الهيكلي لا تتضمن تدابير تستهدف الرفع من مستوى معيشة المواطنين، بل يقتصر هدفها الوحيد على استعادة التوازنات الهيكلية لاستعادة ثقة الدائنين لسداد المديونية وفتح المجال لاستدانات جديدة. ويحق لنا هنا أن نتساءل عن مآل هذه القروض التي لا دخل للشعوب في اقرارها أو الرقابة عليها بينما تتحمل عبئها بدمائها؟ فغياب الديموقراطية في بلاد العالم الثالث وكذا فساد الحكومات والبرامج السياسية يؤكد على أن استخدام هذه القروض لا يتم لفائدة الشعوب وإنما لاستغناء الكومبرادورية والطبقات الحاكمة.

    وقد اعتبر العقد المتراوح ما بين 1983 و1993 عقد التقويم الهيكلي واعادة الجدولة بامتياز، حيث وقع المغرب خلال هذا العقد على تسع اتفاقيات لاعادة الجدولة، منها خمس اتفاقيات مع نادي باريز وأربع اتفاقيات مع نادي لندن. علما بأن نادي باريز يعتبر ناديا للدول الدائنة، ؛ أما نادي لندن فيضم الدائنين الخواص من أبناك دولية ومستثمرين دوليين وشركات متعددة الاستيطان...الخ. فهناك نادي الدائنين الرسمي العمومي الدولتي، وهناك نادي الدائنين الخواص.

    وخلال عشر سنوات كان المغرب عند كل اعادة جدولة يستفيد من تأجيل إرجاع بعض ديونه التي لم يتمكن من سدادها. وفي المقابل كان عند كل اعادة جدولة يلتزم بفوائد ووجيبات التأخير الاضافية والباهظة التكلفة. ومنذ انتهاء عقد اعادة الجدولة سنة 1993 أصبح المغرب يوجد في قمة منحنى ما يسمى بدورة المديونية، حيث تكون أعلى درجات سداد الفوائد والأقساط والمتأخرات، فالمغرب لا يسدد اليوم فقط القروض المعقودة خلال عقد السبعينات أو في بداية عقد الثمانينات، وانما يسدد كذلك ما لم يقم بتسديده من قبل، أي ما تم تأجيله عبر اتفاقيات اعادة الجدولة لعقد الثمانينات. فالسداد أصبح يتم بعد سنة 1993 بانتظام وفي الآجال المعلومة لذلك.

    تلك إذن هي الصورة الاجمالية لمسار المديونية سواء في المغرب أو في بقية البلاد النامية، فجل الدول النامية سقطت فيما يسمى بحالة العجز عن الأداء ما بين سنة 1980 و1985 ثم انخرطت جلها في عمليات اعادة جدولة الديون الخارجية ما بين سنة 1985 و1995 وهناك حاليا العديد من الدول التي لا زالت تعيد جدولة ديونها. لكن على العموم فإن نفس المسار نجده يتكرر لدى هذه الدول أي التوقف عن السداد ثم اعادة الجدولة مع تطبيق برامج التقويم الهيكلي، وبعد مرور 10 الى 15 سنة يتم الخروج من مرحلة اعادة الجدولة لتبدأ المرحلة التي نعيشها حاليا من السداد الأقصى للمديونية.

    وتجدر الاشارة الى أن بداية الحديث عن العولمة الليبرالية وعن مقولة نهاية التاريخ تزامن مع عقد تطبيق الاصلاحات الاقتصادية في بلاد العالم الثالث وسقوط جدار برلين وخضوع البلاد الاشتراكية سابقا لما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي وهي الفترة المتراوحة ما بين 1985 و1995. فتطبيق هذه السياسات فسح المجال للشركات متعددة الاستيطان من بسط سيطرتها على مختلف الاقتصاديات تقريبا.







    ب – المعطيات الرقمية للمديونية الخارجية

    على مستوى الأرقام انتقلت المديونية الخارجية في المغرب من حوالي 2 مليار دولار في بداية عقد السبعينات الى حوالي 8 مليار دولار في نهاية هذا العقد ثم الى حوالي 12 مليار دولار سنة 1982، ثم الى 14 مليار دولار سنة 1985، ثم الى حوالي 22 مليار دولار في بداية عقد التسعينات، ثم ارتفع حجم المديونية بعد ذلك الى 23 مليار دولار سنة 1995، وانطلاقا من سنة 1997 بدأ نوع من التراجع البطيء نحو 21 و20 مليار دولار، ويوجد المغرب اليوم فيما بين 14 و16 مليار دولار، نتيجة ما سمي بالتدبير النشيط للمديونية.

    وتبرز المبالغ التي تم سدادها لحد الآن برسم المديونية الخارجية ما بين سنتي 1980 و 2000 مفارقة غريبة لا يجب تجاهلها، وتتمثل في أنه بعد مرور 20 سنة من محاولة علاج مشكلة المديونية، نجد أنفسنا نتحمل عبء دين تضاعف في المجموع مرتين، وبعبارة أخرى أنه خلال 30 سنة أي منذ بداية عقد السبعينات تضاعف حجم المديونية في المغرب 8 مرات، وطيلة هذه المدة كان المغرب سنويا يسدد جزءا مهما من مداخيل ميزانيته العامة برسم خدمة الدين. وهذا يعني أن المغرب منذ ذلك الحين لم يتوقف عن السداد، فحتى خلال مرحلة اعادة الجدولة كان يسدد هذا الحجم، لأن مسألة اعادة الجدولة لا تهم كل الديون خصوصا ديون المؤسسات المالية الدولية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تعتبر غير قابلة لاعادة الجدولة.

    إن علامة الاستفهام التي تطرح هنا هي كيف أننا كنا نسدد سنويا وطيلة عشرين سنة ما يقارب ثلث مداخيل الميزانية العامة برسم خدمة الديون، ثم نجد أنفسنا في نهاية المطاف في مواجهة مديونية تمثل ضعف إن لم تكن تشكل ثلاث مرات الحجم الأصلي للمديونية. إنها إذن احدى المفارقات الغريبة، ونجد أن هذه الوضعية تتقاطع عندها تجارب جل البلاد النامية.

    فإذا ما نظرنا الى وضعية المديونية الخارجية للدول الافريقية جنوب الصحراء سنجد أن هذه الدول قد سددت ما بين 1980 و1997 ما يساوي ضعفي مديونيتها الخارجية الأصلية، حيث كانت هذه المديونية تصل سنة 1980 الى حوالي 80 مليار دولار ثم انتقلت سنة 1997 الى 235 مليار دولار، حيث سددت هذه الدول خلال 18 سنة حوالي 160مليار دولار بمعنى أنها سددت مرتين مديونيتها الاصلية، ومع ذلك لازال حجمها يساوي ثلاث مرات هذا المبلغ أي 235 مليار دولار.تلك إذن هي المفارقة الكبرى.

    ثانيا: عواقب المديونية الخارجية على بلاد العالم الثالث

    وقع العديد من البلدان النامية ومن بينها المغرب في فخ المديونية الخارجية وبلغ حجمها مستويات حرجة باتت تؤثر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهذه الدول.

    لكن هل ساعدت هذه الأموال الدول النامية على تحقيق التنمية المنشودة؟ وما هي انعكاسات المديونية الخارجية على مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية؟ وإلى أي حد أثرت أزمة المديونية الخارجية على القرار السياسي؟.

    1 - انعكاسات المديونية الخارجية على الخطط الإنمائية
    إن المديونية الخارجية تشكل عرقلة أساسية أمام طموحات التنمية لدول العالم الثالث. فقد شكلت بالنسبة للمغرب عرقلة أساسية للتنمية على على مستوى التوازنات الماكرو اقتصادية وعلى مستوى النمو، وهو ما قاد الى تأثير عميق على مستوى التوازن الاجتماعي. وتتداخل هذه المستويات الثلاث فيما بينها لتشكل معا سببا ونتيجة في نفس الوقت.

    فالتوازنات الماكرو اقتصادية تتأثر بظاهرة المديونية انطلاقا من تأثير هذه الأخيرة على ميزانية الدولة. فالمديونية الخارجية هي بالأساس مديونية عمومية، سواء تم إبرامها مع الدولة أو مباشرة مع مؤسسة عمومية بضمانة الدولة. ومن هنا يكون سداد هذه المديونية من خلال الميزانية العامة، مما يؤكد العلاقة المباشرة ما بين دور الدولة كفاعل ماكرو اقتصادي والمديونية والميزانية العامة. فإذا ما أخذنا بنية ميزانية المغرب لعام 2002 فإن حوالي 53 % تذهب إلى نفقات التسيير و33 % أي ما يقارب الثلث تخصص لخدمة الدين أما ما يتبقى والذي يبلغ حوالي 14 % فيخصص لنفقات الاستثمار.

    فخلال عقد السبعينات لم تكن نسب خدمة المديونية تمثل سواء بالنسبة للمغرب أو بالنسبة لعدة بلدان نامية أخرى سوى 1 أو 2 % من الناتج الداخلي الإجمالي، بينما كان معدل الاستثمار يمثل ما بين 20 و25 %. لكن الوضع تغير خلال عقد الثمانينات حيث وصلت نسب خدمة الديون إلى 6 %، أما إذا أضفنا أصل القرض فتصل إلى 12 % ، وفي المقابل تراجع معدل الاستثمار من 25 % إلى 20 % ثم إلى 18 % ف 14 % . فقد حصل تراجع في الجهد التراكمي، الذي يعتبر المحرك الأساسي للنمو، بينما ارتفعت في المقابل التكاليف المستنزفة للفائض الاقتصادي.

    النتيجة هي تدهور مستوى النمو. فالأمر لا يتعلق فقط بانخفاض أو انكماش في المداخيل، فالدولة عندما لا تستثمر وبالتالي لا تخلق مناصب للشغل وتوزع المداخيل فإن أثر ذلك ينعكس على الطلب الإجمالي، وعلى نفقات الاستهلاك، بحيث تتعرض بطبيعة الحال إلى الانخفاض وتفقد الدولة عبر ذلك إمكانياتها في تحقيق النمو.

    وعموما تسببت المديونية الخارجية على المستوى الاقتصادي في مشاكل اقتصادية كثيرة للمغرب ولباقي البلاد النامية من بينها :

    - إضعاف القدرة على استيراد المواد والخدمات الضرورية الاستهلاكية و الوسيطة والاستثمارية. ويمكن أن يتسبب هذا الضعف في انفجار التضخم وفي تدهور الناتج الداخلي الإجمالي ومعدل النمو الاقتصادي.

    - الضغط على سعر صرف العملة الوطنية بحيث تتعرض للتدهور.

    - استنزاف الاحتياطات الدولية من ذهب وعملة صعبة وحقوق سحب خاصة إلى آخره ... بحيث يمكنها أن تبلغ مستويات حرجة جدا كما حدث في بلادنا صيف 1982 حينما لم تعد تكفي هذه الاحتياطات لضمان أيام معدودة من الواردات.

    - إضعاف الجدارة الائتمانية للبلاد في أسواق النقد الخارجية، مما يضعف من قدرة البلاد على الاقتراض الخارجي.

    تؤدي كل هذه النتائج إلى طلب تدخل صندوق النقد الدولي الذي يجد في هذه الفرصة مناسبة لجعل الاقتصاد الوطني يخضع كلية لتحكم الرأسمال المالي العالمي.

    2 - الآثار الاجتماعية للديون الخارجية

    تتجاوز الآثار السلبية للديون الخارجية الجوانب الاقتصادية إلى الأبعاد الاجتماعية خصوصا مع تنامي ظاهرة العولمة. فالدول النامية التي كانت تتبنى فلسفة اقتصادية تقوم بالأساس على تحكم الدولة في إدارة النشاطات الاقتصادية من قبل, نجدها تتحول تحولا جذريا, من خلال تطبيق برامج التقويم الهيكلي, متنازلة بذلك عن جزء كبير من مهمتها الاجتماعية. وتستند هذه البرامج إلى منح رؤوس الأموال الدور البارز في توجيه الحياة الاقتصادية في ضل تحرير المعاملات الاقتصادية والمالية مع العالم الخارجي.

    فأغلب الدول النامية لجأت إلى تطبيق برامج التقويم الهيكلي تحت وطأة ارتفاع مديونيتها الخارجية وبمباركة من المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي), الشيء الذي أفرز معدلات بطالة مرتفعة أصبحت تهدد استقرارها الاجتماعي والسياسي.

    وترجع هذه المعدلات إلى تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في هذه الدول نتيجة لتطبيق سياسات انكماشية تتضمنها هذه البرامج خاصة في المراحل الأولى لها, مما يؤدي إلى خفض الطلب المحلي ويزيد من حدة الركود الاقتصادي الذي يؤدي بدوره إلى تراجع الطلب على العمل.

    يضاف إلى ذلك تأثير عمليات خوصصة المؤسسات العمومية التي قادت بشكل ميكانيكي نحو تقليص اليد العاملة. كما تراجعت الحكومات عن خلق فرص جديدة للعمل بحجة الضغط على الإنفاق العام وتقليص عجز الميزانيات العامة, إلى غير ذلك من الإجراءات المرافقة لبرامج الإصلاح الاقتصادي هذه التي أصبحت شرطا ضروريا لطلب إعادة جدولة الديون أو الحصول على قروض جديدة.

    ويمكن القول أن الحصيلة العامة لتفاعل أزمة الديون الخارجية مع تيار العولمة المتصاعد, قد أثر سلبا على مستويات المعيشة لغالبية الدول المدينة وأدى إلى تفاقم الفقر في هذه الدول.

    وإذا كانت خدمة الدين الخارجي بالمغرب تستنزف حوالي 46 مليار درهم وهو ما يمثل ثلث الميزانية العامة، فإن مبلغ الإنفاق الاجتماعي في مجالات التربية والصحة والبنيات التحتية الاجتماعية ومجالات الاحتياط الاجتماعي ونفقات دعم المواد الأساسية ...الخ، لم يتجاوز 28 مليار درهم، منها 21 مليار درهم برسم قطاع التربية والتعليم و 7 مليار درهم فقط هي التي تخصص لمختلف النفقات الاجتماعية الأخرى. وهو مبلغ لا يشكل سوى سدس المبلغ المخصص لخدمة الدين والذي تسدد قيمته بالدولار. وتؤكد هذه الوضعية على الوضع الاجتماعي المتدهور حيث تؤكد على أن هناك أطفال لا يتوجهون إلى المدارس ومرضى لا يعالجون ومرافق اجتماعية لا تتمكن من أداء وظائفها أو أنها غير قائمة ... الخ. ولا أدل على هذا التدهور الاجتماعي من تصنيف المغرب في تقرير التنمية البشرية في مرتبة 126 عالميا.

    3 - التداعيات السياسية للمديونية الخارجية
    إن خطورة تفاقم الديون الخارجية لا تقف عند الحدود الاقتصادية والاجتماعية بل تتجاوزها إلى درجة إخضاع صانع القرار السياسي إلى مزيد من الضغوطات والتدخل الأجنبي. وفي ظل عالم يتميز بهيمنة الدول الرأسمالية المتقدمة ومؤسساتها المالية الدولية الخاضعة لها، ومع تنامي ظاهرة العولمة بكافة أوجهها -خاصة الوجه المالي- فإنه من المتوقع تسارع عملقة رأس المال واحتواء الشركات متعددة الاستيطان المحركة لهذا المال لمصير الخطط الإنمائية وتعميق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية إلا أن خطورة هذا النفوذ لن تقف عند البعدين الاقتصادي والاجتماعي بل يتعدى ذلك إلى البعد السياسي. حيث تضعف هذه الأموال والشركات الكبرى سيادة الدول وتلعب دور الشرطي الذي يلزم الدول المضيفة بتوجهات معينة في سياساتها العامة وهو ما يشكل مساسا بالسيادة الوطنية وباستقلال القرار السياسي.

    فرؤوس الأموال الأجنبية والشركات الدافعة لها تعمل على اختراق النظام السياسي والتأثير عليه بما يتلاءم مع مصالحها. فقد كشفت التحقيقات الجنائية أن هذه الشركات تمول الأحزاب المتنافسة في الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا حتى لا تأتي نتائج الانتخابات بأي أثر سلبي يمكنه أن يضايق مصالحها فكيف لا يكون الأمر كذلك بالنسبة للدول النامية حيث يتم شراء ذمم الكثير من أعضاء البرلمان وحتى الحكومة وحيث يتحول السياسيون من رجال دولة إلى مرتزقة.



    ثالثا: الحلول المقترحة لمعالجة اشكالية المديونية

    ماهي الحلول التي تم اقتراحها من أجل تدبير اشكالية المديونية؟

    خلال عقد الثمانينات كانت مختلف الدراسات تعتبر اشكالية المديونية الخارجية على أنها أزمة سيولة فظهرت نتيجة لذلك كل من مخططات جيمس بيكر وبرادلي والتي كانت ذات صلة وثيقة بتقنيات إعادة الجدولة وضخ المزيد من الموارد المالية وإجراء إصلاحات هيكلية في البلدان المدينة على أساس برامج تصحيحية على شاكلة برامج التقويم الهيكلي.

    وفي قمة تورنتو سنة 1988 كان فرانسوا ميتران أول من دعا الى الغاء جزء من مديونية الدول النامية الأكثر فقرا(في حدود الثلث) مع اعادة جدولة باقي الدين، وقد كان هذا الاقتراح مفتاح لإقتراحات أخرى ستأتي فيما بعد.

    لكن بموازاة التطور الذي فتحه مقترح الرئيس ميتران كان هناك ما يسمى بالسوق الثانوي لسندات الديون. وقد ظهرت هذه السوق منذ سنة 1982 وأصبحت فاعلة حقا منذ عام 1984. وتتلخص الفكرة ببساطة في لجوء البنوك التجارية دولية النشاط لكي تتمكن من تحجيم مخاطر ديونها المفرطة التي أعطيت إلى البلاد النامية، إلى طرح بيع سندات المديونية الخاصة ببعض البلاد النامية في سوق ثانوي للديون بأسعار خصم مغرية من القيمة الاسمية للسندات. وقد ساعدت هذه التقنية الجديدة في ظهور ما يسمى بتحويل الديون الخارجية الى استثمارات.

    لكن على الرغم من الطابع الجذاب لتقنية السوق الثانوية وتحويل المديونية الى استثمارات أجنبية إلا أنها ظلت هامشية. وتفيدنا التقارير الصادرة عن مؤسسات ال swaps بأن تحويل المديونية الخارجية إلى استثمارات أجنبية لم يهم أبدا سوى 2 إلى 3 % من حجم المديونية الخارجية. وعلى هذا المستوى لا يمكننا التباهي بأننا نتوفر على تقنية لمعالجة إشكالية المديونية.

    ومع بلوغ مديونية البلاد النامية سنة 2000 إلى حوالي 2100 مليار دولار، كما تصل الى 2400 مليار دولار إذا ما أضفنا إليها مديونية دول شرق أوروبا الناشئة، علما أن حجم المديونية لا زال مستمرا في الارتفاع، وأن الاكراهات لا زالت مستمرة في الضغط على الأوضاع الاقتصادية للبلاد السائرة في طريق النمو، حيث الفقر مستمر في الانتشار والتوسع، بدأت المؤسسات المالية الدولية تغير شيئا من فلسفتها. خصوصا مع ظهور حركات المجتمع المدني المناهضة للعولمة الليبرالية.

    فقد انعقد في يونيو 1999 بكولونيا الاجتماع السنوي لمجموعة الدول السبع الأكثر تصنعا، وقد شكل هذا الاجتماع حدثا فريدا من نوعه حيث أنه لأول مرة تم اعتماد قرار تحت ضغط ما يسمى بحركات المجتمع المدني، حيث توافدت إلى هذا الاجتماع سلسلة بشرية تقدر ب 20 ألف شخص تزعمتها مجموعات أطاك بالعديد من البلدان والمنظمات غير الحكومية المناهضة للعولمة الليبرالية المنتمية إلى مختلف الدول والتي تعمل بنشاط ودينامية كبيرة، وقد تزامن كل ذلك مع ما يمكن تسميته بالاحتفال الديني للألفية الثالثة (Jubilé 2000) والذي ترعاه الكنيسة الكاثوليكية والتيارات السياسية المسيحية الديموقراطية.

    إذن فقد كان وراء القرارات المعتمدة كمعطى أول تزايد الوعي لدي الدول المدينة التي لم تعد قادرة على تحمل هذه المشكلة، ثم كمعطى ثاني تزايد الوعي لدى الدائنين الذين أخذوا يدركون خطورة الوضعية والذين شرعوا في اتخاذ بعض المبادرات التي من شأنها تحسين الوضعية نوعيا مقارنة بالماضي. ثم كمعطى ثالث بروز الوعي لدى المنظمات غير الحكومية التي شعرت بتهديد وبعدم إنسانية الوضع القائم فقامت بالتعبئة الجماهيرية المكثفة للضغط على أصحاب القرارات في الدوائر السياسية والمالية والنقدية الدولية قصد إلغاء ديون العالم الثالث.

    فمن خلال تفاعل هذه المعطيات الثلاث ساهم اجتماع كولونيا في بلورة بعض الأفكار التي تسعى إلى حل المشكلة، وهذا بحد ذاته يعتبر جديدا، لذلك يعتبر قرار تمييز الدول الفقيرة الأكثر مديونية مثلا PPTE لإيجاد برنامج ملائم لإلغاء مديونيتها أمرا جديدا بحد ذاته، خصوصا وأن الإلغاء يتطلب جهدا ماليا لتمويله. وقد تقرر لأول مرة بأن يقوم صندوق النقد الدولي ببيع جزء من الذهب الذي يختزنه، لمواجهة تكاليف تمويل الإلغاء. لكن مقابل هذا المجهود يجب فرض برنامج صارم جدا وشروط دقيقة على البلدان المعنية بالأمر.

    إن المغرب لا يعتبر معنيا بمبادرة الدول الفقيرة الأكثر مديونية لأن معيار تحديد هذه الدول يقوم على نصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي، وهو 800 دولار في السنة، بينما يتراوح هذا النصيب في المغرب ما بين 1200 و1400 دولار في السنة. لكن هل يمكن اعتبار هذا المعيار كافيا؟ ألا يعتبر تصنيف المغرب في المرتبة 126 عالميا فيما يخص التنمية البشرية كافيا لإدماجه في هذه المبادرة؟

    فالمغرب الذي عاش مرحلة التقويم الهيكلي ما بين سنتي 1983 و1993 وابتداء من سنة 1994 دخل مرحلة التدبير النشيط للمديونية، حيث أصبح يسدد مستحقاته في آجالها، بدأ يبحث مؤخرا عن حلول للتخفيف من تفاقم المديونية، منها بطبيعة الحال تحويل الديون الخارجية الى استثمارات وكذا إعادة شراء الديون الباهظة بديون أقل تكلفة كالاستدانة بمعدلات فائدة منخفضة 3 % مثلا مقابل سداد مديونية ذات معدل مرتفع بنسبة 9 % مثلا. لكن النتائج المحققة لحد الآن تعتبر محدودة.

    أما بالنسبة لتقنية تحويل الديون إلى استثمارات أجنبية مع بعض الدول الدائنة ، فقد ثم اعتماد ذلك مع فرنسا، وإسبانيا وإيطاليا. وفي هذا الإطار تم الاتفاق مع السلطات الفرنسية على تخصيص مبلغ إجمالي يقدر ب 630 مليون أورو لتخفيف خدمات الدين إضافة إلى تحويل مبلغ 105 مليون أورو إلى استثمارات فرنسية بالمغرب أنجزت منها مرحلة أولى بمبلغ 360 مليون أورو بينما تم التوقيع على إنجاز الشطر الثاني والأخير من هذا المبلغ. كما تمت معالجة ما قدره 87 مليون دولار أمريكي مع إسبانيا و100 مليون دولار أمريكي مع إيطاليا. والجدير بالذكر أن هذا النوع من التحويل قد أتاح لشركة لاليونيز دي زو مثلا أن تمتلك الوكالة المستقلة للماء والكهرباء لمدينة الدار البيضاء La RAD ومن المرتقب أن يتعمم هذا المنظور على مقاولات حيوية أخرى. وتطال عمليات تحويل الديون إلى استثمارات في الغالب مقاولات قائمة فعلا، غير أن ذلك لم يهم لحد الآن سوى 2 إلى 3 % فقط من مجموع المديونية.

    لكن ألا تعني السياسات المتبعة حاليا في مجال تدبير المديونية أن هناك محاولة للتخلص من مشكلة الديون عبر خلق مشكلة أخرى تتمثل في فتح المجال أمام سيطرة الشركات الأجنبية الخاصة، المتعددة الاستيطان، على قدرات بلادنا الاقتصادية، وبالتالي حرمانها من استقلالية اتخاذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية الملائمة؟

    وتجدر الإشارة في الأخير إلى الحل الذي اقترحته سوزان جورج خلال الثمانينات (تشغل حاليا نائبة رئيس مجموعة أطاك فرنسا) والذي يقوم على تبني صيغة تتكون من معادلة الدين، التنمية والديموقراطية La formule de 3 D: Dette, Développement et Démocratie ويسعى هذا المقترح إلى المطالبة بتحويل المديونية إلى استثمارات بأسلوب لا علاقة له بمنطق السوق، بحيث تحدد لهذا التحويل أهداف تنموية حقيقية داخل البلد المدين يستفيد منها المواطن قبل كل شيء وتقام مشاريع تنموية في المناطق التي تحتاج إلى هذه التنمية فعلا مع إشراك المواطن في عمليات التنفيذ ويمكن أن تشمل هذه المشاريع مثلا شق الطرق وبناء المدارس و السدود و التنمية الريفية ...الخ، وأن تتم هذه التقنية بإقامة علاقة نوعية بين البلد الدائن والبلد المدين بحيث يتم تأسيس صندوق مستقل بإدارة مشتركة توضع فيه عائدات المديونية وتوجه نحو تنفيذ مشاريع تنموية داخل البلد المدين. ويمكن لمثل هذا المقترح أن يدخل ضمن مشروع واسع يشمل مثلا دول المجموعة الاقتصادية الأوروبية ودول شمال إفريقيا أو دول البحر الأبيض المتوسط.

    بدلا من الخاتمة

    نحو تصور موضوعي لمجابهة أزمة المديونية

    ـــــــــــــــــــــــــ

    إن أزمة المديونية الخارجية لدول العالم الثالث تعبر عن واقع التبعية والاعتماد على الغير. فهي نتاج حتمي لوضع الدول المتخلفة في نظام تقسيم العمل الدولي وفي العلاقات المالية والتجارية والنقدية غير المتكافئة داخل الاقتصاد الرأسمالي العالمي. وهو الوضع الذي يجعل هذه الدول تتعرض للصدمات والازمات الخارجية حينما تحدث الازمة في بنية هذا الاقتصاد، في حين تتلقى الفتات فقط حينما يدخل هذا الاقتصاد في مرحلة ازدهار وانتعاش.

    يجب العمل إذن على كسر علاقات التبعية الخارجية والاتجاه نحو استراتيجية الاعتماد على الذات، بأبعادها العالمية والاقليمية والمحلية.

    1 - البعد العالمي:

    فعلى المستوى العالمي يجب الاسراع بتكوين نادي دولي، قوي ومتماسك، للمدينين لمواجهة بأس وقوة نادي باريس. وذلك للدفاع عن مصالحهم وحماية جهودهم التنموية وتطلعاتهم المشروعة في تحقيق التقدم الاقتصادي الاجتماعي. ويجب أن يتسع هذا النادي ليشمل كل المدينين، صغيرهم وكبيرهم، وأن يتوصل الى مجموعة من المعايير المناسبة لحل ازمة المديونية حيث يجب فرض: تجميد الديون لفترة طويلة (من عشرة الى عشرين سنة) وتخفيف اعبائها، والغاء بعضها، وتعديل طرق سدادها مثل الدفع بالصادرات، وضرورة اشراك الدائنين في تحمل عبء الأزمة.

    وعندما يتكون مثل هذا النادي، وهي مهمة صعبة ومعقدة يجب أن تلعب فيها الشعوب والمنظمات غير الحكومية الدور الأساسي، يمكن حينداك المطالبة بعقد مؤتمر دولي، تناقش فيه أزمة المديونية العالمية برمتها، وسبل تسهيل حلها.

    2 - البعد الاقليمي:

    يمكن العمل على تعميق ودعم أوجه التعاون بين التكتلات الاقتصادية الاقليمية الموجودة بين مختلف مجموعات دول العالم الثالث. الشيء الذي سيمكن من تحقيق نتائج هامة في حل معضلات الديون والتنمية من خلال ما يسمى بالاعتماد الجماعي على الذات. ويمكن تنسيق أشكال التعاون بين هذه المجموعات الاقليمية في المجالات التالية مثلا:

    · تشجيع التبادل التجاري فيما بين هذه الدول دون أن يمر عبر وسيط ثالث.

    · تشجيع ودعم اتحادات المنتجين للمواد الأولية التي تنتجها هذه الدول للحصول على اسعار ملائمة لصادراتها ودعم قوتها الشرائية في السوق الرأسمالي العالمي.

    · تشجيع حركة تدفق رؤوس الأموال من الدول الفائض النفطية التي تنتمي لدول العالم الثالث (دول الأوبيك) نحو دول العجز، في اطار صيغ محددة ومتطورة تعود بالنفع على أطراف التعاون.

    · تبادل التكنولوجيا والمعارف والخبرات العلمية الموجودة في هذه الدول بعيدا عن وساطة وسيطرة الشركات متعددة الاستيطان … الى آخره.



    3 - البعد المحلي:

    هناك عدد من السياسات المستعجلة التي يجب على القوى الوطنية الاسراع بتبنيها لمحاصرة الديون وحماية الجهد التنموي، ووقف الهبوط المستمر في مستوى المعيشة. ومن بينها:

    · وقف الخضوع الأعمى الذي حدث في الماضي لشروط الدائنين ولصندوق النقد الدولي والتي كان من شأنه وقف التنمية وتردي الأحوال المعيشية وتهديد الاستقلال السياسي والاقتصادي للبلاد المدينة وزيادة ميلها للاستدانة.

    · ضبط أنشطة التجارة الخارجية وأحكام الرقابة عليها، عبر العودة لنظام الرقابة على الصرف، بشكل يحقق ترشيد استخدامات النقد الأجنبي ومحاربة الاستيراد الترفي السفيه وضمان تمويل الحد الأدنى الضروري للواردات ودعم قدرة الدولة على خدمة ديونها الخارجية.

    · وضع سياسة رشيدة للاقتراض الخارجي، تستهدف وضع حد لنمو الديون الخارجية القصيرة الأجل (مثل التسهيلات المصرفية وتسهيلات الموردين) وأن تكون الديون الجديدة من طبيعة انتاجية وليست استهلاكية، وتنويع مصادر الاقراض الخارجي وعدم الاقتصار على دولة أو كتلة اقتصادية معينة، ويجب أن يكون المعيار هو "أفضل الشروط المقدمة".

    · عند التعاقد على قروض جديدة، وبخاصة ما كان منها طويل الأجل، يجب أن يحرص المسؤولون على ألا تقل فترة السماح عن فترة تفريخ الاستثمار حتى لا تأتي مواعيد السداد في أوقات غير ملائمة، لا تكون فيها المشروعات الجديدة قد بدأت في الانتاج.

    · علاج مشكلات الطاقات العاطلة، على الخصوص ما كان منها منتجا للتصدير أو منتجا لسلع تحل مكان الواردات.

    · تحاشي عمليات اعادة الجدولة، والحرص على دفع الأعباء في مواعيدها حتى يمكن تجنب فخ نادي باريس.

    · محاربة الاستهلاك غير الضروري، سواء في القطاع العام أو الخاص



    أما على المستوى المتوسط والطويل، فيجب العمل على التخلص بشكل نهائي من الأزمة. وذلك من خلال الاستمرار في التنمية ورفع مستوى معيشة المواطنين، دون حاجة الى الاعتماد بشكل أساسي على الموارد الخارجية، حيث يمكن بناء نموذج ذاتي للتراكم، يدفع نفسه بنفسه من داخل اطار الاقتصاد المحلي وامكاناته، وليس من خلال القوى الخارجية، ودون أن يؤدي ذلك الى الانغلاق أو عدم التعامل مع الخارج. ويمكن أن يتحقق هذا الهدف من خلال:

    · تعبئة الفائض الاقتصادي الممكن.

    · وتبني استراتيجية اشباع الحاجات الأساسية.



    فالمقصود بتعبئة الفائض الاقتصادي الممكن، تحويل الادخار الممكن والضائع الى ادخار فعلي، وذلك من خلال مختلف السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية الملائمة التي تكفل تعبئة الموارد التي تضيع على المجتمع، بلا معنى وبلا فائدة، مثل: الاستهلاك الترفي، وستيراد السلع الكمالية، وتهريب الأموال الى الخارج، والطاقات العاطلة، والاكتناز، والعمليات التي تتم في اطار السوق السوداء، والتخصيص غير الأمثل للاستثمار … الى آخره.

    أما استراتيجية التنمية المتجهة نحو اشباع الحاجات الأساسية للسكان، فترتكز على فكرة الاعتماد على الذات، أي على تعبئة الفائض الاقتصادي الممكن، وعلى صياغة نموذج تنموي يتجه أساسا، الى الداخل وليس الى الخارج، أي الى اشباع الحاجات الاساسية للسكان وتشمل هذه الحاجات حاليا:

    الغذاء، واللباس، والسكن الملائم، والماء الشروب، والمواصلات المريحة، وخدمات الصحة والثقافة والتعليم، الى آخره. و تتطلب هذه الاستراتيجية تحقق ثلاثة شروط اساسية هي:



    · تخطيط الموارد واستخداماتها.

    · توفير الحماية للصناعات المحلية.

    · توسيع السوق الداخلي من خلال عدالة التوزيع.



    وبما أن الاعتماد المتزايد على الخارج في استيراد المواد الغذائية يعتبر سمة جوهرية في معظم الدول المدينة، الشيء الذي استغلته الرأسمالية العالمية في اخضاع هذه الدول والضغط عليها، فلا يمكن التخلص من فخ المديونية وعدم الوقوع فيها مستقبلا الا بالتصدي الواعي لقضية الأمن الغذائي، الأمر الذي يتطلب تحقيق الثورة الزراعية ودعم التعاون بين دول العالم الثالث في هذا المجال.







    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] تشكل هذه الورقة مضمون المداخلة التي ألقيت في اطار ندوة نظمتها أطاك المغرب، السكرتارية الوطنية، بمعية اللجنة التحضيرية لأطاك آكادير ، وذلك يوم السبت 17 غشت 2002
                  

09-16-2004, 07:41 AM

esam gabralla

تاريخ التسجيل: 05-03-2003
مجموع المشاركات: 6116

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مابين العولمه و الارهاب ... مقالات للحوار (Re: esam gabralla)

    Quote: البعد الأيديولوجي لنشوء الإسلام السياسي
    د. جواد بشارة
    باريس


    ما الذي يحدث اليوم على الساحة الأيديولوجية العالمية ؟ هل هي بداية "صدام حضارات" تستمر لعقود تضع الغرب في مواجهة الإسلام وهي المواجهة التي تمتد بوحشية من المستنقع الأفغاني لتصل تدريجيا إلى مناطق أوسع من العالم؟ هل ستتحول التكنولوجيا ذاتها التي بدت وكأنها تعزز الحرية كالطائرات وناطحات السحاب ومختبرات الأحياء ضد العالم الإسلامي بأساليب لن يستطيع في النهاية وقفها؟ أم أن المواجهة الحالية ستتراجع ويعود العالم القديم ذو الاقتصاد العالمي المتداخل إلى وضعه فور الانتهاء من أسامة بن لادن وطالبان وطي صفحة شبكة الإرهاب؟
    نشر فوكاياما مقالاً يراجع فيه طروحاته بعد الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر يقول فيه :"قبل 1. سنوات جادلت بأننا بلغنا "نهاية التاريخ" ولم أعن بذلك أن الأحداث التاريخية قد تتوقف لكن ما عنيته هو أن التاريخ الذي يفهم على أنه تطور المجتمعات الإنسانية من خلال أشكال مختلفة من الحكومات قد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق . إن وجهة نظري هي أن هذه الفرضية ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت 11 سبتمبر فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطية المتطورة ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية والمؤسسات التي تجسد مباديء الغرب الأساسية في الحرية والمساواة ستستمر في الانتشار عبر العالم إن هجمات 11 سبتمبر تمثل حركة إرتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو وكأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه.لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه . وذلك لأن وجود حركة تملك القوة الإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددا قليلا من الناس فحسب يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء . والأسئلة الأساسية التي يواجهها الأمريكيون وهم يزحفون باتجاه هذه "الحرب" على الإرهاب هي ما مدى عمق هذا التحدي الأساسي وما نوع الحلفاء الذين ينبغي للغرب تجنيدهم؟ وما الذي ينبغي عليه عمله للتصدي له .فالعالم الإسلامي يموج اليوم بالعديد من التيارات المتمردة والساخطة والمتشددة ذات النزعة الأصولية . ولكن لماذا ظهر هذا النوع من الأصولية الإسلامية فجأة من الناحية الاجتماعية ؟ قد لا تكون الأسباب مختلفة عن تلك التي حركت الفاشية الأوربية في وقت مبكر من القرن الـ 2. فقد شهد العالم الإسلامي اجتثاث أعداد كبيرة من السكان من قراها التقليدية أو حياتها القبلية خلال الجيل الماضي وقد تم تمدين الكثير منهم وتعرض هؤلاء لشكل أدبي آخر من الإسلام أكثر يدعوهم للعودة إلى شكل آخر أكثر نقاء من الدين تماما كما حاول متطرفو القومية الألمانية أن يعيدوا إحياء هوية عنصرية خرافية منذ زمن بعيد ولهذا الشكل الجديد من الأصولية الإسلامية جاذبية هائلة لأنه يزعم أنه يشرح فحوى خسارة القيم والارتباك الحضاري اللذين ولدتهما عملية التحديث ذاتها .
    وعليه فإنه قد يمكن توضيح الأمور بالقول إن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة ضد الإرهاب ولا ضد الإسلام كدين أو حضارة ولكنه صراع ضد الفاشية الإسلامية أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة التي تقف ضد الحداثة والتي انبثق حديثا في أجزاء عديدة من العالم الإسلامي كما يعتقد الغربيون الذين يوجهون أصابع الإتهام بقوة ، " بخصوص نشأة و صعود النزعة الإسلاموية " ، نحو المملكة العربية السعودية فثروات العائلة السعودية المالكة اختلطت بمصالح الطائفة السلفية الوهابية منذ سنوات عديدة فقد سعت الأولى للحصول على الشرعية والحماية من رجال الدين عن طريق ترويج الحركة الوهابية لكن الحكام السعوديين قدموا استثمارات جديدة هائلة لترويج مفهومهم الخاص للإسلام في الثمانينات والتسعينات خاصة بعد محاولة الاستيلاء على الحرم المكي الشريف عام 1979 التي تم إجهاضها. ويمكن تصنيف الفكر الوهابي بسهولة على أنه "إسلامية فاشية" ، حسب تعبير فوكاياما. هناك كتاب دراسي في المملكة العربية السعودية مقرر للصف الـ 1. يشرح أنه "يجب على المسلمين أن يخلصوا لبعضهم بعضا وأن يعتبروا الكفار أعداءهم " ولم يروج السعوديون هذه العقيدة في الشرق الأوسط فحسب بل في الولايات المتحدة أيضا حيث قيل إنهم أنفقوا مئات ملايين الدولارات على بناء المدارس والمساجد لنشر مفهومهم الخاص عن الإسلام، وقد سمحت كل هذه الأموال القادمة من الخليج لأسامة بن لادن وأتباعه فعليا بشراء بلد أفغانستان لأنفسهم واستخدامها كقاعدة لتدريب جيل كامل من المتعصبين العرب وفي هذا المجال فإن الولايات المتحدة تلام أيضا لأنها هجرت (أفغانستان) بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي ولأنها تخلت عن مسئوليتها في إقامة نظام سياسي مستقر ومعاصر هناك.
    ويتعلق السبب الأخير لانطلاق هذه " النزعة الإسلاموية الحركية الناشطة "في الثمانينات والتسعينات " بمسائل جذرية" كالفقر والركود الاقتصادي والسياسات السلطوية في الشرق الأوسط التي يعتبرها التطرف السياسي موادا للاشتعال وفي ضوء الاتهام المتكرر بأن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية كان يمكن لها أن تتحرك لتخفيف هذه المسائل بشكل مهم وبالتالي نصبح بحاجة إلى وضوح شديد في معرفة جذور هذه المسائل الجذرية .وبالفعل فإن المجتمعات الخارجية من خلال المنظمات الدولية كالبنك الدولي ما فتئت تقدم المساعدة للدول الإسلامية منذ البداية كما فعلت الولايات المتحدة في تعاملاتها الثنائية مع دول مثل مصر والأردن ومع ذلك كان القليل جدا من هذه المساعدة مثمرا لأنها لم تصل إلى من يحتاجونها من المسلمين المسحوقين ، ولأن المشكلة الأساسية هي مشكلة سياسية في العالم العربي الإسلامي نفسه ففرص الإصلاح الاقتصادي والسياسي كانت دائما موجودة لكن عددا قليلا من الدول الإسلامية وجميع الدول العربية بشكل خاص تبنت نوع السياسات التي تبنتها دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان وتشيلي أو المكسيك لفتح بلدانها على الاقتصاد العالمي ووضع أسس التنمية المستدامة ولم تتطوع أي حكومة عربية للتخلي عن السلطة لمصلحة الحكم الديمقراطي كما فعلت الملكية الإسبانية بعد زوال فترة حكم الدكتاتور فرانكو، أو الوطنيين في تايوان أو الدكتاتوريات العسكرية المختلفة في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وغيرها من مناطق أمريكا اللاتينية ولم تكن هناك لحظة واحدة في أي من الدول الغنية بالنفط في الخليج استخدم فيها ثراؤها لتأسيس مجتمع صناعي مستقل بدل خلق مجتمع يقوم على أصحاب الدخول الفاسدين الذين تحولوا مع مرور الوقت تدريجيا إلى متعصبين إسلاميين. إن هذا الفشل، وليس ما فعله العالم الخارجي أو لم يفعله ،هو السبب الجذري في ركود العالم الإسلامي .
    إن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين فبحر الإسلام المتطرف الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحديا أيديولوجيا هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية كيف ستتقدم مسيرة التاريخ العريضة بعد هذه النقطة ؟هل سيحصل الإسلام الراديكالي على مزيد من المؤيدين وأسلحة جديدة أقوى يهاجم بها الغرب؟ من الواضح أننا لا نستطيع أن نعرف لكن بعض العوامل ستشكل مفاتيح لذلك.
    أول هذه العوامل هو نتيجة العمليات الدائرة الآن في أفغانستان ضد طالبان والقاعدة وبعدها ما سيحصل لصدام حسين في العراق وبالرغم من رغبة الناس في الاعتقاد بأن الأفكار تعيش أو تموت نتيجة استقامة أخلاقياتهم الداخلية فإن القوة لها شأن كبير فالنازية الألمانية لم تنهزم بسبب تناقضاتها الأخلاقية الداخلية بل ماتت لأن ألمانيا احتلت وتحولت إلى أنقاض بفعل قصف جيوش الحلفاء. وقد كسب أسامة بن لادن شعبية هائلة لنجاحه في الهجوم على البرجين التوأمين وإذا ما علق مجازا على عمود كهربائي في ميدان عام من قبل القوات الأمريكية مع من حماه من جماعة الطالبان فإن جاذبية حركته ستقل كثيرا وبالعكس إذا استمرت المواجهة العسكرية بشكل غير مؤثر فإن النزعة الإسلاموية المتطرفة ستحصل على مزيد من التأييد.
    التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر فيما إذا كان يريد أن يصل إلى حل سلمي مع الحداثة وخاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني حيث قف العالم الإسلامي اليوم على تقاطع الطرق نفسه الذي كانت تقف عليه أوروبا المسيحية أثناء حرب الـ 3. عاما في القرن الـ 17 فالسياسات الدينية تقود صراعات محتملة لا نهاية لها ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين ولكن بين الطوائف الإسلامية أيضا( كثير من التفجيرات الأخيرة في باكستان نتجت عن خلافات سنية شيعية) وفي عصر الأسلحة البيولوجية والنووية يمكن لذلك أن يقود إلى كارثة على المجتمع إن هناك بعض الأمل في ظهور فكر إسلامي أكثر ليبرالية بسبب المنطق التاريخي الداخلي للعلمانية السياسية فالحكم الديني الإسلامي جذاب للناس في حالته التجريدية فقط أما بالنسبة إلى أولئك الذين اجبروا فعليا على العيش في ظل مثل هذه النظم في إيران أو أفغانستان مثلا فقد عانوا دكتاتوريات خانقة لا يملك زعماؤها كالآخرين حلولا لكيفية التغلب على الفقر والركود وحتى إبان أحداث 11 سبتمبر كانت هناك بعض المظاهرات مستمرة في طهران وغيرها من المدن الإيرانية وشارك فيها عشرات آلاف الشباب الذين فقدوا صبرهم تجاه النظام الإسلامي والذين كانوا ينادون بنظام سياسي أكثر ليبرالية وقد تحولت هتافات "الموت لأمريكا" السابقة إلى نداءات "نريد التغيير ، نريد الحرية" حتى في الوقت الذي كانت فيه القنابل الأمريكية تتساقط على طالبان في الجارة أفغانستان. يحصل هذا في إيران الإسلامية الأكثر انفتاحاً ومرونة فما بالك فيما يحصل في جارتها الإسلامية أفغانستان أو السعودية ؟ ويظهر فعليا أنه إذا كانت هناك دولة يمكن لها أن تقود العالم الإسلامي خارج مأزقه الراهن فإنها قد تكون إيران التي بدأت قبل 23 عاما الصعود الحالي للأصولية حين أسقطت الشاه وجلبت آية الله الخميني للسلطة وبعد جيل من الزمن فإنه من الصعب العثور على أي شخص تحت سن الـ 3. لديه أي تعاطف مع الأصولية وإذا استطاعت إيران إيجاد شكل إسلامي أكثر معاصرة وتسامحا فإنها ستشكل مثالا قويا لبقية العالم الإسلامي.
    يجب على المسلمين المهتمين بصيغة إسلامية أكثر ليبرالية أن يتوقفوا عن لوم الغرب على أنه يرسم الإسلام بريشة عريضة جدا وأن يتحركوا لعزل المتطرفين بينهم وتقويض شرعيتهم وهناك بعض الدلائل على أن ذلك يحصل الآن فالمسلمون الأمريكيون يستيقظون الآن ليكتشفوا مدى تأثير الوهابية داخل مجتمعاتهم نفسها ويحتمل أن يدرك الذين يعيشون في الخارج منهم هذه الحقيقة إذا تحول المد بشكل واضح ضد الأصوليين في أفغانستان.
    إن الصراع بين الديمقراطية الليبرالية الغربية والفاشية الإسلامية ليس صراعا بين نظامين حضاريين يتمتعان بقابلية البقاء نفسها ويستطيع كلاهما ركوب العلم والتكنولوجيا وخلق الثروات والتعامل مع التنوع الموجود في عالمنا المعاصر وفي هذه المجالات كافة فإن المؤسسات الغربية تسيطر على الأوراق كلها ولذلك فهي ستستمر في الانتشار في أنحاء العالم على المدى الطويل لكن الوصول إلى هذا المدى الطويل يتطلب أن نبقي أحياء على المدى القصير ولسوء الحظ فإن التقدم التاريخي ليس حتميا وهناك القليل من النتائج الجيدة عدا القيادة والشجاعة والتصميم على خوض المعركة دفاعا عن القيم التي تجعل المجتمعات الديمقراطية المعاصرة ممكنة. أما من داخل العالم الإسلامي فالرؤية ليست متطابقة تماماً مع ما يدركه الغربيون الذي كانوا مصدر الأيديولوجيات السياسية وأشكال وأنماط الحكم المهيمنة على السلطات ولكن في أعقاب إخفاق الأيديولوجية القومية وفشل الأيديولوجية الماركسية العلمانيتين في تعبئة الشعوب العربية خاصة بعد نكسة حزيران 1967 ، صارت الأجيال الشابة في العالم العربي تبحث عن ملجأ أيديولوجي ـ نفسي تحتمي به من هوة الضياع وصار المثقفون يجلدون أنفسهم وكأنهم المسؤولون عن هذا الإنهيار النفسي الذي ولد بعد الهزيمة كما عبر عن ذلك المفكر العربي الدكتور صادق جلال العظم في كتاب " النقد الذاتي بعد الهزيمة " أفضل تعبير .
    من هنا يمكننا أن نربط بصورة منطقية بين تنامي التيار الديني كرد على إفلاس الأيديولوجيات العلمانية ونشوء ظاهرة العنف المسلح من جهة وتبلور ما سمي فيما بعد منذ سنوات السعينات بـ ( الإرهاب الدولي ) خاصة بعد انبثاق المقاومة الفلسطينية وتبنيها لأسلوب الكفاح المسلح ونشوء الخلط بين المقاومة الوطنية المشروعة كما يفهمها العالم الثالث والشعوب المقهورة ، والإرهاب كما تعرّفه الدول الغربية وإسرائيل وتدمغ به كل عمل عسكري ـ نضالي تقوم به مجموعات المقاومة الوطنية من أجل التحرير ومقارعة الاستعمار والاحتلال . ومن هنا نشأ أكبر سوء تفاهم في القرن المنصرم وبالأخص في العقود الثلاثة الأخيرة منه بين الغرب والعالم العربي ـ والإسلامي . ومن سوء التفاهم والفهم المتبادل هذا نشأت بذور الصراع الذي سيتخذ أشكالاً متنوعة فيما بعد وخاصة بعد عام 1973 . وهو عام حرب أكتوبر / تشرين أول بين العرب وإسرائيل وإستخدام النفط كسلاح وظهور ما سمي فيما بعد بـ " البترو ـ إسلام " حسب التسمية الغربية .فقد نمت عند الغربيين عقدة الانتقام والرد الحاسم والمناسب في الوقت المناسب لتلقين العرب درساً لن ينسوه على جرأتهم في تهديد الغرب بقطع إمدادات النفط عنه وإستخدامها كسلاح لتحقيق مواقف سياسية " وابتزاز الغربيين " على حد تعبير هنري كيسنجر .
    كانت حرب أكتوبر إنعطافة هامة في تاريخ العلاقات العربية ـ الغربية . فالمغامرة العسكرية العربية لغسل عار الهزيمة السابقة في سنة 1967 وكسر شوكة إسرائيل وإنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر كانت من الأهمية بمكان أن الغرب أخذ يدرس من خلالها كافة الاحتمالات والتصورات والسيناريوهات المستقبلية . صحيح أن العرب لم يحققوا انتصاراً حاسماً وينهوا إسرائيل من الوجود ـ وهو لم يكن هدف تلك الحرب على الإطلاق فقد كانت حرب تحريك وليست حرب تحرير " إلاّ أنها مع ذلك كانت مصيرية بسبب تبعاتها . فقد نهض الغرب وعلى رأسه أميركا لمساعدة إسرائيل ودعمها بقوة بجسر جوي لم يشهد له التاريخ مثيلاً وحققت الدولة العبرية هجوماً مضاداً كاسحاً على الجبهتين المصرية والسورية لكنها اضطرت إلى التوقف على مسافة 1.1 كيلو متر عن القاهرة على طريق السويس بسبب إعلان الحظر النفطي من جانب الدول العربية المنتجة للنفط على الغرب الذي مارس ضغوطاً قوية على إسرائيل لتتوقف وتقبل بالتفاوض على وقف إطلاق النار والهدنة . وهكذا تحول النصر إلى انتصار رمزي ـ وسيكولوجي وأتيحت الفرصة للأنظمة القومية ـ العلمانية في دول المواجهة أن تدعي الشرعية والوطنية لفترة من الزمن كما زادت هذه الظروف من الدخل المالي للدول النفطية إثر ارتفاع أسعار النفط بصورة هائلة مما حقق للدول المنتجة للنفط مواقع مهمة ومهيمن في العالم الإسلامي .وأتاحت هذه المعطيات الجديد للمملكة العربية السعودية بالذات أن ترتفع إلى مستوى طموحاتها القديمة بقيادة العالم الإسلامي وفرض رؤيتها الإسلامية المحافظة النابعة من المذهب الوهابي المستند إلى تنظيرات شيخ الإسلام إبن تيمية و تلميذه الشيخ محمد عبد الوهاب وذلك من خلال شبكة من المساعدات المالية للجماعات الإسلامية التي ازدهرت خلال سنوات السبعينات والثمانينات وقيادة حملة لبناء المساجد وتأسيس الجمعيات الإسلامية الخيرية في كل مكان من العالم الإسلامي وحيث يتواجد المسلمون بما في ذلك في أوروبا وأميركا فضلاً عن دول آسيا الوسطى الإسلامية .وانتشرت " الحركة السلفية " التي تطورت إلى " حركة أممية أو دولية إسلامية " وتقاربت جمعيات سابقة كجماعات الأخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في الباكستان والهند وتركيا وأفريقيا وفي السودان وأفغانستان خاصة في مواسم الحج للتنسيق فيما بينها والمباشرة بحملة تبشيرية لتأصيل الإسلام التقليدي في المجتمعات الإسلامية من القاعدة الشعبية فيها ودحر الفكر العلماني ونمط الحياة الغربي وجعل الإسلام العامل الأول في حياة الشعوب الإسلامية ومنحه دوراً فاعلاً ومؤثراً على المسرح الدولي . والوصول إلى المسلمين المهاجرين في دول الغرب لتوصيل " الإسلام السعودي بصيغته الوهابية" إلى مسلمي المهجر على حد تعبير جيل كبيل في كتابه " الجهاد توسع وانحسار الإسلام السياسي " .
    ومن نتائج هذه المتغيرات نشوء ظاهرة " الأفغان العرب " عبر تجربة طويلة وشاقة تميزت بالشدة والدموية أحياناً وامتدت آثارها إلى جميع الدول العربية والإسلامية وحلبفاتها الغربية .وكانت هذه الظاهرة الخطيرة قد نشأت نتيجة خطأ وسوء في التقدير والحسابات الخاطئة لعدد من أجهزة المخابرات العربية والإسلامية والغربية وتنظيمات ومؤسسات ورجال أعمال ورجال دين وسياسيين ساهموا بشكل أو بآخر في تشكيل وتعزيز هذه الظاهرة من خلال تشجيع وتسهيل ودعم وتمويل هجرة الحركيين الإسلامويين النشطاء وترحيلهم إلى افغانستان لمحاربة الغزو السوفيتي والتدرب على فنون القتال لكنهم دفعوا فيما بعد ثمناً باهظاً لهذه الإستراتيجية ذات الحدين وكانت العواقب وخيمة على الجميع على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والعقائدية ولم تدفع " العلمانية " وحدها الثمن بل الفكر الإسلامي برمته لأن " الأفغان العرب" أعلنوا تكفير الجميع وبالذات رجال الدين والهيئات الدينية الرسمية والعلماء الذين يعملون في فلك السلطات السياسية الحاكمة .لقد فات الأوان ولم يعد يفيد شيء مهما بلغت قوة وجبروت الآلة العسكرية الغربية التي تقف في مواجهة " إرهاب الأفغان العرب " فتفجير المدمرة كول والسفارات الأميركية في أفريقيا وأخذ الرهائن الغربيين وتفجير مركز التجارة الدولي ووزارة الدفاع الأميركية وغيرها من الأعمال ما هي سوى انعكاسات ظاهرة وجلية لمدى تغلغل هذه الظاهرة التي تستند إلى كتابات تنظيرية لمفكرين إسلاميين قدماء ومعاصرين ، أمثال شيخ الإسلام إبن تيمية ، ومحمد عبد الوهاب ، وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب والإمام الخميني ومحمد عبد السلام فرج وعمر عبد الرحمن وايمن الظاهري واسامة بن لادن ،و شكري مصطفى وعلي بلحاج وعباس مدني الخ .. إجتمع أغلبهم في افغانستان ومنها انتشروا في بقاع الأرض المختلفة ليفرضوا قوانينهم ورؤيتهم بلغة الحديد والنار والعنف والقتل والتدمير . ولم تتمكن اعتقالات وسجون ومحاكمات وإعدامات الأنظمة العربية والإسلامية المناوئة لأفكارهم أن تستأصلهم أوتبيدهم. فهؤلاء العائدون من أفغانستان اكتسبوا الخبرة والمناعة والحسم والتصميم وقدرة المواجهة مهما كان الثمن المطلوب دفعه ولو كان بأرواحهم ، فأغلبهم ذو نزعة انتحارية وقد برهنوا على ذلك في مناسبات سابقة كاغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 6 أكتوبر / تشرين أول 1981 واحتلال الحرم المكي الشريف الخ .. وكلهم خرج من رحم جماعة الأخوان السلمين التي أسسها حسن البنا في عشرينات القرن المنصرم وتألق نجمهم بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ، وامتازوا بميزة العداء للغرب وحضارته وقيمه الأخلاقية والأيديولوجية فضلاً عن عدائهم الشديد للشيوعية باعتبارها من صميم الفكر الغربي الغريب عن الإسلام .
    لقد أخفق الأخوان المسلمون السنة في الوصول إلى السلطة في مصر والجزائر وسوريا لأنهم لم يستقطبوا كافة فئات الشعب وطبقاته وخاصة الطبقة الوسطى إلى جانب قضيتهم بينما نجح في ذلك المشروع السياسي التيار الديني الشيعي بقيادة آية الله العظمى الإمام الخميني الذي جمع تحت لوائه البرجوازية الصغيرة المتدينة و(البازار ـ السوق التجاري )والطبقة الوسطى والفقراء والفلاحين والعمال والطلاب والكوادر المتعلمة (موظفين و مهندسين ومحامين وقضاة وأطباء وتقنيين إلى جانب الفئات المسحوقة ، تحت شعار" الثأر للمستضعفين وأخذ حقوقهم " وتطبيق أطروحة " ولاية الفقيه " وتأسيس جمهورية إسلامية تطبق الشريعة والعدل والمساواة بين الناس، تحمي استقلال إيران وتشيع الديموقراطية والتعددية بين أبنائها .واستخدم خطاباً توحيدياً يخلق تلاحماً جماهيرياً منقطع النظير بين جميع طبقات الشعب الدينية والعلمانية، في مواجهة نظام الحكم التعسفي الذي كان يفرضه شاه إيران على الشعب بقوة الحديد والنار وبتشجيع الدوائر الغربية والأميركية بصفة خاصة وكان للثورة الإسلامية في إيران تداعيات خطيرة على الشارع الإسلامي والعربي حيث أصبح الإسلام ـ السياسي ، أو التيار الإسلاموي قوة هائلة في المجتمعات الإسلامية وحفّزت الحركات الإسلامية ـ السياسية الداعية لتطبيق الإسلام السياسي إلى التحرك بشتى الوسائل والطرق بما فيها الإرهاب المسلح لكنها لم تنجح في أي مكان آخر عدا إيران وفي جنوب لبنان نسبياً مع تجربة حزب الله الفريدة من نوعها التي تمكنت من طرد المحتل الصهيوني ..
    إن هذا الموقف الغربي ـ الأميركي إلى جانب " الطغاة" والدكتاتوريين والعسكريين المستبدين الذين يتربعون على رأس الأنظمة الموالية لهم هو الذي خلق جذور الكره والحقد على الغرب وعلى أميركا بشكل خاص والذي تفاقم أكثر فأكثر بسبب الإنحياز الأعمى إلى جانب إسرائيل ضد المصالح العربية والإسلامية وعلى مدى سنوات طويلة تمتد منذ وعد بلفور لليهود بوطن قومي في فلسطين سنة 1917 إلى يوم الناس هذا في 2..1 حيث تقوم إسرائيل بتدنيس المقدسات الإسلامية وذبح الفلسطينيين العزل وامتهان كرامتهم وتجويعهم وتطويقهم بالدبابات والحواجز الأمنية خاصة بعد إندلاع انتفاضة القدس الثانية وإنهيار سيرورة أوسلو السلمية.
    هذا هو الواقع المؤلم الذي عاشته الأجيال الإسلامية الشابة من المحيط إلى الخليج في العالم العربي وفي معظم الدول الإسلامية كما في أفغانستان والشيشان والكوسوفو والبوسنة والهرسك وفي تركيا والجزائر حيث يتعرض الإسلاميون إلى القمع والسجون والملاحقة والمطاردة والقتل مما دفعها إلى الثورة المسلحة واستخدام أساليب الكفاح المسلح وحرب عصابات المدن وعمليات الكاميكاز الانتحارية ضد قوى الظلم والطغيان من أتباع الشيطان على حد تعبير منظّري الحركات الإسلامية الراديكالية .فاستدار " الثوار المجاهدون " بالأمس القريب ضد الغزو السوفيتي واليوم ضد الهيمنة الغربية ـ الأميركية على العالم وحولوا بنادقهم إلى صدور حكامهم المتواطئين بنظرهم مع العدو الغربي الذي يحارب الإسلام والقيم الإسلامية كما يفهمونها هم ،( اغتيال السادات،تمرد الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر ضد السلطة العسكرية ، طرد الشاه ، الخ ) .
    كان إنتصار الإمام الخميني في طهران عام 1979 قد غير موازين القوى في العالم الإسلامي المعاصر الذي كان يسير تحت جناح المملكة العربية السعودية الموضوعة بدورها تحت مظلة الحماية العسكرية الغربية ـ الأميركية ، خاصة بعد تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969 وانتصار " البترو ـ إسلام " عام 1973 كما يسميه جيل كبيل في كتابه السالف الذكر . كان الجميع يتوقع تفاعلاً وانقلاباً جماهيرياً مماثلاً في المملكة العربية السعودية آنذاك . فقد صرح أحد المقربين من الإمام الخميني وهو في منفاه في ضاحية نوفل لو شاتو الباريسية " إصبر لترى ماذا سيحدث للسعوديين بعد عودتنا لطهران بستة أشهر لا اكثر " . وبالفعل بعد تسعة أشهر من انتصار الثورة الإيرانية ، وفي فجر يوم 2. نوفمبر / تشرين الثاني سنة 1979 وهو اليوم الأول من القرن الخامس عشر للتقويم الهجري تعرض الحرم المكي الشريف لهجوم مسلح وإحتلال من قبل بضعة مئات من المعارضين الإسلامويين المتطرفين كخطوة أولى نحو انتفاضة شعبية كان مقدراً لها إطاحة عرش المملكة وتحويله إلى جمهورية إسلامية على غرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية بطبعتها السنية .( والتي قدر لها أن تتحقق بمساعدة سعودية بعد عشرون خمسة عشر عاماً وبظروف مختلفة تماماً في أفغانستان بوصول الطالبان للسلطة وتطبيق الشريعة الإسلامية في جمهورية إسلامية سنية ـ وهابية) ودام إحتلال الحرم المكي إسبوعين ولم يكن للمهاجمين أي إتصال أو تنسيق مع السلطة الإيرانية وكان ذلك الحدث بمثابة أخطر تهديد يتعرض له بنيان المملكة والصرح الذي شيّده آل سعود منذ سنوات طويلة لأن شرعيتهم الإسلامية تعرضت للاهتزاز والخلخلة والطعن بصورة استعراضية ملفتة للأنظار وداخل أقدس الأراضي الإسلامية بالرغم مما قدمته السعودية من تمويل ومساعدات لجميع الحركات الإسلامية السنية في العالم بغية تحييدها واحتوائها والسيطرة عليها وتجييرها إلى صفها من خلال نشاط وعمل رابطة العالم الإسلامي الدؤوب ، وفي نفس الوقت تطويق آثار صيغة " الثورة الإسلامية " المدمرة التي تجسد كافة أنواع الأخطار المحدقة بالمملكة لأن إيران كانت تحاول طمس هويتها الشيعية للتقرب هي الأخرى من الحركات الإسلامية ـ السياسية النشطة في العالم الإسلامي والسنية المذهب على غرار 8.% من مسلمي العالم الإسلامي ، وبالتالي قامت المملكة العربية السعودية بتقديم العون والمساعدة لعدو إيران اللدود صدام حسين في حربه العدوانية على إيران بغية إضعاف هذه الأخيرة وإبعادها عن ساحة المنافسة لكن هذه الاستراتيجية لم تعطي ثمارها ورضخ الخصمان المسلمان للأمر الواقع وقبلا بمبدأ تطبيع العلاقات الأخوية بينهما خاصة بعد غزو العراق للكويت واندلاع حرب الخليج الثانية . وقد نجحت المملكة بعد بضعة أعوام في تطبيع علاقاتها مع خصمها اللدود إيران والتنسيق معها والتعاون معها في كافة المجالات الإسلامية المشتركة .لكن جذوة العنف لم تنطفيء بعد ومازالت شرارتها متأججة خاصة بعد الحرب الأميركية ضد افغانستان التي أتخذت في وعي الرأي العام الإسلامي شكل محاربة الغرب للإسلام ، وتفاقم العجرفة الأميركية وتهديداتها المستمرة بضرب كل من تسول له نفسه تحدي جبروتها وهي التي تخطط اليوم لضرب دول إسلامية أخرى بحجة حملة مكافحة الإرهاب الدولي .
    وبصدد هذه المواجهة بين الإسلام والغرب يقول فوكاياما في مقال له أصدره بعد أحداث 11 سبتمبر : "قبل 1. سنوات جادلت بأننا بلغنا "نهاية التاريخ" ولم أعن بذلك أن الأحداث التاريخية قد تتوقف لكن ما عنيته هو أن التاريخ الذي يفهم على أنه تطور المجتمعات الإنسانية من خلال أشكال مختلفة من الحكومات قد بلغ ذروته في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة ورأسمالية اقتصاد السوق . إن وجهة نظري هي أن هذه الفرضية ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت 11 سبتمبر فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطية المتطورة ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية والمؤسسات التي تجسد مبادئ الغرب الأساسية في الحرية والمساواة ستستمر في الانتشار عبر العالم. إن هجمات 11 سبتمبر تمثل حركة إرتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو وكأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه.لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه . وذلك لأن وجود حركة تملك القوة لإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددا قليلا من الناس فحسب، يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء . والأسئلة الأساسية التي يواجهها الأمريكيون وهم يزحفون باتجاه هذه "الحرب" على الإرهاب هي ما مدى عمق هذا التحدي الأساسي وما نوع الحلفاء الذين نستطيع تجنيدهم؟ وما الذي ينبغي علينا عمله للتصدي له ".
    بينما يجادل صاموئيل هنتينغتون عالم السياسة البارز في مقال له نشر بعد الأحداث الدامية في 11 أيلول ـ سبتمبر : " بأن المواجهة الحالية قد تتحول إلى "صدام حضارات" وهي إحدى المواجهات التي تنبأ قبل عدة سنوات بأنها سترهق عالم ما بعد الحرب الباردة وفي الوقت الذي تؤكد فيه إدارة بوش عن حق بأن النضال الحالي هو ضد الإرهاب وليس حربا بين الغرب والإسلام فإن هناك مسائل حضارية واضحة تلعب دورا فيه ".
    ولقد نزع الأمريكيون للاعتقاد بأن المؤسسات والقيم الديمقراطية والحريات الشخصية وسلطة القانون والرخاء المستند إلى حرية الاقتصاد تمثل تطلعات لا بد أن يشاطرهم فيها الناس حول العالم في النهاية إذا توافرت لهم الفرصة وهم ميالون للظن بأن المجتمع الأمريكي له جاذبيته للناس من جميع الثقافات . ويبدو الملايين من المهاجرين من بلدان في أنحاء العالم كله الذين يتذمرون من بلدانهم ويودون الانتقال إلى أميركا وغيرها من المجتمعات المتقدمة وكأنهم يشهدون على هذه الحقيقة.
    لكن أحداث ما بعد 11 سبتمبر تتحدى هذه النظرة فمحمد عطا والعديد غيره من الخاطفين الآخرين كانوا أناسا متعلمين عاشوا ودرسوا في الغرب . ولم يستطيع الغرب إغرائهم بل إن النفور مما شاهدوه كان لدرجة أنهم كانوا راغبين بالانقضاض بالطائرات على بنايات وقتل الآلاف من الناس الذين كانوا عاشوا بينهم والقطعية الحضارية هنا كما هي بالنسبة إلى أسامة بن لادن وأتباعه من الأصوليين الإسلاميين قد تبدو كاملة. هل قصر النظر الحضاري لدى الغرب يجعله يظن أن القيم الغربية هي قيم عالمية محتملة ومقبولة ؟
    هناك في الحقيقة أسباب للاعتقاد بأن القيم والمؤسسات الغربية تلقى قبولا كبيرا لدى الكثير من شعوب العالم غير الغربية إن لم نقل جميعها . وهذا لا يعني نفي العلاقة التاريخية بين كل من الديمقراطية والرأسمالية مع المسيحية أو حقيقة أن الديمقراطية تملك جذورها الثقافية في أوربا فكما أشار الفلاسفة من أليكسيس دي توكوفيل وجورج هيجل إلى فريدريك نيتشه، فإن الديمقراطية الحديثة نسخة علمانية للمبدأ المسيحي في المساواة الإنسانية عالميا.
    إلا أن المؤسسات الغربية كالأساليب العلمية، التي وإن كانت قد اكتشفت في أوربا فإن لها تطبيقات عالمية . فهناك آلية أساسية تشجع على لقاء طويل الأجل يتجاوز الحدود الثقافية اقتصاديا في المقام الأول ومن ثم في عالم السياسة وأخيرا (وفي المقام الأبعد) حضاري.ا وما يدفع هذه العملية إلى الأمام في المقام الأول هو العلم الحديث والتكنولوجيا التي تعتبر إمكاناتها على خلق الثروة المادية وسلاح الحرب هائلة إلى الحد الذي يوجب على المجتمعات الأخرى أن تقدم على التفاهم معها . إن تكنولوجيا الموصلات والاتصالات أو الطب العضوي أو الهندسة الوراثية والجينية لا تختلف بالنسبة إلى المسلمين أو الصينيين عما هي عليه للأمريكيين والحاجة لاستيعابها تتطلب تبني مؤسسات اقتصادية معينة تشجع النمو كالأسواق الحرة وسيادة القانون . وتزدهر اقتصاديات الأسواق التي تقودها التكنولوجيا الحديثة استنادا إلى الحريات الفردية أي نظام يقوم فيه الأفراد وليس الحكومات أو رجال الدين باتخاذ القرارات المتعلقة بالأسعار أو نسب الفائدة.
    وبدوره ينزع النمو الاقتصادي نحو إنشاء ليبرالية ديمقراطية ليس بصورة حتمية ولكن غالبا ما يحدث ذلك بقدر يجعل العلاقة بين النمو والديمقراطية أحد "قوانين" العلم السياسي القليلة المقبولة عامة، فالنمو الاقتصادي يولد طبقة وسطى لها حقوق ملكية ومجتمعا مدنيا معقدا وحتى مستويات تعليمية أعلى للمحافظة على القدرة على التنافس وتخلق هذه العوامل مجتمعة أرضا خصبة تنمو فيها مطالب المشاركة السياسية الديمقراطية التي تأخذ شكلا مؤسساتيا ضمن الحكومات الديمقراطية في نهاية المطاف.
    والحضارة، والمعتقدات الدينية، والعادات الاجتماعية، والتقاليد الثابتة هي الحلقة الأخيرة والأضعف في مسلسل التحول والمجتمعات تمقت التخلي عن القيم التي تدق جذورها عميقا وسيكون من السذاجة الشديدة الظن بأن الثقافة الأمريكية الشعبية مهما كانت درجة إغرائها ستسود العالم قريبا . والحقيقة أن انتشار ماكدونالدز وهوليوود حول العالم أشعل سخطا عارما ضد أسس العولمة المنتظرة.
    وبينما تبقى الفوارق الثقافية في المجتمعات المعاصرة فإنها تميل لأن توضع في صندوق منفصلة عن السياسة وتنسب إلى عالم الحياة الخاصة والسبب في ذلك بسيط: إذا كانت السياسة ترتكز على شيء كالدين فإنه لن يكون هناك سلم اجتماعي لأن الناس لا يستطيعون الاتفاق على القيم الدينية الأساسية. إن العلمانية هي تطور حديث نسبيا في الغرب حين كان الأمراء والرهبان والمسيحيون يفرضون المعتقدات الدينية على رعاياهم ويلاحقون المعارضين وقد نشأت الدول الديمقراطية العلمانية الجيدة نتيجة الصراع الديني الدموي في أوروبا في القرنين الـ 16 وال 17 حين ذبحت المجموعات المسيحية بعضها بعضا دونما رحمة وقد أصبح الفصل بين الدين والدولة أحد مكونات الحداثة المعاصرة بالضبط بسبب الحاجة للسلم الاجتماعي وهي أطروحة مذهلة جادل بها الفلاسفة من أمثال هوبز ولوك ضمن تقليد عظيم وصل ذروته في إعلان الاستقلال والدستور الأمريكي .
    ويقترح منطق الحداثة الأساسي هذا أن القيم الغربية ليست نتاجا حضاريا اعتباطيا للمسيحية الغربية لكنها تجسد مسارا عالميا أكبر والسؤال الذي نحتاج لطرحه عندئذ هو هل هناك ثقافات أو مناطق في العالم ستقاوم أو تثبت أنها منيعة على عملية التحديث؟
    سيكون من الصعب الإجابة على ذلك بصورة موضوعية إذا نظرنا على سبيل المثال إلى آسيا رؤية "عوائق حضارية أمام التحديث" كان رئيس وزراء سنغافورة السابق لي كوان يو يجادل بأن هناك "قيما آسيوية تدعم الاستبداد وليست صالحة لديمقراطية ناجحة" . لكن السنوات الأخيرة شهدت انتقال كوريا الجنوبية وتايوان إلى ديمقراطية ناجحة مع زيادة ثرائهما وبالطبع فإن الهند أضحت ديمقراطية منذ استقلالها عام 1948 ورست أخيرا على مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي قد تساعد على تخليصها من الفقر أيضا وفي أمريكا اللاتينية والدول الشيوعية السابقة في أوروبا فإن المعوقات الثقافية أقل بروزا فالمشكلة بالنسبة إليهم هي الفشل في تحقيق التحديث على الأرض بدل النقمة على الهدف ذاته وأفريقيا الواقعة جنوب الصحراء لديها العديد من المشاكل من الإيدز إلى الحرب الأهلية والحكومات الرثة لكن من الصعب رؤية كيف تمنع التقاليد الثقافية المتنوعة هناك عملية التحديث إذا استطاعت هذه البلدان لملمة نفسها في نواح أخرىويعتقد بعض المفكرين الغربيين
    إن الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن الجدال بأن لديها بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة ومع كل الحنكة التي تتمتع بها المجتمعات الإسلامية فإنها لا يمكن أن تتبجح بوجود ديمقراطية حقيقية واحدة عدا استثناءات قليلة يتسم ظاهرها بديموقراطية شكلية مثل (تركيا) التي لم تشهد أي إنجازات اقتصادية متطورة مثل كوريا أو سنغافورة ومع ذلك فإنه من المهم أن نكون أكثر دقة في تحديد أين تكمن المشاكل الأساسية .
    ولكن من المشكوك فيه أن يكون هنالك شيء موروث في الإسلام يجعله معاديا للحداثة كما يرى هؤلاء المنظّرون الغربيون . فالإسلام كالمسيحية والهندوسية والكونفوشيوسية أو أي ديانة أخرى من الديانات الكبرى أو التقاليد الحضارية، عبارة عن نظام شديد التعقيد تطور بطرق متعددة مع مرور الوقت وأثناء الفترة المشار إليها أعلاه حين كانت أوروبا ممزقة بفعل الحروب الدينية كانت المذاهب المختلفة تتعايش بسلام في ظل نظام الملل العثماني. وفي القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 2. كانت هناك توجهات إسلامية ليبرالية مهمة في مصر وإيران وتركيا وأضحت جمهورية كمال أتاتورك أحد الأنظمة الأكثر علمانية في التاريخ الحديث.
    يرد المفكرون الغربيون على هذا الدفاع عن النفس لدى المسملين ويشددون على مسلمة لديهم مفادها أن العالم الإسلامي يختلف اليوم عن غيره من الحضارات في وجه واحد مهم فهو وحده ولد تكرارا خلال الأعوام الأخيرة حركات أصولية مهمة ترفض، لا السياسات الغربية فحسب، بل المبدأ الأكثر أساسية للحداثة ألا وهو التسامح الديني واحتفلت هذه المجموعات الأصولية في مختلف بلدان العالم الإسلامي بهجمات 11 سبتمبر لأنها قهرت مجتمعا اعتقدت أنه مجتمع فاسد في جذوره ولم يكن هذا الفساد يقتصر على الإباحية والمثلية الجنسية وحقوق المرأة فحسب كما هي موجودة في الغرب ولكنه نجم من وجهة نظرها من العلمانية نفسها، وما يكرهونه هو أن الدولة في المجتمعات الغربية يجب أن تكرس التسامح الديني والتعددية بدلا من خدمة الحقيقة الدينية وبينما تجد شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية ودول المعسكر الاشتراكي السابق أو أفريقيا، الاستهلاكية الغربية مغرية وتود تقليدها لو أنها فقط استطاعت ذلك، فإن الأصوليين الإسلاميين مثل الوهابيين السعوديين وأسامة بن لادن أو طالبان يرون في ذلك دليلا على الانحلال الغربي.
    وعليه فإن هذه ليست ببساطة "حربا" على الإرهاب كما تظهرها الحكومة الأمريكية بشكل مفهوم وليست المسألة الحقيقية كما يجادل الكثير من المسلمين هي السياسة الخارجية الأمريكية في فلسطين أو تجاه العراق، بل إن الصراع الأساسي الذي تواجهه هذه السياسية لسوء الحظ أوسع بكثير وهو مهم ليس بالنسبة إلى مجموعة صغيرة من الإرهابيين بل لمجموعات أكبر كثيرا من الراديكاليين الإسلاميين ومن المسلمين الذين يتجاوز انتماؤهم الديني جميع القيم السياسية الأخرى إنها الأصولية الإسلامية التي تشكل الخلفية لحس أوسع من المظالم أعمق بكثير وأكثر انفصالا عن الحقيقة من أي مكان آخر ، وهذا النوع من الإسلاميين هو الذي يرفض تصديق أن المسلمين كانوا متورطين في الهجمات على مركز التجارة العالمي ويلقى اللوم بدل ذلك على إسرائيل وقد يشكون من سياسة الولايات المتحدة لكنهم يفسرون تلك السياسة على أنها جزء من مؤامرة أكبر على المسلمين .
    وإذا سلمنا بأن الصراع الأساسي ليس مع الإرهابيين الفعليين فقط ولكن مع الأصوليين الإسلاميين الذين يرون العالم كصراع ثنوي ـ ما نوى (صراع بين النور والظلام) بين المؤمنين والكفار فإننا لا نتكلم عن مجموعة صغيرة منعزلة من المتعصبين. لقد ولد أسامة بن لادن تعاطفا كبيرا عبر العالم الإسلامي منذ 11 سبتمبر بسبب وقوفه متحدياً للولايات المتحدة من جانب سكان المناطق المدقعة في الفقر، في باكستان، وغيرها من بلدان العالم الإسلامي ، مروراً بالمهنيين في بيروت والقاهرة والمواطنين الباكستانيين والجزائريين في بريطانيا وفرنسا حيث يقدر المختص بشؤون الشرق الأوسط دانييل بايبس عدد هؤلاء 1. إلى 15 بالمائة من العالم الإسلامي.
    هذا ما يطرحه الغربيون ممن يشكون في إمكانية التواصل مع العالم الإسلامي وإمكانية الحوار الحضاري معه . وهناك في الجانب الإسلامي مثقفون ومفكرون يعتقدون بإمكانية مثل هذا الحوار مع بعض التحفظات ويشكون من إنغلاق الغرب ووسائل إعلامه تجاههم .
    يقول الدكتور حسن حنفي المفكر الإسلامي المصري المعروف :" أن الغرب هو الذي يخلق الأعداء من خلال نظرته الإستعلائية ومعاييره المزدوجه التي تولد الغضب والعنف .
    ويقول بأن الإسلام والغرب ، تقابل مفتعل يحل المشكلة قبل تشخيصها ، ويثبتها قبل أن ينفيها . وهو تقابل خاطئ ، بين دين وحضارة وثقافة من ناحية وهو الإسلام ، ومنطقة جغرافية تحولت إلى صورة أو رمز أو مثال من ناحية أخرى ، وهو الغرب .
    ويقول أنه في العصور الحديثة في الغرب بدأ إعلان عن حضارة العقل والعلم وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والعقد الاجتماعي منذ القرن السابع عشر . وتحققت في الثورة الفرنسية ومثلها في الحرية والإخاء والمساواة في القرن الثامن عشر . ولما بلغ العنفوان الأوربي الذروة في القرن التاسع عشر وسيطر على البر والبحر ، بان المعيار المزدوج بوضوح ، البناء في داخل الغرب ، والهدم خارج الغرب ، العقل والعلم والحرية والديمقراطية في الداخل ، والأسطورة والخرافة والتسلط والقهر في الخارج ، فتحطمت القيم الغربية على حدود الجغرافيا . وأصبحت أدوات للسيطرة والتبشير والإلهاء والخداع ، وشق الصف الوطني ، وخلق طبقة منبهرة بالغرب باسم العلمانية والتنوير والحداثة والعقلانية والعلم لتقف ضد الأصولية والسلفية والظلامية والتخلف والتعصب والعنف والإنغلاق . فينشأ صراع بين الأقلية في الحكم والأغلبية في المعارضة ، ويتم الاستبعاد المتبادل بين الطرفين ، تكفير الأغلبية للأقلية ، وتخوين الأقلية للأغلبية . ثم يضيف الدكتور حسن حنفي ": بأن العالم الإسلامي هو الوحيد المرشح لأن يكون قطبا ثانيا في مواجهة القطب الأوحد الذي تتربع أمريكا على عرشه وتستخدم الأحلاف العسكرية والمنظمات الدولية لتنفيذ أغراضه مثل ضرب يوغسلافيا . فهو العالم الحي بتراثه الذي يزخر بتساؤلاته حول القديم والجديد ، التراث والحداثة ، الأصالة والمعاصرة . لم يقطع مع الماضي كما فعل الغرب في بداية العصور الحديثة و يمتد في التاريخ ، وإن الإسلام هو الذي قاد إلى إبداع حضارة ما زالت حية في القلوب ، وتثير الإعجاب والفخر لما قدمته للبشرية من علوم وفنون . وقام بحركات التحرر الوطني ، وقادها ، وفك إساره من الغرب . وأنشأ الدول الحديثة ، وأقام صرحا صناعيا في ماليزيا وإندونيسيا ومصر . وما زال يقوم بدور المعارضة للهيمنة الغربية في الأمم المتحدة رافضا الدخول في بيت الطاعة الأمريكي . وهنا يبرز التقابل بين الإسلام والغرب .
    ويستطرد الدكتور حسن حنفي قائلاً :" بأن الأصولية موجودة في كل حضارة فهي ليست مقصورة على الحضارة الإسلامية وحدها ، بل هي ظاهرة طبيعية في كل حضارة تصل في مسارها التاريخي إلى مرحلة التأزم .
    بيد أنه،و رغم الأحداث الأليمة التي تشهدها الآن الساحة الدولية ، وانعدام الثقة في العلاقات العربية - الأمريكية بشكل خاص والعلاقات العربية مع الدول الغربية بشكل عام ، لابد من نشوء حوار ثقافي مسئول وطويل الأمد لإعادة الاعتبار للحوار بين الثقافات والحضارات وليس للصراع في ما بينها لكي يعيد الثقة المفقودة بين الجانبين .
    " فالغرب ليس واحدا وليس مطلقا بل يمتاز بالتنوع والتناقضات والصراعات . كما أن المجتمعات العربية بدورها ليست واحدة بل تمتاز أيضا بالتنوع الثقافي والديني والاجتماعي . وبالتالي ، فقد آن الأوان لمراجعة معارفنا عن الغرب ولإعادة النظر في المسلمات الراسخة في أذهاننا عنه وبناء صور جديدة تساعد على تقديم معرفة عقلانية وليس عاطفية أو انفعالية عن صورة المجتمعات العربية في الغرب . فالسائد لدى العرب هي صورة الغرب الاستعماري البشع الذي أشاع مناخا من الصدام والمواجهة مع الشرق . وصورة الغرب هي دوما صورة الغرب المنتصر كما عبر عنها فوكوياما وهنتنغتون . فهو انتصار الأقوى سياسيا واقتصاديا وعسكريا ومعرفيا . لكن على المثقفين العرب نقد مقولتي "صراع الحضارات" و"ما بعد الحداثة" وغيرهما لأنهما تعبر عن جديد أيديولوجيا العولمة الأمريكية ، دون أن تحمل أي تجديد ثقافي" على حد تعبير الدكتور سعود ضاهر في مساهمته في مجلة العربي عن الإسلام والغرب.
    الداعون للحوار بين الأديان يقيمون علاقات جيدة عموماً مع السلطات الحاكمة والجهات الرسمية ولقد لوحظ أن الأوضاع الدولية كانت قد طغت على أعمال مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي الذي عقد في بروكسل مع بداية العام الجديد والذي شارك فيه الأزهر وعدد من الكنائس و الفاتيكان . وشدد المشاركون في المؤتمر علي أهمية تعميم ما أسموه ثقافة الحوار والتعارف المتبادل والعيش المشترك ومعالجة جذور التوترات الطائفية وفك الالتباس بين التدين والتطرف كما شدد الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر على ضرورة تفعيل الحوار بين الحضارات والثقافات من أجل الوصول إلى الحد الأدنى من التفاهم اللازم، مشيراً إلى أهمية اجراء هذا الحوار بين الجميع للمشاركة بوضع المستقبل وذلك بضرورة التوصل إلى تحديد استراتيجية جديدة وعملية للتفاهم بين الثقافات والحضارات.
    وقال وكيل الأزهر خلال حديثه عن شهر رمضان والقرآن بملتقى الفكر الاسلامي الذي نظمه الأزهر بالتعاون مع المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية بساحة الامام الحسين بن علي بالقاهرة يومياً طوال شهر رمضان المنصرم أن التفاعل الحضاري ضرورة انسانية لا بد منها لقيام الحضارات وتقدم البشرية ولا بد من ايجاد آلية جديدة وفعالة للحوار بين الأديان.
    وأضاف أن شهر رمضان منحة ربانية من الله للمسلمين، مشيراً إلى أن رمضان له أهميته الكبرى في حياة المسلم ونفسيته وسلوكه فهو يعود الانسان على قوة الارادة وعدم الخضوع لتحكم العادات. ونبه الشيخ عاشور المسلمين إلى دراسة القرآن والاقبال على تعلم العلم النافع، مؤكداً أن الحياة مع القرآن الكريم نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها ترفع العمر وتبارك وتزكيه.
    وأكد الشيخ عاشور أن القرآن الكريم أنشأ للبشرية تصوراً جديداً عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعاً اجتماعياً فريداً كان يعز على خيالها تصوره قبل أن ينشئه لها القرآن. وأضاف قائلاً ان من يصوم رمضان ويتلو القرآن وهو رحمة ونور فلا يشرق قلبه بنور الرحمة ولا تتألق نفسه بضياء الكرم ولم يوق شح نفسه فإنما يدل هذا على أن وسائل النور لم تتغلغل في نفسه فتقود إلى الجود والاحسان. ويشدد وكيل الأزهر على ضرورة عدم الخوض في القرآن بالرأي غيرالمحصن بل بالفقه والعلم بأصول السنة وعلوم القرآن وادراك اللغة العربية ادراكاً تاماً وفهم النص القرآني من سياق الخطاب القرآني العام وظروفه وقواعد تنزيله. كما شدد على مراعاة الآداب والتوجيهات النبوية التي تتعلق بالصيام لتحقيق الهدف الذي شرع من أجله الصيام، وقال ان الصيام، يتعلق بالكليات الخمس «حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل» وبما أن الدين أحدها فالدين له أركان خمسة منها الصيام.
    ودعا الشيخ عاشور المسلمين الى أن يستفيدوا من صيامهم ويتذكروا الجائع والمحتاج والفقير، وأن تسخو نفوسهم بالبذل والجود والعطاء. وأشار إلى التحديات التي تواجه المسلمين ويحتاجون فيها إلى الوعي الديني والثقافة الاسلامية وتصحيح المفاهيم الخاطئة والتخلي عن العادات السيئة. وقال لا بد أن نعيد النظر في سلوكياتنا ومناهج حياتنا وأن نخضع للاستقامة والاعتدال في كل الأمور الحياتية. وقال الدكتور عبد الصبور مرزوق نائب رئيس المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية ان الغرب يتهم المسلمين بالارهاب والعنف، وان الذي يحثهم على ذلك هو القرآن الذي يتلونه بين أيديهم، مؤكداً أن البشرية لم تجد راحتها إلا بالأخذ بتعاليم القرآن، وأن الله سبحانه وتعالى جعل أمة الاسلام خير أمة «كنتم خير أمة أخرجت للناس» فالخيرية تتمثل في الدور الحضاري للاسلام الذي تنكر مبادئه التفاضل والتفرقة العنصرية والطبقية والحمية العصبية والتباعد والتنازع والاقتتال وتدعو إلى التلاقي والحوار طريقاً يفضي إلى التفاهم والتعايش وحسن الجوار من أجل توطيد أركان حياة انسانية سعيدة على هذا الكوكب. وأشار الدكتور مرزوق الى أن الاسلام تميز وتفرد بأنه كان أول معلن في تاريخ البشرية لحقوق الانسان الأساسية وأول مطبق لها منذ أربعة عشر قرناً، فهو صاحب أول «اعلان عالمي لحقوق الانسان» قبل اعلان ميثاق الأمم المتحدة. وقال: ان القرآن تضمن هذا الميثاق في قوله تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم» والنبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس جميعاً بصرف النظر عن ألوانهم واختلاف ألسنتهم وأجناسهم «يا أيها الناس إنما المؤمنون اخوة ان ربكم واحد وأن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب ان أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي فضل على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى»، وما هدف هذه الدعوة الصريحة الموجهة إلى الناس جميعا إلا اقامة مجتمع عالمي متحرر قائم على أساس من التآخي. وأضاف اننا لاحظنا في الآونة الأخيرة أن ثمة آراء ومقولات غريبة مختلفة التوجهات والفلسفات والعقائد تتعمد الربط بين الاسلام والارهاب بصفة خاصة أو بين الاسلام والعنف بشكل عام ولكن قوانين الأخلاق والرسالات السماوية بريئة من مثل هذا، والاسلام بصفة خاصة شدد على رفضها بل أقر حد الحرابة لمواجهة أعمال القرصنة والاعتداء والقتل للمفسدين في الأرض، ويرفض الاسلام مبدأ ميكافيللي في الغاية تبرر الوسيلة فشرف الوسيلة من شرف الغاية وسلامتها من سلامة الهدف. هذا بالنسبة لفريق المؤيدين لحوار الأديان.
    في حين يوجد لدى المعارضين للحوار الحضاري عموماً ، وللحوار بين الأديان خصوصاً مبرراتهم ووجهات نظرهم التي يقدمونها في المنتديات المختلفة مشددين على زيف ما يسميه الغربيون بثقافة الحوار والتعارف المتبادل والعيش المشترك ومعالجة جذور التوترات الطائفية وفك الالتباس بين التدين والتطرف . ففكرة حوار الأديان التي يتم الترويج لها اليوم برأي هذا التيار الإسلامي الرافض لها هي :فكرة خبيثة دخيلة" . فمن وجهة نظر المعارضين لهذا الحوار هي فكرة لا اصل لها في الإسلام ، لأنها تدعو إلى إيجاد دين جديد ملفق ، يعتنقه المسلمون بدلا من الإسلام على حد قولهم.
    ويؤكد عدد من المنتسبين للمؤسسات الدينية والجهات الدعوية المعارضة للحوار ان الغربيين بعد ان فشلوا في أبعاد المسلمين عن عقيدتهم عن طريق المبشرين والمستشرقين والمؤلفات الثقافية والتضليل الفكري والسياسي الإعلامي ، لجأوا إلى الجهات الرسمية في دولهم وفي دول أخرى ـ قد يبالغ المتشددون من المعارضين لفكرة مثل هذا الحوار في تلك المؤسسات إلى حد وصفها بـ "الدول العميلة" للغرب ـ وشرعوا في عقد المؤتمرات والندوات ، ويشكلون فرق العمل المشتركة ، ويؤسسون مراكز الدراسات في بلادهم وبلاد المسلمين ، كمركز اكسفورد للدراسات الإسلامية ، ومركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة درم البريطانية ، وكلية الصليب المقدس الأمريكية ويعتقد المعارضون أن الدعاة إلى مثل هذا الحوار عادة ما يستعملون ألفاظا عامة ومصطلحات براقة ، تدل على معاني ـ بحسب رأيهم ـ غير محددة ، من اجل التضليل والخداع مثل … التجديد ، الانفتاح على العالم ، الحضارة الإنسانية ، المعارف العالمية ، ضرورة التعايش السلمي ، نبذ التعصب والتطرف ، العولمة وغيرها. ويشير المعارضون لحوار الاديان الى ان الغربيين لجأوا للخلط بين مفهومي العلم والثقافة والحضارة والمدنية ، ليتخذوا من هذا الخلط مسوغا لمهاجمة الذين يتمسكون بوجهة نظرهم في الحياة ، بأنهم ضد العلم وضد المدنية الناشئة عنه ، ووصمهم بالرجعية والتخلف ، مع أن الأمر في الإسلام غير ما يدعون ، فهو يفتح أبوابه للعلم وللمدنية الناشئة عن العلم ، ويغلق أبوابه في وجه أي حضارة أو ثقافة غير الإسلام وثقافته ، لكونهما أفكارا ومفاهيم متعلقة بسلوك الإنسان الذي يجب أن ينضبط بالمفاهيم الإسلامية عن الحياة . كما يرى المعارضون أيضا أن أهل الغرب زينوا بعض الأفكار الرأسمالية للمسلمين ، وسوقوها لهم على أنها لا تخالف الإسلام ، حتى اعتبرها بعض المسلمين أنها من الإسلام ، كالديمقراطية والحرية والتعددية الحزبية ( التي لا تحمل أفكارا إسلامية ) ، والاشتراكية وغيرها . بينما شنعوا على بعض الأفكار الإسلامية ، ونعتوها بأنها غير حضارية ولا تصلح لهذا العصر ، كالجهاد والحدود وتعدد الزوجات وغيرها من الأحكام الشرعية . ويرى عدد من المراقبين والمحللين ان الغرب ومؤسساته اخضعوا دراسة النصوص الإسلامية لطريقة التفكير الرأسمالية ولمناهجهم التربوية التي تجعل الواقع مصدرا للحكم وليس موضع الحكم كما جعلوا المقياس في اخذ الحكم أو تركه هو النفعية وليس الحلال والحرام ، مما دفع بعض المسلمين إلى استحداث بعض القواعد التي لا تستند إلى نصوص شرعية لفهم الإسلام مثل .. فقه الواقع ، فقه الموازنات ، وإطلاق قاعدة .. الضرورات تبيح المحظورات ، وغيرها . مما نتج عنه تمييع بعض أحكام الإسلام ، وعدم التمييز بين الدخيل والأصيل وبين ما هو كفر وما هو إسلام ، فصار الربا مباحا والاستشهاد انتحارا ويشير هؤلاء المراقبون لاسيما المهتمين منهم بالشأن الاسلامي الى ان الغربيين المشاركين فى الحوار مع بعض ممثلى الدين الاسلامى يتطلعون إلى تعميم وتوسيع الحوار ، فلا يظل محصورا بين الخاصة في المؤتمرات والندوات ، وإنما يشمل جميع شرائح المجتمع من نساء ورجال ، ومثقفين وعمال ، عن طريق المدارس والجامعات ، ومعاهد الدراسات والأحزاب والنقابات ، والمطالبة بإلحاق المسلمين وإدماجهم فى النسق الحضاري السائد فى الغرب بدءا من الاقتصاد والاجتماع وانتهاءاً بالسياسة والتعليم وغيرها . فالرأسمالية -على حد زعم الغربيين - هي الإنسانية والعقلانية والحرية والديمقراطية ، وهي الحضارة الحديثة الناجحة . وأما الإسلام ، فهو التقليد والاستبداد والتراث ، وهو سيادة الدين والرق وتعدد الزوجات ، فهو دين غير حضاري . ومن أساليب التعمية على المسلمين في مؤتمرات الحوار - وفقا لرأى الشيوخ والمؤسسات الإسلامية المعارضين لهذا النهج - هو إشراك المنتمين إلى بعض العقائد كالهندوسية والبوذية والسيخ وغيرهم ، مع المسلمين والنصارى واليهود ، كما حصل في المؤتمر العالمي للدين والسلام في اليابان حتى لا يظن المسلمون انهم وحدهم المستهدفون بالحوار ويتساءل هؤلاء المعارضون : كيف يقبل من يسمون بعلماء المسلمين أن يساوى بين الإسلام والبوذية وغيرها من الأديان . ويرى المسلمون الرافضون للحوار أن الهدف الأساسي الذي يسعى الرأسماليون الغربيون لتحقيقه هو الحيلولة دون عودة الإسلام إلى الحياة كنظام ،لأنه يهدد بقاء مبدئهم وحضارتهم، ويقضي على مصالحهم ونفوذهم .أما الأهداف الأخرى الفرعية ، التي تخدم الهدف الأساسي بحسب ما يقوله المعارضون ـ فمتعددة فهم يهدفون إلى صبغ العالم بصبغة الحضارة الرأسمالية ، ولا سيما المناطق التي يعيش فيها المسلمون ، لإحلالها محل الحضارة الإسلامية ، ليتسنى لهم محو الثقافة الإسلامية من الأذهان ، وذلك بزعزعة ثقة المسلمين بها وبمصادرها وبأساسها ، لتحييد الإسلام في معركة الصراع الحضاري وهم يهدفون إلى صياغة شخصية المسلم صياغة جديدة ، بحيث لا يجد غضاضة في ترك الواجب وفعل الحرام ، ثم إفساد الذوق الإسلامي لديه ، وقتل الحمية للإسلام في نفسه ، فلا يبغض الكفر والكافرين ، ولا يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ، ولا يجد غضاضة من حمل أفكار ومبادئ الرأسمالية .وبذلك ـ كما يوضح المعارضون ـ يزيلون المناعة الثقافية في الأمة الإسلامية التي تقاوم بها أي دخيل ، ويزيلون الحواجز الفكرية والنفسية التي تهدد الوجود الحضاري الرأسمالي في بلاد المسلمين ، فتصبح المحافظة على نفوذهم ومصالحهم سهلة ، ويضمنون بقاءهم واستمرارهم . وتشدد جبهة الشيوخ المعارضة للتحاور على إن الحوار الذي يرعاه الغرب و السلطات المحلية في بعض بلاد المسلمين ومعهم عدد من العلماء والمفكرين ، المقصود منة إيجاد دين جديد للمسلمين ، مبني على عقيدة فصل الدين عن الحياة ، فيه التشريع للبشر بدل أن يكون لله تعالى ، خالق البشر .ويستدل هؤلاء على ذلك بقول الله تعالى (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) و قوله تعالى ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ). وبما أن الحضارة الإسلامية أساسها العقيدة الإسلامية ، والحضارة الرأسمالية أساسها العقيدة الرأسمالية والجمع بينهما غير ممكن ، فيكون القصد من الحوار الذي يتزعمه الغرب هو العمل لتخلي المسلمين عن المفاهيم الإسلامية لحساب المفاهيم الرأسمالية ، لأنهم يدركون أن الجمع بين متناقضين غير ممكن . وفى النهاية يؤكد المسلمون المعارضون للحوار بين الأديان أن هذه الخطوة ضرب من الخيال وان الصراع الفكري بين الأديان والحضارات أمر لا مفر منه لتمييز الحق من الباطل ، والطيب من الخبيث.
    وقد أصدرت رابطة العالم الإسلامي بيانا حذرت فيه من خطورة البرامج والأعمال التي ينفذها مجلس التنسيق بين الأديان الذي أنشأته مجموعة من الحاخامات اليهود ، موضحة أن ذلك الحوار خديعة كبرى للشعوب الإسلامية ، ويؤكد الدكتور عبد الودود شلبي الأمين العام السابق للجنة العليا للدعوة الإسلامية " إن الحوار بين الأديان أسلوب جديد من أساليب التنصير والتبشير والغزو الفكري حيث أن الحوار ظاهره الرحمة وباطنه العذاب وللأسف وقع الأزهر وبعض المؤسسات الإسلامية بالدول العربية في مطب الحوار بحسن نية .. فأنشأ الأزهر لجنة تنسيق مع الفاتيكان أطلق عليها لجنة الحوار، والمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة هو الآخر أنشأ نفس اللجنة، وبعض الهيئات في الدول الإسلامية تهرول إلى هذا الحوار. وقال الدكتور محمد عبد المنعم البري الأستاذ بكلية الدعوة بالأزهر الشريف " إن التقارب الإسلامي المسيحي والحوار بين الغرب والشرق وحوار الحضارات وغير ذلك كلها أساليب المراد منها أن تنال من العرب والمسلمين ليس إلايظهر أن السياسة العالمية قد بدلت حركتهم فجأة بعد 11 سبتمبر وخلال عصر الدوت كوم (الذي يبدو الآن كزمن ساحر غابر ) كانت أمريكا تندفع إلى الأمام وكانت الشيوعية المنافس الكبير الأخير للديمقراطية الليبرالية، قد انهارت تماما كالفاشية والملكية قبلها وكان الاقتصاد الأمريكي في عز صعوده وبدت المؤسسات الديمقراطية وكأنها تتقدم في أنحاء العالم كله وقيل أن التكنولوجيا تقرب القرية العالمية أكثر إلى بعضها بعضا بطرق قللت من أهمية الدول القومية التقليدية . اليوم اختلف كل شيء . فالولايات المتحدة دخلت الحرب ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان بعد أن عانت هجمة ناجحة غير مسبوقة على أراضيها وتستنفر الآن أعداد كبيرة من المسلمين لمعارضة الولايات المتحدة، ويطلب من بلدان حول العالم أن تختار أحد طرفي الصراع وأصيب الاقتصاد بالركود في الولايات المتحدة والخارج في الوقت الذي ترمي فيه الاعتبارات الأمنية الرمل في حركة الاقتصاد العالمي المعاصر.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de