|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: HOPELESS)
|
السمندل في غياهب الغياب 2-3
الفصل الأول :
محمد عبد الحي .. حياته وأدبه
المبحث الثاني : أدبه بقلم : د . نجاة محمود محمد الأمين / السودان
محمد عبد الحي من الشعراء الذين أثروا الساحة الأدبية والثقافية في السودان بإنتاجهم الأدبي الغزير ، ولقد كان إنتاجه عبارة عن شعر ، وتنظير وترجمات ، ومن ثم يمكننا أن نقسم أعماله إلى قسمين وندرسها كل على حدة :
أولاً: مؤلفاته الإبداعية (شعره)
ثانياً: مؤلفاته النثرية (الدراسات النقدية والترجمات)
غالبية هذه الكتابات تتمحور حول الثقافة السودانية ، سواء كانت شعراً أو تنظيراً ، وكان محمد عبد الحي يؤسس لخطابه الأدبي المتكامل في حياته . ويمكننا أن نحصر هذه الفترة من 1963 إلى 1980 ، أي منذ كتابته " للعودة إلى سنار" وحتى مرضه . فهو كان قد أحرق كل شعره الذي كتبه قبل 1963 لتصبح " العودة إلى سنار" هي القصيدة الأولى و" حديقة الورد الأخيرة " هي الأخيرة .
وذكر أحد الشعراء * المعاصرين له " لقد فعل ما لم يجرؤ عليه واحد منا جميعاً .. نحن شعراء الخمسينات والستينات بوجه خاص ، قام بحرق جميع أشعاره التي سبقت مطولته العودة إلى سنار واعتبر أنه بدأ الآن ـ آنذاك" (1)
والشاعر هنا يكشف عن نفسه حين يتحدث عن الشاعر التيجاني يوسف بشير فيقول :
" إن شعر الشاعر ونثره مختلفان لنشاط روحي وعصبي وذهني واحد متصل ، إن الشاعر (كل متصل) في سلوكه وتفكيره وتعبيره دون نكران سويعات الهزة الشعرية قد تتخطى كل ما يسنه الناقد من قوانين وأعراف وتتفوق عليها ، وإن كل قصيدة جديدة هي إضاءة روحية وفكرية جديدة "(2)
ويواصل حديثه قائلاً :
" حقاً إن الشاعر ربما ينقض ما كان أثبته ذات يوم ، فيخرج بذلك بعض مؤرخي الأدب ، وقد يخيب أمل بعض حوارييه فيه ، وقد يتأتى له حواريون وقراء جدد ، ولا يفعل ذلك غالباً ، إلا الشاعر المتجدد المكتشف" (3)
ثم يضيف رأي الشاعر الإنجليزي و.هـ. أودن ليدعم رأيه:
" إن آراء الكاتب ، أي كاتب هي غالباً مظاهر حواره مع نفسه عما عليه أن يفعل في مقبل أيامه وما عليه أن يتجنب فالشاعر عنده ، ناقد لا يحفل بغير كاتب واحد (هو نفسه) ولا يهتم إلا بأعمال لم توجد بعد (هي قصائده)" (4)
أولاً ـ أعماله الشعرية : لم يكن محمد عبد الحي شاعراً فحسب بل كان منظراً ومفكراً ، صاغ هذا الفكر والتنظير في قالب شعري غير تقليدي وغير متناقض مع أطروحاته الفكرية ، ويظهر ذلك حين ندرس شعره من مدخل تقسيمه إلى مضمون (Theme) وشكل (Form) ولأنه صاغ غالبية شعره في قوالب حديثة مضمنة بمضامين حديثة ، متطورة على حسب حركة المجتمع ليعطينا هذا الشعر الساحري ، الذي كلما قرأناه ، وجدنا فيه أبعاداً جديدة لم نكتشفها للوهلة الأولى .
" فهو الشاعر المرتبط بالعصر ولكنه غير غافل عن الجوهر الإنساني الخالد المتجدد عبر دورة الحضارة وهو غير منقطع في مجتمعه . فهو أحد الأصوات القليلة في الشعر العربي والتي استطاعت أن تقدم إجابتها على جدلية الحداثة / الأصالة والالتزام / جماليات القصيدة " (5)
والمتأمل لشعر محمد عبد الحي لا يفوته أن يلاحظ ثقافته الرفيعة ، ومعرفته الواسعة فلا غرو فقد كان محمد عبد الحي أستاذاً جامعياً يدرس الأدب الإنجليزي والأدب المقارن ، اطلع الشاعر على الآداب العالمية وخبرها وقد انعكس ذلك على شعره ، وجعله شعراً شمولياً ، متعدد الأدوات الفنية فنجده يشتمل على الموسيقى ، والتشكيل ، والأساطير العالمية ، والمحلية " كان موسوعة في الثقافة ، متعدد الاهتمامات يتحدث حديث العارف المتبحر في التاريخ والسياسة والفلسفة والشعر والمسرح والموسيقى والرسم والتصوف والفلك " (6)
لم يكن محدود الثقافة فقد أخذ من الآداب العالمية والمحلية فقد تحدث " عن وضاح اليمن ، والشيرازي ، والمتنبي ، والخيام ، وابن سينا ، وابن رشد ، وابن خلدون ، وشكسبير ، وبودلير ، وطنبل ، والتيجاني ، ونيرودا ، وبيكاسو ، ولوركا ، وماركيز ، وسنغور ، كمن عاش معهم واختلط وعرف أسرار ودقائق فنونهم وصناعتهم " (7)
وقد أتاح له التنقل في أقاليم السودان المختلفة ، أن يكتسب خبرة واسعة ومعرفة بالثقافات السودانية المختلفة المتعددة والمتنوعة . وقد أدرك أبعاد هذه الثقافات بالمعايشة الحقيقية ، وهذا التنقل أعطى الشاعر بعداً انعكس على شعره " فالتأمل الناتج عن تجواله داخل الوطن منذ الطفولة يمثل نهراً باطنياً يروي أشعار هذا الشاعر " (
وتعدد الأخيلة في شعره ناجمة عن ترحاله في طفولته المبكرة فهو " جوال جاب أرض وطنه منذ أن كان طفلاً ، طبيعة السودان الثرية البكر غذت شعره وكسته غنائية ساحرية مثل الحلم " (9)
وهو " ينبهنا في حواراته المتعددة أنه تأمل ببصره وعقله وخياله الأنهار الضخمة وهي تهدر حمراء اللون والجبال والشمس المصهدة ، والزراف ، الثعابين ، الجواميس ، الوعول ، الأيائل ، الغزلان ، الأسود ، النمور ، القرود والببغاوات " (10)
كما كتب شعراً يضج بالأخيلة ، والعوالم " الفنتازيا " الأسطورية ولكنه شعر يتحسس ويمس هذا الواقع ، فهو شعر لا يعاني من انقطاع عن الواقع المعيش أو من غربة ثقافية لأنه يرى أن للشاعر مهمة تتجلى وتنحصر في كشفه لهذا العالم المادي والروحي الذي يعيش فيه " فالشاعر الذي يكشف عن كنوز الروح الجماعي هو الشاعر الذي يستجيب باللغة لنداء الكون تلك الشمس الكامنة في جسد الوطن إلى طبيعته وفي حضوره التاريخي وثقافته القوية لا في مظهرها الخارجي إنما في تحقيقها لوجودها الروحي في التاريخ وتبلور طريقتها الخاصة المنفردة في النظر إلى علاقة الإنسان بالأرض والزمان والسماء " (11)
فإذا أمعنا النظر في أعماله الفنية نجد هذا الشاعر يعمل على إظهار بعض المضامين في شعره مثل : الانبعاث الحضاري ، البحث عن الهوية السودانية ، والثقافات المحلية ، معطيات التراث الغربي ، والوجود الديني في النفس البشرية وفكرة الموت ، والفكر الصوفي ، وقهر السلطة ، والتفاوت الطبقي ، ومضامين عاطفية ومضامين كونية .
وهذا على سبيل المثال وليس الحصر ، إذ قد تكون هناك مضامين أخرى ولكن نجد أن عبد الحي على الرغم من تحرره من الشكل التقليدي للقصيدة العربية إلا أنه احتفظ بوحدة الموضوع لا في القصيدة الواحدة بل في الديوان الواحد كله . فقلما نجد شاعراً يكتب ديواناً كاملاً في موضوع واحد ففي " العودة إلى سنار " مثلاً كان سؤال الهوية يطرح وجوده في الأناشيد الخمس ، مما يجعلنا نحس أنها قصيدة واحدة طويلة وكذلك " حديقة الورد الأخيرة " نرى أيضاً فيها وحدة الموضوع ، بل يمكن أن نقول أن " العودة إلى سنار" و" حديقة الورد الأخيرة " امتداد لبعضهما البعض على الرغم من الفارق الزمني بينهما ، فيقول الشاعر في ذلك : " العودة إلى سنار هي القصيدة الأولى ، والأخيرة هي "حديقة الورد الأخيرة " وبينهما سنين ، كبر الشاب وتفرع وشرق وغرب ورجع ثانية وكان الرجوع مليئاً بكل الهدايا الثمينة التي خزنها في دمه وجبلته ، ورن عن بعد الجرس الذي يقول في ساحة المدينة إن الشاعر قد عاد ، تلك كانت قصيدة العودة ثم بعد ذلك بدأ شغله مع الناس وبالتالي كثف لغته واخترع تقاليد جديدة بلغة جديدة يقول بها الشيء الذي يقوله مرة أخرى بصورة جديدة " (12)
1 ـ نماذج شعرية للمضامين (Themes) التي ضمنها شعره : أ - الانبعاث الحضاري :
في قصيدة مروي 1961م و(مروي) هي مملكة سودانية قبل التاريخ ، كان أهم ما في تلك المملكة ، النزوع نحو التفرد والذاتية ، حيث كانت لها لغتها الخاصة (اللغة المروية) وكذلك نبذت الآلهة المصرية واعتنقت عبادة الإله (ابيداماك) (13) ، وها هو شاعرنا يقف على (مروي) القديمة ليسترجعها بخيال شاعر معاصر رأى تلك الخصوصية ، وتمناها لبلاده . كما نجده قد تجاوزها فيما بعد ، لرمز (سنار) التي رأى أنها الأنسب في الرمز لشخص السوداني الذي هو في أصله هجين عربي زنجي مسلم بعكس شخص مروي الذي هو زنجي فقط ، ولا يمثل السوداني الآن . وأرى أنه ربما عندما كان صغيراً وغريراً كان يرى رمز (مروي) هو الأفضل ولكن بعد أن كبر وتجاوز هذا الحس الشوفيني وأدرك أن انضمام السوداني المسلم العربي هو الامتداد الطبيعي والصحيح للسودان ، وكنت قد ذكرت في مبحث حياة الشاعر في الفصل الأول (14) ، أنه عندما ادعى اليساريون أنه ينتمي إلى (أبيداماك) نفاها بعنف على صفحات الجرائد مما أورثه الكثير من الأعداء .
" حين أبحرنا إلى (سنار) عبر الليل كانت سدرة التاريخ تهتز بريح قادم من جزر الموتى وكان الكروان الأسود الريش يغني في غصون الشوك صوتاً كان غناه على شرقة (ترهاقا) قديماً ، ثم أمعنا مع الريح على الصحراء ( والصحراء كانت مدناً مدفونة في الرمل ، أشباحاً تراءى ، وعظاماً نخراتٍ ) وانحدرنا عبر سور الغاب ، والمستنقع الأخضر ، والجسر . أعُدْنا ؟ قاب قوسين . أعدنا ؟ هاهي البوابة الأولى : بساتين من النخل ، وخيلٌ في المراعي . ها هي البوابة الأولى : أعدنا ؟ كيف لا ؟ وجهٌ برونزيٌّ ، كتابٌ ، ونقوش ذهبيات ، ودرعٌ ، ورماح أبنوس . كان حلماً أن نرى النبع وميلاد الطقوس (15) في القفر وحدي تحت شمس (مروي) أقرأ في حطام أحجارها السوداء والرخام أنصت للعصفور بين بساتين النخيل والرمال والصخور مغنيا عبر العصور . ألمس بالكف جبين صاحبي وملكي .. أمرر الأصبع فوق حاجب الجبهة والعيون والشفاه : أية أشكال وراء النظر الصخري يا مَلِكي ـ أية أحكام على الشفاه . ليس لنا سوى القبول ليس لنا ... وفي انتظارك ليلة الحصاد كي تبارك الحقول وفي انتظارك البتول ليلة التمام كي تكتمل البتول . وحين أبحرتْ على المياه شمسُك بين سعف النخيل كنتُ مغنيِّك مغنِّي الأرض والإله . في القفر وحدي تحت شمس (مروي) أقرأ ـ والبخور يغمرني ما زال ، ما زالت مواكب النذور تساق عبر الردهات حيث نبعت من الصخور راقصتي السوداء وأشرقت فيها عروق الذهب الأحمر والأسماء . يا ملكي ... فلتأمر الآن المغني كي يغني نغمة الرضا إلى الآلهة القديمة باللغة القديمة ولتبدأ الرقصة عاجلاً فصوت الريح عبر الرمل والحقول يثقله صهيل آلاف الخيول . (16)
ب - مضمون البحث عن الهوية والثقافات المحلية :
لقد كان سؤال الهوية هذا شغل شاغل للشاعر طول عمره ، وظهر ذلك بصورة جلية في قصيدته " العودة إلى سنار" التي اعتبرها النقاد خطاب الهوية السودانية (سنتحدث عنها بالتفصيل في الفصل الثالث) ، وكذلك وظف محمد عبد الحي الموروث المحلي في طرح مضامين وأفكاراً جديدة ، وقد برع في ذلك إذ يمكننا أن نقول إنه استلهم هذه الموروثات ، لا لأنه يؤمن بالسلفية ، بل ليستلهمها ثم يفجر فيها معاني وتحاميل معاصرة ، وبذلك يحقق غرضين مهمين فيحس قارئ شعره السوداني بعمق جذوره القديمة ، وإمكانية النزوع مستقبلاً إلى عالم مشرق إذا انطلقنا من ماضينا التليد . (17)
ولقد أظهر عبد الحي في هذه القصيدة مضامين الهوية والثقافات المحلية :
الليلة يستقبلني أهلي : خيلٌ تحجل في دائرة النار ، وترقص في الأجراس وفي الديباج امرأة تفتح باب النهر وتدعو من عتمات الجبل الصامت والأحراج حراس اللغة ـ المملكة الزرقاء ذلك يخطر في جلد الفهد ، وهذا يسطع في قمصان الماء . الليلة يستقبلني أهلي : أرواح جدودي تخرج من فضة أحلام النهر ، ومن ليل الأسماء تتقمص أجساد الأطفال . تنفخ في رثة المداح وتضرب بالساعد عبر ذراع الطبال . الليلة يستقبلني أهلي : أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى إبريقاً جمجمة مصلاة من جلد الجاموس رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوس . (1
ج - مضامين معطيات التراث الغربي :
كما أسلفنا في المبحث الأول فأن محمد عبد الحي قد درس الأدب الإنجليزي والأدب المقارن فتوفرت لديه معرفة عميقة وواسعة بالتراث الغربي ونجد ذلك واضحاً في استلهامه لبعض الرموز من الثقافة الغربية التي غالباً ما يحملها مضامين ومغازي جديدة وكأني به يريد أن يؤكد على الأبعاد الإنسانية الجمعية للأدب ، يقول :
ثم لما كوكب الرعب أضاء ارتميت . ورأيت ما رأيتُ : مطراً أسود ينثر سناء من نحاس وغمام أحمر . شجراً أبيض ـ تفاحاً وتوتاً ـ يثمر حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام وسمعت ما سمعت : ضحكات الهيكل العظميّ ، واللحم المذابْ فوق فسفور العبابْ يتلوى وهو يهتز بغصات الكلامْ . وشهدت ما شهدتُ : كيف تنقض الأفاعي المرعده حينما تقذف أمواج الدخان المزبده جثةً خضراء في رملٍ تلظى في الظلام . صاحبي قلْ ! ما ترى بين شعاب الأرخبيلْ أرض " ديك الجنّ " أم " قيس" القتيل ؟ أرض " أوديب" و" لير" أم متاهات "عطيل" ؟ أرض " سنغور" عليها من نحاس البحر صهدٌ لا يسيلْ ؟ (19)
د - مضمون الوجود الديني في النفس البشرية :
يرى محمد عبد الحي أن الثابت في الإنسان هو وجود العنصر الديني المتأصل في النفس البشرية ونراه دائماً يؤكد على ذلك في كثير من أشعاره :
إشارة محمدية
فاجأتنا الحديقة فاجأتنا الحديقة انعقدت ورداً وناراً في قلبها الأضواء والخيول النورية البيضاء والطواويس نشرت في بلاد الصحو ريشاً منسجاً كل شيء في غصون الحقيقة آسُ نارٍ ، وموجةٌ في بحار عميقة من لهيب ومن جمال ويمن يسقط الطير قبل أن يدرك الساحل منها مستقبلاً في ابتهاج حريقه . فاجأتنا الحديقة فاجأتنا الحديقة الزهراء أشرقت في مركزها القبة الخضراء وتوالت بشرى الهواتف أن قد ولد المصطفى وحق الهناء ، واكتست بالنور الجديد من الشمس ابتهاجاً وغنت الأسماء . (20)
هـ - مضمون الموت :
نجد أن فكرة الموت وهو " أول مراحل الانبعاث " تسيطر على الكثير من أعماله فهل هي هذه الرؤى الاستشرافية التي تميز هذا الشاعر المتنبئ ؟
قد مرض وهو في عنفوان شبابه ومات وهو في السادسة والأربعين بعد صراع مع المرض الذي أورثه العجز واليأس ، قد كتب قصائده تلك قبل مرضه هذا ، ولكن فكرة الموت دائماً ممددة في كثير من أشعاره ، ومن ذلك يقول :
إقرعي في عتمة الصمت المدوِّي يا نواقيس الرياح الأربعة على ذاك الميت يصحو ويغني تحت شمسٍ مبدعة . (21)
هنا أنا والموت جالسان في حافة الزمان وبيننا المائدة الخضراء والنرد والخمرة والدخان من مثلنا هذا المساء . (22)
و - مضمون المعطيات الصوفية :
درس عبد الحي الرومانتيكية وأعجب بـ " التيجاني يوسف بشير" ولكنه وجد أنها حركة انغلاق على النفس لأنها حركة ذاتية ، ثم اتجه إلى الصوفية التي يرى أنها انفتاح على الكون والوجود والإنسان ، وقد كانت هذه المسحة الصوفية غالبة على جل شعره :
ركعتان للعاشق اذبــــح فـــــؤادي إنني بك يـــــا حبيب متيم أيضيء مصباح الهوى إن لــم يضئ فيه الدم إني وقفت أمـــــــام بابك بالـعـــــــذاب أجمجم لأراك تـشــرق في الظلام وفي المشارق أظلم أنت الزوابــــــــع ينحدرن فــــلا يغالبها مجنّي أنت الزلازل هدمت حصني ففي التشريد أمني وسجنتُ فيك معانـقـــا حريــتي في ليل سجني وقتلت فيــــك مغنياً للموت مــــا جهل المغني جهلوا فـمــــا يدرون أنـــا ملتقى وتـــــرٍ ولحن كالخمر تنمو في دم المخمور مــــــن كرمٍ ودن أسفرت فيَّ ، فإنني مــــرآة وجهك يـــا جميل وسملت عيني كي أراك بعيــــن قلبي يـــا خيل فأنـــا الضرير يقودني شـــوقي إليك ولا دليل وأراك دوني محض وهــم مشرق فوق الزمان وأراك دون قصائدي لغة تفتش عن لسان(23)
ز - مضامين قهر السلطة والتفاوت الطبقي :
تظهر هذه المضامين في كثير من أشعار محمد عبد الحي خاصة في شعر سنوات السبعين التي ظهر فيها قهر السلطة في أقصى مظاهره ، فترة حكم الرئيس جعفر نميري (24) وكذلك بدأ التفاوت الطبقي يظهر في المجتمع السوداني بصورة واضحة ، ونورد هنا هذا النموذج ليدلل على ذلك ، فيقول الشاعر في قصيدة (التنين) :
رفرف التنين في ليل المدينة أخضر الجلدة وهاج الشعل وأنار النهر ، فالأصداف في الماء مرايا والحصى في الرمل أزهار غريبة وهدايا من مغارات الفراديس الرهيبة . ورآه الناس في غمرتهم بين اندهاشٍ ووجل : فرآه الشرطي ورآه اللص في مكمنه ورآه صبية السوق ينامون على كوم القمامة ورآه رجل القصر الفسيح ورأته امرأة الكوخ الصفيح ورأته العاهرة ورآه الطفل والشحاذ والسكران : وهْم ما رأوه أم حقيقة أم حديقة صعدت في السحر للعلى ، أم هبطت من شرفات القمر . رفرف التنين في ليل المدينة صمتت أجهزة المذياع في كل البيوت وأزيز الطائرات ورزيز العربات وضجيج الحافلات والمطابع والمصانع والمحطات وأحياء البغاء . وسرى في الصمت شيءٌ كالغناء بعضهم قال : علامة ! بعضهم قال : " استعدوا ، إنه يوم القيامة " " النهاية .. النهاية .. النهاية " " البداية .. البداية .. البداية " . (25)
ح - مضامين عاطفية :
نلاحظ أن محمد عبد الحي قلما يكتب شعراً عاطفياً ، كما ذكرت آنفاً في المبحث الأول أنه كان قد أحرق كل الكتابات العاطفية في السابق ، لأنه يرى أنها تناقض ولا تتطابق مع رؤاه وأفكاره لهذا العالم ، ولذلك نجد بعض القصائد العاطفية ، ولكنها محملة بتحاميل فكرية وفلسفية ، ففي قصيدة (سماء الجسد) :
حبيبتي عيناك كوكبان ولكنك لا ترين شيئاً . اليد كالقيثارة تغني أثناء الحديث . الجسد كالقيثارة يغني تحت الأغطية ، أو يعكس بروج النجوم في العرام . رحلتي في جسدك رحلة شتاءٍ وصيف . أنت مكة النساء شعرك يسيل موسيقا وزخرفة . الثور يحرث الحقل ، اللبوة تصرخ في الغابة الوردة السحرية تلتهب في أعماق كهوف العقيقْ الفخذان يرتعدان مثل فهدين سماء الرجل تغطي أرض المرأة التفاحة العطنة ترجع للغصن القديم . (26)
كما نجد الشاعر في قصيدة (حب في زمن فقير) :
كان ندى الليل على شعرها وفي قميصي من قميصها طيوب الأرض تستعير من غمائم الربيع ما يستر من فقرها كأنها مسافرٌ مسلوب ونحن في الريح التي تعول في قفرها لا شيء غير العري والوحشة والرعب الذي تركه جمالنا المنهوب . (27)
ط - الأبعاد الكونية :
نجد أن الأبعاد الكونية التي هي سمة بارزة في أشعار محمد عبد الحي تتمحور في غالبية قصائده ، فكيف لا ومحمد عبد الحي صمد طول عمره وسعى من خلال شعره أن ينظم هذا العالم المختل ويعيد توازنه في رؤية متكاملة مع نفسه والكون من حوله ، ليثبت العالم الإنساني الموحد والمرتبط بالوجود لكل الكائنات والظواهر الطبيعية . ومن شعره رأيت أن قصيدة (سمندل في حافة الغياب) هي أنموذج أمثل تتجلى فيه الأبعاد الكونية:
لو ضاع في نزوعه البحري ، فالعباب ـ عبر زمان البحر ـ والملح سينحتان من عظامه المبلوره حدائقاً من صدف تضيء في صيف الليالي المقمره على رمال ساحل الغياب وهي على منسجها منتظرة تسير بالزمان للأمام مرةً ، ومرة تعود بالزمان القهقرى لبرهة تضيء خارج الزمان حيث تلتقي ببرهة الغربة برهة الإياب كنّ يغنين على الصخرة ، والجدائل المنتشره أزهار فسفور على الخليج الجسد الأخضر مسقيٌّ بلون البحر ومشبعٌ بعسل الزنابق المسمومة الأريج في الحلم الرافع في الليل مرايا الماءْ غريبة النقوش والأسماء كان يرى النحل الذي يزحم مشغولاً جذوع الشجر القديم ، والجذور تمص لحم الأرض في شهوتها الطينية العمياء (2 وحينما أجهش صوت الموجة المنحسرة كان يرى الطيور في الصيف إلى أعشاشها المبعثرة تعود ، والدم الذي يزبد ، في حضوره الأنقى ، على التراب ووقفة السمندل ، المبتل بالنار ، على الخضرة فوق حافة الغياب وهي على منسجها منتظرة في الصمت ، بعد آخر الليل وقبل أول النهار تنصت للحوار يمعن بين البحر والأرض بصوت اللغة القديمة اللغة الأقدم من مجادلات النصر والهزيمة الأقدم الأنقى من الهجرة والإياب في مرافئ الأسى والانتظار في العدم الساكن ، بين لغة البحر وشكل النار . (29)
وكذلك قصيدة (وطن الموت) التي يظهر فيها مظاهر الطبيعة :
الموت كان وطناً يضيء في المطر أمام عينيك هنا النحل يجيش في مخابئ الشجر مستغرقاً يطبخ زبد العسل البريّ والعصير في الثمر منعقدٌ . وفي الهواء من ذكر النحل لقاعٌ . والحقول مثقلة بالتبر . هذا آخر الفصول فالشمس فوق الأرض تستميت . والسماء وارية الزرقة . والأشياء تسكن في سعادة التمام النضج مس كل شيء : تمت الشهوة حتى سقطت في ظلمة الذكرى وبئر الدم والأحلام . وتم شكل الفكر في الكلام . (30)
وبهذا يتضح لنا أن مضامين الشاعر بها تنوع وعمق ، كما نعرف أن "محمد عبد الحي" تناول عدداً كبيراً من المضامين الفكرية والثقافية ، فشعره الغزلي لا يقوم على علاقة بين امرأة ورجل ولكنها علاقة إنسانية ذات أبعاد وجودية ، كما نرى أن فكرة الانبعاث الحضاري ليست ناجمة عن مكان بعينه بل هي انبعاث إنساني كامل .
طرق هذا الشاعر أشياء جديدة وسابقة لأوانها عندما كان الصراع في السودان ما زال بين الشعر الحديث والقديم نجده بدأ يكتب عن الهوية السودانية نائياً بنفسه عن هذا الصراع الشكلي .
وخلاصة القول : إن محمد عبد الحي عندما بدأ يكتب الشعر قد كان هناك تراكم كميٌّ وكيفيٌّ في الشعر السوداني ، فلم يتأثر بهذا فقد كان دائماً يحافظ على تفرد صوته . ويسعى لذلك . وعلى هذا نراه قد أعجب بنموذجين لشاعرين سودانيين هما إسماعيل صاحب الربابه شاعر السلطنة الزرقاء ، وكذلك التيجاني يوسف بشير .
ونجد أن مجذوب عيدروس قد ذكر أن محمد عبد الحي يعتقد أنه امتداد لهاذين الشاعرين وقد كتب قصيدة تتبع فيها إسماعيل صاحب الربابه وهي قصيدة " حديقة الورد الأخيرة " وكذلك كتب قصيدة " هل أنت إلا إشارة " للتيجاني يوسف بشير الذي جمع محمد عبد الحي أعماله وحققها وكتب عنه الكثير من المقالات ، وفي هذا يقول مجذوب عيدروس: " إن عبد الحي نظر في مرآة شعر التيجاني وفي مرآة شعره فأذهله توحد الفهم رغم الفوارق في العصر والثقافة والبيئة وصوره في تجليات العبقرية تتجدد صورها والجوهر واحد " . (31)
ثانياً ـ الأعمال النثرية والترجمات : كتب محمد عبد الحي بجانب الشعر كثيراً من الأعمال النثرية وهي أعمال غير إبداعية ، ولكن معظمها دراسات نقدية لأعمال شعراء محليين أو عالميين ودراسات في الثقافة وبعض الكتابات السياسية .
وقال سعد عبد الحي : " في الفترة الأخيرة من حياته لم يكن محمد يهتم بكتابة الشعر ، وكان جل اهتماماته قد تحول إلى معالجة قضايا الثقافة والفكر في السودان وكان يردد دوماً بأن الثقافة في السودان لم تعد بكثير حاجة إلى الشعر بقدر حاجتها إلى الفكر ووضع الأسس " (32) . كما يقول محمد عبد الحي :
" نحن لم نكتب الشعر من أجل الشعر .. الشعر كتبناه من أجل قضية ومن أجل هدف ولكن نحن بحاجة الآن إلى فكر ومفكرين " . (33)
ومن ثم يمكن تقسيم أعماله النثرية إلى قسمين :
1 ـ أعماله التطبيقية . 2 ـ أعماله التنظيرية .
1 ـ الأعمال التطبيقية :
هي عبارة عن دراسات نقدية حومت حول مجموعة من الشعراء السودانيين مثل التيجاني يوسف بشير الذي اهتم به محمد عبد الحي اهتماماً كبيراً حيث جمع له أعماله النثرية وحققها وقد أثار هذا الكتاب ضجة في السودان ، وكذلك كان يريد أن أن يحقق ديوانه (إشراقة) على الرغم من أن هذا الديوان قد حقق بواسطة هنري رياض ، كما كتب كتابه (الرؤية والكلمات قراءة في شعر التيجاني يوسف بشير) (34) . كما يجدر أن ننبه أنه قد كتب كثيراً من المقالات عن التيجاني يوسف بشير نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر :
1 ـ الرؤيا والكلمات قراءة جديدة في شعر التيجاني . (35) 2 - التيجاني يوسف بشير الهيكل الشعري (طبيعة الشعر ومهمة الشاعر) . (36) 3 ـ صورة الشعر عند التيجاني يوسف بشير . (37)
كما نجد أن الأساطير والقصص الشعبية كانت تستهويه إلى درجة كبيرة ، فلا غرو فقد كان يضمنها بكثرة في أشعاره وكذلك كتب عنها بعض المقالات نذكر منها على سبيل المثال:
1 ـ العرب والأساطير الإغريقية . (3 2 ـ الشيخ إسماعيل صاحب الربابة (التأريخ والنموذج الأسطوري لمفهوم الشاعر في كتاب الطبقات) . (39)
وكذلك من المجالات التي اهتم بها هي الأدب الإنجليزي وهو مجال اختصاصه الأكاديمي وقد كتب كثيراً من الدراسات النقدية التي حومت حول الأدب الإنجليزي ونذكر منها :
1 ـ الملاك والفتاة ـ الضرورة والحرية في شعر أدوين موين . (40) 2 - التقليد والتأثير الإنكليزي والأمريكي على الشعر العربي الرومانتيكي . (41) 3 ـ التراث والتأثير الخارجي في كتابة الرومانتكيين العرب . (42) 4 ـ أنشودة المطر بين أليوت وشيلي والتراث العربي . (43)
كما كتب بعض المقالات النقدية حول دواوين سودانية مثل :
1 ـ البراءة والتجربة في نار المجاذيب . (44) 2 ـ متاهة المرايا ـ رومانتكية الثورة في ديوان الجواد المكسور . (45)
كما أيضاً كتب بعض الكتب عن الثقافة السودانية وهي :
1 ـ الهوية والصراع . (46) 2 ـ السياسة الثقافية في السودان . (47)
وخلاصة القول إن الشاعر محمد عبد الحي قد أسس لخطابه الأدبي الإبداعي بوضعه خطة أدبية نظرية شمولية تحدد مفهوم الشعر عنده والنقد ورأيه في المدارس الأدبية ، وكذلك اهتم بالأدب المقارن . وأهله لذلك معرفته الممتازة باللغة الإنجليزية وسعة اطلاعه باللغتين العربية والإنجليزية . كما تحدث أيضاً عن فهمه لما ينبغي أن تكون عليه الثقافة السودانية .
2 ـ الترجمات :
عني الشاعر محمد عبد الحي بالترجمات ، فهو قد قام بترجمة كثير من الأعمال النظرية والشعرية من اللغة الإنجليزية إلى العربية وقد قال عن الترجمة :
"هناك نقاط مرتبطات حول مفهوم الترجمة الشعرية في اللغة التي يستعملها المترجم في بيئة ثقافية أخرى ـ فاللغة ارتباط بالحضارة الموضوع في بيئته الثقافية ـ يدل على المعنى الثقافي الحضاري والمعنى اللغوي والموضوعان مرتبطان (الواقع) من خارجنا و(الذهن) من داخلنا فالشجرة في إنكلترا ـ مثلاً ـ تدل على تأريخ عميق بازدهارها فإذا ترجمت من نص شعري فقدت أغلب دلالتها ومحتواها لأن الشجرة في بيئة عربية ذات تأريخ حضاري يضرب في أعماقها ويختلف اختلافاً بيناً عن الشجرة الغربية " .
ويضيف موضحاً ما يرمي إليه :
" ولكنه مختلف في الذهن الثقافي ويصبح الانشقاق مريعاً بين اللغة (الوضعية) واللغة الذهنية أو الثقافية والحضارية " .
فيضيف في معرض حديثه عن رأيه في الترجمة :
" إذا بدأنا عملية انتقال اللغة إلى لغة أخرى فالاثنان اللغة والحضارة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً لا فكاك منها " .
وبعد ذلك وضح رأيه في المترجم حيث قسم المترجمين إلى نوعين ، المترجم الخلاق ، والمترجم المثالي :
هذه الفلسفة اللغوية الحضارية عن قصد أو غير قصد .
ومن هذا المنطلق فقد قام محمد عبد الحي بترجمة كثير من القصائد لكتاب إنجليز وكذلك لكتاب أفارقة :
1 ـ قصيدة أغنية حب ، ج. الفرد بروفروك ، التي كتبها ت.س. اليوت (1888 ـ 1965) التي نشرت في مجلة " شعر" الأمريكية سنة 1915. 2 ـ نشر كتاب أقنعة القبيلة به عدة قصائد لشعراء أفارقة مثل "سنجور" و"سيزار" . (4
وخلاصة القول ان محمد عبد الحي كان كاتباً معطاءً ومجوداً . ولقد عكست أعماله هذه ثقافته الواسعة وتعدد منابعه . وقد اكتفينا بهذا القدر من أعماله لأن هذا البحث أصلاً عن أعماله الشعرية ولكن ارتأيت أن أقدم نماذج لأعماله النثرية في هذه العجالة .
الهوامش :
* الشاعر : هو الشاعر مصطفى سند. 1 سند ، مصطفى: (محاولة الولوج إلى عالم عبد الحي)، مجلة حروف، العدد (2 ـ 3)، مزدوج، دار النشر، جامعة الخرطوم، ص 175. 2 عبد الحي، محمد: التيجاني يوسف بشير، السفر الأول، الآثار النثرية الكاملة، ص 5. 3 المرجع السابق نفسه. 4 المرجع السابق نفسه. 5 عيدروس، مجذوب: (القصيدة والفكرة)، مجلة حروف، ص 146. 6 البنا أحمد الأمين: (رأيت عبد الحي)، حروف، ص 181. 7 المرجع السابق. 8 المرجع السابق. 9 المرجع السابق. 10 المرجع السابق. 11 عيدروس، مجذوب، ص 142. 12 البنا، أحمد الأمين: (رأيت عبد الحي)، ص 180. 13 ابيداماك: إله في مملكة مروي، راجع كتاب: الإله آمون في مملكة مروي، تأليف عمر حاج الذاكي، مطبوعات كلية الدراسات العليا، جامعة الخرطوم، 1983. 14 هذا البحث، ص 44. 15 حروف، العدد المزدوج، ص 191. 16 المرجع السابق، ص 190. 17 إنني هنا لا أعني أنه كتب على نهج الواقعية الاشتراكية حتى لا يتأول هذا إلى غير محمله ولذا وجب التنويه. الباحثة. 18 عبد الحي، محمد: العودة إلى سنار، ص 8 ـ 9. 19 عبد الحي، محمد: العودة إلى سنار، ص 16. 20 عبد الحي، محمد: الأعمال الكاملة، ص 76. 21 عبد الحي، محمد: ديوان حديقة الورد الأخيرة، الطبعة الأولى، 1984، دار الثقافة للنشر والإعلان، ص13. 22 المرجع السابق، ص 4. 23 المرجع السابق، ص 28. 24 جعفر نميري قاد الانقلاب العسكري سنة 1969 في مايو على حكومة ديمقراطية وجثم على أنفاس الشعب السوداني من مايو 1969 إلى ابريل 1985م حكم فيها البلاد بقبضة من حديد. 25 ديوان حديقة الورد الأخيرة، ص 11 ـ 12. 26 المرجع السابق، ص 44. 27 المرجع السابق، ص 14. 28 عبد الحي: الأعمال الكاملة، ص 160. 29 المرجع السابق، ص 105. 30 ديوان حديقة الورد الأخيرة، ص 54. 31 عيدروس، مجذوب، (القصيدة والفكرة)، حروف، ص 148. 32 عبد الحي سعد: (لم يعد السمندل يغرد في بيتنا)، حروف، ص 124. 33 المرجع السابق. 34 دار ابن زيدون، بيروت. 35 مجلة الثقافة السودانية، نوفمبر 1976. 36 مجلة الدراسات السودانية، العدد الأول، أغسطس 1985. 37 مجلة الثقافة السودانية، السنة الأولى، العدد الثاني، فبراير 1977. 38 مجلة الثقافة السودانية، فبراير 1977. 39 مجلة حروف، العدد الأول، 1990، دار النشر، جامعة الخرطوم. 40 طبع بمطبعة جامعة الخرطوم، وهو أطروحة الشاعر لنيل الماجستير. 41 طبع بمطبعة جامعة الخرطوم، وهو أطروحة الشاعر لنيل الدكتوراه. 42 مجلة حروف، العدد الأول، 1990. 43 مجلة المعرفة الشعرية، أكتوبر 1979م. 44 مجلة الخرطوم، 1971، المجلس القومي للآداب والفنون. 45 مجلة الدراسات السودانية، 1988. 46 طبع بمطبعة جامعة الخرطوم، سنة 1976. 47 طبع بفرنسا، المؤسسة الصحفية، اليونسكو، 1982. 48 طبع بمطبعة جامعة الخرطوم.
http://www.ofouq.com/archive02/sep02/aqwas25-2.htm
| |
|
|
|
|
|
|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: HOPELESS)
|
السمندل في غياهب الغياب 3-3
الفصل الأول : محمد عبد الحي .. حياته وأدبه
بقلم : د . نجاة محمود محمد الأمين / السودان
المبحث الثالث : الشكل الشعري ويحتوي على : 1 ـ اللغة الشعرية 2 ـ الصياغة الشعرية والموسيقى
قد قسمت الشكل إلى اللغة والصياغة الشعرية والموسيقى وقد يقسم إلى أكثر من ذلك كما فعل الناقد محمد حمود (1) عندما قسم شكل القصيدة الحديثة إلى الصورة والظاهرة الرمزية والأسطورة واللغة. ولكنني قسمتها إلى هذا التقسيم لأنني أرى أن أهم ما في شكل القصيدة الحديثة بنوعيها المرسلة الحرة والنثرية . اللغة الشعرية والصياغة الشعرية والموسيقى .
أولاً ـ اللغة الشعرية : إن اللغة هي الأداة التي يطوعها الأديب ليحملها أفكاره . إذن اللغة هي بمثابة الوعاء الذي يحمل أفكار ذلك الأديب . فلكل أديب قاموسه الخاص الذي يستخدمه ، ويعرف به . فإذا كان أديباً متفرداً ، أتت لغته مميزة ، دالة عليه ، وبذلك يتميز بلغته الخاصة ، وهذا قمة ما يسمو إليه أي أديب .
والشاعر عبد الحي اخترع لغة خاصة به ، لغة مدهشة وعجائبية تلفت النظر في شعره وتأسرك بسحرها الذي لا يمكن الفكاك منه ، فهي لغة منعتقة من ربقة التقليد والتكرار ، ونجد أن عبد الحي قد كوّن قاموسه الخاص فأتت لغته رنانة ، وعالية تحمل أفكاره بصورة منظمة ليست فيها اختلال ولا زيادة ولا نقصان .
فلا غرو فمحمد عبد الحي قد تحدث عن اللغة الشعرية بعامة كثيراً واهتم بها كثيراً . وعن لغته الشعرية بخاصة نجده يتحدث عنها في كثير من المقابلات قائلاً :
" أبحث في اللغة العربية ، وأنحتها (على حسب مقدرتي) وأبرزها قصيدة ، الشعر لغة ، لا خطرات نفسية أو آهات غرامية ، فمن يكبح جوهر اللغة يكبح الشعر فجوهر اللغة - وهي جوهر الشعر - وحي من اللَّه " . (2)
فاللغة الشعرية عند محمد عبد الحي مختلفة عن اللغة القاموسية وأيضاً تختلف عن اللغة العامية ، وفي هذا يقول :
" فالشاعر يطمح في أن يكتب شعراً لا يعبر عن شيء ، ولا يتأمل في موضوع ، وتتفجر فيه أكثر وأكثر القيمة المطلقة للكلمة في موسيقاها وشكلها وشخصيتها وتضمحل قيمة الكلمة القاموسية ، شعراً ، وإنشاء ، ونظماً أو لونا خاصاً به تكتسب فيه الكلمات دلالاتها من علاقتها داخلة يفسر بعضه بعضاً ولا يفسر بالارتداد إلى أي نظام لغوي أو غير لغوي مثل اجتماعي وسياسي وديني خارجه " (3)
كما أن اللغة لا يمكن أن تتحول إلى غاية ، وحتى يكتمل الفرض يجب أن يصاحب اللغة هذه وعي واستيعاب ، وألا تكون مجرد زخرف قد يعني شيئاً أو لا يعني شيئاً ، وبهذا التزم شاعرنا عبد الحي . فاللغة عنده لديها هدف واضح وجدوى لنقل إحساسه ووعيه بالأشياء .
" وعبد الحي لا يفعل في شعره زخرفة أسلوبية بل تكون هناك علاقة بين الشكل واللون الفني المستعاد ومضمون موضوع صورته الشعرية ". (4)
ومن ثم فإن عبد الحي لديه فهم خاص للغة ووظيفتها المحدودة ، فاللغة بالنسبة له كالسحر ، الذي يخفي شيئا ويظهر شيئاً آخر ، فهي لغة تنقل مفاهيم عليا فقد كان الشاعر يردد دائماً " إن الشعر جحيمي أكابده باللغة " ، وفي هذا يقول كاتب : (5)
"عبد الحي لديه فهم لوظيفة اللغة فاللغة عنده لها وظيفة السحر".(6)
ولكن إذا كانت اللغة بالنسبة له " كالسحر" هل هي سحر فقط ؟! أم أن هناك تداعيات لهذا السحر ، وهنا يقول أحد المهتمين بأعمال محمد عبد الحي: (7)
" إن اللغة "السحر" عند محمد عبد الحي سحراً ساكناً ، بل هي حركة للتوتر بين اللغة القديمة والجديدة ، اللغة السحرية واللغة التي تعبر عن واقع الحياة اليومية للناس". (
كما أن محمد عبد الحي نفسه يؤكد ن المفردة يجب أن تكون دالة على المضمون ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أنها لا يمكن أن تخلق الواقع وفي هذا يقول :
" إن المفردة في حد ذاتها شكل جميل ذو مدلول لا يتم إلا عبر سياق". (9)
ومن ثم إن اللغة هي شيء في واقعنا وهي تتكون من مفردات غير متناهية ، وأحياناً قد تعجز عن نقل ما في دواخلنا . ولكن الشاعر المميز هو الذي يعيد كشف هذه اللغة وتجليتها ليحملها أفكاره ورؤاه الخاصة . ولقد كان محمد عبد الحي في حالة كشف ذاتي للغة ليكون قاموسه الخاص . ولعل أبلغ ما قيل عنه في هذا الشأن قول أحد الشعراء :
" لقد صرح لي ذات مرة بأنه يبحث عن لغة خاصة ، لغة تنظر إلى واقع هذا القطر الفسيح ، القارة المتنوع المناخات الجغرافية ، لغة تشتمل البحر والاستواء والبرق والفهد والزرافة . والجبل والنار والشلال ، والجيشان ، والعنف ، التصوف ، والانقطاع ، والحلول والسياحة في ملكوت (الله) وقيومية الدين والطوطم والوثن .. الخ .. الخ " . (10)
وفي عرضنا لبعض نماذج من شعره تظهر لنا غرابة لغته وتفردها كما تظهر إمكانياته الشعرية العالية يقول :
زرافة النار ترعى النعنع القمري (11)
يعلو ويرتفع في اللازورد (12)
صحراؤك احترقت عنادلها (13)
هل ظنتها رحم الأبدية (14)
فالأصداف في الماء مرايا (15)
اقرعي في عتمة الصمت المدوي (16)
يكتنزها بين سقوف القمر الزمردي تحت ماء وجهه الجميل (17) أقاليمك المسحرات قلب السمندل ما ذال في لغة (1
آه يا ضحك الشمس الخرافي على خوف الجماهير الحزينة (19)
اللغة الأقدم من مجادلات النصر والهزيمة (20)
حين تعري الأرض فرجها اللَّهيبي (21)
يتلوى ويغيب عبر أمواج السديم (22)
أواه : أيتها الدروب التي تصل المنفى بالوطن (23)
أواه : هل لي بقدرة شاعر أصف بها كل ذلك العذاب (24)
الوردة الإلهية تتفتح في رحم العذراء (25)
النماذج السابقة هي مختارات رأيت فيها بعض الاستخدام للغة بصور خلاقة وساحرة وأردت بها فقط أن أبرز نموذج اللغة عند محمد عبد الحي وسنحلل نماذج شعرية له بصورة نقدية في الفصل الثاني والثالث ولذا وجب التنويه .
الصياغة الشعرية وموسيقى الشعر: صاغ محمد عبد الحي شعره على ثلاثة أنواع :
1 ـ القصيدة الحرة
2 ـ القصيدة النثرية
3 ـ القصيدة الموزونة
وتتراوح أطوال هذه القصائد من قصيدة إلى أخرى . فنجده قد كتب قصائد مطولة مثل العودة إلى سنار التي تقع في خمسة أناشيد . وقد يتجاوز النشيد الواحد المائة بيت . كما نرى قصيدة أقل من سابقتها طولاً مثل قصيدة "الشيخ إسماعيل صاحب الربابة" وللشاعر مقطوعات قصيرة تسمى بالقصيدة الومضية لا تتجاوز الأربعة شطرات لتكتمل فيها صورة أو فكرة وهذا نموذج للقصيدة الومضية يتحدث فيه عن الموت .
" نواقيس الرياح الأربعة
اقرعي من عتمة الصمت المدوي
يا نواقيس الرياح الأربعة
على ذاك الميت يصحو ويغني
تحت شمس مبدعة (26)
أولاً ـ القصيدة الحرة : المتأمل لشعر محمد عبد الحي يكتشف أن غالبية قصائده ، كتبها على أوزان الشعر الحر أو شعر التفعيلة ، لا تحكمه قافية وإنما تحكمه الموسيقى الداخلية ، الناجمة عن التفعيلات ، ونقول عن شعره :
" أن إيقاع الجملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور وطاقة الكلام الإيمائية والذيول التي تجرها الإيماءات وراءها من الأصداء المتلونة المتعددة هذه كلها موسيقى وهي مستقلة عن موسيقى الشكل المنظوم وقد توجد فيه وقد توجد دونه". (27)
كما أن شعر محمد عبد الحي الحر يمتاز بتقنية عالية حيث استخدم فيه كل الأدوات الشعرية مثل :
1 ـ المنلوج 2 ـ الحوار 3 ـ الإضاءات النثرية 4 ـ التكرار 5 ـ علامات الترقيم 6 ـ التضمين للأساطير والحكايات الشعبية والشعر الشعبي
كل هذه الأدوات والتقنيات الشعرية استخدمها ليكثف الرمز واللغة ، وكذلك بالإضافة إلى ما ذكرنا آنفاً نجد تعدد مستوى الخطاب عنده فنجد أحياناً الأنا تتحول إلى نحن وكما أحياناً يستخدم الخطاب المباشر .
1 ـ نموذج المنلوج : وهو أن يسترسل في حديث مع نفسه وهو عكس "الدايلوج" أو الحوار الذي يشترك فيه شخص مع آخرين.
" في القفز وحدي تحت شمس "مروى" اقرأ في حطام أحجارها السوداء والرخام أنصت للعصفور بين بساتين النخيل والرمال الصخور مغنياً عبر العصور ألمس بالكف جبين صاحبي وملكي أمر بالأصبع فوق ثنية الحاجب والعيون والشفاة ليس لنا سوى القبول ليس لنا سوى القبول "(2
2 ـ نموذج الحوار: وهي بين شخصين أو بين شخص وأكثر من شخوص وهو عكس "المنلوج" الذي فيه صوت واحد مع النفس .
" من ذلك الراقص فوق المجزرة يقلق أمن المقبرة ؟ أقاتل أجير؟ أم هارب قد جاء يستجير أنا السمندل يعرفني الغابر والحاضر والمستقبل مغنياً مستعزا صبين مغاني العلم المندثرة وزهرة داهية في بطن أنثى في الدجى منتظرة " (29)
3 ـ نموذج الإضاءات النثرية : وهي قطعة نثرية مكتوبة بلغة شاعرية . تقوم بتسليط الضوء على النص الشعري وكشفه . ويري بعض النقاد مثل نازك الملائكة أن استخدامها يسيء للشعر أكثر مما يفيده . ولكن غالبية شعراء الحداثة (30) يستخدمون هذه الإضاءات :
" الملكة جانشاه ! كنت أبصرها تخرج ليلة منتصف الصيف تقيم عرشها على جذر المرجان النائية تحرق قطعة من شجر البحر في مجمرة من محار البحر وتتحكم بثغره القديم فيطلع الدخان الأخضر العظيم ، ويزبد البحر ويضطرب ، ثم يجيء الموج يرفع ما تحته ويسيح على الساحل :
ثعابين الماء والكواسيج والدلافين والحيتان والسرطانات ، وكرارنك وذوات الأصداف والغلوس وعلى رأسها الضفدع ، زعيم حيوان الماء ، راكب خشبة .
الملك السمندل في قميص النار يشع بالنقاء ذاته والنورس الملاك ، وعائلة الأسماك وجمهور الزواحف الرخوة وحشرات في عقيقها وزمردها سلاحف ، تروسها المقيتة ، وعناصر بلا أسماء نشر ذخائرها فوق الرمل .
وتبدأ الرقصة في ظهيرة الفضة العميقة على حدود المياه الخطرة .
آه يا جانشاه ! بعض المخاطرة على جسدك نجاه ، ولكن من هلك على نيران الموج الهائلة بين فخذيك الممتلئين بظلال الشهوة الكثيفة صار لما هلك فيه."(31)
4 ـ نموذج التكرار : وهو أن نكرر مفردة وحيدة أو مفردة في بيت نقصد به تكثيف المعنى أو للصورة الذهنية المراد طرحها أو للقافية والموسيقى وقد تكون هناك أسباب أخرى . وهنا نورد نموذجين واحد لمفردة واحدة والثاني لمفردة متبعة بجملة شعرية من قصيدة التنين:
"وسرى في الصمت شيء كالغناء بعضهم قال: علامه! النهاية … النهاية … النهاية البداية … البداية … البداية" (32)
من قصيدة الشيخ إسماعيل في منازل القمر :
"اسقني" ويغيب وجهه في السراب
اسقني وتجره سلسلة طولها سبعون ذراعا
اسقني لا تمطر السحب سوى نار السراب (33)
5 ـ علامات الترقيم : وهي علامات تضع في الكتابة لتفيد الوقف حيناً والتعجب والتأهب وهكذا ، - . - ؟ - !- :
" هم ما رأوا غير السقوط : هنا سقوط أو هناك ، وكان بالأمس السقوط وفي غدٍ حتما يكون : ورأيت سوى توهج حرمة التفاحة الأولى وقد رجعت إلى بيت الغصون المزهرة ."(34)
6 ـ نموذج التضمين للأساطير والحكايات الشعبية والشعر الشعبي : وهي استخدام التراث الأسطوري والشعبي لإبراز صورة ما تم استلهامها للتعبير بالتراث عن قضية معاصرة . وقد أكثر شاعرنا من هذا التضمين فقصيدة العودة إلى سنار والشيخ إسماعيل صاحب الربابة عبارة عن تضمينات تراثية قديمة لطرح مفاهيم وأفكار الشاعر العصرية :
" الفرس البيضاء الفرس البيضاء تميس في الحرحر والأجراس على حصى الينبوع يستفيق طفل الماء ويفتح الحراس أبواب "سنار" لكي يدخل موكب الغناء" (35)
تضمين الشعر الشعبي
" الشم خوخت بردن ليالي الحرة " (36) الرمل يرسب من قرارة بحبة الخمرة نوع وأوراق ميبسة تخشخش حين دفعها الهواء ، وقطرة في إثر قطرة الضو يفرغ والنهار يفوتني والليل حتماً سوف يقضي في أمره (37)
ثانياً ـ قصيدة النثر: قصيدة النثر ترجمة حرفية لمصطلح غربي هو: “Poemen Prose” تكتب كما يكتب النثر تماماً ، التي هي في تقدم مستمر وجدت بالتحديد ، في كتابات رامبو النثرية الطافحة بالشعر كموسم في الجحيم ، إشراقات ، ولها أصول عميقة في الآداب كلها لا سيما الديني منها والصوفي .(3
لقد عالج محمد عبد الحي هذا النمط من الكتابة الشعرية ، ونجد أن هذا النمط من الشعر النثري ، لم يعالجه الشعراء في السودان ، لأن هذا النمط من الشعر ينظر إليه بدونيه ، ولكن هذا الضرب من الشعر لا يقدر عليه إلا شاعر ذو مقدرة عالية في الكتابة إذا أنه لا تحكمه تفعيلة لتجعل له موسيقى شعرية بل موسيقاه تأتي من فكرته .
وتحارب الشاعرة نازك الملائكة هذا النوع من الشعر ولا تعده شعراً على الرغم من أنها أول من كتب قصيدة بالشعر الحر.
"ما نكاد نلفظ كلمة الشعر حتى ترن في ذاكرة البشرية موسيقى الأوزان ، وقرقعة التفعيلات ورنين القوافي واليوم جاءوا في عالمنا العربي ليلعبوا لا بالشعر وحسب وإنما باللغة أيضاً وبالفكر الإنساني نفسه . ومنذ اليوم ينبغي لنا ، على رأيهم ، أن نسمي النثر شعراً والليل نهاراً لمجرد هوى طارئ وقلوب بعض أبناء الجيل الحائرين الذي لا يعرفون ما يفعلون بأنفسهم".(39)
وكذلك نجد الكاتب صبري حافظ يرى نفس هذا الرأي قائلاً :
" حركة قصيدة النثر التي تنقض بمعاولها على كل أساسيات الشعر وتخرج تماماً عن نطاقه ".(40)
ويقف في طرف النقيض كثير من الأدباء الذين تبنوا هذا الضرب من الشعر ونظروا له ونكتفي برأيي يوسف الخال وأدونيس الذين هما من الرواد الأوائل في هذا النمط من الشعر وهو يقول في الرد على نازك وآخرين :
" إذا كانت الدعوة إلى قصيدة النثر دعوة (ركيكة فارغة من المعنى) كما تقول نازك الملائكة فكل ما كتبه شعراء كبار كلوتر يامون وبودلير ورامبو وفلوديل وهنري وأرنو وسان جون بيري (الفائز بجائزة نوبل) ورينه شار وموتوفوا من نوابغ الشعراء المعاصرين كل ما كتبه هؤلاء من قصائد نثر هو فن ركيك فارغ من المعنى! " . (41)
وبالمقابل يذكر أدونيس (على أحمد سعيد):
" إنه من غير الجائز أن يكون التميز بين الشعر والنثر خاضعة لمعيارية الوزن والقافية ، فمثل هذا التميز كمي لا نوعي ، كذلك ليس الفرق بين الشعر والنثر فرق في الدرجة بل فرق في الطبيعة ". (42)
ومن ثم نرى ولوج محمد عبد الحي لهذا الضرب من ضروب الشعر ، ينم على انفتاحه على العالم ، وإيمانه بأن الأدب هو إرث إنساني ، لا وطن له ، وهو يرفض الانغلاق وبذلك نعتبره الرائد الأول في كتابة القصيدة النثرية في السودان ، وهو كان قد كتب قصيدته الطويلة بعنوان : "حياة وموت الشيخ إسماعيل صاحب الربابة" في قالب القصيدة النثرية.
ونجد أن الشاعر نفسه ـ وهو مولع بشرح شعره بعمل إضاءات وحواشي ـ لم يشرح مسوقات استخدامه لهذا الضرب من الشعر في هذه القصيدة بعينها ، ولكن الشاعر مصطفى سند يحاول أن يوضح لنا أسباب استخدام محمد عبد الحي لقصيدة النثر في قصيدة إسماعيل صاحب الربابة قائلاً :
" نجد أنه ولسبب لم يفصح عنه حتى الآن صاغ ملحمته عن الشاعر الأسطوري الشيخ إسماعيل صاحب الربابة صياغة تخلو من الإيقاع الشعري ومن الأوزان والقوافي ".(43)
ثم أضاف سند بعد أن أثنى على لغة الشاعر الجميلة ومقدرته الشعرية الغالية التي تتجلى في مطولته (العودة إلى سنار) أن الشاعر لا يخلو من موهبة شعرية وفي ذلك قال سند :
" في اعتقادي الخاص أن عبد الحي أراد أن يحول تجربة الشيخ إسماعيل صاحب الربابة إلى عدم تماماً أول الأمر فجردها من الأوزان". (44)
ويستدرك متسائلاً : " ولكن لماذا؟ " ويحاول سند أن يبرز أسباب استخدام هذا الضرب من الشعر فيربط بين إسماعيل صاحب الربابة الحكاية الشعبية السودانية وأرفيوس في الأسطورة الإغريقية ، فكلاهما شاعر وكلاهما لديه قيثارة ذات قدرات خارقة ، فيقول سند :
" هنا يجد عبد الحي نفسه في حل كبير من ربط هذا بذاك غير رباط شعري متين بكل أحماله وأبعاده وإسقاطاته الموجودة في العروض العربي ، وهو في ذات الوقت يبحث عن الشمول ويتحدث عن اتصالات الحضارات ". (45)
فرأى محمد عبد الحي أنه إذا كتب هذه القصيدة متمسكاً بقوانين الشعر العربي فإنه بتقمصه (محمد عبد الحي) للشاعر إسماعيل صاحب الربابة (الخلاف بينهما واضح) سيحمل الشيخ إسماعيل فوق طاقته وينزعه من عصره .
" إذن فليكن ـ هذا رأي محمد عبد الحي ـ أن تأتي الحكاية شعرية ولكن عبر صياغة خفت عنها قيود الوزن لكي تسهل ترجمتها ـ ولكي تعطي الشخصية ـ إضافة ـ البعد الإنساني المطلق ـ أو العالمي الكبير".(46)
وهذا نموذج لقصيدة النثر:
الشيخ إسماعيل يشهد بدء الخليقة 1 ـ الفهد وفجأةً رأينا الفهد مسترخياً في ظلمة الأوراق الخضراء ، في الفوضى الجميلة بين الغصون . النحل يعسل في شقوق الجبل.
والأرنب تستحم على الصخرة في الشمس وهي تحرك أذنيها مثل شراعين موسيقيين صغيرين .
لم تحلق هذه الصقور باكراً؟
الغابة في سفح الجبل وبين فخذيه أنثى أقدم من كل الإناث . نساء الشجر تعرّي نفسها السماء تدق طبلها الأزرق الجلد وما زال بريق سيف البرق عالقاً بالهواء الحديد . والأرض ميثاء وداكنة باللغة الأزلية .
هذا الرحم جدرانه الأمطار ، والنباتات المتسلقة . وثمار الباباي والمنقة الذهبية . (47)
وكتابه القصيدة النثرية لقراء سودانيين ، مهما كانت الأسباب لا تقبل بينهم وتخلق عزلة للكاتب إذ أن غالبية السودانيين يرون أن هذا النوع من الشعر يدل على عقم المقدرة الإبداعية لدى الشاعر وأنه فشل في كتابة الشعر المألوف ، لذلك لجأ إلى هذه الزخارف اللغوية.
ثالثاً ـ القصيدة الموزونة ذات القافية : كتب محمد عبد الحي أيضاً بعض القصائد الموزونة التي تلتزم بقوانين الخليل بن أحمد لينقل ويصور بها أفكار حداثية ومن هذه القصائد نورد القصيدة التالية :
سمعت صوتك
سمعت صـــوتك يا اللَّه يهتف بي أدرك قصيدك من فوضى تلاحقه في الليل والبدر تم غير محدود فالعصر عاهرة سكرى بتجديد
لن تدرك البرق إلا أن تراوده في النار من بين تطريق وتجويد(4
ونموذج آخر :
رحيل الطاووس
بكرت سعاد وهجرت طاووساً والربـــع كان بوجهها مأنوسا الآل غـــــــــــرق أهلها دكتائباً لو يبقى إلا حليــــــــة مكسورة وجه المدينة نخلـــــــة منخورة حملت بدوراً غصنه وشموسا في الرمل تلمع حبوه وطقوسا الفأر يولمها ويدعو السوسا(49)
وخلاصة القول أن الشكل عند محمد عبد الحي هو شكل حداثي ومتجدد على حسب أفكاره التي يطرحها .
ونجد أن محمد عبد الحي يعي إشكالية الشكل والمضمون وأنهما لا ينفصلان في القصيدة الحديثة .
والمتأمل لأعمال محمد عبد الحي يرى أنه شاعر تجريبـي وجريء في طرحه الجديد هذا لعله واثق من مقدرته الشعرية ، ولكن التجريب سلاح ذو حدين فغرابه وتجريبية شعر محمد عبد الحي في التجربة الشعرية السودانية جعلت شعره محدود الانتشار والتداول .(50)
هوامش : 1- راجع كتابه القيم (الحداثة في الشعر العربي المعاصر)، الشركة العالمية للكتاب، 1996. 2- سعد اللَّه، رباب: (حوار لم يكتمل)، مجلة حروف، العدد المزدوج 2-3، دار جامعة الخرطوم للنشر، السنة الأولى، 90/1991م، ص 134. 3- على، عبد اللطيف: (موقف الخطاب في كتاب الرويا والكلمات)، ص 158، حروف، عدد مزدوج. 4- البنا، أحمد الأمين: (رأيت عبد الحي)، حروف، مزدوج، 90/91، ص 180. 5- علي، عبد اللطيف: (ندوة المجلة)، حروف، ص 230. 6- محمد زين، إبراهيم: (ندوة المجلة)، حروف، ص 230. 7- سند، مصطفى: (محاولة للولوج إلى عالم عبد الحي)، حروف، ص 172. 8- علي، عبد اللطيف: (ندوة المجلة)، ص 230. 9- محمد زين، إبراهيم: (ندوة المجلة)، ص 230. 10- عبد الحي، محمد: حديقة الورد الأخيرة، الناشرون: دار الثقافة للنشر 1984، ص 1. 11- عبد الحي محمد: العودة إلى سنار. 12- حديقة الورد الأخيرة. ص 9. 13- المرجع السابق، ص 1. 14- المرجع السابق، ص 1. 15- المرجع السابق، ص 13. 16- العودة إلى سنار، ص 16. 17- عبد الحي، محمد: السمندل يغني، الأعمال الكاملة، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1999م. 18- عبد الحي، محمد: اللَّه في زمن العنف، دار جامعة الخرطوم للنشر، ط1، 1993م، ص 72. 19- عبد الحي، محمد: (السمندل يغني)، ص 48. 20- المرجع السابق، ص 56. 21- المرجع السابق، ص 48. 22- المرجع السابق، ص 48. 23- عبد الحي، محمد: حديقة الورد الأخيرة، ص 40. 24- المرجع السابق، ص 40. 25- المرجع السابق، ص 45. 26- حديقة الورد الأخيرة، ص 12. 27- حمود، محمد: الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ص 157. 28- عبد الحي، محمد: الأعمال الكاملة، ص 53. 29- حديقة الورد الأخيرة، ص 12. 30- منهم أدونيس، أحمد عفيفي مطر. 31- عبد الحي، محمد: الأعمال الشعرية الكاملة، ص 116. 32- حديقة الورد، ص 12. 33- حديقة الورد، ص 41. 34- عبد الحي، محمد: حديقة الورد الأخيرة، ص 19. 35- حديقة الورد الأخيرة، ص 51. 36- من قصيدة للحاردلو الكبير، مسدار إبراهيم الحاردلو، ديوان الحاردلو، الدار السودانية للكتب، ط5، 1991م، ص 10. 37- حديقة الورد الأخيرة، ص 12. 38- الملائكة، نازك: قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، ط8، 1989م، ص 220. 39- حمود، محمد: الحداثة في الشعر العربي المعاصر بيانها ومظهرها، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، ط1، 1996، ص 192. 40- المرجع السابق. 41- المرجع السابق، ص 195. 42- المرجع السابق. 43- سند، مصطفى: حروف، ص 186. 44- المرجع السابق. 45- المرجع السابق. 46- المرجع السابق. 47- عبد الحي، محمد: حديقة الورد الأخيرة، ص 12. 48- المرجع السابق، ص 21. 49- المرجع السابق، ص 32. 50- راجع مقالات "القصيدة والفكرة"، مجذوب عيدروس، "رأيت عبد الحي"، أحمد يوسف البنا، حروف.
http://www.ofouq.com/archive02/oct02/aqwas26-2.htm
| |
|
|
|
|
|
|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: HOPELESS)
|
تجلّى الشعر في مرايا الأسرار اليقظى محمد الربيع محمد صالح
محمد عبد الحي 44-1989 اسم معلق كالتميمة في شرفات الزمن الشعري في السودان‚‚ ظل يشعل بروق الشعر في ظلمات الكلمة‚‚ حتى ازهرت حديقة «كونية نبوية خضراء» تغالب انواء التقليد والاستهلاك والتشابه‚ عصية على الداخلين الى ابهاء الشعر من بوابات العادة‚‚ فصار انجازه الشعري «العودة الى سنار‚ السمندل يغني‚ حديقة الوردة الاخيرة‚ رؤيا الملك والله في زمن العنف‚ خط تقسيم بين زمنين شعريين‚ زمن يعيد انتاج نفسه وشعراءه داخل معازل التقليد‚ وزمن جسور‚ يكسر عادات التلقي والاستجابة‚ ويحجل وحيدا‚ في مفازة التفرد والاختلاف‚
فالشعر عنده لم يكن ارثا يكتفي «الورثة» باستصلاح اراضيه‚ وترميم ما انهدم من «مصاريعه» لكنه - اختيار - تسقى شجرته من نسق الروح والقلب والجسد «فالشعر فقر‚ والفقر اشراق‚ والاشراق معرفة لا تدرك الا بين النطع وبين السيف»‚
كينونة
لم تعرف حالة الشعر عنده انقطاعا‚ ولم تكن مجرد برهة يعقبها «اللاشعر»‚ بل كينونة تنتج لحظاتها ومقولاتها‚ تنهمر مواسمها من اول خيط في فجر الكلمة حتى ائتلاف النجم في ليل القافية:
«عند فجر الاغنية
تسطع الشمس وفي مغربها
يمتلئ بالنجم ليل القافية»
اما استلهامه للشيخ اسماعيل «صاحب الربابة‚ ذات الانغام السحرية التي يفيق لها المجنون وتذهل منها العقول‚ وتطرب لها الحيوانات والجمادات‚ عاش في سنار القديمة ولعله النموذج الاسطوري‚ الاول للشاعر السوداني‚ النموذج المتجدد عبر العصور‚ تاريخه ومستقبله في ذاته‚ ارضه وسماؤه‚ اسماؤه‚ افعاله تتحد طفولته بطفولة الكون‚ ميلاد الحضارة التي يشهد حيويتها وشيخوختها وتجددها‚ ويعيش نظامها الكوني الهائل في وجدانه‚ الشاعر المتحد بصورته وثقافته»‚ الا تكريسا لارادة شعرية‚ لا تجف ينابيعها‚ أزلية المصادر ضاربة انهارها في جسد المعرفة الكونية وتأكيدا لطيف الشاعر الازلي الذي كلما مست انغامه السحرية شيئا او فكرة غادر هويته القديمة‚ وصار يحجل في برود الشعل ومجاسده‚
ملاك وحشي
الشعر عند محمد عبدالحي «ملاك وحشي» عصي على الترويض والشاعر محمد عبدالحي غزال بري يركض في المدى المفتوح للشعر من برية الى برية‚ لا يقتات الا من ثمار جديدة ومختلفة فكانت هذه الحرية تتعاكس في لوحة وجوده البيانية وظل يرفض كل محاولات الادراج‚ ايديولوجية كانت او حتى جمالية فالقطيع عنده فكرة لا يغشاها الشعر مطلقا‚
زلزلة
اختار محمد عبدالحي ان يقف بالنص الشعري في السودان على خط شروع الحداثة على خط شروع الزلزلة المفاهيمية التي احدثت تغييرا جذريا في النظر الى الكون وانتجت قطيعتها المعرفية التي احدثت انقلابا مفاهيميا وجماليا كان من تجلياته التغير في مفهوم الشعرية الذي ادى الى تنحي علاقات وسيادة اخرى‚
احد هذه المفاهيم التي انسحبت من معترك التحديث هو الظن السائد بان موضوعا بعينه او فكرة بعينها مثل الوطن او التاريخ او الايديولوجيا تكفي للاعلاء من قيمة النص الشعرية فكانت المفردات الدالة على هذه الافكار تنزلق على سطوح النصوص وتثقل كاهل المتلقي بأعباء الفكر الاجتماعي والانحيازات من خارج الخطاب الشعري فأسهم محمد عبدالحي في مناهضة هذا الضلال كثيرا وفي تحرير الشعر من رق الخطابات الاخرى فالشعر معرفة مكتملة بالعالم لذلك ذهب معظم الشعر المكتوب في الستينيات ادراج ايديولوجيا الغابة والصحراء وبقيت كلمات الشاعر محمد عبدالحي في العودة الى سنار هي القصيدة ‚ فالشعر يعلو بقوانينه الذاتية لا بشروط خارجه‚
اسرار
لان الابداع ايقاظ مستمر للاسرار الكامنة في الاشياء والتفاصيل تعج نصوص عبدالحي بالاسرار اليقظى في مرايا القصيدة:
«لأننا نسمع شيئا مثل
جرس النجوم في الدم
قلنا نحن مرآة لأسرارها»
الاقتباسات بين الاقواس لمحمد عبدالحي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: HOPELESS)
|
هجوع من لهيث السياسة في رياض الانشطة الانسانية
اضاءات في اهم ركائز جماليات ثقافة هذه البلاد عرض وتقديم: صلاح الباشا
يظل السودان الوطن الغالي هو هاجس ابنائه وبناته في شتات مهاجرهم التي امتدت الى كل الدنيا، ذلك .. لان مقياس الوطنية وحب الخير للبلاد اصبح مؤخراً يتفجر ابداعا وجهدا ثقافيا نابعا- ليس من اهل السياسية فحسب- بل من الباحثين والاكاديميين ومجمل الكتاب وجمهرة الشعراء والمبدعين بشتى اجناس ابداعاتهم التي تعمل على تأصيل ثقافات شعب السودان عبر السنين.
وفي تقديري الشخصي ان ابتعاد هذا الكم الهائل من النخب المتميزة عن ارض الوطن وانتشارهم المكثف مؤخراً في ارض الله الواسعة، ساعد على خلق قنوات اتصال بينهم وبين مهاجرهم المتباعدة بسبب تطور وسائل الاتصالات وتقنية المعلومات النابعة من انتشار وسيلة الانترنت بما يحتويه من توظيف للبريد الالكتروني، مضافاً اليه التواصل السهل عبر «الماسينجر» بالانترنت. لذلك نرى ان هناك وسائل جديدة استخدمها السودانيون في المحافظة على ملامح وجماليات الثقافة السودانية ومفرزاتها من شعر وادب ورواية وفنون.
فالسودانيون الان خارج الوطن ظلوا يؤسسون مواقع سودانية ورائعة وجميلة تتحدث كل منها عن اهتمامات معينة، ولكنها في مجملها تفيض بدفقات من الحب والتقدير في استعراض عراقة السودان رغم ظروف فقره البائن ورغم توقف مسيرة التنمية المتسعة على ارضه منذ عقود طويلة ربما تعود الى ما قبل الاستقلال بقليل. كما ان الاجيال الجديدة التي شبت عن الطوق في مهاجر آبائهم المختلفة كانت محظوظة في انها استفادت من توفر التقانة الحديثه التي اتاحت لها كتلة الحب المتقدة في مخيلتهم، فقاموا بتقديم اكبر عمل ثقافي وتنويري لبلادهم عبر مواقع الانترنت المختلفة.
وقد شاءت الصدف ان نتعرف عبر الانترنت على باحثة جادة مع زوجها الدكتور الباحث «ابراهيم الزين» في العاصمة الماليزية- كوالالامبور- منذ عام 1993م حيث يعمل الرجل محاضرا بالجامعة الاسلامية في ذلك البلد الآسيوي البعيد الذي كنا نسميه خلال عقود طويلة ماضية «الملايو» وهي السيدة الدكتورة الباحثة في ثقافة اهل السودان نجاة محمود التي نالت درجة الدكتوراة من جامعة القرآن الكريم والدراسات الاسلامية بتقدير «امتياز» في اكتوبر عام 2000م وقد كان المشرف على الرسالة هو التربوي الكبير والصديق العزيز البروفيسور «عباس محجوب» عميد الدراسات العليا بجامعة القرآن الكريم بام درمان. والشيء الذي يزيد من سرورنا ان موضوع الرسالة يتركز في مسيرة واعمال الراحل المقيم الدكتور«محمد عبدالحي» الذي قدم خلال عمره القصير اشياء تزداد اشراقا كل يوم في مجال الثقافة السودانية. فهو شاعر منذ مرحلة الدراسة الثانوية، وهو ناقد وفيلسوف لايشق له غبار، وهو كاتب صحافي منذ بدايات حياته الجامعية. وهو مثقف استخدم ادوات جديدة لاستحداث لغة جديدة يقوم بتوظفيها شعراً يفوح بجماليات تستند على التزاوج التاريخي الاصيل النابع من تناسل شعب السودان عبر القرون الماضية والذي يختلط فيه الدم العربي بالدم الزنجي مما اخرج لنا- كنتيجة منطقية- هذا الهجين الذي نسميه «خلاسي» فكانت اشعار «العودة الى سنار» وغيرها هي انعكاس حقيقي لما كان يعتمل داخل صدر الدكتور محمد عبدالحي، مما ادى الى اظهار افتخاره كثيرا بمنجزات الدولة السنارية المتمثلة في السلطنة الزرقاء المنطلقة من سنار ومن تراثها الثر.
والدكتورة نجاة محمود من المتابعات حتى وهي في ذلك المهجر البعيد بكل تطورات الحركة الثقافية والتراثية في الوطن الحبيب من خلال اسهاماتها في مواقع الانترنت السودانية، وقد ظللنا نستلم منها آراءها الناقدة في كل ما نكتبه عن ابداعات اهل السودان في كل الصحف الالكترونية التي نسهم فيها بصفحات الثقافة والابداع سواء أكان ذلك من خلال صحيفة «سودانايل الالكترونية» التي يصدرها شباب من داخل الخرطوم تشرئب اعناقهم لتعانق النجوم بما يقدمونه من مادة راقية تسبح في هذا الفضاء الواسع وتنقلها الاقمار الاصطناعية الى كل أبناء السودان في شتات مهاجرهم عبر شبكة الانترنت، لذلك يجدر بنا ان نحيي الاصدقاء المتوثبين خالد عز الدين ومحمد عبدالحليم، وطاقم التحرير المتمثل في المبدع طارق الجزولي وبقية الكوكبة المتألقة التي ظلت تقدم اكبر خدمة صحفية متميزة لاهل السودان في شتى مهاجرهم في كل صباح جديد. كما نشيد في هذا المقام بما ظل يقدمه شباب السودان بالسعودية في مجلة «مشاعل» الثقافية الشهرية وموقع الغابة والصحراء الشعري الجميل التي يرأس تحريرها المهندس المبدع «هواري حمدان هجو» بمدينة ينبع السعودية ويساعده في التحرير الاستاذ الاديب «نصار الحاج» كما كان لمجلة «ودمدني» التي يصدرها من جدة الاستاذ « ابوبكرالمبارك» وما تحتويه من ابحاث في شتى المجالات عن دور واسهامات مدينة ودمدني في شتى المجالات عبر تاريخ السودان الحديث حيث اصبح موقع ودمدني على الانترنت بوتقة رشيقة وشاملة تتجمع فيها كل اسهامات وكتابات ابناء ودمدني من كل العالم. بل هناك الكثير من المواقع التي تحدث عن ثقافة ومجتمع اهل السودان مثل سودان نت بمناقشات ومداخلات شبابها الجادة والهزلية ايضا. وموقع سودانيز اون لاين ومجلة مهيرة التي تصدر من نيوزيلندا. فضلا على الصفحات الشخصية الخاصة بابناء السودان بالانترنت فكل تلك الانشطة اصبحت كالهواء والماء لاهل السودان بالخارج الذين لم يتنازلوا قيد انملة عن حبهم وارتباطهم بوطنهم مهما جارت عليهم وعلى الوطن الظروف.
لذلك ..لايسعنا الا ان نسلط اضواء ساطعة على مثل هذا الجهد الاكاديمي المتميز الذي قدمته الدكتورة نجاة محمود رغم ظروف البيت والاولاد ومصاعب الهجرة البعيدة. فالدكتورة نجاة هي من اهل شمال السودان، وقد تنقلت مع والدها بحكم وظيفته كمدرس بوزارة التربية والتعليم بالسودان بمعاهد التربية، وقد كان لذلك التجوال فائدة عظيمة في تشكيل نظرتها الى الثقافات السودانية المتباينة منذ نعومة اظفارها ، فقد درست المرحلة الابتدائية في كل من معهد التربية بمدينتي شندي وبخت الرضا، والثانوي العام في بربر وعطبرة، ولكنها اختارت الدراسة العليا في معهد الموسيقى والدراما في عام 1980م لكي تشبع رغبتها في دراسة الثقافات السودانية من خلال تاريخ الدراما والابداع والفلسفة ، وبعد تخرجها نجدها قد واصلت ابحاثها بكل حماس لكي تحرز درجة الماجستير من معهد اللغة العربية بالخرطوم، وهاهي تنال درجة الدكتوراة بامتياز كما ذكرنا سابقا. علما بان الدكتورة نجاة بعد زواجها قد استقرت بامريكا لعدة سنوات مرافقة لزوجها عندما تم ابتعاثه من جامعة الخرطوم ثم عادت الى الخرطوم في 1989م. ومنها الى ماليزيا في عام 1993م مرافقة للزوج.
كل تلك المعلومات شجعتني كثيرا من خلال تواصلي مع هذه الباحثة الجادة عن طريق الانترنت ما بين «الدوحة وكوالالامبور» لكي اطلب منها ارسال ملف رسالة الدكتوراة بالكامل لانني سوف اجد فيه فائدة عظيمة تتناسب تماما مع موضوعاتنا التي نكتب فيها، خاصة وان موضوع بحثها للدكتوراة هو عن مسيرة الراحل المقيم «محمد عبدالحي» الذي لم تشرف بلقائه مطلقا نظرا لوجودنا الطويل خارج البلاد في عدة اقطار منذ تخرجنا وهجرتنا عام في 1975م بالسعودية وقتذاك. ولقد كنت محظوظا ان كانت الدكتورة نجاة تحتفظ بالرسالة مطبوعة على الكمبيوتر ومحفوظة لديها كملف حيث قامت بارساله لنا كمرفقات بالبريد الالكتروني، فظلت اطلع عليه من وقت لآخر. ولقد بذلت فيه د. نجاة جهدا اكاديميا وابداعيا مقدرا جدا حيث قامت بعمل اضواء مهمة على تاريخ الراحل المقيم الدكتور محمد عبدالحي منذ نشأته وحتى وفاته في عام 1989م «عليه الرحمة» كما انها قامت بلقاء العديد من اصحابه واهله واصدقائه وزوجته وشخصيات عديدة كانت على صلة باعمال وازمنة وامكنة الراحل المقيم محمد عبدالحي. .. وسنحاول القاء بعض الملامح المهمة لذلك البحث المتقدم.
ذكرت الباحثة الدكتورة نجاة محمود في مقدمة رسالتها لدرجة الدكتوراة حول الراحل المقيم د. محمد عبدالحي كمقدمة لما سيأتي في مفاصل تلك الرسالة فقالت:
«عندما نقف على حياة اديب أو شاعر ما نجدها في مجملها حافلة بالتجارب، قد تكون تجارب ايجابية ، وقد تكون كذلك تجارب سالبة ولكن كل هذه التجارب حلوها ومرها، هي التي تكون روح ذلك الشاعر الاديب، وبالتالي عندما يكتب ابداعه حتى ولو لم يشر اليها مباشرة نجدها تشكل وعيه بالاشياء ورؤيته الخاصة ولذلك قال البعض ان الاديب «مرآة عصره» ومن ثم اذا كان عمل الاديب أو الشاعر يحل في عالمنا «الموضوعي» الا انه عصارة «ذاتية» ما.. وقد يرى البعض غير ذلك.
ومن هذا المنطلق ارى ان نقف اولا على حياة الشاعر محمد عبدالحي حتى يتأتي لنا ان نفهم بعض ما يغيب عنا من شعره، فمحمد عبدالحي ليس شاعرا عاديا في السودان، وحتى في الوطن العربي، فهو قبل ان يكون شاعرا فهو مثقف ومفكر، واستاذ جامعي، استخدم موهبته الخلاقة وابداعه، ليشكل عالمه ويطرح قضايا فلسفية عميقة، فلا غرو ان كثيرا من الناس يرون ان شعره صعب على الفهم ولذلك نجده قد ملأ قصائده بالحواشي والشروحات ، ولكن ايضا هذا لا يعني انه شاعر متعالي أو شاعر صفوة، لانه كتب عن اشياء مألوفة، وهو شاعر كوني يتحدث في شعره عن البحار، والزواحف، والحيوانات الوحشية والاليفة والخرافية، فهو ينظر الى هذا الكون «بكلية »فنجده يبحث عن علاقة الانسان بالكونيات وليست بتجاربه الانسانية فقط».. انتهى.
في تقديرنا ان الباحثة بتلك المقدمة تكون قد اختصرت اسلوب د. محمد عبدالحي في الفعل الابداعي بتلك السطور التي تعطي القاريء فكرة عامة تشكل اهم ملامح طريقة تفكير الراحل عبدالحي، وتنوع اهتماماته من خلال الكائنات التي يضعها كمناهج بحث في اعماله الابداعية، ثم تنتقل الباحثة الى محطة مهمة تشكل - في رأيها- الاسس التي يتكيء عليها د. محمد عبدالحي من خلال دراساته العليا التي ابتعثته جامعة الخرطوم لنيلها، فقالت:
(وبعد تخرجه في 1967م في قسم اللغة الانجليزية بمرتبة الشرف الثانية العليا عين مساعد تدريس في قسم اللغة الانجليزية حيث بعث للدراسات العليا لانجلترا في جامعة ليدز «Leeds» اعد رسالة الماجستير عن شاعر بريطاني اسمه ادوين مويير حيث طبعت في كتاب بعنوان : (الملاك والفتاة: الضرورة والحرية عند ادوين مويير)üü ثم نال درجة الدكتوراة عن بحثه: «التفكير والتأثير الانجليزي والامريكي على الشعر العربي الرومانتيكي» في سنة 1972م من جامعة «اكسفورد».
ورجع الشاعر الى السودان ليعمل استاذا مساعداً في قسم اللغة الانجليزية يدرس الادب المقارن والادب الانجليزي، ثم انتدب للعمل مديرا لمصلحة الثقافة 1976م- 1977م في عهد الرئيس جعفر نميري.. وكان في ذلك الزمن يحاول النظام ان يؤكد على استفادته من كل الكفاءات ويحقق انفتاحا بعد ان كان مغلقا، ودخل محمد عبدالحي الاتحاد الاشتراكي مما اثار عليه كثيرا من اللغط والتساؤلات مما اورثه الحزن اذ انه كان يعتقد انه يحقق احلام جيله بعمله مديرا لمصلحة الثقافة وبالفعل لقد كانت سنته تلك من اعظم السنوات التي مرت على الثقافة السودانية حيث انشأ مركز ثقافة الطفل والثقافة الجماهيرية وكذلك بدأ مهرجانات الثقافة التي دعا فيها كبار شعراء الوطن العربي مثل محمود درويش واحمد عفيفي مطر ونزار قباني.
وكذلك نشاطات في كل اضرب الثقافة من مسرح ومعارض وتشكيل وكانت بالفعل مهرجانات عامرة ولكن كل هذا لم يعفه من تبعة وضع يده مع نميري وفي ذلك يقول عبدالله علي ابراهيم:
(ان عبدالحي مثلا تم اختياره مديراً لمصلحة الثقافة واضطرته المداراة لان يدخل الاتحاد الاشتراكي وكان ذلك مثار اسئلة ونقد من بعض الاصدقاء وكنت اقول لهم ان عبدالحي يريد ان يخلق مصلحة ثقافة وهي حلم من احلام جليه من خلال مصالحة ربما كانت فادحة).
وبعد رجوعه الى جامعة الخرطوم قام بتأسيس مجلة «الآداب» آداب الخاصة بكلية الاداب وكان اول رئيس تحرير لها. وكذلك في بداية السبعينات قام هو ويوسف عيدابي بتحرير المحلق الثقافي لصحيفة «الصحافة» وكان بحق محلقاً منفتحا على كل الكتاب والادباء باختلاف اتجاهاتهم الفكرية ولكن تم ايقافه لادعاء البعض انه لا يتناسب وسياسة الدولة آنذاك).، انتهى.
هنا كما نرى ان البحث قد قدم لنا ملمحا سريعا ومختصرا لايخل بالموضوع عن المناصب الاكاديمية والمشاركات الثقافية التي شغلها الراحل د. محمد عبدالحي حيث انه برغم صغر عمره آنذاك فانه كان قدر المسؤوليات التي تم اختياره لها، ولكن نرى كيف كانت نشأة محمد عبدالحي وما هي نوعية فكره وثقافته التي اكتسبها ومدى انعكاساتها على تقييم الناس لبعض المناصب التي اسندت للدكتور في تلك الظروف في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي، فتقول د. نجاة في هذه الناحية:
فكره وثقافته:
(لقد اهتم محمد عبدالحي بكثير من القضايا الفكرية والادبية منذ صباه وحمل هموم الثقافة السودانية وتساؤلات الهوية والانتماء وثنائية الشخص السوداني، وكان من الرواد الذين كتبوا في الهوية والقومية تنظيراً وتطبيقاً.
وقد حسب على اليسار ولكن هل كان محمد عبدالحي حقاً يسارياً؟
لم ينتم محمد عبدالحي ابدا الى اليسار، والانتماء المعروف هو محاولته للانتماء لحزب الامة، حيث رفض طلبه فسارع بالانضمام الى الوطني الاتحادي يدلل على ذلك ما ذكره الشاعر نفسه الى عمر عبدالماجد:
(ياعمر ان بي شيء في صدري حسبتها لمدة بعد ان «اصابتني» لكمة معنوية عنفية ورفضت معية حزب الامة القومي رفضا باتا بان لا اكون عضو بينهم لقد كانت اهانة ثقافية بالغة ليس لي وحدي ولكن لكل الجيل الجديد الذي يقرأ ويمزق ويكتب ويحاول أن يبني بناء ثقافيا مفيدا في الوطن الممزق).
ومن جهة اخرى ذكر عبدالله علي ابراهيم الذي ينتمي الى الحزب الشيوعي السوداني «ان محمد عبدالحي ترك الحزب الشيوعي في اوائل الستينات».
ولكن المتتبع لكتابات الشاعر الابداعية لا يجد فيها اي نزوع مادي في اعماله بل نزعة صوفية ايمانية عميقة «معلقة الاشارات - الله في زمن العنف - العودة الى سنار» كماندلل على ذلك بقوله هو نفسه: «كشاعر اعتقد اني اختلف عن شعراء العصر في السودان- وفي العالم العربي- بايماني العميق بهذا الجوهر الديني للوجود الانساني وبايماني الاعمق منه بأن هذا الجوهر بلغ اقصى نقائه وجماله الشكلي في الاسلام وهذا الايمان ايمان خلق لا تحجر»
وكذلك كان قد نفى ذلك الانتماء وهو منشور في صحيفة «الرأي العام» عن انتمائه «لابادماك» يؤيد عدم يساريته.
وخلاصة القول ان محمد عبدالحي كان رجلا شجاعا في ابدائه لآرائه والاعلان عنها دون مواربة أو خشية لومة لائم واكسبه ذلك الكثير من الاعداء، وايضا كان بسيطاً متواضعاً مما اكسبه حب الكثير من الناس.
فقد آمن محمد عبدالحي منذ بداية شعره بفكرة الهوية السودانية وكان يرى ان الشخص السوداني عبارة عن هجين عربي- زنجي وان من المفترض ان نعى ونعترف بهذه الثنائية في تكويننا دون ان نتنكر لاصولنا العربية، أو نتنكر لاصولنا الزنجية من جهة اخرى، وكان يرى ان رأب الصدع في السودان ولم شمل هذا الوطن الممزق لا يكون الا بالحل الثقافي وليس بالحرب وانه من المهم ان يفكر في بعث الانسان السوداني العربي- الزنجي دون تغليب واحدة من الثقافتين على الاخرى أو اضطهاد واحدة على الثانية ولذلك استلهم رمز سنار ليرمز للسوداني العربي الزنجي وكتب «العودة الى سنار» التي سنتحدث عنها لاحقا بالتفصيل في الفصل الثالث ممثلا فيها رؤيته لهذا الجزء من العالم الذي يسمى السودان.
ووقف عبدالحي عند مروي وهي حضارة سودانية عظيمة ولكن تجاوزها الى رمز سنار باعتبارها الاكثر حضورا في الذات السودانية.
ولكن يجب ان لا نفهم من ذلك ان محمد عبدالحي كان يدعو الى نظرة شوفينية سودانية ضيقة، أو دعوة انعزالية شبيهة بالحركات الانعزالية الاخرى التي قادها بعض الشعراء في الوطن العربي، مثل ادونيس «الفينيقية» ولويس عوض «الفرعونية» ولكن يدعونا ان نستبصر واقعنا السوداني وثنائيتنا الفريدة، التي بدورها تشكل اضافة وليست نقصان.
«العودة الى سنار» لاتشبه أية دعوة انعزالية اخرى في الوطن العربي هي ادراك للخصوصية السودانية ضمن اطار عربي ممتد في العمق الافريقي».
ونجد ان محمد عبدالحي يرى للشعر وظيفة وللشاعر ان يخلق وعياً من محيطه وان يفصل ويؤطر لثقافته.
«المتأمل لشعر محمد عبدالحي منذ قصائده الاولى المنشورة في صحيفة «الرأي العام» السودانية أول الستينات ومجلة الشعر «المصرية» ومجلة «شعر» اللبنانية يجدها تلقى تفسيرا للشعر عند التيجاني والمزيد من الضوء حول الشاعر الناضج الذي يحمل مسؤوليته وتاريخه الانساني والكوني وثقافته القومية وشعبه وسياسته وطبيعته».
وقد ذكر كثير من مؤرخي الادب السوداني مثل عبدالهادي صديق، وسلمي خضراء الجيوسي، وعبده بدوي انتماء محمد عبدالحي الى مايسمى تيار «الغابة والصحراء» ولكنه تنصل عن ذلك ونفاه عن نفسه في التذييل الذي كتبه لمقال كتبته سلمى خضراء الجيوسي عن «العودة إلى سنار» قائلاً: الأمر عندى هو انني لست شاعراً من شعراء الجماعة فأنا اتكلم بصوتي الخاص بي الذي اعمقه واثقفه حتى يتزوج فيه الخاص بالعام.. والعام عندي هو تجربة الانسان الواحدة المتكررة الباطنية الاعمق أو الاعلى من الزمن التي لاتتغير في جوهرها بل تتشكل في اشكال جديدة كل عصر».
وقد ادعى بعض النقاد ان محمد عبدالحي متأثرا بالادب الغربي وان قصائده اشبه بالمترجمات ولكنه نفى ذلك عن نفسه قائلاً:
(اصولي الفكرية في كتاب الفتوح المكية لشيخي محي الدين بن عربي وفي رسائل اخوان الصفا في الشعر الانجليزي).
وفي الختام فان المتتبع لاعماله يرى هذه المسحة الصوفية المميزة، والعمق الديني يتجلى في غالبية شعره ولكنه مثقف درس في الغرب واطلع على الآداب الاجنبية الاخرى نجده يتحدث عن رموز عالمية مثل : لير واوديب ليحقق بذلك ان الادب لا وطن له ولكنه نتاج انساني جمعي) . «انتهى»..
وهنا لانرغب في ان نكتب تعليقا على تلك الخلفيات التي قامت د. نجاة محمود بطرحها في رسالتها حيث انها لاشك قد اعملت جهدا كبيرا في التوصل الى تلك النتائج التي شكلت ثقافة د. محمد عبدالحي.
في ما سبق ذكره لعل القاريء الكريم يكون قد قام بتكوين فكرة عن ملامح هذا البحث القيم وعن هذا الجهد الاكاديمي المتقدم الذي يمزج نظريات البحث المتجرد مع فن العرض والابداع الممتع الذي قدمته الدكتورة نجاة محمود من مهجرها البعيد في العاصمة الماليزية «كوالالامبور» لعلها بذلك تكون قد أثرت البحث العلمي في السودان بموضوع جديد ربما لم يتم طرقه من قبل، ونحن بلاشك نرى ان تلتفت دار مطبعة جامعة الخرطوم للطباعة والنشر الى هذه الرسالة التي يمكن طباعتها ككتاب ادبي متميز ليتم تسويقه لجماهير الشعب السوداني داخل البلاد وخارجها وليطلع عليه طلاب الأدب والفنون والمسرح بالجامعات السودانية، وفي نهاية هذه الحلقات يسرنا ان نكتب عنوان البريد الالكتروني لهذه الباحثه الجادة كقناة اتصال لاي دار نشر داخل البلاد أو خارجها أواي باحث يود مناقشة هذه الباحثة المثابرة دكتورة نجاة محمود.
وفي ختام هذه الاضواء نترك القاريء الكريم للاطلاع على ما كتبته الباحثة في رسالتها حول اهم قضية شغلت الاوساط الادبية بالسودان والمتعلقة بمسألة التمازج الثقافي في التركيبة الاثنية بالسودان، حيث نراها قد رجعت على كتابات الادباء في ذلك الزمن، فقالت:-
(ان فكرة الغابة والصحراء لم تولد من فراغ بل هي اتت عبر مخاض مؤلم وطويل، وبحث دائب عن الهوية، فلا غرو فهي ظهرت بعد الاستقلال مباشرة، وعندما كانت الدعوة القومية تفرض وجودها بداية القرن كانت في الاساس لتوحيد الشعور الجمعي السوداني وتزكية النفوس لتوحيد الصف السوداني لدحر الاستعمار ..وبعد ان نال السودان استقلاله ظهرت التساؤلات التي تخص الهوية السودانية.
وهذا ما قد يجعل المبدع يحتفى بافريقيته كقيمة حضارية بقدر احتفائه بعروبته، وقيل في ذلك «عن موروثنا الافريقي يجب ان نعتز به ونفاخر به بدلا ان نقلد غيرنا فلا نحسن التقليد».
ومن ثم «ان خصوصية الثقافة ليست مظهرية أو خارجية ولكنها كنه مستبطن لابد من التنقيب فيه والتفتيش عنه» ان حركة الغابة والصحراء هي في مجملها حركة «لبعث» العنصر الافريقي في تكوين السوداني و«ليس معني حركة انها (ادارة) ظهرها لكل ما هو عربي بقدر ما هي التفات جاد الى كل ما هو سوداني».
ويقول محمد عبدالحي في ذلك ( جماع الغابة والصحراء لم يكن وديا في البداية ولكن زحام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية وبين سبايا الغاب الافريقي نحتنا وجوهنا... الافكار لاتجدي.. الاعتراف، عودة الى الجذور الاصلية المنسية ضغوط، يتم لقاؤنا بشمس الحقيقة).
(فالثقافة التي ننشدها يجب ان تكون ثقافة هجينة مثلنا، فهي افريقية اصلا ولكنها عربية الملامح)..
كما ان دعوة الهجنة في اصولها«العرقية عند (ماكمايكل) وتجلياتها الثقافية عن (ترمنجهام) تنطوي على فرضية انحطاط وهو انحطاط نجم في نظر دعاتها على امتزاج العرب المسلمين بالنوبة الافريقيين» ثم شرح ما يرمى اليه قائلاً:-
(فقد جاء عند ماكمايكل ما يوحي بان «الدم » العربي ارفع من الدم الافريقي، وجاء عند ترمنجهام ان الهجين العربي الافريقي قد سرب من العقائد الى الاسلام ما ادخله في الوثنية . من الواضح ان المكون الافريقي في هذا الهجين هو أكثر من تأذى لنظرية الانحطاط هذه).
«وثاني ما ينبغي ان نذكره هو انه اذا كان السودانيون نتاج امتزاج العنصرين العربي الافيريقي، فلا ننسى ان العنصر العربي كان هو الظافر المنتصر- منه الفاتحون- ومنه السادة، الذين ملكوا الارض، فلا عجب ان يحاول احفادهم تغليب العنصر السيد على العنصر المسود في تكوينهم، الطبيعي ان يكون شعورهم الاول هو التقليل من اهمية العنصرالمغلوب أو انكاره بتاتا.
ثم اردف قائلاً: «في هذا العامل قوة تذكرنا ان العنصر العربي المنتصر لم يكن أعلى شأنا من الناحية العسكرية وحدها بل كان ارقى ثقافة وانضج من حضارة راقية لايعرفون لها نظيراً لدى الافريقي الذي لم يعرف إلاَّ همجية وبدائية- بل له لغة هي اعلى كعباً من مراقي اللغات البشرية وعن جميع اللهجات واللغات الافريقية التي لاتعرف حتى مجرد الكتابة».
ومما قيل، نجد ان عدم الموضوعية وعدم معرفة بعض النقاد المصريين بتاريخ السودان، يجعلهم يطلقون احكاما مطلقة تدل على الجهل المتعمد،لوضع السودانيين في درجة اقل وهي درجة المتلقي وليس المرسل، والمتأثر وليس المؤثر.فالمعروف تاريخيا، انه عندما دخل العرب السودان كانت هنالك ممالك مجيدة، مثل النوبة والمقرة وعلوة وقبلها مملكة مرويü التي استخدمت اللغة المروية وهي لغة مكتوبة وآثارها باقية الى الان....
ومن ثم انبثقت الغابة والصحراء كحركة بعثية لتبعث العنصر الزنجي في السودان.
واننا بتجاهلنا واحتقارنا لهذا المكون الزنجي الذي يبدو في ملامحنا ، ولوننا، كعلامات فارقة بيننا وبين العرب الخلص- الذين بدورهم ينظرون الى السودان بدونية واحتقار- لن تكتمل هويتنا «وعدَّ محمد عبدالحي انتماءنا الى العرب تكبراً اجوف» كما اضاف محمد المكي ابراهيم في هذا الامر قائلاً «اذا انكرنا افريقيتنا في تلهفنا للانتماء الاكبر».
والمثير للدهشة ان النور عثمان ابكر - اول من استخدم رمزية الغابة والصحراء في السودان - فكر في سؤال الهوية بصورة جدية حال وجوده في المانيا في 1963م اي انه كان يعيش في محيط حضاري غربي، ونجده يقول في ذلك: «ان انتباهي الى مسألة الغابة والصحراء تم لي وانا في محيط حضاري غربي رفض هويتي الافريقية حين افكر ورفض هويتي العربية حين اكون».
وعن فلسفة الفكرة نجد انه عندما تحدث عن العنصر الزنجي في مكون السوداني، قام بنشر مقال أثار ضجة كبيرة وردود فعل متباينة في عام 1967م وفي ذلك المقال نوه انه كتب هذه المقالات في شكل مذكرات عام 1962م وهي بعنوان «لست عربياً ...ولكن».
ومضمون هذا المقال الذي يعد من بدايات الغابة والصحراء يحوم حول تمجيد العنصر الافريقي في مكون الانسان السوداني، وكذلك تمجيد للثقافة الافريقية، كما انه ارجع بعض الظواهر في الثقافة السودانية الى العنصر الافريقي، مثل الانفعالات الدينية التي تحدث عن حالة الجذب الصوفي، وقد افتتح النور عثمان ابكر مقاله الشهير بصحيفة «الايام» في عام 1979م قائلاً:
«كل ما هو غيبي وعميق في السودان انما هو عطاء الغاب... تجريدية الفكر الاسلامي استحالت الى ليونة المدنية البدائية التي تأخذ فكرها على حاجتها المباشرة الخيط الاساسي في وجودنا ليس هو الصوفية الشرقية بل هو الحركة الرخيمة لرقصات الغاب، وللطبل وللبوق» كما نجده ارجع حلقات الذكر وايقاعاتها ولغة الجسد «والنوبة » والحالة الاخيرة للتقمص «الجذب والفناء».
اخيراً لايسعنا الا نزجي الشكر والتهنئة للدكتورة نجاة محمود على هذه الرسالة التي تقارب المائتي صفحة والتي بلاشك تستحق ان تلتفت اليها دور النشر السودانية لانها تحمل اهم ملامح وركائز جماليات الثقافات السودانية، ولانها تبحث في ادبيات وتراث باحث سوداني متميز كان يثري الساحة الادبية والثقافية بالسودان بكل ماهو شيق وجميل، الا ان القدر والمرض لم يمهلانه طويلا ليقدم لشعبه الكثير مما يكتنز به خياله الرحيب، وما قمنا به من تقديم اضواء محدودة لهذا السفر القيم لايغطي بالطبع معظم تفاصيل البحث الكبير ، الا ا نه في تقديرنا يعمل على لفت انظار اهل الادب والثقافة والابداع الى تلك الجهود التي تبذل «من اقاصي الدنيا» كما يحلو لكاتبنا صاحب القلم الرشيق الاستاذ محمد خير ان يضع هذا التعبير كعنوان لمساهماته الصحفية التي تثير اللغط من وقت لآخر، تلك الجهود التي يجب علينا ان نهتم بها اكثر واكثر والا نضعها في اضابير ملفات اقسام البحث بالجامعات فقط، بل نرى اهمية ان تنزل الى الشارع السوداني العريض كي تتواصل خبرات الاجيال على مر العصور.. وفي الختام نقول : ورحم الله مبدعنا الدكتور المثقف بعمق محمد عبدالحي وان يسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وان يجعل البركة في زوجته وابنائه، وشكراً كثيراً للدكتورة نجاة محمود في ماليزيا«رد الله غربتها واهل بيتها اجمعين الى رحاب الوطن الغالي».
| |
|
|
|
|
|
|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: bayan)
|
دكتور بيان سلام واحترام
اشكرك جزيل الشكر علي كلماتك الطيبه واتمنى أن يسهم الجميع في جمع اكبر معلومات عن اديبنا الكبير محمد عبدالحي لتزويد موقعه المرتقب ان شاء الله
تحياتي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: HOPELESS)
|
الأخ الكريم جمال عبد الرحمن رائع جدا ما قمت به للدكتورة نجاة آلاف التحايا و الشكر لتوى طبعت البحث و فى حالة تأمل له حتى تكون مداخلتى القادمةذات معنى غير الشكر أجدد لك التحية على ما قمت به و مزيدا من هذا الجهد المقدر فإنه مفيد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: Remo)
|
الأخ الفاضل الطيب برير يوسف ريمو سلام واحترام اسعدتني مداخلتك وكلماتك الجميله الصافيه في انتظار مساهمتك التى بدون ادنى شك ستكون اضافه حقيقيه نسعد بها كثيراً وفي انتظار ما تجود به علينا
تحياتي وودي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: السـمندل فـي غيـاهب الغيــاب (Re: sentimental)
|
كيف نقرأ ونتذوق شعر محمد عبد الحى
في كتابه ( الرؤيا والكلمات ) ينطلق محمد عبد الحى في قراءته المتفردة لشعر التجانى يوسف بشير ، من فرضية نقدية تقول ، " علينا أن ننظر لشعر الشاعر في مجموعه ونقرأه في تكامله نحو نظام لغوى جمالي ، وكأننا نقرأ قصيدة واحدة متصلة ، ليست فروعها إلا مراحل في طريق الكشف . ومهمة الناقد أن يستخلص العناصر التي تتكون منها وحدة الرؤيا " (1
ولعل هذه الفرضية النقدية لا تنطبق على شعر شاعر مثلما تنطبق على شعر محمد عبد الحى ذاته . فوحدة الرؤيا المبثوثة في دواوينه الشعرية تجعلنا نحس ونحن نقرأ قصائده وكأننا نقرأ قصيدة واحدة متصلة الحلقات . ولتذوق شعر عبد الحى تذوقا متبصرا علينا أن نعمل على استخلاص العناصر والنظم الجمالية التي تتجلى عبرها هذه الرؤيا . وكلمة ( الرؤيا ) هنا مقصودة لذاتها وهي غير الرؤية . والفرق بين الرؤيا والرؤية كالفرق بين البصر والبصيرة . ذلك أن " الكون الذي تولد فيه القصيدة كون وثيق الصلة بالوجود الحق الكامن تحت قشرة الواقع اليومي . هو امتداد للحياة لا انعكاس لها .. فالقصيدة من ناحية شبيهة الحلم ، ولكنها من ناحية أخرى تختلف عنه في إنها إشراق في أعماق الذات ينفتح به العالم ، في أنصح لحظات الوعي صحوا وحساسية " . (2) ومهمة النقد الانتقال بالقصيدة من مستوى الرؤيا / الحلم ، إلى مستوى الرؤية ، من مستوى المجاز إلى مستوى العقل والتأويل .
وتعتمد الخطة في تأسيس هذه الرؤية المنهجية لقراءة شعر محمد عبد الحي على الاستعانة بعبد الحي الناقد لقراءة عبد الحي الشاعر . أن عظمة عبد الحي كناقد لا تقل عندي عن عظمته كشاعر – وتأتي أهمية كتاباته النقدية من أنها تصلح أن تشكل أساسا نظريا لاستجلاء وكشف النظم الجمالية التي تتكون منها وحدة الرؤيا في أعمالـه الشعرية . ومن كتاباته النقدية التي تصلح أن تكون مفاتيح رئيسية للولوج لعالمه الشعري والتي اعتمدنا عليها في هذه الدراسة هي :
1- رسالة إلى خالد المبارك عن قصة كتابة العودة إلى سنار 2- هوامش وحواشي دواوينه الشعرية . 3- كتابه القيم ( الرؤيا والكلمات ) في دراسة شعر التجاني يوسف بشير . 4- مقالته القيمة :الشيخ إسماعيل صاحب الربابة – النموذج الأسطوري للشاعر .
ولعل وحدة الرؤيا لم تتجلى في هذه الأعمال الشعرية مثلـما تجـلت فـي قصيدة ( العودة إلى سنار ) حتى يمكنا القول أن هذه القصيدة الطويلة هي العمل الشعري المركزي الذي استقطب كل كتابات عبد الحي الشعرية الأخرى . هذـا لا يعنى التقليل من أهمية التجارب الشعرية الأخرى ولكن وحدة الرؤيا التي تجلت في العودة إلى سنار ، نجدها مبثوثة في بقية الدواوين اللاحقة لها . وقد وعى محمد عبد الحي مبكرا بهذه الحقيقة حتى قبل أن تظهر قصيدة العودة إلى سنار في ديوان مطبوع ، ففـي رسـالته إلى د. خالد المبارك في 5/7/1972 يشكو عبد الحي من استقطاب القصيدة له في سائر كتاباته ويقول " لقد أصبحت ديناصورا شعريا يصعب التحكم فيه فلا يشبع أبدا مهما ألقمته من كلمات وكلمات " (3
حقا لقد ظلت العودة إلى سنار ، تجتذب عبد الحي في كل ما يكتب ، فقد أعاد كتابتها سبع مرات مختلفات منذ أن نشرت لأول مرة بجريدة " الرأي العام " سنة 1962 وفعل بها كما فعل تي . أس اليوت بمسودات ( الأرض الخراب ) وكما فعل عزرا باوند بأناشيده . ويبدو أنه جاهد كثيرا لوضع حدا لهذه ( المأساة ) . وعندما أراد التخلص منها دفع بها إلى المطبعة وكأنما كان يتخلص من إثم عظيم . (4)
ولكن حتى صدور القصيدة في ديوان مطبوع لأول مرة عام 1973م لم يضع حدا لاجتذاب القصيدة لقوى الشاعر الإبداعية . فقد أعاد تنقيحها في الطبعة الثانية عام 1985م . بل ظلت القصيدة تجتذب الشاعر في بقية دواوينه اللاحقة مثل ( السمندل يغنى ) و ( حديقة الورد ) و ( معلقة الإشارات ) .
ويمكن أن نعطى مثالا على وحدة الرؤيا الشعرية التـي تجلـت أولا فـي ( العودة إلى سنار ) ثم انتظمت سائر الأعمال الشعرية الأخرى . الحقيقة هنالك مثالان أو نموذجان يجسدان النظم الجمالية التي تكون وحدة الرؤيا . الناظم الجمالي الأول هو ، أسطورة ( السمندل ) والناظم الجمالي الثانـي هــو سيـرة ( الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ) . فلو أخذنا أسطورة السمندل ، نجد لها إشارات في ( العودة إلى سنار ) مثل قوله : " ويعبر السمندل في قميصه المصنوع من شرار " و " وارتفعت من الأرض طيور النار " و " حيث آلاف الطيور نبعت من جسد النار " . بل الحقيقة إلى العودة إلى سنار ، تبدأ الإشارة إلى طائر السمندل وإن لم تذكره بالاسم :
أبصر كيف مر أول الطيور فوقنا ودار دورتين قبل أن يغيب في عتمة النور وفي حديقة المغيب
ثم تتبلور رمزية السمندل أكثر في الرؤيا الشعرية لمحمد عبد الحي حتى أن الديوان الثاني يأتي حاملا اسم ( السمندل يغنى ) أما ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) فيضم بين تضاعيفه إشارات كثيرة إلى السمندل بجانب قصيدة طويلة بعنوان " السمندل ملك النهار " والسمندل مثله مثل طائر الفينيق ، يجدد شبابه كل مائة عام ، بالاحتراق في النار ا وهو من اكتشافات عبد الحي وقد أنفرد بتوظيفه دون غيره من شعراء الحداثة في تجربته الشعرية ولعله يمثل المعادل الجمالي لحلم الشاعر بالتجدد والاستمرارية والانتصار على الموت والصيرورة الزمنية .
أما الناظم الجمالي الثاني أي الشيخ / إسماعيل صاحب الربابة فهو أحد متصوفة مملكة سنار القديمة ويتخذه الشاعر رمزا لوحدة الوجود الإنساني . وقد وردت الإشارة إليه في العودة إلى سنار وذكره الشاعر بالاسم في هوامش القصيدة وأحال إلى ترجمة سيرته بكتاب ، طبقات ود ضيف الله . أما في ( حديقة الورد الأخيرة ) نجد قصيدة طويلة تحتل نصف مساحة الديوان تقريبا ، تحمـل عنـوان ( حياة وموت الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ) . وتنفتح الدلالة الرمزية لأسطورة السمندل على الدلالة الرمزية لسيرة الشيخ إسماعيل بحيث تتكامل الدلالتان ويشكلان مع بقية النظم الجمالية الأخرى وحدة الرؤيا في تجربة عبد الحي الشعرية .
مستويات الوجود الثلاث
يعد نص ( العودة إلى سنار ) من أكثر نصوص عبد الحي الشعرية كثافة هذه الكثافة تصل به أحيانا إلى حد الغموض . ولكن لحسن الحظ أن عبد الحي يقترح علينا الطريقة التي يمكن أن نقرأ بها القصيدة . ففي رسالته إلى خالد المبارك المشار إليها آنفا ، يقول " لقد أراد دانتي أن تقرأ القصيدة وكأن أفقها منفتح على أربع دوائر متراكزة تشف عن : معنى حرفي – معنى مجازى – معنى أخلاقي – معنى إشراقي (5)
وإذا أخذنا في الاعتبار أن المعنى الأخلاقي مضمن بالضرورة في كل عمل أدبي جاد ، فأنه يمكن أن تختزل دوائر دانتي الأربعة التي أشار إليها عبد الحي في رسالته ، في ثلاث دوائر من المعاني هي : المعنى الحرفي والمجازى والاشراقي – وبالتالي يمكن أن نقرأ القصيدة وكأن أفقها منفتح على ثلاث دوائر من المعاني . ومن حسن التوفيق أنه بالرجوع إلى الهوامش والحواش التي ذيل بها قصيدة ( العودة إلى سنار ) نجد الشاعر قد أعطى لسنار ثلاثة معاني ، هذه المعاني الثلاث تتماثل مع معاني دانتي وتحيل إلى ثلاث مستويات من الوجود . يقول محمد عبد الحي في هوامش ( العودة إلى سنار ) عن معاني سنار :
1- سنار هي عاصمة السلطنة الزرقاء لثلاثة قرون حتى أوائل القرن التاسع عشر . لغة على اللسان وتاريخ ووطن . وحضور ذو حدين " ذلك يخطر في جلد الفهد ، وهذا يسطع في قمصان الماء " . 2- في القصيدة ربما كانت سنار دفقة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب – كما رغب جيمس جويس قبله – في أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته الذي لم يخلق بعد . 3- وربما كانت نقشا آخر على صخر آخر . بداءة أخرى – اسما يتجوهر في مملكة البراءة . الأشياء هنا هي كما في السماء " .
هذه المعاني الثلاث التي أشار إليها الشاعر لسنار لا تلغى بعضها البعـض وإنما تنفتح على بعضها البعض في تكامل وتوحد فهي لا تشير إلى معاني مختلفة بقدر ما تشير إلى مستويات الذات الشاعرة في سلم الوجود . وكان عبد الحي قد أشار إلى هذه المعاني في رسالته إلى خالد المبارك في معرض حديثه عن دوائر دانتي التي تتكون منها معاني القصيدة بقوله : " إذا أخذنا في بالنا أن معاني دانتي الأربعة تعدد في وحدة شعرية أو دائرة واحدة تنداح في ماء الشعر يلقى فيه بالفكر والحدس ، رأينا أن أصل ما يقترحه ايمان عميق بوحدة عميقة في الكون بين ظواهر الأشياء وبواطنها وبين سلوك الواقع وأحوال الالهام " (6) .
وعلى ضوء هذه المعاني يمكننا أن نقوم بمحاولة لقراءة القصيدة أو بالأحرى ملامسة بعض أطرافها في مستوياتها الثلاث :
المعنى الحرفي - الوجود الظاهري
سنار تعني في القصيدة في المعنى الحرفي ، أو المستوى الظاهري ، مملكة سنار أو السلطنة الزرقاء . وهي كما هو معروف أول مملكة سودانية شكلت نواة السودان الحاضر . وقد تأسست بتحالف من القبائل العربية والقبائل الأفريقية . فقد تحالفت قبيلة القواسمة وبعض القبائل العربية الأخرى بزعامة عبد الله جماع مع قبيلة الفونج الأفريقية بزعامة عمارة دنقس ، وقد تمكن هذا التحالف من إسقاط مملكة علوة المسيحية وتأسست أول مملكة سودانية بتحالف بين العرب والأفارقة عام 1505م واستمرت مملكة سنار تحكم وتسيطر على أجزاء كبيرة من السودان المعروف الآن حتى الغزو التركي المصري عام 1821م .
المعنى المجازى - الوجود الرمزي
هنا تنتقل القصيدة من المعنى الحرفي ، إلى المعنى المجازي ، من سنار السلطنة والتاريخ إلى سنار الرمز ، حيث تأخذ سنار معنا مجازيا يرمز إلى الذات والهوية والوطن . " في القصيدة ربما كانت سنار دفقة من كيان الفنان في شبابه حينما رغب ، في أن يشكل في مصهر روحه ضمير أمته فيتداخل الرمز مع المرموز إليه فيغدو تاريخ الذات وتاريخ القبيلة شئ واحد " أو كما يقول في النشيد الرابع – الحلم :
وتجئ أشباح مقنعة لترقص حرة وتستدير مدنية زرقاء في جسدي ويبدأ صوتها ، صوتي يجسد صوت شعبي صوت موتاي الطليق ماذا أكون بغير هذا الصوت هذا الرمز هذا العبء يخلقني وأخلقه على وجه المدينة تحت شمس الليل والحب العميق
سنار هنا ( المدينة الزرقاء ) ترمز إلى رغبة الذات الشاعرة في البحث عن أصولها الوجودية والثقافية والعرقية وانصهار هذه الأصول المتعددة في الوطن البوتقة . ويوظف الشاعر رموز ثقافية وجغرافية للدلالة على هذا التعدد والتمازج والانصهار في الهوية السودانية مثل رمزي ( الغابة والصحراء ) والنخلة والأبنوس في إشارة إلى العنصريين العربي والأفريقي . ومثل بعض الشعائر الدينية كالمصلى والإبريق والمسبحة والثور المقدس . بالإضافة إلى طقوس وتقاليد أخرى : " ذلك يخطر في جلد الفهد وهذا يسطع في قمصان الماء " . وجلد الفهد كما يقول في الهوامش ، لباس قداسة وطقوس عند الدينكا . وقمصان الماء ، فيها إشارة كما يقول إلى درعيات أبى العلاء المعرى حيث يقول : " على أمم إني رأيتك لابسا قميصا يحاكى الماء إن لم يساوره " . وعن رمزية ( الغابة والصحراء ) للهوية السودانية ، يقول في النشيد الأول – البحر :
وكانت الغابة والصحراء امرأة عارية تنام على سرير البرق في انتظار ثورها الإلهي الذي يزور في الظلام
والثور الإلهي ، كما يقول في الهوامش ، هو الثور المقدس عند الدينكا . ولا تخفي إشارته إلى البعد الروحي في تكوين الوجدان السوداني .
لكن الذات الشاعرة في سعيها للبحث عن أصولها الثقافية والأثنية لا تقف عند أعتاب مملكة سنار كما قد يظن البعض ، إنما تتخذ من سنار مرتكزا للانطلاق نحو جذور أبعد من ذلك حيث الحضارة المروية والحضارات النوبية القديمة وما قبلها ، وقد أشار إلى ذلك في قوله : " فأحتمى كالنطفة الأولي .. زهرة وثعبانا مقدسا " والزهرة والثعبان المقدس إشارة إلى الحضارات النوبية القديمة حيث " كانت الآلهة في بعض نقوش مروى القديمة تصور منبثقة من زهرة الثالوث المقدسة ، وهنالك نقوش كثيرة يظهر فيها الثعبان المقدس حارسا للموتى أو ملتفا على الأضرحة أو طالعا من تلك الزهرة " . (7)
ولما كان سؤال الهوية في الثقافة السودانية سؤال مغرى ومثير للجدل ، فإن جل الحديث النقدى عن القصيدة انحصر في هذا المستوى من القصيدة بل كاد الحديث أن ينحصر فقط في حوار الذات الشاعرة مع نفسها : بدوي أنت ؟ - لا ، من بلاد الزنج ؟ - لا " ويغفل الحديث عن المستوى الثالث الذي لا تكتمل دائرة المعاني الا به إلا وهو المستوى ( الاشراقي ) على حد تعبير دانتي وهو المستوى الإنساني والوجودي الأشمل .
المعني الاشراقي - الوجود الميتافيزيقي
عن المعنى الاشراقي وهو المعنى الثالث الذي يورده الشاعر لسنار في الهوامش ، يقول عبد الحي : " .. ربما كانت سنار ، بداءة . الأشياء هنا هي كما في السماء " . (
وكان الشاعر قد دبج القصيدة بخبر عن الشيخ الصوفي أبى يزيد البسطامى نقله عن ( الفتوحات الملكية ) للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي ، وقد جاء في الخبر :
" يا أبا يزيد ، ما أخرجك عن وطنك ، قال : طلب الحق ، قال : الذي تطلبه قد تركته ببسطام فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتـح له " . هذا النص الذي أورده الشاعر عن أبى يزيد البسطامي يمثل مفتاحا رئيسيا ذو دلالة محورية للقصيدة . فهناك عودة وهنا عودة ، هنا عودة إلى بسطام وهناك عودة إلى سنار . فهل قصد الشاعر بإيراد خبر أبى يزيد تنبيهنا منذ البداية إلى أن العودة إلى بسطام مماثلة للعودة إلى سنار ؟ .
وأوضح أن العودة إلى بسطام في مستواها الظاهري هي عودة إلى المكان الوطن . ولكنها في الحقيقة عودة إلى مستوى آخر ، فعند خروج أبى يزيد من وطنه طلبا للحق هتف له هاتف أن الحق الذي يبحث عنه قد تركه خلفه بوطنه بسطام . فعاد أبو يزيد أدراجه إلى بلده وسلك طريق التصوف بالمجاهدات والرياضيات الروحية حتى فتحت له أبواب العلوم وانكشفت له الحجب والأستار فعرف الحق ا
وفي طلب الحق يقول سقراط " أعرف نفسك " فالمعرفة الحقة عنده معرفة النفس . وعند أفلاطون المعرفة مركوزة في النفس منذ الأزل ولكن النفس نسيت ما تعلمته بالسقوط في الزمن بالخطيئة – والتعلم ما هو إلا تذكر لهذه المعرفة الموروثة بإزالة الصدأ الذي تراكم عليها فحجبها . ويقول القرآن : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " .
إذن العودة إلى بسطام / سنار في مستواها الأفقي ، أي مستوى " آيات الأفاق " حسب الآية القرآنية هي عودة إلى المكان / الوطن . أما في مستواها الرأسي ، مستوى " آيات النفوس " عودة إلى الذات أو النفس في أصلها الأول قبل سقوطها في سجن الجسد .
فالنفس في الموروث الصوفي ، ذات أصل إلهي " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " فالله هنا والآن . والحقيقة كامنة في أعماق النفس البشرية وبعد سقوط الإنسان من ( مملكة البراءة ) بتعبير عبد الحي ، ووقوعه في الخطيئة بالتجربة ، انطمست تلك الحقيقة في قلبه . " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " وانبثاق شمس الحقيقة وتجليها مرة أخرى رهين بإزالة الرين أو الصدأ الذي علق بالقلب . ويكون ذلك عند المتصوفة بالمجاهدات الروحية فيحدث الكشف والشهود الذاتي ويكون بالتأمل عند الفلاسفة فيحدث الإشراق . وفي إشارة إلى ذلك يقول الشاعر في نشيد الصبح ، في نهايات القصيدة :-
مرحى تطل الشمس هذا الصبح من أفق القبول وأقول يا شمس القبول توهجي في القلب صفيني ، وصفي من غبار داكن لغتي ، غنائي
وبانبثاق شمس الحقيقة في القلب ، يتم القبول ويفتح للشاعر كما فتح لأبي يزيد البسطامي وتكون ( العودة ) إلى الوحـدة الأولى والحضـور الأنقـى . أن ( العودة إلى سنار ) في هذا المستوى الاشراقي ، إذا استعرنا عبد الحي الناقد في ( الرؤيا والكلمات ) هي : " استشفاف لرؤية فرودسية " (9) في أصل الوجود الإنساني . والعودة إليها عودة الذات إلى فردوسها الأول الذي انفصلت عنه بهبوطها من مملكة البراءة وسقوطها في الزمن بالخطيئة . القصيدة بهذا المعنى الاشراقي محاولة لاستعادة الفردوس المفقود ومحاولة لالتئام ذلك الانقسام الذي حدث في بنية الذات الشاعرة نتيجة انفصالها عن عالمها الأول حيث " الأشياء هنا هي كما في السماء " :
الشمس تسبح في نقاء حضورها والأشياء تبحر في قداستها الحميمة وتموج في دعة ولا شئ نشاز كل شئ مقطع ، واشارة تمتد من وتر إلى وتر على قيثارة الأرض العظيمة .
أن الشاعر كما يقول التجاني يوسف بشير " يفتح الكون بالقصيد .. " (10) وهذا الفتح الشعري كما يقول عبد الحي : " تأصيل للوجود الإنساني في الكون ، في اللغة . أنه سعى دائب لاكتشاف وعودة للوحدة الأصلية التي تصل فيها آفاق النفس مع آفاق العالم والكون اتصالا خلاقا ، مستمرا ، متجددا متولدا ، تلك العودة الدائمة للوحدة الأصلية ، نقيض لاغتراب الوعي وانقسامه " . (11)
لذلك يمكن القول أن ( العودة إلى سنار ) في مستواها الظاهري الأفقي ، عودة إلى المكان ، الوطن ، والجذور . أما في مستواها الاشراقى أو الاستبطاني ، فهي عودة إلى الذات في وحدتها الأولي حيث تتصل آفاق النفس بآفاق العالم اتصالات خلاقا . وينفتح المستويان على بعضهما البعض " حيث تاريخ الذات هو تاريخ القبيلة " . (12)
وكان أفق الوجه والقناع شكلا واحدا : يزهر في سلطنة البراءة وحمأة البداءة على حدود النور والظلمة بين الصحو والمنام
الشيخ إسماعيل الوجه والقناع
في طريق ( العودة إلى سنار ) في مستوياتها الثلاثة من الوجود تتلبس الذات الشاعرة قناعا خفيا . هذا القناع هو شخصية الشيخ صاحب الربابة . وكنا قد أشرنا في حديثنا عن النظم الجمالية التي تتكون منها وحدة الرؤيا ، إلى أسطورة الشيخ إسماعيل كأحد أهم النظم الجمالية لعالم عبد الحي الشعري . الحقيقة أن أسطورة الشيخ إسماعيل هي بالأهمية بمكان بحيث يمكن أن نعتبرها المفتاح الرئيسي ليس لقصيدة ( العودة إلي سنار ) فحسب بل لسائر عوالمه الشعرية .
وكان عبد الحي الناقد قد لفت الأنظار إلى أهمية الدلالة المركزية لشخصية الشيخ إسماعيل في تجربته الشعرية في الدراسة القيمة التي كتبها تحت عنوان " الشيخ إسماعيل صاحب الربابة – التاريخ والنموذج الأسطوري لمفهوم الشاعر " . وبالرغم من أن الدراسة قد كتبت من وجهة نظر ميثلوجية وانثروبولوجية بحتة حيث لم يشر فيها إطلاقا إلى علاقة أسطورة الشيخ إسماعيل بقصيدة ( العودة إلى سنار ) أو بأي قصيدة أخرى من قصائده بل أنه لم يتحدث من قريب أو بعيد عن تجربته الشعرية في هذه الدراسة ، إلا أنه يبدو أن الدافع وراء كتابة هذه المقالة القيمة هو تنبيه الدارسين ولو بطريقة غير مباشرة إلى منابع عالمه الإبداعي .
وعن قصة الشيخ إسماعيل ورد في كتاب ( الطبقات ) لمحمد النور ضيف الله ( 1727 – 1810م ) ما يلي : (13)
"ولد للشيخ مكي الدقلاش ، أحد متصوفة سنار ، ابن من امرأة سقرناوية من تقلي ، اسمه إسماعيل . وقد تكلم الصبي وما يزال في المهد . كبر الصبي وحفظ القرآن وتعلم الفقه والتوحيد وشرع في تدريس علوم الدين . كان شاعرا وله قصائد في مدح النبي (ص) وله رؤي تجلى له فيـها النبي . وله كلام يتغزل فيه بمدح النساء من قبل تهجة مثل ليلى وسعدى في كلام المتقدمين . وكان إذا استبدت به حالة النشوة والجذب ، يجمع الصبايا وكل عروس ، للرقص في فناء داره . ويجئ هو بربابته التي عرف بها يضرب عليها ، كل ضربة لها نغمة يفيق بها المجنون ، وتذهل منها العقول وتطرب لها الحيوانات والجمادات . وكانت الربابة إذا تركت في الشمس تحس باقتراب صاحبها منها فترسل أنغامها دون أن يضرب عليها أحد . وقد يركب الشيخ فرسه المكسوة بالحرير ، المزينة بالأجراس ترقص به ويغنى لها ، وبالجملة هذا الرجل من ( الملاماتيه ) . وقد قتله الشلك أثناء عبوره نهر النيل الأبيض عند منطقة أليس - الكوه مع بعض مريديه الذين رباهم على نغمته . "
وعن رؤيته الفكرية والفنية لشخصية الشيخ إسماعيل يقـول عبـد الحي : " الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، مثل كثير من الشخصيات المذكورة في كتاب الطبقات ، شخصية أمتزج فيها الواقع التاريخي بالأسطورة ، بل هو حقا شخصية كادت أن تتلاشى فيها العناصر إلى شخصية ميثولوجية تكونت في خيال الجماعة وخرجت معبرة عن نوع من التوازن الضروري للحياة واستمرار تلك الثقافة في تلك الجماعة " .
لذلك فهو يقول أن هدفه من هذا البحث " ليس تحقيق الوجود التاريخي للشيخ إسماعيل بإثباته أو نقضه ، بل إظهار الوجود الأسطوري في شخصية واستشفاف الصورة الجوهرية التي تركزت فيها العناصر وأصبحت نموذجا أسطوريا أعلى لها " . (14)
ومن الإشارات والإيحاءات الواردة عن سيرة الشيخ إسماعيل فـي قصيدة ( العودة إلى سنار ) قول الشاعر :
أسمع صوت امرأة تفتح باب الجبل الصامت لتولد بين الحرحر والأجراس شفة ، خمرا ، قيثارا جسدا ينضج بين ذراعي شيخ يعرف خمر الله وخمر الناس
وأهم ما يميز الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، هو أنه تجتمع فيه كل الخصائص الرمزية التي تجعله منه معادلا موضوعيا لرؤيا الذات الشاعرة وبالتالي تجعله نموذجا للخيال الجمعي والذاكرة الثقافية للأمة . فهو بجانب أنه صوفي وشاعر ، فأنه بحكم مولده مؤهل أيضا لتجسيد ازدواجية الهوية الأثنية للذات السودانية . فوالده الشيخ مكي الدقلاش من كبار متصوفة سنار وأمه من قبيلة السقارنج من جبال النوبة . وفي هذا النسق الرمزي للقصة ، يقول عبد الحي " يكتسب هذا الزواج العرقي مغزى ثقافيا ذا أهمية . فالثقافة تخلق في أساطيرها المعادلات التي تعبر عن جوهرها ، تكوينها ، وتحفظ التوازن بين عناصرها المختلفة والخروج بها من صراعاتها وتناقضاتها ، وترتفع بها المعادلات الرمزية على تناقضها وعدم النسق فيها " . وعلى هذا المستوى من الفهم نجد " في ميلاد الشيخ إسماعيل صاحب الربابة معادلة رمزية تعبر عن زواج الثقافة العربية بالثقافة الإفريقية الذي أنتج الثقافة السودانية . هذه المعادلة الكبرى يمكن أن تحلل إلي معادلات أصغر منها تعبر كل منها عن جانب من جوانب ذلك الـزواج الثقافي " . (15)
ويقصد عبد الحي بالثقافة الأفريقية مجموع الثقافات التي كانت سائدة قبل الثقافة العربية الإسلامية والتي ما زالت تسود ، ويرى أن شخصية الشيخ إسماعيل نموذج رمزي استوعب كل الثقافات حيث تلتقي وتتقاطع عنده الثقافات النوبية القديمة بالثقافة الإغريقية والرومانية والمسيحية والإسلامية . لذلك فهو يرى أن سيرة الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ترجع إلى أصول في الثقافة السودانية أبعد من الثقافة السنارية . فيقيم الوشائج بينها وبين أسطورة أورفيوس ذات الأصول اليونانية والرومانية ويربط بينها وبين قصة مزامير داوود في ( الكتاب المقدس ) وبينها وبين قصة السيد المسيح في الإنجيل والقرآن الكريم . " فالشيخ إسماعيل صاحب الربابة أورفيوس إفريقي عربي ، تركزت في شخصيته صورة الشاعر في الثقافة السودانية التي الفت بين تلك العناصر المتنافرة المتصارعة وصهرتها حتى التحمت أجزاؤها نموذجا أعلى لها " . (16)
وأورفيوس في الأسطورة اليونانية القديمة هو ابن أبوللو ، إله الشمس والفن وقد أشتهر بقيثارته ( ربابته ) التي أهداها إليه والده وألهمه الشعر والعزف على الموسيقى . كان يعزف على قيثارته فيسحر كل من يسمعه ويروض بها الحيوانات الآبدة ويحرك الأشجار والحجارة الصماء . تزوج أورفيوس من معشوقته ، يوربيدس ، التي ماتت من لدغة حية سامة أثناء هروبها من اريسايوس الذي أراد أن يقضى منا وطرا عنوة . ولكن أورفيوس نزل إلى مملكة الموتى واستطاع بموسيقاه الساحرة الحزينة أن يستميل عطف ملك الموتى فسمح له أن يأخذ يوريديس ويعود بها إلى ( عالم الشمس ) الدنيا مرة أخرى ، ولكن أشترط أن تتبع يوريدس أورفيوس ويسير هو أمامها دون أن يلتفت وراءه أبدا حتى يعبرا مملكة الموت إلى العالم ، ولكن ما أن كادا أن يخرجا إلى عالم الشمس حتى حانت من أورفيوس التفاته خلفه ليتأكد من أنها ما زالت تمشى وراءه ، فما كان منها إلا أن تلاشت من أمام ناظريه واختفت إلى الأبد .
وكان أورفيوس بجانب أنه شاعر وموسيقى ساحر ، كان شيخ ديانـة سرية ( صوفية ) وكان له مريديون وقد وقتله أعداؤه ومزقوا أوصاله وألقوا برأسه في نهر ( هيبروس ) فظل طافيا فوق الأمواج يغنى للبحر العريض . أما بربابته فقد وارتفعت برجا بين أبراج النجوم . (17)
وأوجه الشبه بين أسطورتي أورفيوس والشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، كما يقول عبد الحي ، " قوية ، فكل منهما شاعر وموسيقار ، لفنه قوة سحرية خارقة يسيطر بها على العالم . ولذلك القوة بعد ميتافيزيقي يتجلى في ديانة أورفيوس الصوفية " . أما موت الشيخ إسماعيل فيقول هو في جوهره موت أورفيوس . فالعلاقة بين نهر هيبروس الذي ألقى فيه برأس أورفيوس ونهر النيل الأبيض الذي ضم في أمواجه جسد الشيخ إسماعيل بعد أن قتله الشلك دليلا على الشبه القوى بين الأسطورتين . كما يشير إلى وجه شبه آخر قوى بين القصتين هو الشمس . فربابة الشيخ إسماعيل عندما توضع في الشمس وتسمع صوت صاحبها ترسل أنغامها دون أن يمسها أحد ، وهذا يأخذنا أخذا كما يقول إلى قيثارة أورفيوس التي أهداها له والده أبوللو إله الشمس .
وعن موت الشيخ إسماعيل على النيل الذي يستدعى إلى الذاكرة موت أورفيوس على نهر هيبروس ، تأتي الإشارة في قصيدة ( العودة إلى سنار ) في قول الشاعر :
أرواح جدودي تخرج من فضة أحلام النهر ومن ليل الأسماء تتقمص أجساد الأطفال تنفخ في رئة المداح وتضرب بالساعد عبر ذراع الطبال
وتتكرر هذه الصورة الشعرية أيضا في ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) في قصيدة طويلة تحمل عنوان " حياة وموت الشيخ إسماعيل صاحب الربابة " حيث يقول الشاعر :
الفرس البيضاء تميس في الحرحر والأجراس على حصى الينبوع يستفيق طفل الماء ويفتح الحراس أبواب ( سنار ) لكي يدخل موكب الغناء ويصعد النهر إلى السماء عبر براري جرحه الطويل
وعلى الرغم من أن عبد الحي يقرر في مقالته أن أسطورة الشيخ إسماعيل أصولها إغريقية ورومانية نتيجة لانفتاح الحضارة المروية القديمة على الحضارة اليونانية إلا أنه يعود ويشير إلى معلومة في غاية الأهمية وهي أن صحت فأنه من شأنها أن تقلب الاعتقاد السائد بأولوية الحضارة اليونانية على الحضارات القديمة ولا سيما حضارات وادي النيل رأسا على عقب . يقول عبد الحي أن هيرودت المؤرخ اليوناني ذكر في تاريخه ، " أن الإله حورس ابن أوزيريس هو نفسه الإله ابوللو عند اليونان . وأوزيريس تقابل في اللغة اليونانية ديونيسوس . ويعتقد اليونان أن زيوس كبير الآلهة ، خاط في فخديه ديونيسوس وكنا وليد أتى به إلى مدينة ( نيسا ) التي تقع ما وراء مصر في نبته ، في جبل البركل المقدس " . ويضيف هيرودت أن سكان " مروي عاصمة الأثيوبيين أي النوبة يعبدون زيوس وديونيسوس المرويين " . (17)
أما عن أثر الثقافة المسيحية التي ازدهرت في عهد مملكتي المقرة وعلوة السودانيتين ، في سيرة الشيخ إسماعيل ، فيقول أنه يظهر في قصتي النبي داوود في ( سفر المزامير ) بالكتاب المقدس وفي قصة تكلم السيد المسيح في المهد . وكذلك يظهر في قصة الشيخ مكي والد الشيخ إسماعيل الذي قطع البحر ( النيل ) مشيا على الماء هو وتلاميذه عندما لم يجد مركبا يعدى به . وقصة المشي على الماء واحدة من معجزات السيد المسيح التي ورد ذكرها في الإنجيل .
أعتقد أنه وضحت الآن الدلالة الرمزية للشيخ إسماعيل كشخصية نموذجية امتزجت فيها كل العناصر الثقافية التي شكلت الثقافة السودانية عبر العصور . لذلك فأن على الذين يظنون أن صاحب ( العودة إلى سنار ) ورفاقه ، يعتقدون أن تاريخ السودان يبدأ مع دخول العرب المسلمين ، عليهم أن يراجعوا مواقفهم . وبالتالي فإن الذين يتساءلون : لماذا العودة إلى سنار وقد عرف تاريخ السودان أكثر من ماضي مجيد مثل مروي ودنقلا وسوبا ، فتساءلهم ليس له ما يبرره فسنار هي اللحظة الثقافية الحاضرة التي استوعبت اللحظات الثقافية السابقة لها اللحظات التي تشكلت والتي ما زالت في التشكل لذلك فإن العودة إلى مروي أو دنقلا أو سوبا المسيحية لا تتم إلا عبر بوابة العودة إلى سنار أولا ، وتجاهل سنار أو القفز فوقها هو تجاهل للحاضر وقفز فوقه ومغالطة للتاريخ والواقع .
تقلبات الذات الشاعرة في العوالم :
إذا كانت لسنار ، في الرؤيا الشعرية ، ثلاثة معاني تمثل ثلاث مستويات من الوجود ، فإن للشيخ إسماعيل صاحب الربابة ، بوصفه الناظم الجمالي والمعادل الموضوعي لهذه الرؤيا ، أيضا ثلاثة مستويات من الوجود تتطابق مع المستويات الثلاثة لوجود سنار . ففي المستوى الحرفي هو صاحب السيرة الواردة في كتاب ( الطبقات ) وفي المستوى المجازى يرمز للتنوع الثقافي والاثني في الذات السودانية . أما في مستواه ( الاشراقي ) أو الميتافيزيقي من الوجود فيشير إلى أصل الوجود الإنساني . هذا الوجود الذي قال عنه عبد الحي فـي هوامـش ( العودة إلى سنار ) : " بداءة .. اسما يتجوهر في مملكة البراءة .. الأشياء هي كما في السماء " .
في هذا المستوى الميتافيزيقي ( الاستيطاني ) من سلم الوجود الإنساني يكتب عبد الحي حاشية بمثابة مقدمة تعريفية قصيرة عن القصيدة الطويلة التي تحمل عنوان ( موت وحياة الشيخ إسماعيل صاحب الربابة ) والتي تحتل نصف مساحة ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) تقريبا ، يقول : " الشيخ إسماعيل .. لعله النموذج الأول للشاعر ، المتجدد عبر العصور تاريخه ومستقبله في ذاته ، أرضه سماؤه ، أسماؤه أفعاله ، تتحد طفولته بطفولة الكون ، ميلاد الحضارة ، يشهد حيويتها وشخوصتها وتجددها .. ذلك المركز الذي يجمع في نفسه دائرة التاريخ الزماني والروحي للإنسان " (19) وهنا يتجاوز الشيخ إسماعيل حدود الزمان والمكان وينفتح على المطلق وهنا عبر قناع الشيخ إسماعيل تتجاوز الذات الشـاعرة ، حدود الزمان والمكان وتنفتح على المطلق وتحقق ، حسب المصطلح الصوفي ، مقام الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية ، التجلي الأولي للمطلق حيث تستعيد الذات وجودها الأول ، الوجود المحض في عالم الذر، قبل أن تسقط في الجسد الترابي . وتأتي الإشارة إلى ذلك في ( العودة إلى سنار ) في قوله :
خرافة تعود وهلة وهلة إلى نطفتها الأشياء حيث يرجع النشيد لشكله القديم قبل أن يسمى أو يسمو في تجلى ذاته الفريد من قبل أن يكون غير ما يكون قبل أن تجوف الحروف شكله الجديد
كأنما تطمع الذات الشاعرة من خلال تماهيها مع شخصية الشيخ إسماعيل " .. ذلك المركز الذي يجمع في نفسه دائرة التاريخ الزماني والروحي للإنسان " أن تعيد تمثيل واعادة إنتاج قصة خلق العالم حيث تتحول قصة الخلق إلى قصة عن تاريخ الذات الشاعرة تستعيد فيها الوحدة الأصلية للكون حيث تتصل آفاق النفس بآفاق العالم اتصالا خلاقا مستمرا متجددا . وتأتي الإشارة إلى ذلك صريحة في عناوين بعض القصائد بديوان ( حديقة الورد ) مثل قصيدة : ( الشيخ إسماعيل في منازل الشمس والقمر ) . وحتى الأناشيد الخمسة التي تتكون منها قصيدة العودة إلى سنار وهي ، البحر والمدينة والليل والحلم والصبح ، ما هي إلا مراحل مختلفة لأطوار الذات الشاعرة وتقلباتها في العوالم فالبحر ( الماء ) أصل الوجود ، والمدينة إشارة إلى بداية الحياة على الأرض ( اليابسة ) أما الليل والحلم والصبح بجانب أنها تشير إلى حركة الزمن ودورانه إلا أنها توحي في مستوى من مستوياتها إلى سعى الذات الشاعرة وتأرجحها بين النسبي والمطلق فـي طريـق ( العودة ) إلى تحقيق وحدتها الأصلية .
وهنا تلتقي الدلالة الرمزية لأسطورة السمندل مع الدلالة الرمزية لشخصية الشيخ إسماعيل . فالسمندل بما لديه من قدرة على التجدد والاستمرارية يتماهى مع الذات الشاعرة ويتحول إلى نموذج إنساني منسرب في الوجود منذ بدء الخليقة، يشهد موكب الحياة المتدفق أبدا ، في صعوده وانحداره ، يشهد ميلاد الحضارات واندثارها . وتأتي الإشارة إلى ذلك في قصيدة ( السمندل ملك النهار ) من ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) .
أنا السمندل يعرفني الغابر والحاضر والمستقبل مغنيا مستهترا بين مغاني العالم المندثرة وزهرة دامية في بطن أنثى في الدجى منتظرة
ولارتباطه المصيري بالنار ( يجدد حياته بالاحتراق بالنار ) ينفتح السمندل في مستوى آخر على رمزية الشيخ إسماعيل حيث يرمز إلى المطلق فالنار في الأدب الصوفي ( نار موسى ) ترمز إلى تجلى الذات الإلهية . فالصوفي ، يفى جوهر ذاته بفناء الجسد واحتراقه بنار العشق الإلهي . والسمندل يجدد حياته ويضمن استمرارية باحتراقه في النار . النار هنا في كل الأحوال جواز ( العودة ) إلى عالم الخلود والحياة الكاملة ، " وأن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " فإماتة الجسد الترابي وفناء÷ في النار المقدسة ، ثمن الشعر والمعرفة الحقة المفضية إلى الحياة المطلقة ، وإلى ذلك تأتي الإشارة في قصيدة ( الشيخ إسماعيل ) بديوانه ( حديقة الورد ) :
الشعر فقر ، والفقر إشراق والإشراق معرفة لا تدرك الا بين النطع والسيف
والآن أرجو أن نكون قد وفقنا بهذه المساهمة المتواضعة في وضع أيدينا على المفاتيح الرئيسية التي تساعد على استخلاص العناصر الجمالية التي تتكون منها وخدة الرؤيا في التجربة الشعرية لمحمد عبد الحي . فالشعر بلا رؤيا ضوضاء فارغة وهو إن كان مقصودا لذاته لا يعول عليـه أو كمـا محمـد عبـد الحـي .
المصادر :
1- العودة إلى سنار – محمد عبد الحي – الطبعة الثانية 1985م 2- السمندل يغنى – محمد عبد الحي – مصلحة الثقافة – الخرطوم 1977م 3- معلقة الإشارات – محمد عبد الحي – مصلحة الثقافة – الخرطوم 1977م 4- حديقة الورد الأخيرة – محمد عبد الحي – دار الثقافة للنشر – الخرطوم 1984م 5- الرؤيا والكلمات – قراءة في شعر التجاني يوسف بشير – محمد عبد الحي دار الفكر – بيروت – الطبعة الأولي 1984م 6- الشيخ إسماعيل صاحب الربابة – محمد عبد الحي – مجلة حروف – دار جامعة الخرطوم للنشر – العدد الأول – سبتمبر 1990م 7- رسالة محمد عبد الحي للدكتور خالد المبارك – مجلة حروف – العدد الثاني 1991م
الهوامش :
(1) الرؤيا والكلمات – محمد عبد الحي – ص 10 . (2) المصدر السابق ص 47 . (3) رسالة محمد عبد الحي إلى د. خالد المبارك – مجلة حروف – العدد الأول. (4) المصدر السابق . (5) المصدر السابق . (6) المصدر السابق . (7) ديوان ( العودة إلى سنار ) ص 50 . ( المصدر السابق . (9) الرؤيا والكلمات – محمد عبد الحي ص 16 . (10) ديوان ( إشراقة ) – التجاني يوسف بشير – قصيدة الأدب القومي . (11) الرؤيا والكلمات – محمد عبد الحي ص 10 . (12) رسالة محمد عبد الحي إلى خالد المبارك . (13) الشيخ إسماعيل – محمد عبد الحي – مجلة حروف – العدد الأول ص 7 . (14) المصدر السابق . (15) المصدر السابق . (16) المصدر السابق . (17) المصدر السابق . (1 أثينا السوداء – مارثن برتال – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 1997م . (19) ديوان ( حديقة الورد الأخيرة ) صفحة 33 . عبد المنعم عجب الفيا
________________________________ *نشرت بمجلة كتابات سودانية،العددالتاسع سبتمبر 1999-تحت عنوان:نحو رؤيا منهجية لقراءة شعر محمد عبدالحي
-------------------------------------------------------------------------------- عبده عبدالله
| |
|
|
|
|
|
|
|