صوت الموسيقى يملأ فراغ الصالة العريض، ذهب به الفكر مذاهب شتى، بلاد غريبة متوجه إليها، ترى ما الذي يخبئه له القدر؟ تحسس خده الأيسر بحركة لا إرادية .. كان الجرح سطحياً لكن أثره ما زال باقياً .. اهتزت السقالة التي كان يقف عليها وهو يناول المعلم القدح المملؤ بالمونة .. لم يشعر إلا وهو يقع في كوم الخرصانة .. زميله في العمل كان يقوم بتقطيع أسلاك الرباط لشد السيخ في البيم .. صادف وقوعه أحد هذه الأسلاك فأحدث ذلك الجرح. عشرون شهراً وثمانية أيام وهو يذكر ذلك الموقف الرهيب .. (يعنى مصر يا ولدي؟؟!!) قالتها أمه وهي تمسح دمعةً أبت إلا أن تتخذ مجرى الشلوخ مساراً لها .. (معليش يمة .. أيام وتعدي وبرجع ليكم بالسلامة إنشاء الله) صمت رهيب .. خطوات متثاقلة (ودعتك لي مأمون الوداعة) هذه الكلمات لم تبرح مسامعه قط. عشرون شهراً وثمانية أيام قضاها في ذلك البلد العربي عمل فيها مهناً لم تخطر بباله قط .. عشرون شهراً وثمانية أيام لم ييأس في الحصول على فيزا لإحدى الدول الأوربية. تحسس جيبه مرة تلو الأخرى .. أخرج جواز سفره .. تصفحه رويداً رويداً .. نظر بتمعن للفيزا ثم أعاد النظر كرة أخرى. أفكاره خليط من الماضي والمستقبل .. كرة الشراب والدافوري .. الدراسات العليا في ذلك البلد الذي سيكون في غضون بضع ساعات فيه ،، شاي الصباح والجميع متحلقون حول حبوبة .. الخوف من المجهول. سمع صوتاً كأنه آتٍ من غيابة الجب (على ركاب الرحلة رقم .... المتجهة ..... ) لم يسمع بقية التنبيه .. مشى بخطوات متثاقلة نحو الكاونتر. بعد عشرين شهراً وأربعة عشرا يوماً وقفت ركشة في ذلك الزقاق الضيق في الحي الشعبي .. لم يجادل سائق الركشة كثيراً في مبلغ المشوار .. لفت انتباهه أن معظم سائقي الركشات يرتدون نفس الطاقية ذات الألوان الثلاثة. بعد عشرين شهراً وأربعة عشرا يوماً .. في ذلك الزقاق الضيق في الحي الشعبي .. وجد أن باب الزنكي ذو الضلفة الواحدة قد تغير إلى باب حديد مطلي باللون الأبيض .. دفع الباب أمامه وهو في منتصف المسافة في الحوش سمع صوت أمه (يا بت أجري شوفي الباب فيهو منو؟)
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة