مشلهت والضياع الكبير

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 12:00 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-29-2007, 05:08 AM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مشلهت والضياع الكبير


    الإخوة الأحباب

    تحياتي

    يسرني أن أنقل لكم الجزء الثاني من روايتي الثلاثية (تغريبة بني شقيش وفارسهم الهمام المشلهت الدياسبوري) الجزء الأول بدأ من البيان الأول لإنقلاب نميري 25 مايو حيث بدأ عهد الإغتراب أول خطواته.

    الجزء الثاني بعد رجوع مشلهت.
    الجزء الثالث يمتد في حقبة زمنية تقوده حتى جوانتانامو.

    وقد رأيت أن أنشر الجزء الثاني كاملاً لأني لم أجد وسيلة أخرى لتوصيله لكم. إلا إنني مضطر لتقسيمه على جزئين وسأنشر الجزء الثاني الإسبوع القادم إن شاء الله. فأرجو أن تصبروا على قراءة النص أنتم وأسركم وأن تغفروا لنا الأخطاء التي لا تخفى على فطنتكم.

    أخوكم محمد عبدالله الريح





    مشلهت والضياع الكبير



    كان إنت عاضيك كلب ، أنا راميني جمل !



    أ.د. محمد عبدالله الريح







    هل هذا الصوت آذأن لصلاة الصبح ؟
    يبدو أنه هو … لابد أن يكون موعد الصلاة قد اقترب إذ أن الآذان كرر مرتين أن الصلاة خير من النوم …. ولهذا نهض مشلهت وتوضأ وارتدى ملابسه وخرج في طريقه الى المسجد … الصف الأول والثاني والثالث … نفس الوجوه التي اعتادت أن تصلي الصبح في المسجد … بزيادة عدد بسيط أو نقصأن شخص أو شخصين من الأمور الروتينية التي اعتاد مشلهت أن يلاحظها … فليس هناك شئ غير عادي ولكن عندما خرج من المسجد فلم يجد حذاءه … كان هذا أمراً غير مألوف … او علي الأقل غير مألوف لديه … فمن وقت لآخر يفتقد أحد المصلين حذاءه ويشارك الجميع في تعزيته وذلك بإظهار استنكار وقتي وأن المساجد أصبحت في الآونة الأخيرة أماكن لسرقة الأحذية من بعض ضعاف النفوس … ولكن من غير المألوف أن يحدث ذلك له … فلم يحدث أن فقد حذاءً من قبل والأمر لا يتعلق بسرقة الحذاء من حيث أنها سرقة وأنه حذاء ولكن للأمر وجهاً آخر . فقد وصله الحذاء من ابنه حيدر المغترب في السعودية مع عدد من الأشياء والمصاريف الشهرية … ولأن إبنه يعرف أن والده مصاب بمرض السكر وأنه يشكو من نقرس يؤدى أحيأنا لتورم في إصبعه الكبير فقد طاف بعدد الصيدليات التي تبيع أحذية طبية واختار الحذاء الذي أرسله مع أحد الأشخاص بواسطة صديقه هاشم وقد بر هذا الشخص بوعده إذ أنه سرعأن ما اتصل بمشلهت هاتفياً بمجرد وصوله الى أهله في الكلاكلة صنقعت وأعطى وصفاً دقيقاً مما سهل على مشلهت الوصول إليه واستلام الكيس الذي يحتوي على الأغراض التي أرسلها إبنه وكذلك الخمسمائة ريال … وهو يدعو لإبنه عقب صلواته أن يوفقه الله ويحفظه ويغطيه من كل شر وبليه .
    في المساء كان مشلهت ينتعل الحذاء فيشعر براحة عميقة وكأن قدميه تتنفسان الصعداء … وكأنهما عادتا شابتين قويتين تستطيعأن حمل ذلك الجسم دون أن تتأوها … شعور مريح أن تشعر أنك تملك قدمين لا تنبعث منهما نارية أو يشكوان من آلام غير محددة .
    ولم يساوره أدني شك أن فرحته لن تدوم طويلاً عندما وضع قدميه داخل ذلك الحذاء الطبي وهو يتجه نحو المسجد … ولكن ضاع كل شئ الآن … وأدخل غمامة من حزن دفين هبط عليه في ساعة الفجر تلك فهو يسمع أصوات المصلين وقد تركت توجيه لعناتها للسارق وأخذت تصب جام إنتقاداتها نحوه .
    • لكن يا حاج مشلهت … إنت ذاتك غلطان … هسع دى جزمة الواحد يجئ بيها الجامع ؟ … كدي شوف كلنا لابسين براطيش بس … ومافى زول يجي لابس جزمة …
    ويتطوع أحدهم ليقص قصة في اختصار تعنى أنه فقد حذائين من قبل ولكنه اتعظ فأنضم الى جماعة البرطوش … وحارس المسجد وبعد أن لعن اللصوص جملة وتفصيلاً اخذ يحكى عن عدد الذين فقدوا أحذيتهم في عقد قرأن ابنة أحد رواد المسجد وذلك بعد صلاة العصر يوم الخميس الماضي … وهو يعتقد أن الخطأ يكمن في دائرة الذين لا يحملون أحذيتهم في أيديهم ويضعونها نصب أعينهم .
    ولأن السارق ويبدو عليه أنه من النوع الذي يقصد السرقة من اجل عائدها فلم يترك خلفه أية سفنجة أو شيئاً تنتعله الضحية ولهذا كان على مشلهت أن يعود حافياً الى منزله في تلك الساعة المبكرة من الصباح .
    منزله يقع في نهاية الأحياء التي تحيط بالمسجد وعليه أن يسير بحذر على أطراف أصابعه حتى لا يتعرض لجرح وهو مريض بالسكري فيؤدى ذلك إلى عواقب وخيمة …… وقبل أن يصل الى نهاية المربوع وبما أنه يعانى من ضعف في النظر بسبب السكري المذكور لم يتبين حجراً مغروساً بالقرب من جدار فكاد أن يصطدم به ولكنه تحاشاه في اللحظة الأخيرة مما جعله يترنح ويفقد بعضاً من توازنه .
    حركته غير المتوازنة في تلك الساعة من الفجر أخافت كلباً كان رابضاً في مكان قريب فكشر عن أنيابه وهجم على رجل مشلهت وتركها والدم يتدفق منها غزيراً… باغتت المفاجأة مشلهت فتراجع الى الخلف وقلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه وهو يصيح :
    • آخ … آخ … الله يأذيك … يا أخوأنا الكلب عضاني .
    لا حول ولا قوة إلا بالله
    وسمع صيحته بعض المصلين الذين سبقوه الى نهاية الشارع فعادوا وهم يتساءلون :
    • شنو الحكاية يا مشلهت ؟
    • عضاني كلب .
    • لا حول ولا قوة إلا بالله … الكلب كمان الجابك ليهو شنو ؟
    لم يعجب ذلك السؤال مشلهت فصاح في ضيق :
    • يا أخي الجابنى ليهو أنا شنو ولا الجابو هو لي شنو ؟ أنا ماشى في دربي يا أخي يقوم يهجم علي ويعضيني ؟
    وتساءل أحدهم :
    • هو دا كلب منو؟
    ويجيبه أحدهم
    • يا أخى منو العارفو كلب منو؟ … ماهي كلاب ضالة مالية الشوارع… والمحلية ما شايفة شغلها … ويأخذ أحدهم زمام المبادرة في هذه النقطة :
    • هو المحلية ما شايفة شغلها في حالة الكلاب بس ؟ دى ما عندها شغل غير العوايد والموية … وغيرها … في اقل حاجة يجيك انذار بالقطع وبالمثول أمام المحكمة … وما شايفين حالة الشوارع دى ولا الحفر ولا المواسير المكسرة والموية المدفقة … وصحة البيئة كيف شكلها؟
    ولكن كل ذلك لا يعنى مشلهت في هذه اللحظة . كل الذي يعنيه هو ماذا يفعل وقد عضه كلب وضربه (حجر دغش) وهو الى تلك اللحظة لم يكن يدري ماذا يعنى عندما يتساءل أحدهم (أصلو ضاربو فيها حجر دغش؟).
    وهاهو حجر الدغش وببيانه العملي قد ضربه … فترنح فهجم عليه الكلب وعضه … والقوم الذين تجمعوا حوله تركوا أمر حجر الدغش وتركوا أمر الكلب وعقدوا مؤتمراً سريعاً للحديث عن قصور المحليات .
    • يا أخوأنا … هسع اعمل شنو …
    أحد جيرانه رجل شهم تطوع بإخراج عربته من الجراج ليأخذه للمستشفى .. وفكر مشلهت أن يصل الى منزله ليخبر الجماعة بما حدث له الا إنه صرف تفكيره عن هذه الخطوة حتى لا يزعج الجماعة في البيت واحضر له جاره سفنجة لينتعلها .
    الساعة تشير الى السادسة والنصف صباحاً في زمن البكور هذا ولكنها بالتوقيت الجغرافي هي الخامسة والنصف … وذلك عندما توقفت العربة أمام قسم الحوادث بالمستشفى … واصر مشلهت على جاره بالإنصراف لأنه يعلم أن موعد عمله يبدا في السابعة والنصف … وبما أنه من غير المحدد كم يبقى مشلهت في قسم الحوادث … فلن يكون صائباً أن يبق جاره معه .
    الجرح كان ينزف بغزارة الا أن الدم توقف بعد أن اختلط بالغبار وبشوائب الطريق فبدت قدم مشلهت غبشاء يغطى أجزاء منها الدم المتجمد ذو اللون الداكن …

    ردهة طويلة تقع أمام قسم الحوادث اكتظت ببعض الناس الذين يشكون من أمراض وحوادث هبطت عليهم فجأة في ليلة البارحة وصباح اليوم … فهناك الذي يشكو مغصاً كلوياً والذي جاءوا به بعد أن أوسعه أحدهم ضرباً على الرأس فسالت دماؤه وغطت وجهه ولطخت ملابسه فبدأ منظره وكانه يعاني من إصابة خطيرة وفى الواقع كما تبادر لذهن مشلهت فإن الحوادث تبدو اكبر من حجمها الطبيعي … ضربة صغيرة يسيل لها دم كثير … وتولول النسوة ويتجمع المارة.

    جلس مشلهت بالقرب من رجل عجوز … يبصق من وقت لآخر وهو يضغط على بطنه … وكان الفضول لديه اكبر من الأزمة الصحية التي يمر بها ويبدو عليه أنه سأل جميع الموجودين في العيادة عن أمراضهم ولم يبق الا مشلهت ولأنه جاء لتوه فلم يسأله وهاهو يلتفت نحو مشلهت قائلاً :

    • مالك يا خوى … نعل مافى عوجة؟
    • عاضينى كلب .
    • يا الشيخ الطريفى … خشيم السعر وجاموس الوعر .. والكلب دا يا أخوى الجابك ليهو شنو لحدي ما يعضيك كدي ؟
    الغريب في الأمر أن كل الذين إلتقى بهم سألوه نفس السؤال وكأنه هو الذي جاب نفسه للكلب … فقال للشيخ ؟
    • كنت مارق من الجامع ولاقاني في السكة .
    • ولى شنو ما بتشيل معاك عصاية تضربوا بيها ؟ والله عاد يا ناس المدينة بقيتو لا بتسعوا عصاية ولا بتسعوا سيف ويقبض الرجل على بطنه وهو يصر وجهه من الألم …فيدخل معه مشلهت في سين وجيم :
    • وإنت مالك يا أبوي .. الحاصل ليك شنو ؟
    • أنا ؟
    • أي ..
    • والله باقي شربت لي لبينة غلتت عليّ وهسع بطني دى كلها ماسكاني .. قلت اجى الإسبتالية هني كان ألقى لي علاج .
    • وجيت هنا متين ؟
    • جيت بعد ما صليت العشا .
    • من العشا إنت في الحالة دى ولا في أي زول كشف عليك ولا شافك ؟
    • والله من العشا أنا هني … والناس دى تدخل وتمرق وما فى زول أداني التكتح دي … ولا زول قال لي حاجة وكل ما أقول ليهم يا أخواني عالجوني يقولوا لى أصبر نحنا مشغولين بركاب البص الإنقلب في الخوجلاب .
    ويهب مشلهت واقفاً لينظر داخل إحدى الغرف فيرى عدداً من الناس وكانهم بقايا معركة داحس والغبراء … فيدرك أن إقامته داخل قسم الحوادث ستطول … فيستنجد بأحد أشبال الأطباء فيساله الطبيب :
    • وإنت مالك؟
    • أنا عاضينى كلب ؟
    • هو إيه الحكاية؟ … إنت عاضيك كلب … ودا راميهو جمل الحكاية شنو؟
    وادرك مشلهت أنه لن يصل الى قرار مع ذلك الطبيب فقال له :
    • الحكاية إنو سرقوا جزمتى
    ويصيح الطبيب :
    • والله حكاية … سرقوا جزمتك ؟ نحن فى نقطة بوليس ؟ ما تمشي تفتح بلاغ هناك … شوف المصايب النحنا واقعين فيها ..
    ويقاطعه مشلهت :
    • مافى مصايب إنتو اقعين فيها … المصايب واقعين فيها نحنا .
    • طيب اقدر اعرف آيه علاقة سرقة جزمتك بي أنا أو بجيتك هنا؟
    • لو ما سرقوا جزمتى أنا ما بكون هنا ..!!
    • يا أخي إنت عايز تجنني ؟ كيف يعنى لو ما سرقوا جزمتك إنت ما بتكون هنا ؟
    • لما سرقوا جزمتى من الجامع أنا رجعت البيت حفيان وفى السكة عترت فوق حجر كان تحتو كلب قام عضاني .
    ويهدأ الدكتور قليلاً ويقول :
    • وينا العضة ؟
    • اهى دى .
    ويتفحص الدكتور العضة ثم يقول له
    • طيب تعال معاى ..
    وياخذه الى غرفة غيارات حيث كإنت توجد ممرضة ممتلئة الجسم لا يبدو عليها أي هظار بل صرامة تامة … ولا تتحدث الا بهمهمات تجعل اتخن تخين يسألها مرتين وتلاتة قائلاً :
    • قلتي شنو؟
    فطلب منها الدكتور أن تسعف مشلهت .. ولم ترفع رأسها عن المريض الذي كانت تلف يده بشريط أبيض إلا إنها قالت :
    • امش جـ … ش … شر .. رات … ويستفهم مشلهت
    • قلتي شنو ؟
    وتصرخ الممرضة :
    • إنت ما بتسمع ولا شنو ؟ قلت ليك أمشي جيب شرايط وغيارات .
    • من وين؟
    • أنا عارفة من وين ؟ما تشوف الناس بجيبوهم من وين وتمشي تجيب زي ما الناس بتجيبهم ويخرج مشلهت من غرفة الغيارات ويقابل فى طريقه ذلك الطبيب الذي جاء به لغرفة الغيارات
    • اها عملت شنو ؟
    • قالت لي أمشي جيب غيار وأنا ما عارف الغيار بيجيبوه من وين …
    • يا اخى أمشي قدام الاسبتالية تلقى واحد عنده طبلية عنده الغيارات والحقن وأي حاجة .
    وبعدين طبعاً لازم تمشوا تجيبوا حقن بتاعة سعر … يعنى مصل مضاد للسعر .
    • ودا أجيبوا من وين كمان ؟
    • فى السوق قالوا في مصل فرنساوي أسمو فيرنا بس ما تجيب التايلأندي…
    • ويصاب مشلهت بنوبة سخرية فيقول :
    • وهو ناس تايلاند قاعدين يجحموا ؟ أنا قايل السعر دا عندنا هنا بس .
    • أمشي … أمشي بطل الغلبة … جيب حاجاتك وتعال .
    نسي مشلهت إنه فى زحمة ما حدث له لا يحمل نقوداً فالجلابية التي يلبسها تناولها من الشماعة ليحصل بها صلاة الصبح وقد كإنت جيوبها فارغة ثم إن جاره هو الذي نقله الى المستشفى … فماذا يفعل ؟
    لو حاول أن يتقدم لأى شخص ليقول له إنه لا يحمل نقوداً وإنه جاء إلى المستشفى بعد أن سرق منه حذاءه فتعرض لعضة من كلب كان يجلس خلف حجر تعثر عليه مشلهت لما صدقه أحد ولظنوه محتالاً مثل غيره من المحتالين الذين يتحاومون داخل وأمام المستشفيات ولذلك أخذ يفكر في وسيلة لتأخذه لمنزله … وعلي الأقل يخبرهم بما حدث .
    ومرة أخري لمحه ذلك الطبيب فبادره الطبيب قائلاً :
    • وإنت لسع بتتحاوم بجاي ما مشيت جبت الغيارات ولا المصل ؟ شوف السعر دا مرض فظيع جداً … ولازم تلحقه بسرعة وكلما تتأخر ما بكون في صالحك والفيروس ممكن يصل المخ وبعدين ما بتحلق ….
    • فتقدم نحو بوابة قسم الحوادث عندما شعر بيد تربت على كتفه فالتفت خلفه .
    • وين يا أبوها … كيفنك .. أن شاء الله خير .. ما قاعدين نشوفك .
    يا لها من صدفة … صديقه عبد الرؤوف … له مدة طويلة منذ أن قابله آخر مرة فى عقد قرأن إبنة صديقهم فيصل … وتنفس اكثر من صعداء .
    • يا سلام يا عبد الرؤوف … ازيك .. والله صدفة غريبة … تصور من آخر مرة قابلتك فيها في عرس ناس فيصل … تأني ما أتلاقينا .
    • نتلاقى وين في الزحمة دى؟ … المهم إنت عامل كيف ؟ ومالك بجاي … نعل ما فى عوجة؟ …
    • والله يا أخي العوجات في .. أولا سرقوا جزمتى في الجامع … وعضاني كلب …. ودلوقت مفروض أجيب غيارات ومصل بتاع السعر .
    • لا حول ولا قوة الا بالله … وهسع ماشي وين ؟
    • ماشى البيت .
    • لكين إنت لسة بتنزف … ما عملوا ليك غيار ولا شنو ؟
    • يا اخى أنا قمت بجلابيتي وعندي جارى جابني هنا … وما شايل معاى قروش فقلت أمشي البيت اشيل قروشي وبعدين امشي أفتش لي مصل للعلاج.
    • بيت شنو يا اخى؟ أنا شايل معاى قروش .. دقيقة
    ويتجه عبد الرؤوف نحو عربته …و يصيح مشلهت :
    • اقيف يا عبد الرؤوف … مافى داعي .. ما خلاص أنا حامشي البيت عشان أغير … و
    ولكن عبد الرؤوف لا يلتفت إليه … بل يفتح باب عربته ثم يتناول ربطتين من الأوراق النقدية :
    • هاك دى ميتين ألف … أمسك … وأسعف نفسك السعر دا بطال جداً ولازم تحصلوا بسرعة … ويتناول مشلهت النقود وهو يتمتم بعبارات الشكر نحو صديقه عبد الرؤوف .
    • شكراً جزيلاً … ما كان في داعي أنا اصلو كنت عايز امشي البيت .
    • تمشي البيت شنو يا راجل؟ .. إنت لازم تسعف نفسك الواحد يعضيه كلب في البلد دي يوديه فى داهية … اها … مع السلامة واتصل بي وريني الحاصل شنو ؟
    وأنصرف عبد الرؤوف … وقد نسي مشلهت أن يسأله عن سبب حضوره للمستشفى فشعر ببعض التقصير .. وسيسأله في المرة القادمة أو عندما يتصل به .
    بعض الصيدليات حول المستشفى … تحمل لافتات بعيدة كل البعد عما فى داخلها … رفوف تتناثر عليها مستحضرات التجميل وفرش الأسنأن والمعجون وقد غطاها الغبار ثم هناك فتاة صيدلية … تجلس على مقعد لا ترفع رأسها عن ورقة تكتب عليها او تقرأ فيها شيئاً وشاب يضع يديه على حافة طاولة طويلة بيضاء تمتد على امتداد الصيدلية تجعلك تتساءل كيف يدخل هؤلاء العاملون خلف تلك الطاولة .
    وقف مشلهت أمام البنت ثم سألها قائلاً :
    • عندكم مصل بتاع الكلب ؟
    وأشارت البنت الى الشخص الواقف والذي هز رأسه بالنفي دون أن يتكلم .
    فسأله مشلهت :
    • بتلقي وين المصل دا ؟
    • شوف الصيدليات التانية … نحنا ما قاعدين نجيبو .
    ونحنا ما قاعدين نجيبو … وشوف الصيدليات التانية …
    امتدت لاكثر من عشر صيدليات دون أن يجد من يقول له أين يجده فقط ظل سؤاله هذا بدون إجابة فقرر أن يهاجر من الخرطوم بحري الى الخرطوم فالصيدليات هناك كثيرة ويتوفر فيها الدواء .
    وإنتصف النهار والحركة تزحف والدفارات تزاحم الحافلات والحافلات تزاحمها الميني باص والتي اعتاد الناس أن ينادوها بأمجاد ومخنق صينية كوبر يضيق ويضيق حتى بدأ عنق الزجاجة أرحم منه
    … ولكن فجأة تحركت الحركة ولا أحد يدرى ما الذي كان يحبس الحركة هكذا … الحركة هنا تنحبس وتنفك دون أن يدرك أحد السبب .
    وتكرر نفس المشهد في صيدليات الخرطوم … فأيقن مشلهت أنه هالك لا محالة … كيف لا توجد صيدلية واحدة يوجد فيها ذلك المصل الضروري لحياة أنسأن فعليه إذن الاتجاه لصيدليات أمد رمأن .
    وأمام أول صيدلية وجد رجلاً لا هم له الا سؤال الناس عن الدواء الذي يريدونه وهو لا يدرى هل ذلك الشخص متطوع أم أن تلك الصيدلية تستخدمه لارشاد زبائنها .
    • اها … يا خوي إنت داير شنو ؟
    • داير مصل سعر
    • لا حول ولا قوة الا بالله … يا أخوى إنت كان كدي قاعد تفتش للبن الطير … مصل سعر ؟ .. دا وين بتلقي ؟ أصلك ما تتعب روحك … المصل دا كان قريب في ليبيا ولا السعودية .
    دحين كان عندك زول هناك رسل ليهو يرسل ليك المصل … ولكن ما تتعب ساكت حاصل فاضي …
    ويجيب مشلهت :
    • السعودية عندي فيها ولدى … وممكن أتصل بيهو يرسلو لي … لكن قالوا لي الموضوع دا ما عايز تأخير … ولازم الليلة دى أنطعن …
    ويرد الرجل بتأكيد لا يدع مجالاً للشك :
    • غايتو المصل دا هنا ما بتلقي … الله أعلم يكون وين … لكين أنا بوصف ليك زول في سوق ليبيا إسمو بتاع العناقريب …اصلو بنجر وبجلد العناقريب في بيتو … إنت بتعرف سوق ليبيا ؟
    • يعني … مشيت مرة مع واحد صاحبي ..
    • شوف تركب بجاى البصات الماشة ليبيا بالنص… بعدين بتلقى السوق بتاع الأقمشة والإلكترونيات أسال من واحد أسمو إسماعيل الساعاتي … راجل مشهور وقول ليهو عايز يوصف ليك بيت بتاع العناقريب . الراجل شغال في الأدوية من ليبيا يمكن تلقى عندو المصل دا ؟
    وطيلة الوقت الذي قضاه مشلهت في الحافلة ظل يفكر في بتاع العناقريب . ما هي العلاقة بين العناقريب وبين الأدوية … وطافت بذهنه حكاية : حليل الرجال … الخ .
    فأنطبعت ابتسامة على وجهه ظنها أحد الجالسين موجهة له ، وكان يحدق في وجه مشلهت … إذ أنه كان غريباً فليس من ركاب الحافلة العاديين .
    فابتسم الرجل وألقى بالتحية على مشلهت حتى إذا وقفت الحافلة ونزل منها مشلهت نزل معه ذلك الرجل ووقد تقدم نحو مشلهت وهو يقول :
    • كيفك ؟ …. ما أظنك قاعد تجى هنا ؟
    • لا أبداً ..
    • تصور … أنا عرفتك ما من هنا … ناس الحتة دى ظاهرين ولا يمكن عشان أنا ساكن هنا يبدو لي ظاهرين ؟
    • طبعاً … لأنك ساكن معاهم .
    • ومالك بجاي ؟
    • وصفوا لي واحد في السوق هنا إسمو إسماعيل الساعاتي .. عايز أصلو…
    ويصيح الرجل :
    • أنا ذاتي ماشى قريب هناك … إسماعيل الساعاتي دا … هو بالنهار شغال ساعاتي لكين بالليل عندو سفلي … والناس بعرفوه عشان كدا … غايتو أمة عجيبة .
    نعم عجيبة جداً … ف بتاع العناقريب يتاجر في الأدوية وكانه هيئة إمدادات طبية وإسماعيل الساعاتي عنده سفلي ممكن يساعده في ضبط الساعات . وهذا مشلهت لايص بينهما يبحث عن مصل للسعر . ويتساءل مشلهت :
    • ودا بعمل شنو بالسفلي بتاعو دا؟
    • آووه … بعمل حاجات كتيرة …. بس إنت لما تحتاج ليهو تعال ليهو طوالى
    إسماعيل الساعاتي كان كريماً جداً على غير ما توقع مشلهت إذ أنه أرسل معه أحد أولاده ليوصله ل بتاع العناقريب . ومشلهت لا يستطيع أن يجزم بأن ذلك الولد ولد حقيقي أم أنه من الخدام … خدام ولا شياطين المهم أن يعود لأولاده ومعه المصل … وتذكر مشلهت أن مصل السعر يأتي عادة في ترامس بداخلها ثلج لأنه يعيش في درجة حرارة منخفضة … فكيف يضمن أن ذلك المصل لم تنته صلاحيته أو لم يصبح فاسداً بفعل الحر … ؟
    داخل حوش كإنت تتناثر بعض العناقريب التي إنتهى من تجليدها … و نفسه يجلس على حافة العناقريب وقد مسك بحبل بين أصابع رجله اليمنى بينما جزء من الحبل يعض عليه بأسنأنه وهو يتحدث مع الذين من حوله ببراعة فائقة … وتحت ذلك العنقريب صندوق عليه زجاجات الحبوب والكبسولات وصناديق الأدوية … ولكن مشلهت لم يلمح أي ترمسة بداخلها مصل فأحس بأنقباض شديد.
    أفكار عديدة طافت بذهن مشلهت وهو يسترجع حوادث هذا اليوم التي إبتدأت بسرقة حذائه من المسجد عندما جاء لصلاة الصبح وعندما عضه كلب وهو فى طريقه حافياً لمنزله وعندما حمله جاره فى عربته الى قسم الحوادث بالمستشفى عندما طلبت منه الممرضة أن يحضر غيارات ومصل مضاد لمرض السعر … ولكنه لم يجد المصل فى جميع الصيدليات في الخرطوم أو . ولكن احد الاشخاص أشار عليه أن يذهب لسوق ليبيا ويسأل عن بتاع العناقريب فالمصل موجود عنده . والطريق الى بتاع العناقريب يمر باسماعيل الساعاتى الذى عنده سفلي .
    في حوش كان هناك عدد من الاشخاص … بعضهم يدخل ويخرج وكانه إبن البيت .. و جالس على طرف العنقريب وهو يجمع الحبال بين أصابعه ويعض عليها باسنأنه وفى نفس الوقت يتكلم ويضحك ويطلق النكات في براعة يحسد عليها .. ولاحظ مشلهت أن هناك بعض الكراتين المتناثرة تحت العناقريب ومن وقت لآخر يدخل بعض الاشخاص ويحملون بعض الكراتين بايماءة من …
    ومن الخواطر التى كإنت تطوف بذهن مشلهت هو أن ذلك المكان أبعد من أن يعمل فى تجارة الادوية وخصوصاً الامصال التى يتطلب حفظهات مبردات او ترامس بداخلها ثلج الا أنه لا يلاحظ وجود أية ترامس .. ولاحظ حيرته احد الاشخاص وهو لابد أن يكون من الاود البيت … فاقبل نحوه وجلس بالقرب منه ثم قال :
    • الاخ مش من هنا؟
    • مضبوط
    • ومن وين؟
    • من بحري
    • والجابك من بحري شنو؟
    • عندى غرض جابنى هنا … اصلو بعيد عنك عاضيني كلب …
    • عاضيك كلب ؟ والكلب دا لقيتو وين ؟
    • يا اخى ما هو الكلاب موجودة فى أى محل .. وهو اللقانى مش أنا اللقيتو..
    • طيب معليش … وهسع عايز مصل طبعاً ؟
    • ايوا
    • وقالوا ليك عند أبكر؟
    • ايوا
    • طيب كدى نسالو ليك
    وقام الرجل من مقعده واتجه نحو أبكر وسأله قائلاً :
    • أسمع الحبل البلاوي كيف؟
    • الحبل البلاوي ؟
    • في … ومعطون كمان …
    وعاد الرجل ليقول لمشلهت :
    • قال عندو … وكمان محفوظ فى تلج فى ترمسة
    • هسع الكلام القالوا ليك دا معناه كدا ؟
    • وتلفت الرجل يمنة ويسرى ثم حنى رأسه قليلاً وهو ينظر لمشلهت بطرف عينيه …
    • اصلو الحاجات دى ببيعوها هنا بالدس … زى ما شايف كل الادوية عندها رموز خاصة … وما فى زول يقول الدواء بإسمه ..
    • طيب أسالو قول ليهو حيدينا ليهو بكم ؟
    • معروف تمن المصل 500 الف لكين إنت ما بتدفع ليهو هنا … إنت بتمشى لواحد اسمو اسماعيل الساعاتى وبتديهو القروش وهو بديك ورقة بعدين بكلم واحد يسلمك الترمسة وفيها 14 حقنة كل سبعة فى صندوق..
    • اسماعيل دا مش الراجل القالوا عنده سفلي ؟
    • فاجاب الرجل بنرفزة :
    • يا اخى عنده سفلي … عنده جن إنت مالك ؟ إنت مش عايز المصل ؟
    • ايوا
    • بس امشى اديهو القروش وهو بعمل ليك النظام مع أبكر … مالك ومال سفلى… ولا كلكى ؟
    كل المبلغ الذي يحمله مشلهت لا يتجاوز 200 الف إلا قليلا أعطاها له صديقه عبد الرؤوف عندما قابله صدفة امام بوابة قسم الحوادث … وشعر بأنقباض وتوتر … فالساعة قد تجاوزت الواحدة ظهراً وهو لم يتصل بزوجته ليخبرهم اين هو فلابد أن يكونوا في غاية من القلق …
    فقرر أن يبحث عن مكان اتصالات ليهاتف منه أهله .. وقبل أن يقوم من مكانه سمع ضجيجاً وهرجاً وأصوات تقول :
    ثابت في محلك … أوع واحد يتحرك …
    كإنت هناك جماعة من الشرطة تداهم الحوش فتسمر الجميع فى أماكنهم والدهشة تغطي وجوهم واول هؤلاء كان مشلهت وقد استولت المفاجأة على كل حواسه… حتي الجوع الذى كان يشعر به وهو الذى يعانى من مرص السكر اختفي فما الذي يجرى ؟
    جاءت مجموعة أخرى من الشرطة وأخذت تجمع الكراتين والأواني الموجودة فى المنزل وأوقف أبكر حيث اقتيد بواسطة شرطيين وأمر الجميع أن يخرجوا من المنزل وأن يصعدوا على ظهر عربات كإنت تقف فى الخارج .. وبدون أية مقاومة وجد مشلهت نفسه داخل عربة بوليس مع مجموعة من الناس وبعضهم يتساءل :
    • موديننا وين يا جنابو ؟ ونحنا عملنا شنو ؟
    وشرطى صارم القسمات ينتهره قائلاً :
    • خليك في محلك … بعدين تعرف مودينك وين ؟
    فى ذلك النهار الحار تحركت العربات تشق شوارع مزدحمة بالخلق الذين اصطفهم الفضول على جانبي الشوارع وهم يشاهدون ما يحدث ..
    بعضهم يقول أنهم جماعة مخدرات وبعضهم يقول أنهم هاربون من الخدمة الإلزامية وبعضهم يقول أنها كشة فى اماكن الخمور البلدية … ولكن الواضح أن ما حدث حرك تلك الجموع البشرية والتى ما كإنت تفعل أى شئ إلا الحركة بلا هدف .. فأشعل فيها شيئاً من الحماس المؤقت مثل ما تثيره المشاجرات التي تحدث من وقت لآخر او ما يثيره حادث مروري من مشاعر متضارية … المفاجأة جمدت ردود افعال مشلهت وسلبته القدرة على التفكير مفسحة المجال لاسئلة كثيرة مرت كحلم طويل مخيف على ذهنه … ترى ما الذى أتى به الى هنا ؟ وماهى جريمته التي ارتكبها حتى يجد نفسه مع هولاء الناس ؟ بل ماذا فعل هولاء الناس ؟ .. وباختصار شديد :الحكاية شنو ؟
    لم يكن أحد يملك اجابة لسؤال مثل هذا : الحكاية شنو ؟ فالجميع استسلموا لقدرهم الذى وضعهم داخل تلك المركبات الأمنية تحت حراسة مشددة … ولكن مشلهت لاحظ امراً غريباً فبالرغم من أن المداهمة تمت لمنزل أبكر بتاع العناقريب الا أن الوحيد الذى لم يكن يبدى اهتماماً هو نفسه … وكأن الامر لا يعنيه .
    لقد وصلت اخبار الى المباحث أن أبكر بتاع العناقريب يتاجر فى الادوية المهربة وله مروجون هم الذين يستلمون تلك الكراتين ليوزعوا محتوياتها وسط الاحياء كما أن شبكته تمتد الى الاقاليم … فاعدت الشرطة كميناً داهم منزله ولكن لسوء حظ مشلهت أنه كان موجوداً ساعة المداهمة ولذلك اقتيد مع الذين كانوا داخل المنزل او الحوش .
    إجراءات الاستجواب استمرت فترة طويلة وقد لاحظ مشلهت أن معظم الذين تم استجوابهم كانوا يقولون أن سبب وجودهم داخل منزل أنهم جاءوا لشراء عناقريب او بنابر ولم يذكر احد شيئاً عن الدواء ولكن عندما نودي على مشلهت سأله المتحرى الاسئلة الروتينية اسمك ، عمرك . مهنتك ، عنوأنك . سأله قائلاً:
    • ممكن تقول لينا إنت كنت فى بيت أبكر بتعمل شنو؟
    • اصلوا أنا سرقوا جزمتى فى الجامع ..
    • يا سلام … أن شاء الله تكون جاي تشترى جزمة ؟ يعنى مش عنقريب
    • عنقريب بتاع شنو ؟
    • ما كل الجماعة السألناهم قالوا جايين يشتروا عناقريب :
    • أنا ما قلت ليك جاي اشترى عنقريب …
    • طيب جاى تشتري شنو؟
    • جاى اشتري مصل سعر … يا جنابو بعد ما سرقوا جزمتى عضانى كلب ….بعدين ما لقيت المصل فى الاسبتالية … قاموا وصفوا لى الزول دا قالوا لى بتلقى عنده المصل …
    • الزول منو ؟
    • أبكر
    • إنت كنت بتعرفوا قبل كدا ؟
    • لا ابداً .. دى اول مرة اشوفو فيها …
    • وليه اول مرة ؟
    • دى اول مرة يعضينى فيها كلب .
    • والدلاك على هنا منو؟
    • واحد لقيتو واقف قدام صيدلية فى …
    • هسع الزول دا لو شفتو بتعرفو
    • والله ما عارف … يمكن اعرفو ويمكن ما اعرفوا … زول قابلتو صدفة
    • وجيت هنا طوالى ؟
    • لا … هو قال لى تمشى لواحد اسمو اسماعيل الساعاتى جنب سوق الالكترونيات فى سوق ليبيا وهو يوصلك لأبكر …
    • وإنت مشيت لإسماعيل الساعاتى ؟
    • مضبوط …
    • واسماعيل وصلك لأبكر
    • لا اسماعيل أدانى واحد من الاولاد الشغالين معاهو وهو وصلنى لأبكر .
    • ويبدو أن المتحرى وجد الشاهد الذى يبحث عنه … فجميع الذين سألهم أنكروا أنهم جاءوا لشراء أدوية حتى أبكر نفسه قال :
    • يا جنابو أنا مالى ومال الدوا… أنا شغال فى العناقريب من عمري عشرة سنين … جيت مع أبوي وأنا وليد صغير وأبوي خدمته ذاتها العناقريب … وكنت بفتل الحبال …
    وعندما سأله المتحرى عن كراتين الدواء التي ضبطت فى منزله أجاب :
    • ديل ناس بجيبوا دوا لأهلهم من ليبيا وبخلوه عندى هنا لحدى ما اهلو بجوا بشيلوه … نحنا ما نعرف حاجة عن الدواء ولا شكلو ذاتو … هسه ما نعرف الا البندول ولا الاسبرو
    ولكن إجابة مشلهت كإنت تحتوي على معلومات مفيدة للشرطة فى حربها ضد مهربى الأدوية وتجارها … وهم لا يحملون رخصاً . كما يبدو أن مشلهت كان الوحيد الذى لم يتفق معه أحد ليقول أنه جاء لشراء عناقريب هذا ما كان من أمر مشلهت وهو فى مركز الشرطة أما ما كان أمر أولاده وزوجته فهذا شأن اخر . فقط طار النوم من عيونهم كما طار (جنا الوزين) وهم لم يجدوا والدهم معهم ولا يعرفون أين ذهب …فليس من عادته الا يعود بعد صلاة الصبح وحاولت زوجته أن تطرد هاجساً قاتماً وهى تسترجع ما اعتادت أن تقرأوه فى الصحف من حالات اختطاف لأشخاص لم يعثر لهم على أثر … هل يمكن أن يكون مشلهت قد اختطف ؟ ومن الذى اختطفه ؟ لقد خرج للصلاة وهو لا يحمل مالاً …. فأين ذهب ؟
    القلق والتوتر الذى إنتاب زوجة مشلهت إنتقل الى بقية افراد الاسرة حيث قرر الاطفال عدم الذهاب للمدرسة حتى يقفوا على حقيقة ما جرى لوالدهم … وعندما بلغت الساعة العاشرة صباحاً ومشلهت لم يتصل باتت شكوك الجميع اقرب الى الصدق من أن مكروهاً قد حاق بمشلهت .
    صفية زوجة مشلهت لم تدر ماذا تفعل ولكن هداها تفكيرها أن ترسل ابنها علاء الطالب بالمرحلة الثإنوية الى عمه شمس الدين فى المايقوما الحاج يوسف عله يستطيع أن يتصرف … وبين الحين والآخر ترفع سماعة التلفون ولكنها تجدها بلا حرارة … وعند الساعة الثانية عشرة ظهراً ارتفعت درجة التوتر والقلق النفسى الى معدلات عالية … وطيلة هذا الوقت مشلهت لم يحاول أن يتصل بمنزله هاتفياً فيأتيه صوت التسجيل :
    • هذا الرقم موقوف عن الخدمة موقتاً .
    فى هذا الأثناء كإنت زوجة مشلهت قد استطاعت أن ترسل إبنها لعمه شمس الدين فى المايقوما الحاج يوسف فجاء هو وزوجته وصهره زوج إبنته المقيم معهم فى المنزل وهم يسألون الله أن يكذب " الشينة" وتلقتهم زوجة مشلهت يسبقها قلق عظيم وهم كجبل المرخيات … فما الذى سيحدث لهم لا قدر الله إن حدث مكروه لمشلهت ..
    • شفت ياشمس الدين حكاية أخوك … دى طلعة من الصباح الدغش … من صلاة الصبح هو ما جا راجع … وما لابس الا جلابيتو وطاقيتو وجزمتو …. يعنى نقول هسع مشلهت دا نصيح؟.
    • يا زولة … اصبري وخلي الامر لله ؟؟؟ مشلهت أن شاء الله نصيح وهسع يجيكي ماشي بكرعينو .
    • يسمع منك ربنا … والله ما شفت الحكاية دى عملت فينا كيف .
    • وهو ما قال ليكى ناوي يمشي اي حتة ؟
    • يقول لى شنو ؟ دا خلانى نايمة ونحنا كلنا نايمين لما مشى الصلاة … وياها عادتو ….دايما بمشي وبجي راجع
    ويستعجب شمس الدين :
    • والله حكاية غريبة .. غايتو أنا عندى إحساس إنو مافى حاجة حصلت ليهو … لكين كمان ما نقدر نقول حاجة الا هو يجى .
    وتقول زوجته بتضرع
    • الله يجيبو طيب لوليداتو وأهلو …
    ولكن الامر لا يمكن أن يستمر هكذا فلابد من عمل شئ وكان لابد من الطواف على المستشفيات وأقسام البوليس .
    بالنسبة لزوجة مشلهت وأولاده وأخيه شمس الدين فإن اختفاء مشلهت يشكل لغزا غريباً صحيح أن مشلهت مشلهت على حد إسمه ولكن لم يتوقع احد أن تصل الشلهتة بمشلهت الى هذا الحد الذى يؤدى الى اختفائه . ولذلك كإنت زوجته تردد :
    • هسع يا ربى … نقول الحصل ليهو شنو ؟
    وكان شمس الدين يرد :
    • يا ولية … اصبري … إن شاء الله ما تكون حصلت ليهو أي حاجة …
    وبما أن التلفون يرقد جثة هامدة بعد أن أنقطعت عنه الحرارة لم يتوقع أحد أن تصل اية معلومات عن طريقه … إن صمت التلفون في مثل هذه الظروف يجعل دائرة المعلومات تضيق حتى تصبح مثل خرم الإبرة … فإذا الفراغ العريض الذي يغلف المنزل مثل السبورة الفارغة لم تجد من يكتب عليها حتى تاريخ اليوم … ولكن من أين يبدأ البحث ..؟ في مثل ظروف اختفاء مشلهت يبدأ الناس في البحث في المستشفيات ثم نقاط الشرطة ومراكزها المختلفة ويبدأون عادة من أقسام الحوادث .. ولهذا كان أول شئ فعله شمس الدين وإبن أخيه علاء وزوج إبنته أن ذهبوا لقسم الحوادث .
    القسم كان مكتظاً بعدد كبير من الناس … إلا أن كل شي كان روتينياً … الذي يتأوه والذي تسيل منه الدماء والذي يقبض على بطنه … كل هؤلاء في نظر العاملين بقسم الحوادث هم إحصائيات يدونها موظف جالس خلف طربيزة كإنت في يوم من الأيام ذات لون لبنى … تقشر وتبرقع واصبحت أجزاؤها المكشوفة تحمل بصمات الذين كانوا ينحنون على الموظف ليوضحوا له ما بهم .
    تقدم شمس الدين نحو الموظف وسأله :
    • يا خوى … عندنا زول مفقود … طلع من صلاة الصبح وما عارفين مشى وين … قلنا يمكن يكون عندكم هنا … في حادث ولا كدا …
    • اسمو شنو؟
    • اسمو مشلهت .
    • ما أظن في واحد جانا هنا بالاسم دا … إنت قلت من صلاة الصبح ؟
    • ايوا .
    • دا لو جا يكون مر على ناس الوردية القبلنا … نحنا استلمنا منهم الساعة سبعة … على العموم فى حادث بتاع حافلة في طريق الخوجلاب … بعض الناس لسع هنا والماتوا ودوهم المشرحة .
    ويستعيذ شمس الدين بالله من شرور الحوداث وكوارثها ويستدرك قائلاً :
    • بس هو البوديهو للخوجلاب شنو … مافى شي بوديهو هناك … لا … ما أظن يكون مع ناس الخوجلاب ولكن بدافع الفضول يتحرك الركب الى داخل غرف الحوادث حيث يرقد بعض المصابين وهم لا زالوا بدمائهم جفت على ملابسهم فتغير لونها الى بنى غامق … لا … لا يمكن أن يكون مشلهت معهم … ولكي يطمئن قلب شمس الدين سأل أحد الذين يشكون من إصابة طفيفة في ساقه .
    • كفارة … يا أخ … أن شاء الله تكون ما اتعوقت ؟
    • كفر الله سيئاتك … اتعوقت في ساقي وإنت عارف ضربة عضم الساق دى حارة … والله طرشت مرتين وغبيت تب … لكين هسع الحمد الله كويس .
    • وإنتو البص دا كان ماشي ولا جاي ..؟
    • البص كان جاي ولما بقينا قصاد الخوجلاب … حصل الحادث … اصلو … كان …
    ولم يترك شمس الدين الشخص يكمل قصته … فطالما أن البص كان في طريقه للخرطوم بحري وحدثت الحادثة قصاد الخوجلاب قطع الشك باليقين أن مشلهت لم يكن معهم .
    ووقف الثلاثة على شارع المعونة – الاسم الذي ظل الناس يطلقونه على ذلك الشارع الرئيسي في مدينة الخرطوم بحري بالرغم من أن إسمه قد تغير عدة مرات .. وقفوا ليركبوا حافلة في طريقهم الى الخرطوم .. وستكون وجهتهم المشرحة .

    شرحوا لموظف الاستقبال مهمتهم فقال :
    • من بحري … في بس زولين قالوا ديل كانوا في بص … وعلى أي حال إنتظروا المسؤول يجى بعد شوية …
    يقول علاء مخاطباً عمه شمس الدين :
    • طيب ما نمشي يا عم … طالما إنو ديل بتاعين بص الخوجلاب .
    • اصبر إنت بس خلي المسؤول يجي وبعدين نحنا نمشي … مش جايز الزول دا ما عارف حاجة .
    مشاعر متضاربة تنتاب الناس في مثل هذه الحالة … فبالرغم من أنه لا أحد يتمنى أن يجد مفقوده داخل المشرحة … إلا أن هناك شعوراً بالخيبة ينتاب الشخص إذا لم يجد مفقودة في المشرحة … شئ غريب … مثل الانصات إلى نشرة الوفيات من الإذاعة … فعندما نستمع لأسماء الذين إنتقلوا الى جوار ربهم ولا تجد إسماً تعرفه … ( وحقو كان تفرح ) … تجيب على زوجتك عندما تسألك :
    • النشرة فيها شنو ؟
    تجيب وظلال من الخيبة تغلف كلماتك :
    • ما فيها حاجة
    ولذلك عندما جاء المسؤول وقام بجميع الإجراءات وسمح لهم برؤية محتويات المشرحة وحصيلة ليلة البارحة … شعر شمس الدين بأمر غريب يسيطر عليه .
    • هل يمكن أن يكون هذا الجسد المسجي لأخيه مشلهت ؟
    أن معالم الجثث تختفي بعد أن تكتسي بمعالم الموت .
    ويصبح كل الأشخاص متشابهين … ويصبح من الصعب التعرف عليهم وهم في استلقاءاتهم الأبدية … فنحن قد تعودناً على ملامحهم وهم جالسون أو سائرون ولكننا لا نعرف ملامحهم وهم مستلقون على ظهورهم وفاقدوا الحياة .
    واختلط الأمر على شمس الدين … ولذلك نادى على إبن أخيه :
    • تعال يا علاء … شوف الزول دا … بشبه أبوك ؟
    وأخذت ضربات قلب علاء تتسارع … كيف يميز أباه وقد تهشمت جمجمته وتورم وجهه بهذا الشكل … ولكن الخوف والرهبة ولأول مرة في حياته يرى شخصاً فاقداً للحياة .. جعلته يرتجف … ويصاب بدوار …. فيستند على كتف عمه .. وهو يقول :
    • لا … لا يا عمي … دا ما أبوي … مش عارف دا منو .
    والشخص الواقف على باب المشرحة وكانه يقف على مستودع لكراتين الصابون والشاي … يقول :
    • يلا يا أخوانا … شوفوا زولكم … إذا ياهو خلونا نعمل الإجراءات .
    ووقف الجميع خارج المشرحة وهم لا يستطيعون الإجابة القاطعة الحاسمة على سؤال واحد :
    • هل ذلك الشخص صاحب الجمجمة المهشمة هو مشلهت ؟
    واستقر رأيهم أن الشخص الوحيد الذي يمكن أن يتعرف على مشلهت وهو مستلق على ظهره هي زوجته …. فهي التي تراه نائماً وتعرف ملامحه عندما يكون نائماً … فقرروا أن يعودوا ليصطحبوا معهم زوجة مشلهت لتقطع لهم عما إذا كانت تلك الجثة لمشلهت .

    كإنت زوجة مشلهت وابنتها تقفان إمام الباب عندما أنزل التاكسي الجماعة فسألتهم بلهفة :
    • أها … ما لقيتوه ؟ … عاد سجمي الليلة … ويا مصيبتك يا مشلهت … الحصل عليك شنو ؟
    ويرد عليها شمس الدين :
    • يا ولية كدي … اصبري وحلينا نفكر نعمل شنو ؟
    • تعملوا شنو … ما ياهو خلاص … لحدي هسع يكون مشلهت نصيح وما نعرف ليهو محل؟
    علاء كان غائر العينين … ويمر شريط طويل لتلك الاحداث على مخيلته من الصباح الباكر عندما صحا من نومه وكان يجهز نفسه للذهاب لمدرسته … و وقد بلغت الساعة السادسة والنصف مساء ولا أحد يعرف أين يوجد أباه … كيف تتقبل أمه فكرة أن تذهب معهم لتتأكد من أن ذلك الرجل صاحب الجمجمة المهشمة هو والده مشلهت …
    ويخاطبها شمس الدين قائلاً :
    • كدي يا صفية أسمعي كلامي دا كويس … مافى زول عارف أجلو وقدرو يكون كيف ودي كلها أمور بيد الله … والله إذا أراد الزول يموت تاني ما في قوة بتجيبو .. وهنا تتأكد صفية أن مكروهاً قد حدث لزوجها فتصيح :
    خلاص ؟ يعني مات؟
    ويدرجها شمس الدين الى داخل البيت وهو يؤكد لها :
    • يا صفية ما تكوني مجنونة … أسمعي كلامي … أنا بقول ليكي نحنا مشينا المشرحة ولقينا واحد هناك ومتأكدين إنو ما مشلهت لكين عايزنك إنتي تمشي معانا وتشوفي وتتأكدي بعينك وتصيح صفية وهى غير مقتنعة .
    • ما دام إنتو لقيتهو في المشرحة … ما خلاص تاني شنو ؟ مالكم ما جبيتوه بالإسعاف عشان تكفنوهو وتدفنوهو... بتخلوا مشلهت راقد في المشرحة لشنو؟ .
    • هسع منو القال ليكى دا مشلهت ؟
    • وطيب عايزني أمشي معاكم ليه ؟
    • عايزنك تمشي عشان تتأكدي بنفسك …
    • يعنى إنتو ما اتاكدتوا مش كدا ؟
    • غايتو … الله مخير في حكمو …كدي شوفوا لينا محل اتصالات نكلم أختك سعاد ونكلم ناس ونكلم حيدر في السعودية .
    ويرد شمس الدين :
    • يا ولية … هسع دا كلو لزومو شنو … ليه نقلق الناس … ما يمكن الراجل دا هسع يجى راجع ؟
    • أولا : إنت ما تقنعني إنو مشلهت يطلع من البيت طلعة الصباح وما يتصل وما يجى راجع وما يتعرف ليهو محل ويكون كويس .
    وتأنياً : لازم الناس ديل كلهم يعرفوا إذا ما عرفوا هسع بعدين بكون كويس؟ .
    ويوافق شمس الدين على مضض … وتخرج معهم صفية ويتوجهون صوب التاكسي الذي كان صاحبه في إنتظارهم ثم ينطلق بهم نحو المشرحة .

    صرخت صفية وأنهارت عندما كشف لها المسؤول عن المشرحة الوجه المهشم لذلك الرجل والذي جاءوا به بعد أن توفي فى حادث مروري بالقرب من الخوجلاب .
    • الليلة يا سواد ليلك يا مشلهت … الليلة ووب .. حي ووب … الليلة حي…حي
    وأخذت تولول وتصرخ في هستريا وشمس الدين يحاول تهدئتها :
    • يعنى إنتي خلاص إتاكدتي إنو دا مشلهت ؟
    ياهو ذاتو … مشلهت ما بغباني … ياهو ذاتو … مخير الله عاد الليلة حي ووب … يا أبو حيدر وعلاء …
    وعلاء فقد إحساسه بالمكان وبالزمان فأن تسارع الأحداث قد داهمه بصورة لم تقو تجاربه القصيرة على امتصاصها …. فقد كان على موعد مع والده مشلهت أن يعطيه رسوم الجلوس لامتحان الشهادة السودأنية ولم يبق على الإمتحان إلا أسابيع قليلة … وهاهو والده يموت ويمضي بسرعة لم يتوقعها أحد … مشلهت الذي كان ملء السمع والبصر في البيت … يرقد في المشرحة كآخر محطة له يغادر بعدها الى مقابر حلة حمد حيث تدفن الأسرة أفرادها .
    ويوجه شمس الدين حديثه لابن أخيه :
    • شوف يا ولد … شد حيلك وخليك راجل … أبوك بقى في حق الله دلوقت إنت تأخذ أمك وتمشوا وكلموا جيرانكم واعملوا نظام الصيوان … وأنا بقعد هنا لحدي ما اكمل الإجراءات وبجيب معاي االجثمان عشان ندفن وشوف واحد رسلو للإذاعة عشان ناس البلد يعرفوا … المهم كل حاجة بقت عليك .. فخليك راجل … وسد محلة أبوك …
    علاء يستمع لإرشادات عمه وتتضارب وتتقاطع في ذهنه خطوط متشابكة …. أيهما والده االجثمان الذي يرقد مهشم الرأس داخل المشرحة ام والده مشلهت الذي هو على موعد معه ليعطيه رسوم الإمتحان ؟ … وخيل إليه أن والده لا يمكن أن يكون قد تحول الى جثمأن …واصبح يشار اليه بلا اسم فقط جثمان .
    صحيح إنه اخذ والدته وتعرفت والدته على جثمان والده والذهول يخيم عليه اكثر من الحزن لفقد والده … فهذه تجربة ربما تمر عليه بعد أيام فيبكى أما الآن فمشاعره عبارة عن ذهول مستمر ممتد كصداع طويل يرفض أن يبارحه وحتى الصيوان لم يشعر أنه يمت لوالده بصلة مثله مثل أي صيوان عزاء … يتجمع الناس تحته للحديث وتبادل النكات والقفشات ولا أحد يفكر في الميت … وحتى سورة الفاتحة والتي يتظاهر الناس بقراءتها قلة هي التي تقرأها الى آخرها .. لأن الزمن الذي يرفع فيه الشخص يديه وهو يقول الفاتحة ثم يقول البركة فيكم لا يكفي لقراءة سورة الكوثر . اختفت السورة وبقي المظهر … ولذلك لم يكن يشعر أن الصيوان له علاقة بفقده لوالده … على أن الشيء الذي خلق واقعاً يصعب تصديقه هو أن جيرانه كانوا يؤكدون :
    • يا أخوانا الراجل دا صلى معانا نصيح … وما عنده أي عوجة وبعدين لما ما لقى جزمتو .. كل الحصل إنو عضاه كلب … طيب دى حاجة بتكتل ؟
    • يا أخ … أنا وديتو بعربيتي وكان كويس جداً حتى هو أصر علىّ إنو أنا أمشي وقال لي : يا أخ إنت شغال الساعة سبعة ونص وأنا بس باخد الحقنة وبرجع البيت … يا سبحان الله … هسع معقول تكون عضة الكلب كانت سبب وفاته ؟
    ويجيب أحد العالمين ببواطن الأمور :
    • يا أخي مش جايز تكون العضة عملت ليهو صدمة سكري … وبعدين يا أخي هو الموت عايز ليهو سبب … ما ياهو كل يوم نحنا دافنين زول … غايتو قول الله يحسن العمل .
    ويتدخل آخر بسرعة حتى لا يخطف منه أحد هذا التعليق المناسب .
    • المهم حسن الخاتمة ايوا … الزول يسأل الله إنو يديهو حسن الخاتمة .
    ويجلس بالقرب منهم أحد الأشخاص الذين يمتون لمشلهت بصلة القرابة فيقول :
    • كلب شنو ؟ وسكري شنو ؟ الزول قالوا مات في حادث حركة في طريق الخوجلاب …
    ويصيح جاره :
    • دا كلام شنو ؟ حادث في طريق الخوجلاب؟
    • ايوا ..
    • يعنى مشلهت ما مات بالعضة ولا بالسكري ؟
    • ايوا
    • وطيب هو الوداهو الخوجلاب شنو ؟
    • والله مش عارف …
    • يا أخ أنا بقول ليك وديتو بعربيتي دى لقسم الحوادث … كيف يعني حكاية الخوجلاب دى ؟
    ويرد أحدهم :
    • طيب مش جايز يكون ما لقى مصل السعر في الحوادث ووصفوه ليهو قالوا ليهو في الخوجلاب وفى السكة حصل ليهو ما حصل .
    • جايز .. بس أنا شايف الحكاية دى ما راكبة عدلها
    • كيف ما راكبة عدلها … يعنى القبيل دفناهو دا منو ؟
    • والله مش عارف … وإنتو يعنى مشيتوا وشفتوا االجثمان وتأكدتوا إنو دا جثمان مشلهت ؟
    • مشى أخوه شمس الدين وولدو ومرتو … وكلهم جوا قالوا دا مشلهت :
    • ما دام كدا .. لازم يكون ياهو ..نحنا بنعرف اكتر منهم؟ على أي حال ربنا يرحمه ويغفر ليهو … كان راجل بحر …. تاكل في طرفو … ونوعو قليل في الزمن دا …
    • أي والله مشلهت كان ود ناس … وراجل خدوم … اصلو ما جيناهو في حاجة … ردانا خايبين .

    في هذا الأثناء كان مشلهت يواجه المتحري وهو لا يدري لماذا سارت أمور هذا اليوم من بدايته على هذه الطريقة :
    • طيب يا مشلهت … إنت قلت إنو إنت جيت عشان تشترى مصل للسعر … منو الدلاك علي بتاع العناقريب ؟ …
    • واحد لاقيتو واقف قصاد الأجزخانة الكبيرة في أم درمان …
    • وهو طوالى قال ليك أمشي لأبكر بتاع العناقريب ؟ ..
    • لا … هو قال لي تمشي لواحد إسمو إسماعيل الساعاتي … وهو بوصلك لأبكر بتاع العناقريب .
    ويكتب المتحرى اسم إسماعيل الساعاتي :
    • إسماعيل الساعاتي ... ودا محلو وين ؟
    • في سوق ليبيا جنب سوق الإليكترونيات
    • وبعدين بعد ما وصلت لبيت أبكر بتاع العناقريب هو طوالى اداك المصل بتاع السعر ؟
    • لا … ما أدني المصل ؟
    • وليه ما اداك المصل ؟
    • أنا ما قلت ليهو ؟
    • وكنت منتظر شنو ؟ ليه ما قلت ليهو إنك عايز مصل ؟
    • كنت محتار … المصل بكون دايما فى ترمسة ومعاهو تلج .. وما كنت متصور إنو عنده الحكاية دى …
    • وفى الآخر عرفت ؟
    • ايوا …
    • الكلمك منو ؟ ..
    • في واحد قاعد جنبي لما شاف إنو أنا كنت متحير … قام سألني بعدين قال لي : ما تخاف … أبكر عارف الحكاية دى وعنده المصل في ترمسة ومعاهو تلج …
    • طيب لو واجهناك مع أبكر بتقدر تقول الكلام دا .. ؟
    • جداً … اقولو…طيب ممكن أسال سؤال ؟ .
    • ايوا ..
    • هو اصلو جريمتو شنو ؟
    • يعنى إنت من قبيل بتجاوب وما عارف جريمتو شنو ؟ جريمتو إنو بتاجر في الأدوية بدون ترخيص … وكمان بعض الأدوية فاقدة الصلاحية .

    والآن فقط عرف مشلهت أنه كان يحوم في واد والجماعة أصحاب أبكر في واد آخر … والآن فقط عرف لماذا أنكر كل شخص أنه جاء ليشترى دواء … وقد أطلق سراح الجميع الا هو فقد بقي في الحراسة ومعه أبكر وارسل المتحرى شرطياً ليحضر إسماعيل الساعاتي … ولكن ما ذنبه هو ؟ يبدو أن ذنبه أنه أقر بأنه جاء ليشترى مصلاً … وكان الأحرى به أن ينكر مثل الآخرين … ولكنه لم يكن يعلم أن في ذلك جريمة طالما أن المصل غير متوفر في الصيدليات فمن أين يحصل عليه ؟… وهو لا يعلم أيضا أن السلطات يهمها في المقام الأول أن تقبض على أبكر وشبكته الذين يقومون بترويج أدويته وتوزيعها … اكثر من اهتمامها بتوفير المصل له … فهذا ليس من شأنهم .. وربما يكون مشلهت أحد الذين يروجون … أو ربما يكون أحد أفراد الشبكة .

    المتحرى في قرارة نفسه يدرك أن مشلهت رجل ( داقس) حسب التعبير السائد .. وربما حكم عليه القاضي بحسن سير وسلوك وتعهد بألا يشتري دواء من شخص غير مرخص له … ولكنه كشاهد مفيد جداً في الإيقاع بشبكة أبكر … وهذه هي المرة الثالثة التي تداهم فيها الشركة منزل أبكر إلا أنه يخرج بريئاً حيث أنه لا أحد يتطوع للشهادة ضده … فالرجل يبسط سطوة جبارة على اتباعه الذين يروجون لأدويته ولأشياء أخرى يتاجر فيها .. ربما … لا أحد يدري وهذه أول مرة يواجه بشخص يقول أنه جاء لشراء دواء من بتاع العناقريب .
    إسماعيل الساعاتي جاء بصحبة شرطي وحدج مشلهت بنظرة قاسية فقد وصلته الأخبار أن أحد الأشخاص اعترف على نفسه وعلى أبكر … وهو لا يدري دوره في القضية الا أنه خمن أن يكون ذلك الشخص قد ذكر إسمه … وعندما رأى مشلهت تأكد أن إسمه قد ورد .. فلابد أن يكون مشلهت قد ذكر إسمه واخذ المتحرى يسأل :
    • اسمك؟
    • إسماعيل الساعاتي
    • عمرك ؟
    • 47 سنة .
    • سكنك؟
    • في امبدة
    • مهنتك ؟
    • ساعاتي … طبعا..
    • وليه طبعاً … ما جايز تكون بتاجر في حاجة كدا ولا كدا ؟ …
    • بتاجر في شنو يعني ؟
    • يعنى زي أدوية كدا ..
    • أدوية ؟ … أدوية بتاعة شنو يا جنابك ؟
    أنا بصلح الساعات ومن الصباح للمسا ما قاعد أقوم من محلي … أتاجر في الأدوية كيف ؟
    • علي العموم …في واحد قال إنو جاك عشان تدلو على بتاع العناقريب .
    • مش الزول القاعد بره دا ؟
    • يعنى إنت بتعرفو؟
    • ايوا شفتو جاني وسأل من أبكر … لكين أنا قلت ليهو ما بعرف زول بالإسم دا …هنا اسم أبكر دا كتير … فإنت خصص … قام قال لي بتاع العناقريب … وفى الحقيقة أنا ما بعرف زول بالاسم دا … فقلت ليهو … أنا متأسف … أنا ما بعرف زول بالاسم دا …
    • ولما إنت قلت ليهو الكلام دا عمل شنو ؟
    • طوالى اخد بعضو وفات .. وتانى ما شفتو الا هسع هنا …. عندكم هنا أيوا وكمان إتذكرت هو قال عندو قروش ماشي يوديهم لأبكر وعشان أنا ما بعرف أبكر قلت ليهو ما بعرفو
    • طيب هو ما قال ليك القروش دي بتاعة شنو؟
    • لا ما قال لي لكن أنا في نفسي قلت يمكن شغال معاهو ولا طالبو قروش…

    اليوم طويل وكأنه ذلك اليوم المقداره سبعون الف سنة .. او قل سبعون الف ساعة … تدافعت فيه الأحداث ولم يستطع مشلهت أن يتصل بأهله وظل في مخفر البوليس . كل الذي تحصل عليه سأندوتش جاءت به صاحبة الشاي بعد أن أرسلت إبنها لإحضاره من بوفيه على الناصية الثانية من الشارع . وكان بإمكانه أن يستلف أي موبايل من أحد الذين يحملونه ليهاتف أسرته إلا إن تلفونه في المنزل مقطوع . ولا يدرى ماذا تفعل أسرته وهو متغيب عنهم منذ صلاة الصبح ؟ لابد أن القلق قد فتك بهم . وعليه فقد قرر أن يعطي أي شخص يتوسم فيه الخير مبلغاً من المال ليستأجر تاكسياً من مخفر البوليس ويصف له المنزل حتى يخبر أسرته بمكانه … ولكن الليل قد أنقضى منه جزء كبير ولا أحد يستطيع أن يتحرك وعليه أن ينتظر للصبح .

    المخفر يعمل كخلية النحل ليلاً .. ولا يتوقف دخول وخروج الناس .. لصوص ومخمورون ومتشاجرون ومتشردون جميع صنوف البشر الذين لا يصلحون الا ديكوراً بشرياً لكل مخفر بوليس .
    جلس بالقرب منه أحد الأشخاص وقد القى نظرة سريعة على مشلهت فعلم أن هذا الشخص لا يمت لهذه الملة وإن الظروف قد قذفت به هنا ثم إنه مصاب بجرح في رجله تيبس الدم قشوراً حوله … فقال له :
    • يا خوى … إنت متعور مالك .؟
    • والله يا أخي تقول شنو ؟ عضاني كلب قبيل في صلاة الصبح .
    • وعملت شنو ؟
    • ماهو دى المصيبة الأنا فيها دلوقت .. جيت افتش للمصل قاموا كشونا كلنا .
    • ايوا … إنت مع ناس أبكر بتاع العناقريب ..
    • ايوا …
    • يا خوى دا شديد … اصلو دايما يمرق منها وطبعاً إذا مرق منها فإنت طبعاً ما حيلقوا عليك حاجة .. وبعدين بفكوك .
    • يمرق منها كيف ؟ مش هو متهم بإنو بتاجر بأدوية بدون ترخيص ؟
    • ايوا … لكن مافى إثبات عليهو … لأن أي زول بقبضوه معاهو بقول أنا جيت اشترى عناقريب ومافى زول ليوم الليلة جاء وقال إنو جاي يشتري أدوية من أبكر .
    ويصمت مشلهت برهة يستعيد فيها أقواله التي أدلي بها للمتحري … ثم يقول :
    • ما أظن المرة دى بمرق منها … أنا لما سألوني قلت ليهم أنا جيت عشان اشترى مصل .
    • يا زول أوع تكون قلت ليهم كدا ؟
    • ايوا
    • ودونوا أقوالك ؟
    • ايوا
    • لا حول ولا قوة الا بالله … الموديك تقول كدا شنو؟ … يا أخي دى ورطة كبيرة ..
    • ورطة لي أنا ولا لأبكر؟
    • ورطة ليك إنت طبعاً … أبكر عنده ستين حيلة وحيلة عشان يمرق منها لكنه ما بخليك … وخاصة عنده واحد أسمو إسماعيل الساعاتي دا عنده سفلي كافر … والله يجننك .. إنت قايل الحكاية شنو ؟
    واسقط في يد مشلهت … هذا بعد جديد يضاف الى مأساته … حذاء وكلب وسفلي .. وهل يخاف هو من مثل هذه الخزعبلات ولكن يبدو أن ثمة خوف ما اخذ يساوره … هل صحيح هناك سفلي كافر يستطيع أن يضره؟ ولماذا لا يكتفي بما ادخله فيه ؟ … لماذا يسلط عليه إسماعيل ومعه ذلك السفلي الكافر؟ .. ويبدو أن الموضوع قد اتخذ منعطفاً جديداً .
    ظل مشلهت في مخفر الشرطة ذلك الذي يعج بحركة دائمة لا تنقطع … أصحاب المشاجرات ولصوص المنازل والمتشردين بالمستشفيات ….فالذين يخرجون من هذا المخفر ومعهم شرطي يحمل اورنيك 8 يتجه بهم نحو قسم الحوادث .
    اتجه مشلهت الى دورة المياه ليتوضأ ويصلى الصبح في فناء المخفر بعد أن إستأذن الشرطي الذي يقف خلف الكاونتر.

    الدخان يتصاعد من الورق الذي حشرته ست الشاي لتشعل النار في الفحم وهى تستعد لاستقبال يوم جديد حافل بشرب الشاي والقهوة من رواد المخفر. ووضعت برطمانيات المربة بداخلها متطلبات صنع الشاي والقهوة ورصت الأكواب بعناية … وتلتفت من حين لآخر لتزجر ابنها حتى لا يعبث بمحتويات كرتونة صغيرة داخلها أواني وخرق بالية وأكياس صغيرة تحتوى على سكر وشاي و" أدوية" للقهوة مثل الزنجبيل وغيرها ..
    كان مشلهت يجلس ساهماً وهو لا يعرف كيف يخرج من ورطته هذه … ولكن منظر بائعة الشاي شد إنتباهه.. إمرأة ذات إطراف نحيلة ممصوصة من لوازم العافية ورفاهية نساء المدن تجلس على " بنبر" تتحرك منه يميناً ويساراً في نصف دائرة هى كل عالمها فى هذه المنطقة .
    قال لها :
    • الشاي جهز ؟
    • أجابت :
    • إي خلاص جهز … نديك ؟
    • ايوه … بس السكر خفيف جداً
    • نسوى ليك معلقة ونصف
    • لا … خليها ملعقة واحدة …
    وتعلق المرأة :
    ناس هني … كن اديتو معلقتين بقول شوية … هسع أنحنا قاعدين نكب تلاتة معالق .
    وتحرك الملعقة ثم تناوله كوب الشاي .
    ويشعر مشلهت أن هناك خيطاً رفيعاً يربطه بهذه المرأة فهو يشرب منها الشاي كما اعتاد أن يشربه في منزله كل صباح … ولو لم تكن موجودة لا يدري ما الذي يمكن أن يحدث له … بالأمس أرسلت إبنها الأكبر ليحضر له سندوتشاً وشرب منها كوباً أنعشه كثيراً ..
    سألها قائلاً :
    • إنتي ساكنة وين ؟
    • في كرتون مايو في الخرتوم
    وصاح بدهشة:
    • لا حول ولا قوة الا بالله … من كرتون مايو من الخرطوم تقومي كل يوم تجي سوق ليبيا هنا ؟ … وبعدين كمان ترجعي؟
    • أي والله نقوم بدري من كرتون مايو .. عشان نحصل هني
    • وليه ما تعملي الشاي قبلك في كرتون مايو؟
    • عشان أنحنا في الأول جينا هني في سوق ليبيا وخلاص عرفنا الناس والناس عرفونا … كرتون مايو ملان ستات شاي …
    • ومعاكى منو في كرتون مايو
    • معاى أختي ووليداتها هي وأنا أمنا واحد واخوى كمان أمو براهو …
    • وأبو عيالك وين ؟
    • أبو عيالي في حواتة
    • وبعمل شنو في حواتة
    • بشتغل في مشاريع …
    • وإنتو اصلو جيتو من وين ؟
    • جينا من جنقدة … بعيد … ما قريب من هنا …
    وبالطبع إذا كإنت جاءت هي وعائلتها من "جنقدة " والتي هي بعيدة وليست قريبة من هنا فلن يصعب عليها أن تأتي كل يوم من كرتون مايو لسوق ليبيا .. إذ أن هذه المسألة لا تساوى شيئاً بالنسبة لجنقدة … ترى كيف يحمل الناس الإحساس بالمسافة في داخلهم ؟ … وكيف يعيشون الزمن ؟ امر نسبي … ولكن المعايش جبارة .. تنحني قامة الرجال وهم يبحثون عن أرزاقهم في فجاج الأرض .. وتلتصق هذه المرأة ببنبرها ولا تغادره …في صراع عنيد مع كل الاحتمالات … والأقدار التي تستعصي على التوقيت .
    بعد قليل ستأتي الوردية الجديدة ولا يعرف مشلهت ماذا تخبئ الأقدار في هذا اليوم سيكون همه الأكبر أن يجد شخصاً يصف له منزله ليذهب ويخبر أولاده أنه موجود بالمخفر هنا وأن يحضروا له ملابسه وأن يخبروا أخاه شمس الدين ليخرجه بالكفالة إذا تطلب الأمر ذلك .
    باب المخفر يفتح على ميدأن فسيح تناثرت محتويات كوشة عتيقة على أحد أركانه … هنا يثور العراك بين الكلاب … فالعظام شحيحة … ولابد أن المحلية تعمل بجد لتجفيف تلك الكوشة … فلم تبق فيها الا أكياس النايلون واغنام تدخل رؤوسها في تلك الأكياس بحثاً عن شئ تأكله .
    امتد بصر مشلهت عبر بوابة المخفر الى تلك الكوشة فلمح الكلاب المتعاركة فشعر بشيء من الغيظ فلولا تلك الاكلاب لما كان هنا … أن العضة التي تعرض لها والمصل الذي يبحث عنه قاداه الى حيث يجلس .
    فلماذا لا تبيد السلطات تلك الكلاب الضالة حتى لا يجد أمثال بتاع العناقريب شيئاً يتاجرون فيه ؟ ..
    ومن بعيد لمح رجلاً يحمل " بقجة " منتفخة وعراريق ادخل فيها عيدأناً جعلتها "مفرورة" تسر الناظرين … أشار الى إبن بائعة الشاي وطلب منه أن ينادي على ذلك الرجل … جاء الرجل وعرض بضاعته على مشلهت …
    فاختار منها " عراقياً يغير به جلابيته التي خرج بها لصلاة الصبح والتي تلطخ جزء منها بالدم .." عراقي" يصلح لامتصاص كل العرق في نهار الحر … وتفوح منه رائحة القماش المخلوط بزيت ماكينة الخياطة .. ولو كإنت الامور عادية لبعثه للغسل والكوي قبل أن يرتديه .. ومرة أخرى توجه مشلهت الى دورات المياه فغاب فيها لحظة وغير جلابيته ووضعها في كيس بلاستيك ثم ارتدى العراقي بعد أن صب شيئاً من الماء على رأسه فشعر بالهواء الرطب ينعشه ويبعث فيه شيئاً من الحياة .
    الرجل صاحب " البقجة" بقي في المخفر عله يجد زبوناً آخر … فليس هناك مكان محدد يتحرك فيه … وخطر لمشلهت خاطر … نادى على الرجل البائع وسأله قائلاً :
    • إنت غير هدومك الشايلها دى عندك شغلة تانية ؟
    • شغلة تانية زي شنو ؟
    • أنا بسألك … يعنى إنت بس بتحوم بي هدومك دى محل ما تكون ؟
    • أي … أنا بس ببيع هني وهني …
    • طيب يا أخي أنا عايز أكلفك بخدمة . اصلو أنا جيت هنا وحاجزننا في حاجة أنا ذاتي ما عارفها شنو … وأولادي ما قادر اتصل بيهم التلفون مقطوع … بس أنا عايز اديك قروش تركب من هنا تكس او اى حاجة وأوصف ليك البيت في بحري … تمشى تقول ليهم مشلهت في مركز البوليس وتخليهم يتصلوا بأخوي شمس الدين عشان يجي يضمني … وإنت تخلى حاجاتك دى هنا معاي أنا بحرسها ليك لحدي ما تمشى وتجي ودي تلاتين الف تركب منها وخل الباقي معاك ..
    واخذ مشلهت يصف للرجل منزله في الخرطوم بحري ويكرر الوصف :
    • ولو ما عرفت الوصف أسال صاحب البقالة الفى الركن دا أسمو عبد الحميد … قول ليهو بيت مشلهت وين وهو بوصف ليك البيت … ما بعيد منو …
    ويضع الرجل " بقجته" بالقرب من مشلهت بعد أن يلف " العراريق" برباط ويأخذ القروش وينصرف …
    اخذ مشلهت نفساً عميقاً وهو يشعر بأنه علي الأقل قد كسر حاجز العزلة الذي يفصله عن أولاده … كلها ساعة أو ساعتان ويصلهم الخبر ليطمئنهم وساعة أخرى تكفى لوصول أخيه شمس الدين وعمل الإجراءات التي تضمن عودته الى منزله بعد يوم وليل طويل كأنه كابوس مخيف .
    ويشعر بتورم في رجله . ويحاول أن يطرد هاجساً مزعجاً بأن تورم رجله سيكون له آثار مفزعة … خاصة وهو مصاب بمرض السكري … وقد نسي موضوع المصل تماماً . وحانت منه التفاتة فلمح شرطياً يعرفه
    ملامحه معهودة الا أن ذاكرته لم تدون اسمه … فقام من المصطبة التي كان يجلس عليها وتقدم نحو ذلك الشرطي والذي يبدو أن ذاكرته أقوى من ذاكرة مشلهت إذ أنه بادره قائلاً :
    • اهلاً يا مشلهت … ازيك … مالك بجاي ؟
    • والله يا أخي تقول شنو يا أبوها .. دى حكاية عجيبة جداً .
    وحكى مشلهت للشرطي ما حدث له من ساعة قيامه لصلاة الصبح الى ساعة رؤيته له فقال له:
    • شوف … إنت دلوقت أهم حاجة أنك تأخذ اورنيك طبي ونودي معاك عسكري للمستشفى عشان رجلك دي …بعدين بعد ما تجي نشوف بقية الإجراءات . أنا ما عارف منو الماسك التحري في القضية دى لكين كدي إنت تعال معاى .
    فحمل مشلهت البقجة وذهب مع الشرطي لأحد المكاتب وهناك قابل الشرطي الرقيب حسين :
    • اسمع عندكم هنا اورنيك طبي … عايزين نودى دا الإسبتالية .
    • مالو …
    • عاضيه كلب ..
    • عمل بلاغ بالعضة دى …
    • لا .. هو اصلو عنده قضية تانية ..
    • طيب لازم يعمل بلاغ ضد صاحب الكلب … إنت يا زول بتعرف صاحب الكلب ؟
    • لا ما بعرفو …
    • بس لو كنت بتعرفو كان تفتح بلاغ ضد صاحب الكلب... الإهمال في رعاية حيوان .. وهو عضاك وين ؟
    • في بحري ..
    • لا …دا لازم تفتحو في بحري … على أي حال ممكن تأخذ الاورنيك من هنا وتمشي تفتح بلاغ في بحري
    ويشرح الشرطي للرقيب حسين :
    • نحنا دلوقت همنا إنو يتعالج لأنو هو رهن التحقيق في قضية بتاع العناقريب .
    • ها ..دى عند … أسمو شنو يا أخ .. قول معاي ..
    • حسبو ؟
    • لا .. ما حسبو .. الزول بتاع العليفون دا ..
    • مضوى ..
    • ايوا مضوى ..ديل جابوهم أمس ..وكلهم فكوهم الا الزول دا … هو الوحيد القال جا عشان يشترى مصل .
    • أبكر دا دا جابوه كتير هنا ..مش كدا؟
    • جابوه كتير وكل مرة بمرق منها.. لكين المرة دى ما اظنو بمرق منها. على أي حال إنت اخد الاورنيك …عندكم عربية ؟
    • بمشي أشوف عربية الأحوال …
    • ويخرج الشرطي ومعه مشلهت … ويقوم الشرطي بكل الإجراءات ثم يرسل مشلهت ومعه شرطي آخر للمستشفى بأورنيك طبي … ويتساءل الشرطي :
    • اها … وبعدين حكاية القضية دى …
    ويجيب الشرطي :
    • لا … دى خليها علينا …أنا حأكلم المتحري …وبعدين بعد ما تجي من الإسبتالية حيواصل معاك التحري …ولو شاف يعرضك علي وكيل النيابة يعرضك عليهو ..
    ويحمل مشلهت معه بقجة الملابس ويصعد الى ظهر العربة التي تقله للمستشفى.

    وصل البائع المتجول الذي أرسله مشلهت إلى أولاده إلى عبد الحميد صاحب البقالة في بحري … وكان هناك عدد من الناس في البقالة … يطلبون شراء بعض الأشياء فإنتظر البائع فترة … حتى قال له عبد الحميد :
    • أيوا يا خوي..؟
    • يا اخوى بسأل من بيت واحد إسمو مشلهت قال جنبكم هنا …
    وخرج الرجل من بقالته ووقف على ناحية الشارع وهو يشير بيده :
    • شايف الصيوان داك؟ .. اهو هم فارشين هناك .
    ويتساءل البائع :
    • دا بيت مشلهت ؟
    • ايوا دا ذاتو فراشو .. مش إنت جاي عشان العزا ..
    • لا يا خوي … أنا ماجاي عشان العزا ولا عارف فى عزا هنا ..
    • إنت ما سمعت ولا شنو ؟ مشلهت الله يرحمه مات …
    ويستغرب البائع :
    • والله دى مسعلة عجيبة … الوصف يا هو الوصف … دحين إنت ما اسمك عبد الحميد ؟
    • ايوا …
    • طيب كيفين يعنى يكون مشلهت مات ؟
    • مات زى ما كل الناس بموتو … ودى فيها شنو يعني ؟
    • مات ودفنوه كدي … يعنى إنتو مشيتو فى جنازتو
    • بسم الله الرحمن الرحيم … يا راجل بقول ليك مات ونحنا مشينا فى جنازتو …فى ايه ؟ في حاجة ؟ .
    • يا اخوى أنا هسع جاي من سوق ليبيا .. ولقيت في نقطة البوليس واحد اسمو مشلهت وهو الاداني الوصف دا .. وقال لى تمشي لأهلي في بحري وتكلمهم وتقول لهم إنو مشلهت فى النقطة ويجى أخوه شمس الدين يضمنو … باقى هو عاضيهو كلب … وأنا ما عارف جريمتهم شنو الماسكنهم بيها فى النقطة … وقال يجيبوا ليهو معاهم هدوم حتى اشترى منى عراقي … وأدانى القروش ديل وقال لي التلفون بتاعنا مقطوع .
    وتنعقد غمامة من الدهشة حول بقالة عبد الحميد والذين كانوا فيها وسمعوا حديث العزاء فيهب شمس الدين لملاقاتهم الا أن عبد الحميد يناديه على جنب ويقول له .
    • شفت يا شمس الدين … عندكم حاجة غريبة حاصلة الراجل دا جا هسع من سوق ليبيا قال رسلو مشلهت …قال لقى مشلهت فى الحراسة وعاضيه كلب … وقال ليهو أنا حاولت اتصل بأهلي في بحري لكين التلفون بتاعهم مقطوع … ويكلموا أخوي شمس الدين يجي يضمني .
    ولم يصدق شمس الدين أذنيه … فجذب كرسياً جلس عليه وهو يوجه سؤاله للرجل :
    • اسمع إنت متأكد من كلامك دا ؟
    • استغفر الله العظيم … أنا قلت ليك الزول دا اشترى منى عراقي واداني تلاتين الف وقال لى اجر تاكسى ووصف لى البيت حتى اسم عبد الحميد سيد البقالة دا هو الورأني ليهو …
    ويتساءل شمس الدين :
    • شكلو كيف ؟
    • زول اخدر … مربوع .. لابس جلابية وسفنجة ودمو زى دمك وبشبهك .
    ويغمغم شمس الدين :
    • جايز … جايز … طيب ما في داعي نكلم الجماعة ديل … نمشي لحدي ما نتأكد وبعدين لو لقيناهو نسوقوا نجيبوا حتى نكلمهم ..
    ولكن ذلك لم يحدث إذ أن الذين كانوا بالبقالة وسمعوا حديث الرجل مع عبد الحميد إنتشروا في جميع أركان صيوان العزاء وهم يرددون :
    • مشلهت ما مات … مشلهت في سوق ليبيا … ماسكينوا في الحراسة

    تحركت العربة النوبتجية من امام مركز الشرطة وعليها مشلهت وشخصان احدهما وضعت يداه فى قيد حديدى مرتبط بجنزير يتفرع الى قيدين لكل رجل .. الشخص الآخر كان من ابناء الجنوب … وجلس على ظهر العربة جنديان يحملان بندقتين … الطريق يمر بشارع العرضة ؟؟؟ بعضه مغطى بالتراب وبعضه تنام في داخله حفر مستعرضة ومستديرة ومستطيلة ، ومستحيلة … تصطف الحافلات والركشات والامجاد والدفارات وكأن الامة السوادنية قد تعلبت فى هذا النهار … وترتفع ضوضاء الشارع وتتجاوز الاذنين مختلطة بالغبار فى جو يجعلك تفكر بصورة جادة فى خنق اى مخلوق بالقرب منك .
    موظف الاستقبال في المستشفى الذى استلم الأرانيك المرضية أشار إلى الشرطيين المرافقين أن ياخذا مساجينهما إلى حيث يجلس طابور طويل من البشر… جلس مشلهت بالقرب من الشخص الذى يحمل القيد على يديه ورجليه. منظره يدل على أنه أنسان مغلوب على أمره …… يضع طاقية على رأسه…… مستسلم كنواة تمر …… يحاول أن يخفي القيد الذى على رجليه تحت جلبابه … نظرات غريبة تهبط عليه من الذين اكتظت بهم ردهة المستشفى … بعضها شامت وبعضها مشفق … وبعضهم مزهو بأنهم احسن حالاً من ذلك الرجل .. تعثرت امرأة على رجل المسجون … فقالت :
    • معليش يا ولدى … ما شفتك …
    ثم إنتبهت الى القيد علي يديه بعد أن حاول هو أن يساعدها على النهوض من كبوتها فقالت :
    • الله يفك كربتك يا ولدى …
    فاجابها :
    * يفك كربتنا كلنا يا حاجة …
    وكانما اشعلت هذه الكلمات فى الجميع موجة الطاقة الخفية فسرت همهمات تؤمن على ما قاله … يا حلال الكرب … يا فراج يا سريع النهمة من الضيق والزحمة .
    مشلهت الذى كان يحاور المسجون منذ أن نقل معه الى المستشفى من مركز الشرطة شعر أنه ينتمى الى كربة ذلك الرجل فقال له :
    • كلنا معاك يا اخوى كربتنا واحدة … الله يحلها …
    استغرب الرجل فقال متسائلاً :
    • إنت كمأن كتلت زول ؟
    • لا … ابداً
    • طيب كربتك بسيطة … أنا كتلت زول …… وهسع فى رقبتي روح زول…
    • مالك؟ الحكاية شنو ؟
    • تقول شنو … أنا ذاتى ما عارف اتصرفت كدا ليه … غايتو نقول قدر مكتوب … الله يلعنك يا شيطأن…
    • الله يلعنك يا شيطأن دى كان تقولها قبال ما تكتل الزول …
    لكين بعد ما كتلتو تجي تلعن الشيطأن … والشيطأن اصلوا ملعون … ويصمت الرجل ثم يتأوه
    • اووف حاجة كدا زى الحلم .. زول لا بعرفو لا بعرفني لا بيني لا بينو … لاقانى نازل من البص … عترت فيهو ساكت زى عترة المرة دى هسع فيني…… وقبال ما اقول ليهو " سورى" ومعليش .. قال لي :
    • إنت عميأن ؟ العمى اليقلع عينيك … ناس حمير
    الحقيقة الكلام دا خلاني اعمى واطرش … ما شعرت ليك الا وأنا بطلع سكيني من ضراعي وبدى ليك طعنة واحدة فى رقبتو أصلو ما تنيتها …فد سجة والزول وقع وفرفر وفرفر زى الجدادة .. ما تقول داك الزول المنفوخ زى القربة … وأنا اهو رحت فى الحديد …أنا ذاتي ما عارف الركبني البص الشوم داك شنو ؟ اولاً من البص ما اتحرك … ستين شكلة ونبذ وشتايم … وناس روحها محرقاها ..
    ويسأله مشلهت بعد أن شعر بأن مشكلته مشابهة لمشكلة الرجل … فكلاهما قد وجد نفسه تحركه احداث هو لم يخطط لها …
    • وإنتو أهلكم من وين ؟
    • من الجزيرة … حتة ما بعيدة من المحيريبة … وحالتو أنا جاي نازل من البص بفتش لعليش ود عمي عشان اديهو قروش يوديها للجماعة هناك فى الحلة … لكين تقول شنو … حصل الحصل وبعد دا قالوا مرحليننا لكوبر عشان جرايم الكتل هناك..
    • وهسع هنا مالك ؟ شاعر بشنو ؟
    • شاعر بحمى وعندي رجفة وصداع شديد …
    • دى اعراض ملاريا ..
    • زمان جاتني الحكاية دى مشيت فحصت قالوا لى ما عندك ملاريا …
    تمر الساعات ببطء وبين الحين والآخر يتحدث احد الشرطيين مع موظف الاستقبال الذى ينظر في ساعة يده ثم يقول :
    • بس شوية كدا والدكتور يجي …
    " يجي الدكتور … وهو لسه ما جا " … يدور هذا بذهن مشلهت فما الذى يجعل الناس ينتظرون دكتوراً لسه ما جا .. وكانه الامام الغائب ؟ ولكن الواقع يقول أن الامة السودأنية قد ادمنت الإنتظار وأنها تفعل ذلك ببراعة تحسد عليها … ففي سبيل الإنتظار يهون كل شئ …لا احد يتململ فى قعدته ولا احد يتبرم … بل الجميع فى حالة إنتظار دائم .. والوحيد الذى يبدى شيئاً من عدم الصبر يتأوه :
    • اللهم طولك يا روح …
    واخيراً جاء الدكتور ولم يره احد …ولكنه جاء … ألا تشعر احياناً أن الأطباء فى العيادات فجاة يظهرون وفجأة يختفون … الامر الذى يجعلك تتساءل … اين هى تلك الابواب السرية او الخفية التى يظهر او يختفى خلفها الاطباء ؟
    جاء دور مشلهت الذى شرح للدكتور حالته … فقال له :
    • قلت العضة دى حصلت متين ؟
    • امس الصباح
    • ومن امس الصباح ما لقيت زول يغير ليك ولا يديك المصل ؟
    • ما لقيت
    • وقلت عندك سكر؟
    • ايوا
    • اخر مرة كشفت كان السكر كم
    • تلاتة صلايب فى البول
    • وكنت بتاخذ شنو ؟
    • دوانيل …
    • طيب امشى ارقد ورا الستارة ..
    ويستلقى مشلهت وراء الستارة … بينما يبقى الدكتور يكتب شيئاً على الاوراق .. فى هذا الاثناء تستلقى افكار مشلهت بشكل مسطح .. حتى إنه يتمنى لو أنه لم يغادر ذلك المكان … يا له من شعور رائع عندما تشعر همومك كلها ترقد بجانبك … ربما تنهض وتتركها نائمة … اجرى الدكتور فحصه بالطريقة المعهودة … ثم طلب من مشلهت أن ينهض ويأخذ ورقة لفحص الدم للسكر ..
    حجرة الفحص ترقد فى نهاية المستشفى وبالقرب من دورات المياه …ولا يعرف احد هل وجودها هناك بالصدفة او أمر مقصود … على سقفها مروحة أعيد طلاؤها اغلب الظن فى يوم من ايام الخدمة الا أن خيوط العنكبوت التى إنتظمت بين ريشها ظلت موجودة بالرغم من الحركة الدائرية للمروحة .. ترى كيف لا تشعر العنكبوت بتلك الحركة؟… تماماً مثلما لا نشعر نحن بحركة دوران الارض؟
    تربيزة عليها بعض الفتايل والقطن ورف رصت عليه زجاجات وفتايل ودولاب اعيد طلاؤه ايضاً .. الممرض الذى استلم الورقة من مشلهت اعطاه قارورة قائلاً:
    • جيب شوية بول هنا ؟
    ترك مشلهت بقجة الملابس التى كان يحملها مع الشرطي الذي كان مرافقاً له ثم ذهب لدورة المياه وعاد وهو يحمل القارورة .
    اخذ الممرض القارورة …
    ثم قال لمشلهت
    • شوف أنا ممكن اخذ منك دم من الوريد وبعدين أقوم أحلله واشوف نسبة السكر فيهو كم لكن الحكاية دى بتأخذ وقت … وأنا شايف معاك بوليس وكدا…
    ويصيح البوليس :
    • ايوا … نحنا من الصباح هنا … اتاخرنا خلاص وورديتنا قربت تنتهي.
    ويواصل الممرض حديثه قائلاً :
    • لو إنت عايز كشف سريع وبسيط ومضبوط أنا عندي ولدى في السعودية رسل لي الجهاز دا وممكن في دقيقة اديك نتيجة الكشف لكين تدفع عشرة الف…
    ووافق مشلهت دون تردد …اخذ الممرض إصبع مشلهت وشكه بإبرة ثم وضع نقطة من الدم على شريط صغير مثبت داخل جهاز رفيع وإنتظر لحظة حتى ظهرت قراءة على شاشة الجهاز 472 ..
    • يا سلام … إنت سكريك مرتفع جداً .. ما في داعي حتى نكشف على البول … خذ النتيجة دى طوالى للدكتور … وطبعاً إنت مفروض تجينا بكره صايم وبعدين نعمل ليك كشف كامل .. على أي حال لازم تقابل الدكتور …
    اخذ مشلهت النتيجة وإنتظر فترة خارج عيادة الدكتور حت يخرج مريض كان مع الدكتور. نظر الدكتور للنتيجة وقال
    • إنت السكري عندك مرتفع وكمان رجلك فيها جرح وعايز غيار وعايز مصل لازم نحجزك عندنا هنا … خذ الورقة دى لعنبر الباطنية خليهم يشوفوا ليك سرير ويعملوا ليك الإسعافات المطلوبة دى … وأنا حاكتب ليك هنا في الاورنيك تسلمه يا عسكري لناسكم هناك .
    ويصاب الشرطي بفزع :
    • يعنى هو ما برجع معانا ؟
    • يرجع وين ؟ دا لازم يبقى هنا في المستشفى لحدي ما يتعالج دا حالته خطرة جداً … يمكن هسع يدخل فى غيبوبة سكر يروح فيها …
    واسقط في يد الشرطي … فمعنى هذا أن يبقى مع مشلهت فى المستشفى يحرسه حسب التعليمات ولا يبارحه حتى يأتي من يسد خانته … وسيعود الشرطي الآخر بالأوراق ومعه بقية المحجوزين او المساجين كما اعتاد الناس أن يطلقوا على كل من يكون في حراسة البوليس .
    أخذت إجراءات مشلهت وقتاً طويلاً لأن إيجاد سرير له في قسم الباطنية أمر عسير وعندما وجد السرير كان بالقرب من النافذة ويطل على ميدأن جاف به بقايا أعشاب متيبسة وتدل هيئته على أن الماء لم يمر بناحيته منذ سنين … الأشجار التي تنمو على حوافه تناثرت تحتها الفرشات وترامس الشاي والقهوة ومجموعات من الرجال والنساء وزجاجات البلاستيك والجركانات التي تحتوي على الماء …. ومن بعيد بالقرب من السور تلوح بعض الملابس التي غسلها أصحابها من مرافقي المرضى وعلقوها لتنشف … مثل هذه الأشياء أصبحت من الأمور العادية التي لا تسترعى إنتباه أحد … فمثلاً عدم وجود قطط بالقرب من حاويات القمامة يمكن أن يسترعى الإتباه ولكن وجود القطط نفسه لا يثير أي إنتباه .
    كل تلك الخواطر جالت بفكر مشلهت وهو يرسل بصره من خلال النافذة … قطعت عليه سيل أفكاره ممرضة تحمل ميزان حرارة وضعته في فمه وكانت تخاطب فراشة تحمل جردلاً .
    • عليكى الله يا أم الحسين أمشي عنبر القاينا كلمى الطيب يجيب لي قروش الختة عشان قاعدة اجمع فيهم … قولي ليهو التومة قالت ليك جيب ليها القروش عشان أسيادهم راجينهم .
    تنزع الممرضة ميزان الحرارة من فم مشلهت ثم تقرأه وتهزه لترجعه في مكانه وتدون الرقم في ورقة تحملها ثم تخاطب مشلهت قائلة :
    • وين الجرح العايز غيار ؟
    • يبرز لها مشلهت رجله … فترى آثار دماء متيبسة ذات لون بنى غامق…
    • وإنت اصلوا الجرح بتاعك دا ما عملوا ليهو غيار ..
    • لا …
    لكين بالطريقة دى ما بتتسمم .. طيب خليك أنا هسع أجى أغير ليك لكن عايزين شاش وقطن ..
    ويتساءل مشلهت :
    • شاش وقطن من وين …
    • إذا عندك قروش أنا برسل ليك أم الحسين الفراشة تمشى تجيبهم ليك … ولا … خلاص جيب القروش … أنا بمشي بجيبهم …
    • كم ؟
    • جيب 5 الف ..
    ويناولها مشلهت القروش فتأخذها وتنصرف …
    تحسس مشلهت بقجة الملابس التي تخص البائع المتجول … وشعر بأنقباض … فالرجل تكرم مشكوراً بالذهاب لأهل مشلهت في بحري حتى يوصل لهم رسالة مشلهت وطلب منهم الحضور معه … فماذا لو جاءوا ولم يجدوه ..
    ماذا يظن الرجل ؟ هل يظن أنه قد احتال عليه ليأخذ ملابسه ؟ وماذا ستقول زوجته وماذا يقول أخوه شمس الدين ؟ والإحباط الذي سيتعرضون له …. من الذي سيخبرهم أن مشلهت في المستشفى … ومعه شرطي على رأسه لا يسمح له بمغادرة سريره ……الفراغ الممتد بين سريره والأسرة الآخرى في عنبر الباطنية تملاه تلك النظرات الغائرة عند المرضى ومرافقي المرضى والباعة المتجولين الذين يعرضون بضائعهم على المرضى ابتداء من الأمشاط وحلاوة اللبأن وأمواس الحلاقة وأباريق " قطع الجمار" والبطاريات ، وغيرها … ورواية طويلة تراجيدية اسمها الحياة …
    آفاق مشلهت على صوت الممرضة وهى تحضر الشاش وتبدأ في تنظيف الجرح … شعر مشلهت لاول مرة بألم فى موضع الجرح … فقد نسى في الأوقات السابقة وهو في قمة أنشغاله بألم الجرح … الألم يشعرنا أنه لا زالت هناك حياة تسرى في أوصالنا … طيلة الوقت كإنت الممرضة صامتة وهى تقوم بعملها ووجها يخلو من أي تعبير وفجأة سألته :
    • وبعدين حتعمل شنو مع موضوع المصل … المصل دا مهم جداً …
    وإنت هسع ليك يومين كان حقو تكون أخذت حقنتين ..
    شرح لها مشلهت مشكلته وأنه عاجز عن الحصول على المصل وهو تحت حراسة البوليس وفى المستشفى … يا لسخرية القدر … الأمل الوحيد في حصوله على المصل هو أن يخرج من المستشفى ليذهب للبحث عنه … بعيداً عن المستشفى ….الكهرباء يبحث الناس عنها بعيداً عن مرفق الكهرباء في المولدات المتناثرة وسط الأحياء وأماكن العمل …… الماء يبحث الناس عنه عند أصحاب الكارو وبعيداً عن النيل … الراحة الحقيقية يبحث الناس عنها في المقابر …وكذلك المصل الذي ذهب يبحث عنه عند بتاع العناقريب وها هو ينتهي به البحث هنا في المستشفى تحت الحراسة ……اخذ مشلهت يردد فى سره بيتاً من قصيدة للشاعر اليمني عبدالله البردوني:
    عجيب أمر ما يجري واعجب منه أن تدري …


    زوجة مشلهت وإبنه علاء واخوه شمس الدين وزوج ابنته والبائع المتجول كلهم حشروا أجسادهم داخل عربة تاكسي واتجهوا صوب مركز الشرطة.. شمس الدين لم يستوعب كل الذي حدث يتساءل ويوجه سؤاله للبائع المتجول …
    • إنت اصلوا لقيتو وين ؟
    • قت لك " قلت لك " لقيتو في المركز هناك …
    وناداني حتى اخد مني عراقي غير بيهو جلابيتو ..
    • وقال ليك إنو عضاهو كلب ؟
    • أيا … هو قال كدي … وأنا شايف رجلو فيها دم ..
    • نان البوديهو سوق ليبيا شنو ؟ دى حكاية تمخول … وكمان في مركز البوليس … ومشلهت اصلو ما بتاع مشاكل ولا مراكز بوليس ولا حاجة .. وتعلق زوجته :
    • يا أخوي دى حكاية اصلها ما عارفين ليها تفسير … دحين إنت يا شمس الدين ما بردتو وغسلتو ..
    • بالحيل …
    • شفت أي عضة في رجله ..
    • ابداً ما في عضة في رجله …
    ويتدخل علاء إبن مشلهت :
    • يا يمة الزول الدفناهو هو دا جايز يكون زول تاني ..يمكن الزول العاضي الكلب دا ما أبوي ..
    • وأبوك الكلب لقاهو وين ؟
    • ما يمكن في صلاة الصبح عضاهو الكلب …
    • ونان ما يجي راجع ؟ إنت يا زول قلت هو قال ليك شنو بالضبط كدا …
    ويكرر البائع المتجول ما أوصاه به مشلهت …
    • أولا بالتبادي هو وصف لي البيت وأنا جيت حسب الوصف وقال لي لو تهت أسال عبد الحميد سيد البقالة " مو اسمو كدي "
    • ايوا … تمام …
    • وقال لي تمشي تكلم مرتي تقول ليها مشلهت في مركز البوليس وعاضيهو كلب وخليها تكلم اخوي شمس الدين يجى يضمني ويجيبوا لي معاهم غيارات عشان أغير هدومي دى ..
    ويعلق زوج إبنة شمس الدين وهو الذي ظل طيلة هذا الوقت صامتاً …
    • يا أخوانا الكلام دا عديل … مافى زول تانى بقول كدا الا مشلهت …
    ويتساءل شمس الدين :
    • وطيب الزول الدفناهو دا منو ؟ أنا من بدري قلبي كان ماكلني إنو الزول داك ما مشلهت لكن إنتي يا صفية أول ما شفتي الزول داك ضربتي الثكلى…
    وتبرر صفية موقفها قائلة :
    • هي لكين نعمل شنو؟ … مشلهت ما أتعرف ليهو محل … الوش أنا صحي ما اتاكدت منو …. عاد كيفن دايريني كمان أتفرج في وش زول رأسه مكسر زي داك ..
    • ونحنا سقناكي معانا ليه ؟ مش عشان تتأكدي ؟
    ويتدخل سائق التاكسي إذ أن مثل ذلك الحوار لا يحدث كل يوم في عربته فيقول:
    • اصلو اليومين دى البطلع ما بجي راجع … وحوادث الحركة كثيرة … غايتو ربك يستر .
    واخذ يحكى عن عدد الذين نقلهم بعربته الى قسم الحوادث في مستشفيات العاصمة … مؤكداً أن فرصة الذي يخرج من بيته في رجوعه الى منزله ضعيفة وكان كل مرة يختم حديثه قائلاً :
    قول يا لطيف والأمل ضعيف …
    هذه مقولة غير مطمئنة بالمرة … هل صحيح أن الأمل ضعيف في الحصول على مشلهت على قيد الحياة ؟ إذن من هو ذلك الرجل الذي أوصى البائع المتجول بإحضار أهله ؟
    هل يمكن أن يكون شخصاً آخر غير مشلهت .
    وقف التاكسي أمام المركز …. فقام شمس الدين بحسابه واتجه الجميع نحو الباب يتقدمهم البائع المتجول وهو يقول :
    • خلاص وصلنا … تعالوا بجاي … زولكم قاعد في البرندة البهناك دى…
    وهرع الجميع … ووقفوا أمام البرندة …. والبائع المتجول يتجول بين مساطبها متسائلاً :
    • هوى يا ناس .. الراجل البقولوا لو مشلهت الهسع كان قاعد هني مشى وين ؟
    لم يجد جواباً شافيا .. إذا أن الوجوه التي تركها …لم يجدها.. هذه وجوه جديدة فرواد المخفر يتغيرون ويتبدلون كل ساعة … ويجئ البائع المتجول للمجموعة قائلاً :
    • الزول دا أنا هسع خليتو كان قاعد هنا …
    • مشى وين ما عارف … كدي خليكم واقفين هنا وأنا بمشي اسأل العساكر ديك .
    ويتقدم البائع المتجول من شرطي يجلس في مكتب وهو يكتب شيئاً :
    • يا أخوي … بدور اسعلك .. دحين كان في واحد اسمو مشلهت …أنا خليتو قاعد بجاي … مشى وين ويرفع الشرطي رأسه ثم يقول :
    • الناس كتار هنا …. زولك دا أنا ماشفتو …
    • كيف ما شفتو يا جنابو … دا حتى أنا خليت معاهو بقجتي بتاعة الهدوم…
    • قلت ليك ما شفتو … أمشي أتحرى عنه هناك في مكتب التحري ويخرج البائع المتجول والاف الاحتمالات تدور برأسه ….
    قبل مدة مشلهت … وبيت بكا وهسع مشلهت مافي … والجماعة الذين أتوا معه … هل يظنون أنه جاء بهم ليحتال عليهم ؟ وماذا عن بقجته هل غدر به ذلك الرجل ؟ …. لا … لا يمكن أن يغدر به لأنه أعطاه 30 الف جنيه … اكثر مما يستحق في ذلك المشوار … ولكن أين يكون طار ؟ هل ابتلعته الأرض ؟
    وشعر الرجل بحرج شديد فماذا يقول ؟
    • والله دى حكاية عجيبة … الزول كان هني وأدانى القروش دى وقال لي تمشى تجيب الجماعة … هسع نجي ما نلقاهو ولا في زول يكون عارف محلتو؟ .
    وداخل مكتب التحري وقف البائع المتجول موجهاً حديثه لرجل شرطة :
    • يا أخوي بالله ما بتعرف ليك زول اسمو مشلهت عاضيهو كلب … كان معاكم بجاي …
    ويرد عليه أحد رجال الشرطة مستفسراً ..
    • عاضيهو كلب البجيبو لينا هنا شنو ؟ ما تمشي تشوفو في الإسبتالية …
    • والله أنا ذاتي ما عارف بس هو قال لي خلي الهدوم حقتك دى معاي هنا وامشى كلم أهلي في بحري …
    • وإنت هسع ما لقيتو ولا لقيت هدومك ؟
    • أيا … ما لقيتو ولا لميت في هدومي …
    • خلاص أمشي افتح بلاغ …دا زول محتال غشاك وشال هدومك وفر …
    • الا يكون كدي ….
    وعاد البائع المتجول لآل مشلهت قائلاً :
    • والله يا أخوانا مانى عارف أقول ليكم شنو ؟ جنابو قال لي دا زول محتال غشاك وشال هدومك امشي افتح بلاغ …… والله الزول شكلو ود ناس أبدا ما عليه شكل الاحتيال وبعدين أداني 30 الف قال لي تمشي بيهم وادانى الوصف …
    • ويسأله شمس الدين :
    • وإنت هدومك بكم ؟
    • عندي خمسة عراريق و10 سراويل و6 ملايات كإنون…
    • يعني اكتر من التلاتين الف الأداك ليهم الزول القلت لاقيتو هنا ؟.
    • أيا …
    • كان كدي ليك حق تتهمو بأنو غشاك …
    وتفتح زوجة مشلهت عينيها واسعتين وهى تقول :
    • سجمي … يعني الزول طلع غشاش … يعني مش مشلهت ؟
    ويصمت الجميع وكل منهم يشيح بنظره بعيداً فتقول :
    • أنا ما قلت ليكم ياهو داك مشلهت الدفناهو وبكيناهو … ساكت قعدتوا تغالطوني وتشكوكنى …
    شمس الدين وزوجة مشلهت وابنه وزوج ابنة شمس الدين حشروا أنفسهم مرة اخرى فى عربة تاكسي عائدين الى الخرطوم بحري وهم لا يجدون تفسيراً لما حدث … يختفي مشلهت ويعثرون على شخص في المشرحة توفي في حادث مروري في طريق الخوجلاب ويعتقدون أنه مشلهت … فيدفنونه ويقيمون العزاء … ولكن يأتيهم هذا البائع المتجول وهو ينقل لهم وصية من مشلهت وعندما يذهبون الى مركز البوليس لا يجدونه … ما معنى هذا ؟ هل هناك من يريد أن يستغل حزنهم على مشلهت فيزيد من وقع المأساة عليهم بمثل هذه التصرفات ؟ يقول شمس الدين :
    • والله دا كلام ما مفهوم … يعنى الزول دا قصدو شنو ؟
    وتتساءل زوجة مشلهت :
    • الزول منو ؟
    • الزول الجانا قال مشلهت رسلو لينا …
    وترد زوجة مشلهت :
    • ودا قصدوا شنو ؟ … ما أظن عنده قصد دا زول هو ذاتو طلع ضحية … يمكن الزول القابلو دا زول محتال …
    • وطيب عرف من وين اسم مشلهت …ووصف البيت … وعبد الحميد صاحب البقالة ؟
    • غايتو دى حكاية تسغرب المخ …
    ويتواصل الحوار بتلك النبرة المتسائلة الى أن تقف عربة التاكسي أمام صيوان العزاء …. فيأتى الابن الأصغر لمشلهت :
    • ماما .. ماما … حيدر وصل ..
    وترفع الام يديها ثم تصرخ :
    • حى ووب … حى ووب … الليلة يا أبو حيدر … مخير الله عليك …
    وتندفع داخل المنزل وتشتبك مع إبنها في عناق طويل باك تعدد فيه مناقب والده … وحيدر يجهش بالبكاء … ثم يندفع نحو عمه شمس الدين يقول له وهو يغالب الدموع :
    • لا اله الا الله … شد حيلك يا أبني … استغفر … هكذا حال الدنيا … ما تعمل في روحك كدا … أنا لله وإنا اليه راجعون رويداً رويداً تخفت الأصوات …. ويستغفر الجميع ويمسحون دموعهم بثيابهم … ويرفعون أياديهم بالفاتحة ..
    الفاتحة ..
    وبصوت متهدج يسأل شمس الدين ابن أخيه :
    • وصلت متين يا حيدر ؟
    • قبل ربع ساعة
    • ووصلك الخبر متين ؟
    • امبارح بالليل … وكنت اصلو جاي وصادف أنا كنت حاجز في السفرية دى …
    • دا كله عشان ربنا قاسم ليك تصل طوالي … وما تتأخر …
    ويتساءل حيدر :
    • لكين يا عمي شمس الدين …. قالوا إنتو مشيتوا محلة كدا قالوا ليكم أبوي منتظركم ؟
    ويجيب شمس الدين وهو يلتقط الكلمات :
    • تقول شنو يا ولدي … جانا واحد هنا وقال أبوك موصيهو وإنو موجود في مركز البوليس في سوق ليبيا ومشينا هناك وما لقيناهو ولا لقينا حتى زول يدلنا عليهو … وكل واحد نسألو يقول ما عارف عنو حاجة … وفى الآخر ما لقينا أكيدة جينا راجعين .
    • وإنتو يا عمي شمس الدين ما اتاكدتوا إنو ابوى مات قبال ما تفرشوا ؟
    • أنا غايتو كنت شاكي … لكين أمك أكدت لينا إنو الزول الكان في المشرحة داك كان أبوك
    • وطيب حكاية الزول الجاكم وقال أبوي موصيهو ؟
    • ما ياها دى المشكلة هنا …
    • وأبوي ليه يرسل زول ؟ ما يضرب تلفون من اي محل بتاع اتصالات …
    • تلفونكم فى البيت مقطوع …
    ويصمت حيدر فترة من الزمن وهو يركز بصره على كوب شاي ملقى وقد سالت محتوياته على الأرض … وتجمع أفراد النمل يعملون بهمة ونشاط حول الكوب … هكذا خرج الناس يبحثون عن رزقهم في فجاج الأرض وخرج معهم حيدر وقد بقي عاماً كاملاً وهو يبحث عن عمل في بلاد الاغتراب واخيراً وجد عملاً وكان عليه أن يعود ليتم التعاقد معه في بلده …. وهاهو يعود ويجد والده قد توفي في ظروف غامضة …
    سمع الجيرأن بحضور حيدر فجاءوا مرة اخرى للتعزية وامتلأ الصيوان بجمهرة من المعزين وأنحصر حديثهم كله في الشخص الذي جاء يحمل خبراً من مشلهت والذي تبخر في هواء مركز البوليس فلم يعثر عليه أحد ……
    وتقدم جار مشلهت الذي أخذه للمستشفى صبيحة ذلك اليوم من شمس الدين وجلس بجانبه ثم قال :
    • الحكاية شنو يا شمس الدين ؟ قالوا جاكم واحد هنا وقال شنو مش عارف ……. غايتو كلام عجيب كدا …..
    • جا واحد يا سيدي قال لقى مشلهت في مركز البوليس في سوق ليبيا ورسلو عشان يكلمنا …. وبعدين مشينا معاهو ما لقينا مشلهت ولا لقينا زول بيعرفو ولا شافو ويتعجب الجار ويقول :
    • دى حكاية عجيبة جداً … أنا غايتو قلبي كان ماكلني …… الطريقة المات بيها مشلهت دى غريبة جداً ويوافقه شمس الدين ……
    • إنت براك قلبك ماكلك ؟ …. أنا ذاتي قلبي ماكلني وما كنت عايز صفية تتسرع وتتعرف على الزول بتاع المشرحة دا وتقول إنو مشلهت …
    ويقرب الجار وجهه من شمس الدين قائلاً :
    • إنت بردت الميت ؟
    • ايوا
    • طيب لاحظت في رجله جرح ؟
    • أبدا ما لاحظت أي جرح في رجله …
    • كلام شنو دا يا أخي أنا وديتو المستشفى … ودمو سايل بعد ما عضاهو الكلب … هسع كلامك دا بخلينا نشك إنو الزول الدفنتوه دا يكون مشلهت .
    • والله أنا ذاتي الأمور ملخبطة في رأسي … غايتو الحمد لله حيدر وصل ونقدر نرفع الفراش الليلة …


    (ستجد تكملة الرواية في نهاية هذه الصفحة - بعد الردود)




    ****

    (عدل بواسطة Rayah on 08-31-2007, 07:18 PM)
    (عدل بواسطة Rayah on 09-03-2007, 06:53 AM)

                  

08-29-2007, 05:11 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    يازول الف حمدا على السلامه ومليح ربك رفع الساجور والمشلهت بدورلو قعده لك وللجميع السلام.................




    منصور
                  

08-29-2007, 05:25 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: munswor almophtah)

    Quote: يازول الف حمدا على السلامه ومليح ربك رفع الساجور والمشلهت بدورلو قعده لك وللجميع السلام.................

    سا جورنا نحن الاتفكا!
    بالله شوف جنس المتعة والقرقراب ما فايت ريا وسكينة!
    تسلم يا عملاق
    جنى
                  

09-04-2007, 05:36 PM

عبدالله علي عجبنا

تاريخ التسجيل: 08-03-2006
مجموع المشاركات: 60

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: jini)

    التحية للدكتور العملاق ود الريح، دي سياحة شديدة خلاص يا دكتور، والله انا القاعد اقرأ تعبت مع متابعة مشلهت دا، لأنه شلهتناأنحنا ذاتنا، وبعدين يا دكتور من خلال القصة استعرضت كل مشاكل السودان وكل مشاكل الناس وحتى "قدر ظروفك" ما خليته وحتى الجماعة البجوا جنب البنات ويوفوتهم وبعد ما يتعدوهم يرجعوا تاني عشان يشوفوهم من الامام، لفينا في كل الاسبتاليات وشفنا الخدمات المتردية ونقاط الشرطة والصيدليات الخراب وجلادين العناقريب، وشفنا المرأة العجوز البتسف السعوط وحالتها حالة ورغم ذلك جايه تقوم بالواجب الاجتماعي.. عموما يا دكتور قصتك خلتني ابطل اشغالي واضيع فيها اكثر من 4 ساعات متواصلة ولسه سايح مع مشلهت "الله يجازي محنه".. دمت يا دكتور حساس .. ولسه انحنا ورا مشلهت الله يشلهتوا..
                  

08-29-2007, 08:07 PM

Dr. Ahmed Amin

تاريخ التسجيل: 02-20-2007
مجموع المشاركات: 7616

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    د. حساس يالكلك إحساس ..

    والله غيرت طعم المنبر وريحته .. فأصبح ريح عنبر وطعم أناناس ...

    أمتعتنا متعك الله بطويل العمر وموفور الصحة
                  

08-29-2007, 08:08 PM

Dr. Ahmed Amin

تاريخ التسجيل: 02-20-2007
مجموع المشاركات: 7616

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    د. حساس يالكلك إحساس ..

    والله غيرت طعم المنبر وريحته .. فأصبح ريح عنبر وطعم أناناس ...

    أمتعتنا متعك الله بطويل العمر وموفور الصحة
                  

08-30-2007, 06:24 AM

المسافر
<aالمسافر
تاريخ التسجيل: 06-10-2002
مجموع المشاركات: 5061

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Dr. Ahmed Amin)

    يا لطيف.. الأمر ضعيف..

    باكر يصبح الصباح يامشلهت

    وتلقى نفسك في المحطة والقطر صفر..



    هيه
    وديتنا محل ما نقدر نرجع منو .. يا عملات سواق التاكسي ..

    تسلم حياتك.. حياتك... حياتك..
                  

08-30-2007, 06:38 AM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: المسافر)

    اشكركم

    إن شاء الله نلتقي الأسبوع القادم لنكمل المشوار والقصة جارة.
                  

08-30-2007, 08:15 AM

maia

تاريخ التسجيل: 03-05-2002
مجموع المشاركات: 2613

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    شكرا دكتور عبدالله الريح لهذا الابداع

    منتظرين الجزء التاني
                  

08-30-2007, 03:00 PM

Rama


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: maia)

    تسلم يا دكتورنا ..

    رغم انو الواحد مرة علي القصة قبل كدة .. لكن برضو يلقي نفسو مشدود عليه تاني من جديد ..

    الف .. الف ... شكر
                  

08-30-2007, 05:29 PM

Siham Elmugammar
<aSiham Elmugammar
تاريخ التسجيل: 06-18-2004
مجموع المشاركات: 3488

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rama)

    لااااااااااااااااااااااااااااا... انا شخصيا ما بقدر استنى الاسبوع ده يا دكتور
    يا هسه ياهسه والا هسه تنزل الجزء التانى
    ده ياها الشلهته ذاتها!!!!!!!!!!!!
                  

08-30-2007, 09:16 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    Quote:
    لااااااااااااااااااااااااااااا... انا شخصيا ما بقدر استنى الاسبوع ده يا دكتور
    يا هسه ياهسه والا هسه تنزل الجزء التانى
    ده ياها الشلهته ذاتها!!!!!!!!!!!!

    وهو فى حجزء تانى!
    الجزء الاول دا براهو يكفى ان يكون هنالك نفاج يربط قبر مشلهت وبالتالى كل السودانيين بالجنة دايركت!
    وبعد د ا تسألهم يقولوا ليك مستورة وكان الله مد فى الايام!انا ابصم بالعشرة انو ايوب دا جد السودانيين براهم!
    جنى
                  

08-31-2007, 07:28 PM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: jini)

    الإخوة الكرام

    تحياتي

    ستجدون اليوم تكملة الجزء الذي نشر وإن كان السيرفر فيه بعض المشاكل.



    محمد عبدالله الريح (حساس محمد حساس)
                  

08-31-2007, 11:44 PM

jini
<ajini
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 30720

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    Quote: شرح لها مشلهت مشكلته وأنه عاجز عن الحصول على المصل وهو تحت حراسة البوليس وفى المستشفى … يا لسخرية القدر … الأمل الوحيد في حصوله على المصل هو أن يخرج من المستشفى ليذهب للبحث عنه … بعيداً عن المستشفى ….الكهرباء يبحث الناس عنها بعيداً عن مرفق الكهرباء في المولدات المتناثرة وسط الأحياء وأماكن العمل …… الماء يبحث الناس عنه عند أصحاب الكارو وبعيداً عن النيل … الراحة الحقيقية يبحث الناس عنها في المقابر …وكذلك المصل الذي ذهب يبحث عنه عند بتاع العناقريب وها هو ينتهي به البحث هنا في المستشفى تحت الحراسة ……اخذ مشلهت يردد فى سره بيتاً من قصيدة للشاعر اليمني عبدالله البردوني:
    عجيب أمر ما يجري واعجب منه أن تدري …


    كان ما أخاف الكضب أقول دى سويسرا!
    جنى
                  

09-01-2007, 02:56 AM

haider osman

تاريخ التسجيل: 07-27-2005
مجموع المشاركات: 2367

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    تسلم يا دكتورنا ..
    ما جنك ابو القدح شغلك بطئ اسرع لينا بالجزء التانى ....
                  

09-01-2007, 03:47 AM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: haider osman)

    الجزء الثاني تجده منشوراً اليوم تحت (تكملة مشلهت والضياع الكبير)


    تشكراتي
                  

09-01-2007, 07:52 AM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 10839

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    والله أنا ما عرفت أضحك ولا أبكي
    مرات كدا تسد العبرة تسد حلقي وبرضو ما عارفو دا ضحك ولا بكاء
    والمصيبة ما يبدو أنه كوميديا سوداء ما هو إلا صورة حية من الواقع
                  

09-01-2007, 04:18 PM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)


    بناءً على توجيه بعض الإخوة اضطررت لإضافة التكملة هنا أيضاً:


    ظل مشلهت في المستشفى وهو مشغول بأمر بقجة الملابس التي سيعود صاحبها ومعه أولاد مشلهت وعمهم ولكنهم لن يجدوه في نقطة البوليس فماذا يفعلون … اغلب الظن أنهم سيجدون من يخبرهم أن مشلهت قد نقل للمستشفى وعليه فإنه يثب جالساً على سريره عندما يسمع أصوات أقدام أو حركة أشخاص في الممر متوقعاً أن يكونوا أهله ومعهم البائع المتجول … القلق والحيرة التائهة في أقاليم الترقب فعلت فعلها في بسطته النفسية … شئ كالغضب وإنفعال يتسلل الى شرايينه فيجعلها تضيق بما رحبت فترتفع بضغطة الى معدلات خطيرة.

    عادت الممرضة ومعها ورقة دونت عليها درجة حراراته بعد أن نزعت ميزان الحرارة من فمه …
    • حرارتك مرتفعة شوية … مالك حاسي بحمى ؟ ..
    • ما عارف … لكين حاسي بنفسي حار … دا يكون من شنو ؟
    • أنا ما قلت ليك لازم تأخذ المصل …. إنت ما عندك زول يجيب ليك المصل ؟
    • والله أنا رسلت الزول سيد البقجة دى لأولادي في بحري عشان يوريهم أنا هنا … لكين لحدي هسع ما وصلوا ما عارف الأخرهم كدا شنو …
    • كدي اصبر شوية …لو ما جوا نشوف نعمل ليك شنو …
    وأنصرفت الممرضة وتركته جالساً على سريره … ضجة العنبر أصبحت مألوفة … والذين يأتون بحثاً عن مرضاهم عددهم كبير … فليس هناك من يدلهم … واقتربت منه إمرأة سلمت عليه وجلست على الأرض … ويبدو عليها أنها قد تعبت من صعود السلالم ونزولها والبحث بين الأقسام ……
    فقالت :
    • هوى يا ولد …. دحين عندنا ولداً بقولولو الماحى قالوا جابوا هني عشان الغسيل …يعلم الله لينا يومين نساسق بجاي وبجاي كل مرة يقولولنا في فجة ثأنية دحين ما عندكم ولداً بقولولو الماحى ؟
    خاطبته المرأة قائلة : هوى يا ولد … ولم تقل له يا ولدي.. والتي تحمل درجة عالية من الخصوصية أما يا ولد فهي على العموم …. فشعر بأنه اصغر من سنه …. إذ أن يا ولد تضعه في مصاف الأولاد الذين يمكن أن ترسلهم لأي مكان … ورداً على سؤالها عن الماحي قال :
    • مافى ولداً بالاسم دا مر علينا بجاي …لكين ممكن تسألي الممرضة .
    فتقول بشئ من الامتعاض :
    • بس... هي القشيرة خشمها وهى ستو … ابت تب تنضم معاي …. ما بعرف حكايتها معاي شنو ؟
    • الممرضة ياتا ؟
    • واحدتن لاقيتا هناك … هي يا زول خلها … أن شاء الله ما تنضم .. أنا ما كجنت الا الفلهمة …
    • ما يمكن ما سمعتك ؟
    • اجى ؟!! سمعتني وفات أضانها …
    • إنتي مش قلت جابوه للغسيل؟
    • ايا ..
    • طيب الغسيل ما هنا … إنتي تمشي قسم الكلى … هناك بقولوا ليكى ودوهو وين ..

    يقول مشلهت هذا للمرأة وهو لا يعلم إن كان هناك قسم للكلى ام لا … فكل تلك الأمراض تعتبر باطنية … ولكن كان عليه أن يعطيها إجابة يراها هو مناسبة وتشفي غليل تلك المرأة.. إلا أنها تقول له :
    • هوى يا جنا … ما عندك تمباك؟ باقى متقريفة …
    لم يكن مشلهت يتوقع مثل ذلك الطلب … المرأة يابسة كشجر المرخيات … ولا يبدو عليها أنها تناولت أية وجبة في الزمن القريب … وهاهي تطلب تمباكاً .. لقد نحتت الحياة القاسية أولئك النسوة … وجعلت متطلباتهن في الحياة بسيطة .. إن درجة الجفاف التي يحتملها جسد هذه المرأة تقتل أية امرأة من نساء المدينة .
    كان البوليس المكلف بحراسة مشلهت يستمع الى هذا الحوار … فقال مبتسماً :
    • إنتي يا عجوز كمان بتسفي؟
    • هي نان العلي هين ؟ نحنا في بلدنا هناك عندنا شنو غير السفة …. علا أنا ما جبت معاى حقتي ..
    ويسألها مشلهت :
    • اهلكم وين إنتو ؟
    • أهلنا في الشاهلاب … أنا حالتي جاية من ام كركر سمعت قالوا جنا ناس أبو حليمة البقولولو الماحي عيأن جابوه للغسيل .. عاد كما شفتو ما بمشي…
    • وجيتى بشنو ؟
    • جيت بلوارى الخط .. هسع ما تساعلني .. كان عندك سعوط أدني .. وكما عندك ودعتك الله …
    ويلتفت البوليس الى أحد الأشخاص ويبدو عليه أنه يعمل ميكانيكاً وذلك من لبسه المتسخ بالزيت .. ويتحصل على سفة في كيس نايلون يناوله للمرأة فتكور منه سفة معتبرة تضعها بكل حرافة في شفتها الشفلى وتشكر الجميع … وتتحرك خارجة من العنبر ….
    • عاد اللقوم أمش … الليلة عاد يا الماحي محل ودوك ما خبرناهو …

    على باب الله وعلى رزق الله وعلى كرمه يسير هؤلاء القوم … تلفح وجوهم الشمس وينساب عبر مساماتهم الفراغية السموم … لا أحد يأبه بهم أو يثيرون شيئاً من اهتمامات الجميع الا إنهم لا يفرطون في واجباتهم الاجتماعية … يكفي أن يكون الماحي قد نقل للمستشفى في مكان ما لا أحد يعرف أي مستشفى أو أي عنبر أو أي مدينة أو أي حي وفي هذه الرحلة ..رحلة البحث عن الماحي قد يلاقي البعض منيتهم … ولكن الذي يسأل لايتوه …وهل هناك توهان اكتر من هذا ؟
    يحدق مشلهت في هذا الفراغ الممتد خلف نافذة المستشفى ولا يعود من تحديقه ذلك الا بعد أن يلكزه البوليس المكلف بحراسته وكان قد أحس بأن هناك رابطاً قوياً يربطه بمشلهت بخلاف العمل الرسمي :
    • اسمع .. أنا ماشي مشوار قريب .. إنت بس خليك في محلك ما تمشي من هنا … ولو أي زول سأل قول ليهو مشي يتسير ..
    وبقي مشلهت علي سريره … ترقد تحته بقجة الملابس وهاهو حرسه وقد ذهب وتركه يحرس نفسه وإذا سأله اى شخص عليه أن يقول أن الحرس ذهب ليتسير .. وهو في تأملاته تلك جاءت الممرضة وسألته :
    • اها عملت شنو ؟ … لحدي هسع أهلك ماجوا ولا جابوا المصل ؟
    • والله أنا ما عارف حكاية الزول دا شنو … كان مفروض يكون كلمهم وكان مفروض يكونوا جوا .
    وتتساءل الممرضة :
    • وإنتو ما عندكم تلفون ؟
    • التلفون مقطوع
    • طيب ما بتعرف تلفون جيرانكم ولا أى واحد نتصل بيهو .
    • أنا قمت من البيت بجلابيتي … ما شايل معاى النوتة الفيها أرقام التلفونات .. وحتى القروش العندي دي أداني ليها واحد صاحبي لقيتو في المستشفى صدفة .
    وصمتت الممرضة برهة ثم قالت :
    • أنا ورديتي بتنتهي بعد شوية … وأنا اصلو ماشة لجماعة أهلنا في الدروشاب عندهم عرس … وممكن توصف لي بيتكم وأنا بمشي لأهلك في بحري وأكلمهم ..
    وتنفس مشلهت الصعداء … فهذا هو الحل المثالي لمشكلته … فاستعدل في جلسته ثم رسم لها خريطة واضحة لمنزله فأخذتها الممرضة وغابت في زحام ممر المستشفى…
    لعلها ساعة أو ساعتان ويأتي أهله وتنتهي مشكلته. ضجيج العنبر ورائحة المستشفى التي ظلت عالقة بأنفه منذ حضوره … تبخرت في الهواء …… لقد ظل ذلك المستشفى بنفس رائحته العتيقة تلك وهي خليط من رائحة الفنيك أو الديتول الذي تغسل به الأرض ورائحة دورات المياه الموجودة في نهاية الممر شي ظل معلقاً في الهواء منذ أنشاء ذلك المستشفى … ولكنه لا يشمه ونحن عادة لا نشم الروائح التي تلتصق بنا بل يشمها الآخرون.
    الطبيب في مروره علي المرضى توقف عند سرير مشلهت … وتفحص الأوراق ثم رفع رأسه عنها وقال :
    • إنت حرارتك مرتفعة والسكر ما نزل … وكمان ما أخدت المصل ونحنا لازم نحولك لمستشفى السكر … خليك جاهز الجماعة حيجوا ياخدوك لمستشفى السكر…
    وفتح مشلهت فمه من الدهشة الا أنه لم يقل شيئاً … يأخذونه لمستشفى السكر ومن هم هؤلاء الجماعة ؟ إسعاف المستشفى ام عربة البوليس؟ … وتلفت حوله مستنجداً برجل البوليس الا إنه لم يجده … فما زال الرجل " يتسير" … وكيف يبارح سريره وهو في حراسة البوليس ؟ أسئلة كثيرة تزحم رأسه لم يدر ماذا يفعل. وتوجه نحو غرفة التمريض … كان هناك ممرض وممرضة وطبيب يقرأ في دفتر … فالقي إليهم بالتحية ثم قال :
    • يا أخوأنا الدكتور هسع في المرور جا وقال يحولوني لمستشفى السكر … وأنا..
    فقاطعته الممرضة :
    • إنت العاضيك كلب ؟
    • ايوا …
    فأنفجر الممرض ضاحكاً :
    * يا شيخة حرام عليكى … شنو يعنى إنت العاضيك كلب؟ … حسني ألفاظك … معليش يا ابن العم اصلها غشيمة ..
    وتحتجج الممرضة :
    • غشيمة أنا ؟ ما صحي عاضيهو كلب … يعنى أنا جبت الكلام دا من وين؟.
    ويرد الممرض
    • ايوا عاضيهو كلب … لكين ما بقولوها كدا ..
    ويتدخل الطبيب الذي يقرأ في دفتر ويقول :
    • خلاص يا ابن العم .. إذا إنت عاضيك كلب … أنا راميني جمل …
    وأنفجر الجميع يضحكون إلا مشلهت والذي لم يجد رغبة في الضحك .. ولا رغبة في مجارة هؤلاء فى قافيتهم التي فتحوها ..
    وخشي إن استمر الحال على ذلك المنوال أن ينبري الطبيب ليحكى .. كيف رماه الجمل .. وهل هناك مصل للجمل ؟
    واكتسى وجه الممرضة شئ من الجد وهى تقول :
    • خلاص … شوية كدي وبجي الإسعاف وياخدوك لمستشفى السكر .

    ***

    كان هناك طرق على الباب .. فقد رفع الفراش وأزيل صيوان العزاء ولم تبق الا بعض الأباريق والكراسي المرصوصة في إنتظار عربة مؤسسة المناسبات … خرج علاء ابن مشلهت ووجد الممرضة تقف عند الباب …
    • دا بيت مشلهت
    • ايوا ..
    • وينا أمك
    • اتفضلى جوه
    ودخلت الممرضة وبحاستها النسائية ولا أقول أنثوية تبينت أن هناك مناسبة غير سعيدة قد مرت بتلك الأسرة … وخاصة عندما سلمت عليها زوجة مشلهت وكانها كإنت تتوقع الفاتحة منها …
    وبعد فترة قصيرة من الهمهمات والجمل القصيرة والتوتر الذي يسود في مثل هذه الظروف قالت الممرضة:
    • أنا الحقيقة جاية مرسلني ليكم مشلهت
    وتقفز زوجة مشلهت من سريرها وتقول :
    سجمى مشلهت ؟ تانى مشلهت دا بقى بعاتي ولا شنو ؟
    • بسم الله يا مرة مالك أنخلعتي كدي ؟ .. الحاصل شنو ؟
    وتجيب زوجة مشلهت :
    • مش بتقولي مشلهت رسلك ؟
    • ايوا .. ودي فيها شنو ؟
    • فيها شنو ؟ إنتي عارفة مشلهت مات ودفناهو وهسع البكا دا عشان شنو؟
    • والله أنا ما عارفة حاجة زي دي .. يا أخواني أنا أكون غلطت في العنوأن؟ ياهو الوصف ذاتو … طيب الحكاية شنو ؟
    • الحكاية يا أختي تقوليها لينا إنتي … كدي اشرحي لينا معناة كلامك دا شنو؟

    وبين الذهول وعدم التصديق تبدأ الممرضة قائلة
    اولاً : أنا ممرضة في الإسبتالية … وامس البوليس جاب لينا واحد أسمو مشلهت عاضيهو كلب وعنده السكر مرتفع … فحكى لي إنو كلم واحد بائع متجول إنو يجي يكلمكم ويقول ليكم مشلهت في نقطة البوليس …
    • أي صحي في واحد وحتى مشينا معاهو لنقطة البوليس لكن ما لقينا مشلهت …
    وتستمر الممرضة قائلة :
    • ايوا .. إذن الحكاية ظهرت … في الوقت الإنتو مشيتوا ليهو في النقطة هو جابوهو عندنا في الإسبتالية عشان كدا إنتو ما لقيتوه … وكمان معاهو بقجة هدوم قال بتاعة البائع المتجول وهو ما عارف يوديها وين … وهسع خليتو هناك في العنبر …
    وتتساءل زوجة مشلهت :
    • وطيب ما قال ليكي جريمتو شنو الجابوهو بيها دي؟
    • قال هو مشي يفتش المصل بتاع الكلب .. وبعدين كشوهم وهو ما عارف ذاتو الحاصل شنو .. وما قادر يتصل بيكم تلفونكم مقطوع ؟
    ويبدو على زوجة مشلهت الاقتناع :
    • دا كلام عديل … وياهو دا هو ذاتو مشلهت … وإنتي قلتي وين ؟
    • في عنبر الباطنية في الإسبتالية وأنا هسع لو ما ماشة الدروشاب كان مشيت معاكم … لكين تمشوا تلقوهو قاعد حتى قال لي خلي أخوي شمس الدين يجي عشان يضمني …
    وتتساءل الممرضة :
    • وإنتو القال ليكم مشلهت مات منو؟
    وترد زوجة مشلهت :
    • يا بت الحلال … لما مشلهت ما عرفنا ليهو درب … مشينا نفتش فى الاستباليات لحدي ما لقينا زول في المشرحة افتكرناهو دا مشلهت وشلناهو ودفناهو وبكينا عليهو .. لكين جانا الزول دا وهسع جيتينا إنتي غايتو ما عارفين الحكاية شنو …
    وتصر الممرضة :
    • لا يا أختي ابو عيالك نصيح ما عنده حاجة وأنا هسع جيت منو .. وتمشوا هسع تلقوهو زي ما قلت ليكم وأنا أعذروني لازم أمشي .
    • هي أقعدي أشربي الموية
    • لا والله ما بقدر … وإنتو حقو تسرعوا مشلهت حرارته مرتفعة وكمان لازم تجيبوا ليهو المصل .. الليلة ليهو أربعة أيام ..
    وتنقل صفية الأخبار لابنها حيدر ويقرر الجميع أن يسرعوا الى المستشفى وذلك بعد أن يرسلوا علاء مرة أخري لعمه شمس الدين بالأخبار الجديدة ويطلبوا منه أن يحصلهم على المستشفى …

    توقف التاكسي أمام المستشفى ونزلت زوجة مشلهت وإبنها حيدر وهرعوا مسرعين للداخل وهم يسألون عن عنابر الباطنية مروا على جميع العنابر والأسرة ولم يعثروا لمشلهت على اثر …
    وفى نفس الوقت كان رجل الشرطة المكلف بحراسة مشلهت قد عاد لتوه من رحلة "التسيير" وظل هو الآخر يبحث عن مشلهت ولم يجد من يدله على مكانه وتيقن أن مشلهت ذلك الرجل الوديع والذي وثق فيه وظن أنه لن يبارح مكانه .. قد فعلها وإنتهز فرصة عدم وجوده فهرب…وهذا يعنى خراب بيت رجل الشرطة … فما الذي دفعه لمغادرة مسجون هو في عهدته … ولذلك كان عليه أن يدون عند مركز الشرطة أن الشخص الذي يسمى مشلهت والمقبوض على ذمة التحري قد هرب من المستشفى … ويجب أن ترسل معلومات بأوصافه لجميع نقاط البوليس حتى يتمكنوا من إلقاء القبض عليه وأعادته للحراسة … أما زوجة مشلهت وابنه حيدر فقد وقفا حائرين لا يدريأن ولا يجدان تفسيراً لما حدث .
    كإنت المعضلة بالنسبة لمشلهت وهو في طريقه الى مستشفى السكر تكمن في عدة مسائل لا يجد لها حلاً . أولها أن أهله سيأتون للمرة الثأنية ولا يجدونه في المستشفى … وثانيها إنه بالإضافة الى بقجة الرجل البائع المتجول التي ظلت ملازمة له في حله وترحاله فأن رجل البوليس المكلف بحراسته أضاف لها بعداً جديداً . فبعد أن استأذن مشلهت بأنه ذاهب في مشوار قصير وسيعود وإذا سأله أي شخص يقول أن البوليس ذهب (يتسير) فأن البوليس ترك مسدسه وديعة عند مشلهت الذي وضعه داخل بقجة الملابس . ثم ماذا يفعل مع المصل وهذا هو اليوم الرابع وهو لم يحصل عليه . كم من الزمن تبقى حتى تظهر عليه علامات مرض السعر ؟
    كان مشلهت مستغرقاً في لجة المشاكل التي أفقدته القدرة على التفكير …. ودخان كثيف يعشعش في ذاكرته يجعل الأيام الأربعة الماضية كابوساً خأنقاً .
    وقفت العربة أمام مستشفى السكر … ونزل الممرض وهو يحمل أوراق مشلهت ثم خاطبه قائلاً :
    • بتقدر تمشى ولا نجيب ليك نقالة ..
    • وبنصف ابتسامة كان عقله يقول :
    • هي حصلت ؟
    • لا … شكراً .. بمشي ..
    هل وصلت به الحالة الى هذا الحد الذي جعل الممرض يسأله ذلك السؤال ام أن الممرض يتفوه بشي روتيني يقوله لكل مريض بالسكر ؟ من ناحية المشي هو يستطيع أن يمشي … ولم يدر بخلده أنه سيأتي اليوم الذي يتخلى فيه عن المشي … ولكن عندما تهبط عليك الظروف وتكبلك فتجعلك تلتصق بغراء المسافات… يمشى الزمن وإنت واقف في مكانك …… عندها تصبح في نظر الجميع في خانة الأمس … كم عدد الذين اصبحوا أمساً ؟…… لا حاضر و لا مستقبل لهم ؟ … اغلب الظن أنهم كثر … طافت هذه الخواطر بذهنه وهو يجلس محتضناً بقجة الملابس وبداخلها مسدس البوليس المكلف بحراسته ……بعض الأشخاص يشاركونه المصطبة الأسمنتية في ردهة ذلك المستشفى … وعندما جاء دوره حمل أغراضه ودخل حجرة الكشف … كانت توجد بداخلها طبيبة منطفئة النظرات… ربما بسبب روتينية العمل الذي أنحصر في نوع واحد من المرض … وأنحصرت بذلك اهتماماتها في درجة السكر فى البول في الدم الأسيتون الجروح … الخ مشلهت يقف أمامها يضاف الى إحصائية اليوم فالأسبوع فالشهر فالسنة … وفى النهاية يتحول الى رقم بارد … فلماذا تتعب نفسها بذلك الرقم؟ ولذلك جاءت أسئلتها : اسمك ، عمرك ، من متين فحصت واتضح عندك سكرى ؟ بتاكل شنو ؟ قاعد تتريض ؟ وزنك ؟ ... ما عارفو … ما عارفو ؟ … خد الورقة خلى يوزنوك ويعملوا ليك كشف النظر وكشف الدم .. يخرج من عندها حاملاً علامات الاستفهام التي يتوجب على معمل الفحص الإجابة عليها …
    عندما وصل مشلهت أخيرا الى سريره المقرر له القى بالتحية على الذين كان عليه أن يشاركهم الغرفة ، الغرفة نظيفة كما إن الزحمة داخل العنابر ليست مثل الزحمة في المستشفى العمومي … فوضع بقجته تحت السرير واغفى في نوم عميق …
    صفيه زوجة مشلهت واخوه شمس الدين وحيدر ابنه كانوا في حيرة عظيمة …ما معنى كل الذي يحدث … هل مشلهت حي بلحمه ودمه ويلعب معهم لعبة القط والفأر ام هذا شخص آخر يلعب بأعصابهم أما مشلهت فأنه قد مات وشبع موتاً وأنهم دفنوه في مقابر حلة حمد . قالت صفية :
    حسبنا الله ونعم الوكيل … يا أخواني هسع دا بسموه شنو؟ بقولوا عليهو شنو ؟
    ويقف حيدر صامتاً بينما يغمغم شمس الدين وهو ينظر بعيداً وكانه لا يوجه الكلام لأحد .
    • هي … ما نلقي زول ساكت نسأله … الناس دي كلها معقول ما فيها زول عارف حاجة عن مشلهت ؟
    والأمر الذي قاد الجميع الى هذا الموقف هو أنهم كانوا عندما يأتون تكون الوردية الموجودة والتي تملك معلومات عن مشلهت قد إنتهى وقتها وحلت محلها وردية جديدة وكل الناس يجيبون على الأسئلة من رؤوسهم لا أحد يفتح دفتراً أو كراساً ليرى أن كان فيه اسم لذلك الشخص .. صحيح أن الممرضة الجديدة التي سألها شمس الدين عن مشلهت لم تسمع بذلك الاسم … الا أنها لا تفتح لترى ما الذي كتبه الطبيب أمام اسمه …… والحكاية ببساطة سؤال وجواب …
    • عندكم واحد هنا أسمو مشلهت ؟
    • لا …… ما عندنا ……
    • طيب الممرضة جاتنا في البيت وقالت مشلهت كان هنا وحتى هو وصاها ووصف ليها بيتنا وجاتنا بنفسها.
    • الممرضة ياتا ؟ اسمها شنو ؟
    وتلفت الجميع كل واحد منهم يبحث عن الإجابة عند الآخر …
    • إنتي يا صفية ما سألتيها قلت ليها اسمك شنو ؟
    • ما سألتها …
    • ولا في أي زول في البيت عارف اسمها شنو ؟
    • مافى … هي بس جات وأدتنا الخبر ونحنا في الخلعة حتى ما اتنبهنا نسألها عن اسمها …
    والممرضة طيلة هذا الوقت وهى تراقب هذا الحوار بين أفراد المجموعة التي جاءت تبحث عن هذا المشلهت … فتشعر بشيء من الارتياح … لأن إجابتها في محلها … والكرة في ملعبهم … فعليهم أن يعرفوا اسم الممرضة التي جاءتهم برجليها تسعى وهى تحمل لهم نبأ مشلهت … والا فأن الممرضة لا تستطيع مساعدتهم … وجاء السؤال القنبلة من حيدر :
    • هسع نعمل شنو ؟
    وسؤال يحتاج الى معلومات غائبة حتى يستطيع أحد أن يجيب عليه … فمن وسط ذلك الضباب وتلك الغشاوة كيف يتسنى لاحد أن يحدد ماذا يفعل الجميع ؟ واستقر رأيهم أن يعودوا الى منزلهم … ليجاوبوا على أسئلة من تركوهم في الدار ويعتمل في صدورهم سؤال كبير تتفرع منه عدة أسئلة …
    • وينو مشلهت ما جبتوه معاكم ؟ الحصل شنو ؟
    يعنى طلعت الحكاية كضبة ؟ وديل قصدهم شنو ؟
    والممرضة قصدها شنو ؟ ومعقول تكونوا ما لقيتوه ؟ طيب قالوا مشي ين ؟

    ***
    وبالنسبة لرجل الشرطة فإن إختفاء مشلهت له تفسير واحد وهو أنه هرب.
    لقد تسلل مشلهت خارجاً من المستشفى وهو يحمل معه سلاح حكومي …. كيف يمكن لرجل في وداعه مشلهت أن يرتكب جرماً كهذا … هروب وسرقة سلاح حكومي ؟ وبالطبع لم يغب عن بال رجل الشرطة أن الشاويش المناوب سيأخذ أقواله ويرفعها للرائد الذي سيحبسه بتهمة الإهمال في حراسة متهم وفقدان سلاح حكومي …. التهمة الأولى قد تعنى أنه قد تواطأ مع المتهم فمهد له الهروب .. ولكن ماذا عن التهمة الثأنية في نظر الجهات المسؤولة ؟ فأن الجريمتين يفتحان الباب لإحتمالات كثيرة … أخفها الإهمال وأقصاها … التآمر لقلب نظام الحكم …فربما كان مشلهت ورجل الشرطي يعملان مع خلية تعمل لقلب نظام الحكم ؟ كلها أمور غير مستبعدة … واخذ رجل الشرطة يقلب الأمر في رأسه … ويصل تارة الى أن مدة حبسه قد تطول …. وأهون منها الا يبلغ عن فقد ذلك السلاح وأن يختفي هو الآخر حتى يصل بطريقته الخاصة لمشلهت ويلقى عليه القبض ويقتاده الى النقطة ثم يشرح قضيته التي ربما تجد تعاطفاً من المحكمة .. ويكتفى بطرده من الخدمة دون حبسه … أو ربما الأصوب أن يبلغ عما حدث له ويحث زملاءه على البحث عن مشلهت ذلك اللص الخطير الذي فر بسلاح حكومي .
    وقبل أن يصل الى مركز البوليس … أوقف الحافلة ونزل منها وما هي الا دقائق وكان هو في حافلة أخرى في الاتجاه المعاكس في طريق يأخذه الى السوق العربي في الخرطوم … حيث امتطى صهوة حافلة الى حى جبرة …
    واستغربت زوجته حضوره مبكراً فقالت :
    • الليلة شنو فكوكم بدري ؟
    ويجيبها بتنهيدة عميقة :
    • الليلة فكونا … ولا فكونا …
    وتستفهم زوجته :
    • كيف الكلام دا … ؟
    ويجيبها :
    • الكلام بقى كلام مشلهت … مشلهت هو عنده الكلام كلو … مش هو عنده المسدس خلاص تانى شنو ؟ زول عندو المشلهت … اقصد المسدس … خلاص تانى شنو ؟ بس ناقص أنا يقبضونى يودونى الحراسة ما ياهو دى الكلام ……
    ولا تفهم زوجته شيئاً مما يخطرف به زوجها :
    • يا زول .. قول بسم الله … إنت مالك ؟ … تعالى يا بنية شوفي أبوك دا .. كن عندو ملاريا … أمشي جيبي بندول … وبضيق يرد الشرطي :
    • إنتي مجنونة يا مرة … ملاريا بتاع شنو ؟ أنا نقول ليكى الكلام هو حقيقة كلام مشلهت … تقولي لي ملاريا وبندول ..
    وتنتفض زوجته وترفع يديها :
    • والله … الليلة إنت ما نصيح … ومشلهت دا شنو كمان ؟ ..الليلة جيتنا بيهو من وين ؟
    • من الإسبتالية
    • استبالية ياتو؟ …
    • الإسبتالية الفوقو العيانين دا .. الإسبتالية بتاع الحكومة … الودو ليهو المساجين … دا كلو إنتي ما عارفو .. سمح تعالي نوريك … ويشرح لها المشكلة من أولها لآخرها فترفع يديها :
    • الله واحد ليك يا مشلهت .. الله اكبر عليك … كن تضر أبو عيالي … ولا تبشتنو متل دا…
    وأبو عيالها ينظر للعيال بحسرة شديدة فقد عمل مدة طويلة وسجله نظيف .. وكان دائماً يجد التقدير من رؤسائه … وهذه أول مرة يفقد فيها أو يفرط في عهدة من عهد الحكومة … ولكنه وضع ثقة كبيرة في مشلهت وكان يعتقد أن مشلهت شخص ضائع كألآف الضائعين الذين حكمت عليهم الأقدار أن يكونوا في المكان الخطأ في التوقيت الخطأ …..ولذلك ترك مسدسه معه ولم يدر بخلده أنه سيغدر به ويضعه في هذا الموقف الحرج …
    أرسل الشرطي ابنه ليحضر له أخ زوجته زكريا من زريبة الفحم .. وزكريا يقيم في راكوبة بالقرب من زريبة الفحم يبيع فيها بقايا المواسير القديمة والأقفال والمفاتيح الصدئة والمسامير وأشياء لو وجدها أي أنسان في طريقه لما التقطها … ولكن زكريا له عين فاحصة يجمع هذه الأشياء عنده فتصبح ذات قيمة ثم أنها ( لا تعفن) كما اعتاد أن يقول .
    جاء زكريا وهو يحمل معه ابن الشرطي على عجلته التي أوقفها بالقرب من "مزيرة" داخل المنزل … وبعد السلام والسؤال عن الأحوال … شرح الشرطي لزكريا ما حدث له وهو يقول :
    • شوف يا زكريا … ناس الدنيا بقوا كيف ؟ …. ديل عيال أختك أمانة في رقبتك … وأنا ماشي اسلم نفسي للمركز … وبعدين البسوي الله يسوي ؟
    ولكن زكريا له رأى آخر …
    • أولا كلام تسلم نفسك دا … شيلو بره من رأسك … يعنى لو سلمت نفسك يسووك في سيم وجيم …
    • طيب كيف العمل ؟
    • ايوا … يا موسى أخوي .. العمل أنا نقول ليك تعمل شنو … باكر من الصباح تركب البص من السوق الشعبي هنا وتمشي طوالي لسنار … ابو راكوبة ما بتعرفو؟ .
    • ايوا … بعرفو …
    • اها … ابو راكوبة دا يحلك ..
    • يحلني كيف ؟
    • أولا … الزول دا بكتف ليك مشلهت حقك دا … إنت بتعرف مشلهت امو أسمو شنو .
    • لا.. نعرف من وين ؟
    • ما خلاص … كل الناس أمهم حوا … هو راجل قاطع .. يقوم يكتف مشلهت عشان ما يمشي برة الخرطوم … وما يتصرف في المسدس لحدي ما إنت تقبضو وامسك قوى في أبو راكوبة … دا زول قاطع … ناس كتار مشوا ليهو جو مبسوطين … وكمان دفتر بتاع الحكومة دا … اسمك ما ينزل فيهو بتاتاً …

    ***
    الممرضة التومة التي جاءت لأهل مشلهت ونقلت لهم وصيته نزلت الشغل هذا الصباح … مرت على العنبر الذي كان يشغله مشلهت فلاحظت أن شخصاً آخر يجلس عليه خمنت أن يكون أهل مشلهت جاءوا ووجدوه وعملوا إجراءاتهم واخذوه عندهم لم تهتم بسؤال أحد .. بل نادت على أم الحسين الفراشة :
    • يا ام الحسين يومداك أنا مش رسلتك للطيب في عنبر القاينا قلت ليكي كلميهو يجبيب لي قروش الختة عشان سيدها راجيها …
    • ايا … بلحيل كلمتو … علا قال لي قولي للتومة باكر بجيبهم ..
    وتصيح التومة باستنكار :
    • باكر شنو ؟ الليلة ليهم خمسة يوم … من يوم الراجل العاضيهو الكلب كان هنا … إنتي متذكرة ؟
    • ايا متذكرة ..
    • خلاص … أمشي ليهو تاني كلميهو .. الطيب دا عايز يأكل قروش الناس ولا شنو ؟
    وتهم أم الحسين بالذهاب لعنبر القاينا لكنها تتوقف قليلاً ثم تقول :
    • اقيفي يا التومة اللسعلك … دحين الراجل العاضيهو الكلب بالصح نقولوه مستشفى السكر ؟
    وتفتح التومة الممرضة فمها من الدهشة :
    • بتقولي مستشفى السكر ؟
    • ايا …
    • نقلوه متين ؟
    • والله سمعت كلاماً كدي … ظنيتو أمس … ولا أقول ليك أول أمس …
    • لا … لا … أول أمس كان موجود … وامس دى كان موجود لحدي ما أنا مشيت من هنا … يعنى يكونوا نقلوه قبال اهلو ما يجوا ولا اهلو جو .
    • ما متوكدة …
    • طيب إنتي أمشي دلوقت للطيب … وأنا بشوف الحكاية دي .
    وتنصرف ام الحسين الفراشة … وتدخل الممرضة غرفة الاستقبال وتقول لأحد الممرضين :
    • خليل … إنت مشلهت ودوهو وين ؟
    • مشلهت منو ؟
    • المريض الكان في عنبر 6 … دا
    • دا مش مات؟
    • مات شنو يا أخي … دا جابوه هنا بالسكر وكان عاضيهو كلب ..
    • ها .. بتاع الكلب … ايوا دا دكتور حامد قال يودوهو مستشفى السكر … وافتكر أمس بعد ورديتكم ودوهو هناك …
    • عندك فكرة أهلو جو هنا ولا لا ؟
    • ما عندي فكرة …
    وتلتقط ممرضة أخري كإنت تحمل في يديها محاليل ورديات جزءاً من هذه المحادثة فتتدخل قائلة :
    • الزول دا جابو ليهو الإسعاف ودوهو …
    • طيب ما كان معاهو أهلو ومرتو كدا ؟
    • ما شفت مرة ولا حاجة …
    • وتصمت التومة برهة ثم تقول :
    • تبقى مصيبة لو اهلو جو هنا وما لقوهو .. هسع يقولوا شنو ؟ يقولوا أنا كضبت عليهم … لازم أمشي اكلمهم دى مصيبة شنو دى .

    ***

    في مستشفى السكر كان أحد رجال الأمن يقف في مواجهة الباب الذي يظهر من ورائه سرير مشلهت … وحانت منه التفاتة الى البقجة التي وضعها مشلهت أسفل السرير وبحاسته الأمنية لاحظ في داخلها جسماً صلباً له معالم سلاح من نوع ما … فأيقظ مشلهت قائلاً :
    • يا أخينا ..
    • ايوا …
    • البقجة دى بتاعتك؟
    • ايوا …
    • طيب لو أمكن عايزين نفتشها … واخرج رجل الأمن بطاقة لمشلهت … لمح فيها صورة الرجل الا أنه لم يقرأ اسمه ولا يعرف رتبته ؟
    • وجذب رجل الأمن البقجة واعمل يده في داخلها فاخرج المسدس …
    • المسدس دا بتاعك؟
    • لا ..
    • طيب جبتو من وين؟
    • دا بتاع واحد بوليس مسكني ليهو وأنا جابوني هنا وما عرفت أوديهو وين…
    • بوليس اسمو شنو ؟
    • والله ما عارف اسمو …
    • يعنى دا مسدس بتاع حكومة .
    • ايوا …
    • وقلت ما بتعرف اسم البوليس الأداك ليهو .
    • ما بعرف اسمو هو اصلو كان مفروض يحرسني …
    • يعنى إنت كمان هارب ؟
    • يا أخي هارب بتاع شنو ؟ خليني أحكي ليك الحكاية .
    • ماهو … قبل ما تحكى الحكاية إنت جاوب على الأسئلة بتاعتى … السلاح دا بتاع حكومة … وإنت ما عارف اسم الأداك ليهو منو … وهسع بتقول أنك كنت في الحراسة …
    اقتيد مشلهت حسب أقواله التي أدلي بها لرجل الأمن الى مركز البوليس بجهة سوق ليبيا حيث تم إيقافه أول مرة . كان مشلهت ساهماً وهو يمسك ببقجة الملابس ويستعيد ما حدث له وكانه كابوس مريع طويل تتابعت حلقاته وتمدد في داخله كالقطران …
    فأيقن أنه لن يفيق من ذلك الكابوس … والأحداث تجرى هكذا لا شئ ينبئ أن فقاعة الوقت تخفى في جوفها المعجزات التي ستخرجه من ورطاته المتلاحقة … عربة الشرطة التي كإنت تنقله من مستشفى السكر تسير فى شوارع مكتظة بالحافلات والركائب الميكانيكية من شتى الانواع في سلحفائية بطيئة … لم يجد رجل الأمن الجالس (قصاده) شيئاً يتسلي به الا أن يتأمل هيئة مشلهت وهو يحتضن الملابس التي وجد بداخلها المسدس … وتذكر أنه في بحثه عن ذلك المسدس وسط كومة الملابس قد مسح بنظره ملايات وعراريق وسراويل .. فقال مخاطباً مشلهت :
    • إنت بايع متجول ؟
    • لا ..
    • طيب الهدوم دى شنو الشايلها والملايات ؟
    • دى بتاعة واحد خلاها معاي .
    • واحد اسمو شنو ؟
    • ما بعرف اسمو …
    • وتملأ الدهشة وجه رجل الأمن :
    • المسدس أداك ليهو واحد ما بتعرف اسمو والهدوم دى هسع بتقول أداك ليها واحد ما بتعرف اسمو .. إنت حكايتك شنو ؟
    • ويجيب مشلهت بضيق ظاهر ؟
    • حكايتي عاضينى كلب …
    ويشعر رجل الأمن بأن مشلهت يسخر منه فيظهر عليه الغضب ويقول :
    • يعنى كمأن بتتريق … مش احسن ليك تخلى اللماضة البتعمل فيها دى … إنت قايل نفسك مودينك في فسحة …
    ويستعدل مشلهت في جلسته ثم يقول :
    • لماضة بتاعة شنو ؟ … بقول ليك عاضيني كلب .. تقول لي لماضة ؟
    • ايوا لماضة … لو ما لماضة … ما كان رديت كدا …
    • طيب أنا حكايتي عاضينى كلب … خد شوف .
    ويبرز مشلهت رجله وقد ظهرت عليها الأربطة
    طيب وين اللماضة هنا ؟
    ويتراجع رجل الأمن قليلاً … ثم يقول :
    • والكلب لقاك وين عشان يعضيك
    ويتضايق مشلهت اكثر :
    • ليه كلكم بتسألونى الكلب لقاني وين ؟ يا أخي هو لقاني ولا أنا لقيتو ؟ … يعنى أنا اصلو شغلتى أمشي أفتش للكلاب لحدي ما القى كلب يعضينى ولا شنو ؟
    ويتساءل رجل الأمن :
    • وإنت مالك يا أخي خلقك ضايق … أنا بسألك سؤال بسيط تقوم تتضايق بالشكل دا ؟
    فيرد مشلهت :
    • ما إنتو اصلو حياتكم كلها بتسألوا والناس بتجاوب يعنى من الأسئلة دى كلها ما لقيت الا تسألني بالشكل دا ..
    يؤكد رجل الأمن :
    • شوف إنت قصتك كبيرة … وهسع حكاية الهدوم الشايلها دى ذاتها ماهينة .. على العموم لما نصل المركز.
    نفس المركز الذي نقل اليه أول مرة منذ أن داهمتهم قوة البوليس في منزل أبكرأبكر بتاع العناقريب … وتلفت حوله عله يجد ذلك الشرطي الذي تعرف عليه في المركز والذي قام بإجراءات نقله للمستشفى …لكنه أيضا لا يعرف اسمه … ولم يجرؤ على السؤال عنه لأنهم سيسألونه عن اسمه وهو لا يريد أن يضيف للأسماء المجهولة لديه اسماً جديداً ..
    ادخله رجل الأمن على المتحري وهو يقول :
    دا جنابك قبضنا عندو المسدس دا والمسدس حكومي وهو ما قدر يورينا جابو من وين ؟
    ويتساءل :
    • كيف يعنى ما قدر يوريكم جابو من وين ما لازم يوريكم …
    إنت يا زول تعال هنا …
    ويتقدم مشلهت وهو يحمل بقجة الملابس:
    • اسمك ؟
    • مشلهت
    • ساكن وين ؟
    • في بحري …
    • قبل ما ندخل معاك في إجراءات كدي وريني المسدس دا جبتو من وين؟
    • أنا اصلو ما جبتو … أنا اصلو ..
    ويقاطعه المتحرى :
    • ما جبتو يعنى شنو؟ .. وقع عليك من السما ؟
    • يا جنابو … إنت بس أسمعني... أنا حاحكى ليك الحكاية …
    • طيب أتفضل أحكي ..
    • أنا كان جابوني عندكم هنا .. مع ناس أبكر بتاع العناقريب وبعدين عشان كان عاضينى كلب اخدت اورنيك ومشى معاى بوليس للأسبتالية .. وهناك حجزوني عشان لقوا السكر عندي مرتفع .. والبوليس الكان حارسني خلى عندي المسدس دا … وقال ماشى يتسير … بعدين هو ما جاء طوالي .. قاموا ناس الإسبتالية قالوا لي لازم ينقلوك مستشفى السكر … وأنا قلت ليهم في حرس معاى هنا قالوا دى غلطة الحرس … كان مفروض يكون معاك وإنت حالتك متأخرة ولازم ننقلك لمستشفى السكر … وجا الإسعاف واخدونى هناك وبعدين رجل الأمن دا شاف المسدس مع بقجة الهدوم دى …قام قبض على … واهي دي الحكاية كلها ..
    ويسأل المتحرى :
    • إنت قلت العسكري دا مشى معاك من هنا ؟
    • ايوا …
    • هسع وين ؟
    • ما عارفو ..
    • وأسمو شنو ؟
    • والله ما عارف اسمو …
    • طيب ودوك المستشفى يوم كم …
    • قبل خمسة أيام … لا أسف …. قبل ستة أيام يوم الأحد الماضي .
    ويصمت المتحرى برهة ثم ينادي على أحد الرقباء :
    • اسمع … امشي شوف دفتر الأحوال… وشوف العسكري المشى مع الزول دا منو … وهسع وين … وخليك إنت هنا لحدي ما الراجل دا يجي…
    ويعود الرقيب حاملاً معه دفتر الأحوال..
    • هو اسمو شنو ؟
    • اسمو مشلهت محمد مشلهت …
    • اهو دا .. مشلهت اورنيك طبي .. معاه موسى الحاكم .
    • طيب امشي شوف وين موسى الحاكم …
    ويذهب الرقيب … ليعود قائلاً :
    • موسى يا جنابو مبلغين عنه غياب … ليهو يومين …
    • وموسى دا .. مش الجابوه أخيرا سد طلب ؟
    • ايوا …
    • طيب المسدس دا … ما عندنا عهدة هنا … موسى كان تابع لشرطة غرب الحارات … وموسى واوراقه ذاتها نحنا بنحولها لوحدته … إنتو تاخدوا الزول دا تودوهو مركز غرب الحارات يمسكوا المسدس بتاعهم ويتحروا معاهو وبعدين تجيبوه لينا هنا عشان البلاغ بتاع ناس أبكر …
    ويرد رجل الأمن :
    • بعد ما نوديهو مركز غرب الحارات ويتحروا معاهو لازم نرجعوا لمستشفى السكر ولازم تكون معاهو حراسة … طيب الحراسة تكون من عندكم ولا من عند مركز غرب الحارات .
    • لا …الحراسة تكون من عندهم لأن المسدس مفقود من عندهم ونحنا لو عايزنوا في قضية أبكر بتاع العناقريب بنجيبوا منهم ولا من الإسبتالية ؟
    ويتوقف رجل الأمن قليلاً ثم يقول :
    • وهو كمان معاهو البقجة دى وفيها ملابس وملايات وأنا لما سألتو عنها قال مسكها ليهو واحد هو ما بعرف اسمو ..
    ويوجه له المتحرى :
    • وايه حكاية البقجة دى …
    • اصلو أنا في الحراسة هنا … كنت عايز اتصل بأولادي وما لقيت زول أرسلوا الا صاحب البقجة دى … قمت اديتو قروش ووصفت ليهو البيت وهو خلى بقجته معاي هنا ومشى .. وبعدين قبل ما يجي أنا اخدوني للاستبالية فأخذت معاى البقجة .. يعنى أخليها مع منو ..
    • وصاحب البقجة دي اسمو شنو ؟
    • والله يا جنابك ما عارف اسمو … بس زول لقيتو ورسلتو ..
    ويتذكر المتحرى :
    • ايوا … في بلاغ فاتحو واحد بايع متجول قال خلى بقجته مع زول والزول احتال عليهو وشال البقجة وفات … إنت وقعتك وقعة … الزول يخلى عندك بقجته تقوم تشيلها وتمشى ..
    • يا جنابو … أنا شرحت ليك … أنا شلتها أخدونى للاستبالية وما كان في زول عشان أخليها معاهو …
    • على العموم نحنا حنأخذ أقوالك في البلاغ دا … والبقجة دى حنمسكها هنا عندنا بعد ما نجرد محتوياتها ويجى صاحب البقجة يشوف حكاية البلاغ بتاعو دا ..
    لا شئ أراح مشلهت اكثر من ذلك القرار … فلأول مرة منذ أن دخل في هذه الورطة يتنفس الصعداء فقد ظلت تلك البقجة جاثمة على صدره وعلى إنتباهه وعلى حواسه … يأخذها معه في حله وترحاله … تزيد من مأساته وتعمق ما تأتي به الأقدار .. فلولا وجودها لما دخل في ورطة المسدس لأنه كان سيسلم المسدس لإدارة المستشفى ولكن وجود البقجة جعله يضع المسدس في داخلها … وظهر كانه يخفيه بين طيات ملابسها وكلها بينات ظرفية ساعدت على توجيه تهمة سرقة وحيازة سلاح حكومي … لا يعرف هو كيف تكون عقوبتها…
    ويشعر بجوع شديد … جعله يقترح على رجل الأمن .
    • يا أخي شوف لينا حتة نأكل لينا حاجة … أنا راجل عندي سكرى وبخاف من الصدمة .
    ويرد رجل الأمن :
    • طيب بس خلينا نشوف لينا عربية عشان نمشي مركز غرب الحارات .

    ويبدو أن مجهودات رجل الأمن باءت كلها بالفشل للحصول على عربة .. والجوع ينهش أمعاء مشلهت … فتعوي وتقرقر وتتلوى .. ويشعر بنشاف في ريقة … ويقول لرجل الأمن :
    • يا أخي دى حكاية صعبة جداً هسع نعمل شنو .. أنا لازم آكل حاجة … وبعدين حكاية العربية دى شنو ؟
    • مافى عربية هسع لكن لو عندك قروش ممكن نأخذ تاكسي على حسابك لمركز غرب الحارات وبعدين نجى بعربيتهم من هناك .
    • ويتحسس مشلهت جيبه … فلا يزال يحتفظ بجزء كبير من المائتى الف جنيه التي سلفها له صديقه عبد الرؤوف عند عيادة الحوادث ببحري … فيقول :
    • مافى مأنع … بس خليهو يعرج لينا على محل فول ناكل لينا حاجة .
    ويعرج ثلاثتهم على صاحب فول في ناصية الشارع …
    • يا أخي استعجل … ثلاثة فول وجبنة قوام ..
    صاحب التاكسي … يكسر حاجز الصمت وهو يتفقد عربته :
    • قبيل أنا سائق العربية جا كلب ناطى ضربتو لحدي ما الرفرف بتاع العربية دخل في اللستك .. بالله شوف الكلاب دى قوية كيف …
    ويصيح مشلهت :
    • ومات ؟
    • ما مات … قام جاري زي الشيطان … الكلاب يا أخوي عندها سبعة أرواح.
    • دى عندها سبعة أرواح بس .. دى عندها مليون روح … يقول هذا الكلام وهو يشعر أن ورطته كلها بدأت منذ أن عضه ذلك الكلب ..
    ويقوم رجل الأمن بمداخلة سريعة :
    • إنت مش قلت عضاك كلب ؟
    • ايوا ..
    ويسمع سائق التاكسي هذه المحادثة … فينهض ويجلس على كرسي فى مواجهة الاثنين
    • عضاك وين ؟…
    • في رجلي
    • وعملت شنو؟ .
    • دى قصة طويلة .. ليكن تقدر تقول لحدي هسع ما عملت حاجة …
    • اسمع أنا أقول ليك تعمل شنو … تمشى التيمان … يدوك طينة ود الطريفى خسيم السعر وجاموس الوعر … مافى زول بقدر على السعر دا إلا ود الطريفى … وطينته مجربة … وقاطعة ….ويشعر مشلهت أنه لا شئ يمكن أن يقيل عثرته فهذا هو اليوم السادس وهو لم يتحصل على المصل ولكن أن كان الأمر يتعلق بطينة ود الطريفى فليتحصل عليها ويتطوع سائق التاكسي :
    • هسع في دربنا دا ممكن نغشى التيمان … نأخذ منهم الطينة وبعدين نواصل …
    وينظر مشلهت ناحية رجل الأمن والذي لا يجد مانعاً من ذلك … فها هو سجينه معه ولا يبدو عليه أنه من النوع الذي يخطط للهرب كما إنه إلتقى صدفة بسائق التاكسي وهذا عمل إنساني يقوم به تجاه رجل ماهى الا دقائق ويكونون معه حول مائدة واحدة يتناولون الفول على حسابه .
    الشمس تجلد شارع الإسفلت بأشعتها المحرقة وكانها تقيم عليه الحد لأنه يزخر بكم هائل من الحفر يستأهل الجلد عليها … وقد تناثرت طرابيز الحديد الظهرية اللون المبرقعة وكذلك كراسي الحديد بعضها في الشمس وبعضها تغطيه نصف ظلال أمام متجر بائع الفول حيث إنك لا تستطيع أن تطلق عليه اسم مطعم … فلا هو مطعم ولا هو كفتريا ولا هو مكان سندوتشات … شئ للأن لم تجد البشرية السودأنية أسماً له … يقف ماسح أحذية وهو يحرك بأصابعه كشكوشاً مزعجاً مثبتاً نظره على أرجل الجالسين … بينما تأتي بنت صغيرة تقود والدها الأعمى تمد يدها تطلب نقوداً تشترى بها فطوراً … إنتهت فترة الفطور وعرج الجميع على متجر التيمان للعطارة للحصول على طينة ود الطريفى …

    ***

    الممرضة التومة كإنت تدخل وتخرج وفى رأسها أمر واحد أن تذهب لاهل مشلهت وتخبرهم بما حدث ولذلك كانت كل دقيقة وأخرى تنظر في ساعتها … إنتهى يوم العمل بالنسبة لها … وقبل أن تغادر لمحت الممرض الطيب :
    • هيا الطيب … تتجازى … وينا قروش الختة ؟ أم الحسين ما كلمتك …؟
    ويبتسم والطيب في ارتباك ويتلعثم وهو يقول :
    • كلمتني والله … وأنا ذاتي كنت جاييك لكن حصلت لينا ظروف … وغايتو أن شاء الله بكرة القريبة دى بجي أسلمك القروش …
    وتتشكك التومة:
    هوى يا الطيب … أنا كلام الاستهبال دا ما بنفع معاي … إنت لما جا دورك … نحنا مش سلمناك القروش طوالي ؟ اتاخرنا عليك ..؟
    • لا أبدا والله …
    • وطيب هسع مالك ؟ ما تجيب القروش عشان نوديهم لسيدهم …
    • خلاص .. يا ستي … قلت ليك بكرة … والله بكرة بجيبها ليكي .
    وتنصرف الممرضة التومة على مضض وهى تردد …
    • ناس ما عندهم ذوق … يجى جاري وكت القروش حقتو … وهسع يزوغ زي ود الموية … دا شنو دا ؟
    للمرة الثأنية كإنت الممرضة التومة تقف أمام منزل مشلهت وهى تطرق على الباب …. مضت مدة قبل أن تأتى بنت صغيرة تضع أصبعها في فمها.
    • يا بت ناس البيت ديل وين ؟
    • سافروا
    • سافروا مشوا وين؟
    • ما عارفة …
    • طيب في منو زول كبير نسألوا؟
    • مافى زول …
    • كيف مافى زول ؟ يعنى إنتي قاعدة براكي …
    • لا …
    • معاكي منو ؟
    • معاى أمي
    • طيب نادي أمك … والله يا بتي عاد حكايتك حكاية ..
    وغابت البنت فترة قصيرة ثم جاءت أمها … ويبدو عليها إنها تعمل خادمة في المنزل …
    • سلام عليكم
    • وعليكم السلام … أدخلي ..
    • لا أنا ماشة … بس جيت أسال من أهل البيت... بتك قالت لي مسافرين…
    • البت مجنونة وغبيانة … هم مشوا الليلة مقيلين في بيت عمهم شمس الدين عشان مرتو عيانة عملوا ليها عملية .
    • وبيت عمهم وين ؟
    • في المايقوما الحاج يوسف
    • وبجوا متين
    • بجوا بعدين
    • طيب عليكى الله … لما يجوا تديهم رقم التلفون دا وتخليهم يضربوا لي ضروري … ضروري جداً … إنتو التلفون ما إتصلح ؟
    • ما عارفة والله …
    • المهم تكلميهم لازم بأي طريقة يضربوا لي تلفون وتقولي ليهم الموضوع متعلق بمشلهت .
    وتنصرف التومة الممرضة وهى تشعر إنها لم تنجز الا نصف المهمة … إنها على أحر من الجمر لتنقل لهم أن مشلهت حي وموجود في مستشفى السكر وأنها هذه المرة ستذهب معهم الحجل بالرجل ولن تفارقهم حتى تسلمهم مشلهت في يدهم .

    ***
    سائق التاكسي يقود عربته وسط شوارع ملتوية في قلب سوق في طريقه لعطارة التيمان لشراء طينة ود الطريفى خسيم السعر وجاموس الوعر … وذلك لعلاج مشلهت بدلاً من المصل الذي لم يجد مشلهت له سبيلاً وطيلة الوقت كان سائق التاكسي يقول
    • شوف تاكل منها وتلبخ منها .
    • وينتبه مشلهت متسائلاً :
    • آكل شنو ؟
    • تأكل حتة من طينة ود الطريفى وحتة تبلها بالموية وتلبخ بها رجلك محل العضة … وخلاص الكمدة بالرمدة … داك الليلة عندنا مرة عند أهلنا … حتى هي عضاها كلب … عليك أمان الله … بس فد لبخة … التكتح ماجاها … هديك سمينة وماكنة الحمار ما يشيلها . وواحداً في حلتنا عضاعو كلب قعد لمن سعر وبقى يهوهو متل الكلب.. عليك أمان الله جابوا ليهو طينة ود الطريفي وسقوهو ليها... عليك أمان الله قال لك طرشن سبع جريوات.. الجريو ورا الجريو..
    أوقف سائق التاكسي عربته في شارع ضيق مزدحم بخلق عجيب .. جاءوا من أين لا أحد يعرف … ماذا يفعلون لا أحد يعرف … اختلط بائع الماء " برد" بأطفال يحملون أكياسا وبعضهم يحمل امشاطاً وبطاريات وحلاوة لبان وبعضهم يحملق دون أدنى هدف … يسير خطوة خطوتين ثم يقف ليحملق … وسط هذه الزحمة تبرز من وقت لآخر فتاة شابة حسناء وقد " قدرت ظروفها " بما تستطيع من مساحيق وفاتحات بشرة … يمسحها بعضهم بنظره ماسحة مثل " الاسكانر" ولكن لا أحد يدرى ما يدور بدواخلهم … وواحد يلمح إمرأة تسير أمامه.. يشاهدها من الخلف... فيسرع الخطى حتى يفوتها ثم يلتفت ليرى وجهها.. هذا دائماً يحدث.. ولا يدري أحد لماذا.
    بقي مشلهت ورجل الأمن داخل التاكسي وقد غطت المكان رائحة هي خليط بهارات وعطارة وما يضيفه لها بائع ودعمارى الذي اختبأ خلف طبلية يطل من ورائها على زبائنه وقد رتب أكياس النايلون الصغيرة بعناية … رائحة نفاذة مميزة لو تذكرت هذا المكان وإنت في باريس لطافت على خياشيمك بقايا أشياء لا تزال عالقة بذاكرتك الشمية .
    ووسط مجموعة من الناس كان يكتظ بها دكان العطارة رفع سائق التاكسي يده … دون اعتبار لمن كان قبله في الدكان وهو يخاطب البائع :
    • اسمع … أدينا بالله طينة ودى الطريفى …
    ويرد عليه البائع وكان يزن شيحاً لامرأة تقف أمامه …
    • والله الطينة دى .. إلا نرسل الولد للحلفاية يجيبها من هناك …
    • ليه ؟… ما عندكم ؟
    • كإنت عندنا لكين كملت … الظاهر اليومين دى الكلاب شايفا شغلها … إنتو العاضي كلب ليكم منو؟ .
    • واحد أخونا …
    • طيب دقيقة … أنا بضرب تلفون لواحد في بحري يمشى الحلفاية يجيب لينا كمية وإنت مر علينا العصرية …
    • العصرية البيجيبنى هنا شنو؟
    • إنت مش بتقول زول أخوكم … خلاص … تعال بعدين … نكون حضرناها ليك …
    يعود سائق التاكسي ليجيب على تساؤل متوقع ؟
    • وينا الطينة ما جبتها معاك؟
    ويرد بنصف خيبة أمل :
    • الجماعة قالوا خلصت … ما عندهم … إلا يرسلوا لواحد يجيبها من الحلفاية … وقال نمر عليهم العصرية ويرد مشلهت
    • العصرية ؟.. وين نحنا نكون في العصرية؟ .
    ويظهر رجل الأمن بعض الضيق
    • خلاص يا أخينا سوق عربيتك وامرق بينا من هنا … نحنا اتاخرنا … وقليلاً قليلاً … حركة ثم توقف .. تخرج العربة الى شارع حى العمدة … وكانها قد وصلت " الميس" .. وشعر الجميع بارتياح عظيم … فبعض الشوارع والأزقة والمنعطفات تجثم على صدرك وتصيبك بضيق لا حدود له …
    إجراءات التحقيق في مركز غرب الحارات سارت بطريقة روتينية كالعادة حيث شرح مشلهت للمتحري كل الظروف التي أوقعت مسدس الرقيب موسى الحاكم في يده … وهو لا يدرى أين ذهب موسى الحاكم …
    • هو ما قال ليك ماشي وين .
    • قال ماشى يتسير … وبعدين ناس الإسبتالية إنتظروه كدا وهو ما جا … قاموا ودوني لمستشفى السكر وأنا ما لقيت زول أخلي معاهو المسدس قمت دخلتو في بقجة كنت شايلها واخوكم دا شافني وحقق معاى وودونى لمركز سوق ليبيا ومن هناك جينا هنا ..
    ويضيف رجل الأمن :
    • وهو نفسه كان في مستشفى السكر وهسع بعد الإجراءات لازم نرجعو هناك وتعملوا معاهو حراسة من عندكم ؟؟؟
    ويجيب :
    • حراسة من عندنا دي … الا يجى الضابط العظيم ويقرر يعمل معاهو شنو … نحنا هنا بس نأخذ اقوالو وبنفتح ليهو بلاغ بحيازة سلاح حكومي مسروق … وبالنسبة للرقيب موسى الحاكم .. غياب فى الخدمة دون عذر ودا إجراءاتو براها .
    ويتساءل رجل الأمن :
    • وطيب دا حنعمل ليهو شنو هسع ؟
    • خليه يقعد لحدي ما الضابط يجي ..
    وينظر رجل الأمن ناحية مشلهت فيثير في نفسه شفقة وعاطفة خاصة قد تقاسم معه عيش وملح وفول ومشوار لعطارة التيمأن … فيقول :
    • بس الزول دا عيأن ولازم يمشى الإسبتالية … نحنا ما نقدر نخليه معانا مدة طويلة …
    ويتضايق :
    • إنت مش وصلتو لينا هنا ؟
    • ايوا
    • خلاص دى بقت مسئوليتنا … نحنا بنعمل إجراءاتنا ولو لقينا إنو لازم يمشى الإسبتالية بنعمل ليهو اورنيك وبنوديهو
    • هو اصلو عنده اورنيك طبي … جا بيهو من مركز ليبيا وناس الإسبتالية حولوهو لمستشفى السكر بأورنيك برضو
    ويصر المتحرى على موقفه
    • لا … دي حكاية لازم يقررها الضابط العظيم … وبعدين نحنا حنوديهو استبالية قريبة من هنا … ما ممكن نوديهو لمستشفى السكر …
    • طيلة هذا الوقت ومشلهت صامت يسمع لمصيره يتقرر ويتشكل قدره أمامه وهو لا يملك من أمره شيئاً فهناك بلاغ مفتوح ضده في مركز سوق ليبيا بالتعامل في أدوية دون ترخيص وبلاغ آخر بالاحتيال وسرقة بقجة ملابس … وهنا بلاغ ثالث في مركز غرب الحارات بحيازة سلاح حكومي مسروق … ولا أحد يأبه بموضوعه الأساسي الذي أوقعه في كل هذه المصائب … وهو الحصول على مصل مضاد للسعر … سائق التاكسي ظل يتململ طيلة الوقت الا أنه لم يقل شيئاً … فكل هذا محسوب على مشلهت وهو لا يدري هل يملك مشلهت أجرة التاكسي مقابل مروره وتوقفه والزمن الذي قضاه … الا أن سائق التاكسي كغيره من عامة السودانيين الذين يحملون معهم قدراً من المرؤة والشهامة منذ نشأتهم يشعر أن مشلهت في ورطة وإنه يحتاج لمن يقف بجانبه وهو قد تطوع لإرشاده الى طينة ود الطريفى ولكنه أخيراً قال موجهاً حديثه لرجل الأمن :
    • يا جنابو … أنا اتاخرت كتير وبدور أمشي … دحين شوف الزول دا … كان …
    وينتبه رجل الأمن :
    • ايوا … تمام بس خليك شوية يمكن ارجع معاك أنا ما عارف الناس ديل عندهم عربية ولا لا … طيب حسابك كم ؟
    • إنتو شوفوا المناسب
    • المناسب كم ؟
    • نحنا من الأول ما إتقاولنا … شوف حاجة معقولة كدا .. ويتدخل مشلهت في هذا الجزء من المحادثة :
    • يا ابن العم إنت مشيت معانا وما قصرت … بس ورينا إنت المعقول … ونحنا بندفع ليك .
    وبصمت سائق التاكسي فترة .. ثم يقول :
    • والله ما بقدر أقول لكم … إنتو بس شوفوا المعقول يعني…
    يقوم رجل الأمن بخطوة حاسمة ويوجه حديثه لمشلهت :
    • هات 20
    ويتدخل سائق التاكسي :
    • نان ما شوية … عاد إنتو كمان أعملوا المعقول ...
    يرد رجل الأمن
    • طيب … نحنا من قبيل قلنا ليك ورينا عايز كم .. إنت ما راضي تورينا … على العموم خلاص حنديك 30 … هات يا مشلهت 30 الف …
    • ويدخل مشلهت يده في جيبه ويدفع ثلاثين الف عبارة عن ثلاثة ورقات خضراء لرجل الأمن والذي يدفع بها ليد سائق التاكسي … وفجأة يتذكر سائق التاكسي موضوع الطينة
    • هسع الطينة دى نعمل معاها شنو ؟
    ويصمت مشلهت برهة كمن يفكر :
    • إذا عندك وكت أمشي ليهم بعدين وجيبها منهم
    • أجيبها وين ؟
    لا أحد يدرى إجابة السؤال … إذ أنه من المتوقع أن يحول مشلهت الى المستشفى بأم درمان … ولكن أي مستشفى ؟ ويقترح رجل الأمن :
    • إنت إذا جبيتها … جيبها هنا .. واسال الشاويش النبطشى وهو يوريك مشلهت وين ؟
    ويوافق مشلهت على هذا الاقتراح … غير أنه كان يفكر في أمر آخر طالما أن سائق التاكسي يمكن أن يذهب لعطارة التيمأن ويحضر طينة ود الطريفى فإنه يمكن أيضاً أن يصل أهله في الخرطوم بحري ويحضرهم بسيارته وبذلك يكون قد حل لمشلهت مشكلة مستعصية قال مشلهت :
    • إنت لو اصلك حتمشي للتيمان عشان تجيب طينة ودي الطريفى أنا بعدين حاديك مشوار مهم للخرطوم بحري .. ضروري جداً تجي .
    • خلاص … أن شاء الله أنا أول ما استلم الطينة اجي عندك هنا طوالى …
    • وإذا حصل أنك ما لقيتني هنا … لازم تسال العسكري النبطشي عشان تعرف ودوني وين ؟
    ولاول مرة يشعر مشلهت أن الأمور ربما تستعدل فسائق التاكسي الذي بعثه الله له … يمكن أن يجمعه بعائلته وهو لا يدرى كيف استقبلوا نبأ اختفائه وماذا فعلوا في هذه المدة … لابد أنهم ظلوا يبحثون عنه ولم يخطر ببال مشلهت أنهم دفنوا شخصاً ظانين أنه مشلهت … وبما أن الأمور قد تعقدت الى هذا الحد لابد أنها ستنفرج أو كما قال الشاعر :
    ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج .
    سائق التاكسي انصرف هو ورجل الأمن وبقى مشلهت وحيداً يجلس على كنبة بمخفر الشرطة بمركز غرب الحارات … فشعر بوحدة قاسية فللحظة شعر أن سائق التاكسي ورجل الأمن هم كل عالمه الذي يستطيع أن يتخاطب معه … من داخل المأساة والاحباطات يرسل الله لك من يجعلك تتذوق حلاوة الحنظل … وهنا تكمن المفارقة الكبيرة … ففي الليالي حالكة المصير يلمع ضوء خافت في نهاية النفق … وعل ذلك الضوء الخافت يأتي على يد سائق التاكسي …
    المتحرى كان يقلب المسدس بين يديه ويقول :
    • هو دا فاضي ما فيهو رصاص … إنت طلعت رصاصو ولا شالو الرقيب موسى معاهو ؟
    • أنا اصلو ما هبشتو ولا شفت فيهو شنو … هو أداني ليهو كدا وأنا ختيتو مع الهدوم …
    • هدوم بتاعة شنو .
    • دى قصة طويلة … المهم كان عندي بقجة بتاعة واحد ممسكنى ليها ختيت فيها المسدس بعدين زول الأمن دا شافو وعمل لي قضية …
    الغريب في الأمر أنه بعد محادثة محادثتين مع مشلهت يجد الجميع إنهم في تعاطف معه … ويشعر الجميع أن ذلك الرجل يستحق أن يطلق سراحه … ويشعرون أيضا في قرارة أنفسهم أنه صادق فيما يقوله ولكن القإنون هو القإنون والإجراءات هي الإجراءات ولا يمكن تجاوزها … كما إنه في حاجة لمن يتكفل بتوقيع ضمان نيابة عنه ولكن هذا يتطلب عرضه على وكيل نيابة وهو للآن لم يعرض على أي وكيل نيابة … وتمر الأيام وهو متنقل بين المستشفيات والحراسات .

    ***
    ظلت التومة الممرضة في إنتظار أن يرن جرس التلفون في المستشفى بين كل لحظة وثأنية وأن يكون المتكلم من الناحية الآخرى زوجة مشلهت حتى تسارع بزف النبأ لها بأن مشلهت موجود فى مستشفى السكر وأنشغلت بهذا الامر عن الطيب الممرض الذى لم يسدد قسط الختة … حتى جاءت الفراشة ام الحسين لتنقل نبأ غريباً للتومة :
    • اسكتى يا التومة … ما شفتي الطيب سوى شنو ؟
    • سوى شنو كمان ؟
    • والله ناس عنبرو قالوا هاجر لو لى بلداً بعيد … عاد الله عليمو …كان يجى راجع ولا بقعد قبلو ما عارفة … وبغضب ظاهر تصيح التومة الممرضة:
    • يجي راجع … هو قال ليكى هاجر … يجى كيفن راجع تانى اظنوا ما صدق … آكل قروش الناس وفر … عاد كر منكم يا ناس الدنيا … هسع أنا أسوي شنو يا اخواني؟ هسع سيد القروش دا يمكن يقول أنا أستلمتهم من الطيب واكلتهم … عاد دى نصيبة شنو دى يا ربى … ؟
    في انشغالها ذلك بموضوع الطيب الذي هاجر دون أن يدفع قروش الختة … أنشغلت التومة الممرضة عن ذلك التلفون الذي ظل يرن ويرن في المكتب … وعندما تنبهت إحدى الممرضات للتلفون واخدت السماعة …
    • ايوا .. عايز منو ؟ … سمح دقيقة اللناديها ليك
    يا التومة …. التومة .. هوى يا التومة التلفون …
    ولكن التومة أشاحت بيديها :
    • يا شيخة سبيني من التلفون هسع تلقيهو دا سيد القروش الشفقان دا …
    قالت هذا الكلام وهى تتجه نحو عنبر القاينا حيث كان يعمل الطيب … بقيت سماعة التلفون في يد صفية زوجة مشلهت مدة طويلة دون أن تحضر التومة فوضعت السماعة في مكانها وهى تقول :
    • حكاية عجيبة … هسع المرة قالت لي إنتظري أناديها ليكى … تكون طارت وين ؟ وهى دى ذاتها منو ؟ كاتبة نمرة التلفون وكاتبة اسمها التومة … يا ربي التومة دى منو ؟ وتلتفت الى "الخدامة " .
    • إنتي قلتي مرة جاتك هنا وأدتك الورقة دى وقالت ليكي ضروري نتصل بيها؟
    • ايوا …
    • وما قالت ليكي الموضوع شنو ؟
    • ما قالت …
    • " لم تتذكر المرأة أن التومة قالت لها أن الموضوع بخصوص مشلهت "
    • والمرة دى شكلها كيف ؟
    • واحدتن … قصيرة ومليانة .. وخدرة …
    • يا ربى دى تكون منو؟ … غايتو نحاول نتصل بيها تانى …
    فى هذا الاثناء وصلت التومة عنبر القاينا واخذت تسال الممرضين والممرضات فرداً فرداً.
    • وإنتو عرفتو من وين إنو هاجر ؟ ..
    • أمس جا سلم حاجاتو وودعنا ومشى …
    • يودعكم كيفن يعنى يمشي بدون ما يجي يسدد حق الختة ؟ ولى شنو ما كلمتوني ؟ ؟؟
    • وهو كان داخل معاكم في الختة ؟
    • ايوا وصرف الثانية كمان … ظنيتو دبر بيها حال السفر والهجرة … بالله مش عيب عليهو يمشي بحق الناس ؟
    يعنى بقى حرامي … عاد تعالوا شوفوا الكلام دا معناتو شنو … ما ياهو … أمور الحرامية … الزول بهاجر وفوق ضهرو قروش قدر دي ؟ … استغفر الله.
    وعنبر القاينا هو آخر مكان وصلت اليه التومة الممرضة في ثورتها علي الطيب الممرض … ولا تعرف ماذا تفعل …إذ أن الطيب ليس متزوجاً وقد اتضح إنه كان يقيم مع جماعة من أصحابه في الرميلة … واحيأناً يذهب لأهله في قرية الدشاش … بالقرب من العيكورة على طريق الخرطوم مدني … ودفع فقط القسط الثالث وتبقت عليه سبعة أقساط هاجر بها … الأمر الذي أزعج التومة الممرضة وجعلها تغادر مبكرة الى منزلها .. هو أنها كإنت منذ زمن بعيد تعمل أمينة لصندوق الختة وتجمع الأقساط وتوزعها لاصحابها بدقة بالغة وهذه أول مرة تحدث لها هذه المسألة .. واليوم فقد أنسدت نفسها من الشغل وعادت الى منزلها ولم تنتظر أية محادثة تلفونية .
    صفية زوجة مشلهت ولولا ظروف موته المفاجئ وما أحاط بها من غموض ما كان لها أن تخرج من منزلها بل كان المفترض أن تبقى " في بيت الحبس" الى أن تتم عدتها .. وأن تلف نفسها بثوب ابيض في طقوس هي خليط بين ما أمر به الشرع وبين عادات اجتماعية درج الناس على اتباعها … ولكن الشك الذي بذره البائع المتجول والممرضة التومة في زيارتها الأولى والمعلومات التي أدلت بها جعلتها تؤمن في قرارة نفسها أن مشلهت ربما يعود يوماً سليماً معافى وأن الذي تم دفنه شخص آخر … ولهذا كإنت تنتبه لأي طرق على الباب …

    ***
    الضابط العظيم الذي عرضت عليه أوراق مشلهت وجه بعض الأسئلة للمتحري ليطمئن على سلامة الإجراءات ثم دون بقلمه بعض التعليمات ومنها أن يستخرج لمشلهت اورنيك طبي وأن يخصص له حارس يصحبه لمستشفى بمدينة الثورة حتى يكون قريباً من مركز غرب الحارات … في إنتظار العثور أو القبض على الرقيب موسى الحاكم ومعرفة الملابسات التي أدت الى وقوع ذلك المسدس في يد مشلهت مما أدى الى فتح بلاغ ضده بحيازة سلاح حكومي مسروق .
    مرة أخري يعود مشلهت الى مستشفى ولكن غير مستشفى السكر … وتمت إجراءات دخوله وحجزه وقد لاحظت الممرضة أن الجرح الذي في رجله بقي مدة طويلة دون غيار مما أدى الى تورم ظاهر …
    • وليك كم يوم ما غيروا ليك للجرح بتاعك دا ؟ …
    • يومين ..
    • وليه أصلك كنت وين ؟
    • كنت في الحراسة …
    وتوقفت الممرضة برهة ثم نظرت في وجه مشلهت وهيئته وقد شعرت بخوف ورهبة … وكانها ترى مجرماً لاول مرة … ولكنها باشرت عملها وهى تقول :
    • جرح زي دا … لازم يدوك عليهو مضاد حيوي … وأنا حأكلم الدكتور بعدين لما يجى في المرور …. وإنت اصلو الضربك شنو ؟
    • عضأني كلب …
    • يا ساتر … وما أخذت المصل ؟
    • ما اخدتو …
    • ليه ؟
    • ما لقيتو …
    • ما لقيتو كيف يعنى ؟ … المصل موجود في أي حتة …
    • أنا أي حتة مشيت ليها ما لقيت المصل وهسع أنا مقبوض على هنا عشان المصل الموجود في أي حتة دا
    • ما فاهمة بتقصد شنو ؟
    • اقصد إنو ما لقيت المصل وبعدين مشيت أفتش عليهو قبضونى هسع إنتي عارفة ليكى محل مصل … جيبيهو لي وأنا بديكي حقو …
    • خلاص بكرة … أنا بمشي لواحد في الديوم عنده مصل جايبو معاهو من مدة وهو كلمني وقال لي إذا لقيتي زول عايز مصل تعالي اخدي دا وديهو ليهو .
    • خلاص … بسرعة أنا الليلة لي اكثر من أسبوع مما عضاني الكلب … ولازم اخد المصل ولا بعدين الواحد يروح فيها .
    • بعيد الشر يا ابن العم … أن شاء الله ما تروح فيها .
    من بعد زمن طويل يقابل مشلهت مثل هذه المشاعر الشفوقة التي لا تريد له مكروهاً … وهو لا يعرفها ولا تعرفه ولكنها تتمتع بطيبة جبلت عليها بعض البنات والسيدات والحبوبات عندنا في هذا المجتمع … تتصرف بتلقائية وعفوية محببة … تجعلك تشعر إنها أختك أو ابنتك في المقام الأول … وهى تضمد جراحه تخبره بأنها ستحضر له ذلك المصل السحري الذي ظل يجري خلفه كالسراب …
    سائق التاكسي عاد صباح اليوم التالي وهو يسال عن مشلهت فقد احضر معه طينة ود الطريفى … ولكنه لم يجده فقد حول مشلهت لمستشفى بمدينة الثورة بأم درمان … ولكن سائق التاكسي استطاع أن يعرف المستشفى الذي نقل اليه مشلهت وذلك بعد أن سأل سائق عربة المركز التي اقلت مشلهت الى المستشفى .
    تجول في ردهات المستشفى واخذ يطل على العنابر حتى شاهد مشلهت مستلقياً على أحد الأسرة في أحد العنابر … شق طريقه وسط زحمة معتبرة …
    • ازيك يا أخينا …
    • أهلا وسهلاً … أتفضل .
    • خلاص جابوك هنا .
    • ايوا
    • برضو احسن من الحراسة … لازم عندك واسطة قوية …
    • واسطتى السكري والجرح البتشوفو دا …
    ويصيح سائق التاكسي :
    • يا زول … خلاص لقيت ليك طينة ود الطريفى … أول ما مشيت لهم الولد لقيتو مجهز الطينة طوالي أخذتها منو … حتى حلف ما يأخذ مني أي قروش قال لي دى تعليمات أهلا في الحلفاية … إنو يقدموها مجاناً والظاهر عليهم تابعين وصية الشيخ نفسه … زول التيمأن قال لي الكلام دا ..
    وناول سائق التاكسي مشلهت كيساً به تلك الطينة الرمادية التي يميل لونها للسواد …. بينما قام الحرس من مكانه ليتفقد محتويات ذلك الكيس وهو يسال :
    • ودا بعملوا بيه شنو ؟
    • دا علاج لعضة الكلب
    • دوا نافع ؟
    • يا سلام .. دا كلامك . ياهو دا الدوا الأصلي .
    وبعد أن شرح سائق التاكسي لمشلهت طريقة الاستعمال … جلس معه فترة من الزمن يقول مشلهت :
    • إنتو يا خوى أهلكم وين
    • أهلنا في المسعودية ..
    • طيب يا ود المسعودية أنا عندي مشكلة … وأنا عايز اشرحها ليك وعايزك تساعدني … ومشاويرك دى كلها على الحساب ..
    • يا زول مافى عوجة … تب ما عندك عوجة … بس إنت قول وأن شاء الله كل شي يتصلح ..
    واخذ مشلهت يحكى لود المسعودية حكايته من بدايتها الى حين وصوله للمستشفى بالثورة …. ويصف له منزله بالخرطوم بحري ويرجوه أن يصل هناك ولا يعود الا ومعه أفراد العائلة وإذا لم يجده لأي سبب من الأسباب في هذا المستشفى أن يتقصى ويسأل عنه حتى يجده … لقد مضت عشرة أيام مشلهت لا يجد طريقة للاتصال بأهله وهو لا يعلم عنهم شيئاً ولا يعرف كيف استقبلوا نبأ أنقطاعه عنهم…
    ووعد ود المسعودية أن يبدا أول مشاويره بالذهاب لمنزل مشلهت … الا أن مشلهت قال له :
    • استنى اقيف … ماشي وين؟
    • ما خلاص أنا من دربي دا ماشي بحري …
    • لا …. إنتظر شوية …اصلوا ما في زول جاب لينا حاجة ناكلها أو نشربها … وأنا شايف الناس هنا أهلهم بجيبوا ليهم الأكل …عليك الله ..هاك شوف لينا أكل أنا والعسكري دا …. وجيب قزاز موية معاك …
    • ويؤمن العسكري علي اقتراح مشلهت :
    • ايوا … والله جيعانين الجوع قرضنا …هنا ما في زول بديك أكل … غايتو الا تاكل من جيبك …
    ويكمل مشلهت :
    • وأنا حالتو المفروض يكون عندي غذا خاص عندي سكرى … لكين نقول شنو … صاحب السكري والفشل الكلوي والضغط واليرقان … كلهم يأكلوا زي ما تجى … الواحد أهل بطبخوا في البيت وما في زول قال ليهم ياكلوا شنو ولا ما ياكلوا شنو …
    وخرج سائق التاكسي لإحضار الطعام والموية …

    ***
    لم يكن هناك أمر يشغل بال التومة الممرضة الا حكاية الممرض الطيب الذي صرف ( الختة) ثم زاغ في هجرة لا يعلم الا الله متى يعود منها …
    وطيلة الوقت كإنت التومة تتحسر على أخلاق هؤلاء الناس الذين أنعدمت فيهم المروءة والنخوة …
    • ديل عاد …. برى منهم … يبلعوا حق الناس زي ما ببلعوا البندول … الواحد تب ما عنده قشة مرة … وتعزي نفسها قائلة وهى توجه كلامها لاحد الممرضين في العنبر :
    • وهم قايلين حق الناس دا برقد ليهم ؟ والله يمرق منهم في الدنيا هنا قبال الآخرة …
    وتشعر أم الحسين الفراشة والتي كإنت تستمع للتومة بمدى الحرقة التي تشعر بها التومة فتهدئها قائلة :
    • هيا التومة أختي … قليلا رايح وكتيرها رايح وناس الدنيا ما فيهم فائدة … ونحنا عارفينك مرة دغرية وما عندك لولوة … أهل القروش أن شاء الله يلقوا قروشهم وتقاطعها التومة :
    • يلقوها وين ؟ … أكان الطيب ذاتو زاغ ؟
    • الله كريم …
    وفى هذا الأثناء يتقدم شاب حليق الرأس ويرتدى قميصاً رمادياً مخططاً بالأسود فضفاضاً وبنطلون جينز كأنه بنطلون أخيه الأكبر وحذاء متعدد الطبقات لم يستقر على حال … هل هو حذاء أم " بوت" عليه غبرة مستعصية :
    • يا أخوانا في واحدة ممرضة هنا اسمها التومة ؟
    وتنتبه التومة :
    • أي …أنا التومة …
    ويناولها الشاب لفة في كيس بلاستيك اسود :
    • دى أمأنة أداني ليها الطيب قال يسلموكي ليها .. ويشتعل المكان بحيوية لا يدري أحد من أين هبطت … وتقوم التومة بإخراج محتويات الكيس من أوراق مالية وهى تغمغم قائلة :
    • ود حلال … والله ود حلال .. جيد لي جيد لي … الليلة الطيب عاد حق اسمو … الطيب ما ساهل … وما باكل حق الناس .
    وتوافقها أم الحسين :
    • اها شفتي .. أنا ما قلت ليكى الناس أولاد الناس بينين وأنا عارفة الطيب ما الولد البياكل حق الناس ؟
    ويخاطبها الممرض :
    • اها … خلاص رقتي؟ … من أمس وإنتي ماكلة لحم الزول .. اهو جاب ليكى القروش … تأنى كلامك شنو؟
    وتشعر التومة ببعض الخجل :
    • هي لكين أنا اعمل شنو ؟ ناس عنبروا قالوا لي هاجر … وأنا قلت يمكن زاغ بقروش الناس .. عاد أنا أختها من وين؟ ..
    النهاية السعيدة التي إنتهت إليها أزمة الختة … رفعت الروح المعنوية لدي التومة الممرضة … وجعلتها تتذكر حكاية التلفون من أهل مشلهت :
    • يا أخواني … ما جاني تلفون ؟
    • أمس اليوم كلو التلفون يضرب … وقالوا عايزنك …. لكين إنتي مشيتي .. وما إنتظرتي :
    • لازم يكونو ديل أهل مشلهت .. وعلى العموم لازم أصلهم الليلة بس خلى الوردية دى تخلص … من دربي دا عديل عليهم …
    وتسألها أم الحسين الفراشة :
    • الرسول يا التومة … عاد اصبري لي النسعلك …. الناس ديل إنتي بتعرفيهم .
    • لا … والله بس مشلهت حكي لي حكايتو وطلب منى أمشي اكلم أهله …
    • ومشيتي كلمتيهم ؟
    • مشيت كلمتهم في المرة الأولى .. وهم يظهر جو الإسبتالية ولقوه حولوه لمستشفى السكر وفى المرة التأنية ما لقيتهم لكين خليت ليهم نمرة تلفون العنبر عشان يتصلوا بي وأنا زي ما شايفة كنت مشغولة بموضوع الطيب .
    • أي والله كان شاغلك شغلة شديدة …
    كإنت صفية زوجة مشلهت تؤدى فريضة العصر عندما وصلت التومة … وبعد أن فرغت من صلاتها سلمت على التومة والتي كإنت تجلس على سرير وقد وضع أمامها كوب ماء على تربيزة صغيرة …
    • شوفي يا أختي أنا يومداك جيت ولقيتكم مافيشين … وخليت ليكم نمرة تلفون العنبر …
    وتقاطعها صفية :
    • ايوا … وضربنا ليكى كم تلفون لكين بقولوا لينا مافى …
    • صحي … كلامك تمام … اصلوا أنا مشيت بدري … كنت متضايقة ….. وهسع إنتو ما عرفتو أبو عيالك وين ؟
    • ويعنى وين … ما نحنا مشينا الإسبتالية مالقيناهو ..
    • ايوا … صحي هو اصلوا جا الدكتور وحولو لمستشفى السكر … عشان كدا إنتو لما جيتوا ما لقيتوهو … والمستشفى بتاعنا قاعد يحول مرضى السكر لمستشفى السكر عشان بقولوا هنا ما بلقوا عناية … وهناك داك مستشفى متخصص … على العموم أنا بمشي معاكم من دربي دا لحدي ما أسلمكم زولكم من ايدو ..
    وتشعر صفية زوجة مشلهت بصدق حديث التومة فتشكرها وتدعوها للبقاء حتى يتنالوا وجبة الغداء وتوابعها من شاي وغيره ..
    وتتساءل التومة :
    • وإنتو اصلو أبو عيالك دا ما فتشتوهو ؟
    • فتشناهو … ما خلينا فجة … لكين تقولي شنو يا بت الحلال ؟ حكاية زاتا بقت لينا عجيبة … هسع بتقولي شفتيهو حي وبتكلم ووصاك؟ .
    وتستنكر التومة هذا السؤال:
    • استغفر الله يا بنت أمي … يعنى أنا الجابنى هنا شنو ؟ والوصف لي منو؟ وأنا عرفت اسمو كيف مشلهت؟ ما ياهو اسمو ؟
    • ايوا … كلامك عديل…
    وبينما العائلة تتناول طعام الغداء ومعهم التومة الممرضة … يدخل حيدر الابن الأكبر لمشلهت ومعه صديقه عبد الباقي ويلقيأن بالتحية ثم يدخلان الصالون وينضم اليهم علاء الابن الأصغر لمشلهت :
    • شفت يا حيدر المرة القاعدة تتغدى مع ناس أمي قالت شنو ؟
    • قالت شنو ؟
    • قالت أبوي اخدوهو ودوهو مستشفى السكر وهى هسع جات عشان تاخدنا نمشى معاها تورينا محلتو :
    • أبوك ؟
    • ايوا
    • كلام شنو دا؟
    • وينتبه عبد الباقي لما سمعه :
    • اسمع … الحكاية شنو ؟
    • والله يا أخي .. نحنا مخنا دا عايز يطرشق … كل يوم والتاني يجينا زول يقول لقي أبوي في حتة .. واحد قال في الحراسة … قمنا مشينا لحراسة سوق ليبيا وما لقيناهو … جات المرة دى زاتا وقالت خليتو في الإسبتالية … مشينا الإسبتالية ما لقيناهو … هسع اهو إنت سامع علاء بقول إنها جاءت وقالت إنو فى مستشفى السكر …
    ويقول عبد الباقي
    • مش جايز الجماعة ديل كلامهم صاح … وجايز أبوك يكون ما مات … وتكونوا إنتو دفنتوا ليكم زول آخر …
    • والله يا أخي كل شي جائز … لكين ليه محل ما نمشى ما نلقاهو ؟ … اهو دا البخلى الواحد يشك … … والحاجة التأنية … هو لو اصلو حي وموجود وما بقدر يجى البيت …ما يحاول يضرب تلفون؟ دى كمان بتخلينا نشك في كلام الناس ديل .
    ويتساءل عبد الباقي :
    • طيب لكين الناس ديل بستفيدوا شنو من حكايتهم دي؟ … إذا كان هو ما موجود ؟
    • والله دى حكاية تحير فعلاً .
    تعرض صفية على ابنها حيدر أن تجهز لهما الغداء لكنه يؤجل ذلك لحين الفراغ من مشوار الذهاب لمستشفى السكر مع التومة الممرضة طالما أن عربة صديقه عبد الباقي معهما .
    وقفت العربة أمام مستشفى السكر وخرج منها الجميع ودخلوا فناء المستشفى تتقدمهم التومة الممرضة وكإنت تقول لكل من يقف على أحد الأبواب
    • أنا زميلة .. من الإسبتالية الكبيرة وديل معاي.. فلا يعترضها أحد … حتى تقف أمام موظف الاستقبال كان قد خلع حذاءه لصبى صغير أنهمك في تلميعه …. وكأنما فاجات التومة ذلك الموظف عندما قدمت نفسها قائلة :
    • زميلة … من الإسبتالية الكبيرة …
    فهب واقفاً ومد يده يسلم عليها في ارتباك واضح بينما كان يقوس أصابع رجليه على البلاط … لا أدري لماذا … سألته التومة :
    • قالوا في واحد هنا حولوه ليكم من الإسبتالية الكبيرة اسمو مشلهت محمد مشلهت …
    • مشلهت
    • ايوا …
    • قلتي حولوه من وين ؟
    • من المستشفى الكبير
    • متين ؟
    • يعنى قول قبل يومين ..
    ويصمت الموظف برهة ثم يقول:
    • طيب دقيقة … ويلتفت خلفه فيشاهد أحد الممرضين وهو يغسل يديه فى حوض ليس بعيداً عن الاستقبال :
    • اسمع إنتو في واحد كان محول من الإسبتالية الكبيرة إسمو مشلهت كان عندكم هنا؟
    • دا مات واهلو استلموه …
    وتصرخ التومة الممرضة فزعة :
    • مات متين ؟
    • مات قبيل في الصباح … جابوه هنا وعندو سكرى وقطعوا ليهو رجله …لكين مات …
    • يا أخي كدي أتذكر .. واحد اسمو مشلهت …
    • ياهو مشلهت … أنا ذاتي لما سألتهم لقيت اسمو غريب كدا …
    • إنت متأكد ؟ …
    • كيف ما متأكد … تعالى معاى نشوف دفتر شهادات الوفاة ..

    كإنت زوجة مشلهت أسرته يتابعون ما يحدث غير مصدقين … هل هذا حلم أم كابوس ؟ … هذا شخص آخر يموت ولا يدرون هل هو مشلهت أم غيره … ولكن الممرض حسم القضية إذ أنه جاء يحمل دفتر صور شهادات الوفاة
    مشلهت … مشلهت … مشقلب … أنا عارف الناس دى بتجيب الأسماء دى من وين ؟ .. واحد مشلهت وواحد مشقلب … وما بعيد يكون كمان في واحد اسمه مشنقل … ما خلاص الحكاية جاطت ..
    أهو دا ... بس دا إسمو مشقلب.. ما مشلهت.
    لم يكن أحد يهتم بما يردده الممرض بل كان كل همهم هل هناك شخص باسم مشلهت قد توفي هو الآخر … وأين ذهبوا به .. وتتساءل زوجة مشلهت :
    • يعنى دا مش مشلهت …
    ويجيب الممرض والتومة الممرضة في أن واحد :
    • لا …
    وتواصل صفية تساؤلاتها :
    • وطيب مشلهت مشي وين ؟
    وتتحفز التومة بعدة أسئلة :
    • اسمع طيب في منو هنا ممكن نسأله عن مشلهت ؟ .
    • إذا كان اسمو في دفتر العيادة يكون موجود إنتو قلتوا جابوه هنا متين ؟
    • على حسب كلامهم يمكن قبل يومين …
    • قبل يومين ما ممكن يخرجوه .. الا يكون دخل في كوما بتاعة سكر وديل قاعدين يوودهم عنبر العناية المكثفة يلا نمشى هناك نشوف …
    ويذهب الجميع الى عنبر العناية المكثفة ويقفون عند الباب بينما تدخل التومة الممرضة وحيدر الى حجرة الاستقبال … ويبدأ السؤال والبحث في الأوراق ولكن لا أحد مصاب بكوما أو غيبوبة سكر يحمل اسم مشلهت … وتخرج التومة وحيدر والممرض ومعهم لغز كبير … أين ذهب مشلهت ؟ أو قل هل جاء أصلا لمستشفى السكر أم الذي جاء شخص آخر … كما مات شخص آخر يحمل اسم مشقلب ؟ …
    هذا الموقف الملئ بالألغاز آثار جواً من التوتر … لم يتبدد الا عندما اقترحت التومة :
    • يا أخوأني … والله ما عارفة أقول ليكم شنو … دى تانى مرة تجوا ما تلقوا مشلهت مع إنو كلهم أكدوا إنو نقلوه لمستشفى السكر …
    وتصححها صفية :
    • دى تالت مرة … أول مرة مشينا الحراسة في سوق ليبيا ما لقيناهو … وتتخارج التومة من الموقف ببعض الاقتراحات :
    • غايتو إنتو احسن تمشوا دلوقت وأنا بقعد هنا لحدي ما أشوف الحكاية شنو وبعدين بتصل بيكم … تلفونكم مش شغال .
    • ايوا …
    • خلاص أنا اول ما اعرف حاجة بضرب ليكم …
    • ونطيب خاطرها صفية :
    • يا اختى ما تتعبى روحك .. إنت ما قصرتى … عملتي العليكي … واكتر منو … على اي حال نحنا رضيانين بالبسوي الله … وما فى حاجة بتتعمل بدون اراداتو …
    وتصر التومة :
    • لا إنتو لازم تمشوا وأنا بقعد هنا اصلو ما عندى حاجة لحدي ما اشوف الحكاية دى اخرتها شنو …
    ويتحرك الجميع نحو الخرطوم بحري عائدين على عربة عبد الباقى صديق حيدر.
    لقد ألجمت الدهشة ألسنة الجميع … كل الافكار التى تدور برؤوسهم لا تصلح لطرحها داخل العربة لأنها لا تقدم ولا تؤخر … هى عملية اجترار لما حدث منذ اليوم الاول الذي اختفى فيه مشلهت وكانه فص ملح وذاب …شئ تبخر فى الهواء الا إنه يعاود الظهور من وقت لآخر فى الحراسات وفى المستشفيات … او سراب … يظهر من بعيد لا يدركه احد … ولكن ما معنى كل هذا ؟
    وهناك امام منزل مشلهت كان علاء يقف متحفزاً للخروج بنبأ العثور على والده مشلهت الى جميع سكان الحى ولكن لا يبدو أن العربة تحمل شخصاً اخر … بل أنها تنقص فرداً واحداً وهو التومة الممرضة … فما الذى حدث ؟ … كان هذا هو التساؤل الذى حمله علاء على شفتيه دون أن يلفظه … فاذا بالاجابة تأتيه :
    • ما لقينا أى حاجة …. تعبنا ساكت … اتخمخمنا ومشينا .. لكين الحكاية طلعت فشوش …
    • يعنى ما لقيتوا ابوى .
    • ابداً …

    ***
    وهناك فى مكان فى مستشفى اخر بمدينة الثورة كان مشلهت فى إنتظار عودة سائق التاكسى يحمل شيئاً يؤكل … وكذلك كان الشرطى الحارس لمشلهت ..
    وبعد فترة غير قصيرة عاد صاحب التاكسي يحمل معه بعض السندوتشات وزجاجات الماء … فترة الغذاء تخللتها بعض الحكايات عن حوادث المرور اذ أن صاحب التاكسى كان يحكى عن السبب الذى ادى لتاخيره هو أن الشارع كان مغلقاً بسبب عناق حميم حدث بين امجاد وركشا .. غير أنه لم تحدث اصابات تذكر .. وأن مكان الحادث كان مكتظاً بالذين وقفوا يتفرجون على ذلك الحادث … وبالرغم من أنه كان بسيطاً الا أنه كسر ذلك الركود لعشرات المتفرجين الذين اصيبوا بخيبة امل دفينة عندما كانوا يسألون وتأتيهم الاجابة :
    • ما حصلت حاجة … كل الناس كانوا سالمين …
    الأمر يحتاج الى تحريك بجرح هنا وجرح هنا او موت هنا … او موت هناك … حتى يحدث فضولاً واهتماماً زائداً …
    ويقول سائق التاكسي :
    • هسع الناس دي… كلها جات اتكبت في الخرطوم بعدين اهو يموتوا فى المواصلات بالشكل دا …
    • المعايش جبارة .
    • وين المعايش يصيح سائق التاكسى … معايش هنا فى الخرطوم ودي عيشة دي ..
    ولكن الشرطي لا يوافقه مائة بالمائة …
    • برضو أخير من المحل الجات منو الناس …
    مشلهت كان يهمه شئ واحد هو أن يفرغ الجميع من الأكل وأن يتجه سائق التاكسي الى بحري لإحضار عائلته له …
    سائق التاكسي كان يجمع بقايا الأكل في أوراق الصحف التي جاء يحمل في داخلها السندوتشات …. استرعت إنتباه مشلهت صورة منشورة مع خبر صغير جانبها … الصورة ليست غريب عليه … هذا شخص مألوف .. تناول الورقة … أنها صورته … نعم صورته وبجانبها خبر يقول أن أهل مشلهت يحتسبونه عند الله … بعد أن توفى في حادث حركة مؤلم … وبحركة لا إرادية … وضع مشلهت يده على رأسه وتحسس رقبته .. ما معنى هذا؟ … من الذي قال لهم أن مشلهت قد لقي حتفه في حادث حركة او حادث مرورى ؟ كيف صدقوا هم هذا الخبر ؟ ولماذا لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عنه ؟ اذن هذا يفسر عدم اهتماهم بأمره وهو الذى ظل يرسل الوفود تباعاً ليخبرهم أنه موجود … هل وجدوا جثة لشخص يشبهه فكفنوها ودفنوها … وفرشوا حدادا عليه يتقبلون التعازي؟ … وماذا عن ابنه حيدر المغترب فى السعودية ؟ هل اخبروه وهل حضر تاركاً عمله… كل ذلك بسبب خطأ لم يتبين احد حقيقته ؟ لقد صدمته تلك الصحيفة وهى تحمل خبر نعيه … كما لم يصدم من قبل . وماهو وضعه ؟ … هل يعتبرونه ( بعاتيا) او شبحاً من الماضي ؟ … ام سيقيمون له حقيقته جديدة على أنقاض ذلك الخطأ غير المتعمد ؟ لقد كان جل همه ينحصر فى الاتصال بأهله ثم بالحصول على مصل للوقاية من تبعات عضة الكلب … و اطل هم جديد …. هو أن يثبت أنه حى يرزق وشعر برجفة وقشعريرة سرت فى جسده … لعلها اشارة من الجهاز العصبى الذى يرفض بشدة فكرة موته …. أن للجسد لغة فصيحة لها مفردات عديدة تنقل ما تود الافصاح عنه من خلال اشارات وخلجات اشبه بإشارات المرور …. وشعر فى تلك اللحظة أن واجبه أن يتحرك من مكانه ويذهب مع سائق التاكسى الى منزله ليؤكد لهم أنه حى … الا أنه تذكر ذلك الشرطى الذى يحرسه … ولذلك صاح يتحدث مع سائق التاكسى .
    شوف اوع تمشي وتجي بدونهم … لازم تجيبهم معاك … ولوما لقيتهم فى البيت …. اسال الجيران عنهم لحدي ما تعرف محلهم وتجيبهم .
    وتنتاب سائق التاكسى نوبة من الظرافة والنكتة .
    • يعنى يا غرق يا جيت حازمة .
    ويشدد مشلهت :
    • غرق ولا ما غرق … المهم تجي ومعاك المرة والاولاد … يلا … من دربك دا عديل حسب الوصف الأديتك ليهو … لا تلف جاي ولا جاي .
    ويشارك الشرطي فى هذا التأكيد :
    • إنت بس اعمل زي ما قالوا ليك … تمشي طوالي تجيب الاولاد وتجي .
    ويشعر سائق التاكسى باهمية الموضوع :
    • خلاص …. خلاص … من دربي دا … ويا بحري جاك زول … اها مع السلامة … ما نضيع الوكت فى الكلام .
    أنطلق سائق التاكسي وهو يشعر بعظم المهمة الملقاة على عاتقه وعاتق عربته … وبعد أن تبع الخريطة التى سمرها مشلهت له فى دماغه … وصل الى ذلك الباب الحديدي المطل على ( فسحة ) يلعب ويتغبر بترابها بعض الصبية والاطفال.

    طرق الباب … مضت مدة ثم سمع حركة ارجل تقترب من الباب ..وفتح الباب على بنت صغيرة .
    • يا بت …. اهل البيت ديل وين .؟
    • في ..
    • موجودين؟
    • ايوا
    • طيب امشى نادي زول كبير
    • زول كبير منو؟
    • اي زول …
    • راجل ولا مرة ؟…
    • لا حول ولا قوة الا بالله … يا بن انتي جابوكي من وين؟
    بقول ليكي امشى نادي اي زول … راجل … مرة … اي زول …
    وتسمع امها جزءاً من هذا الحوار:
    • شنو يا بت … بتتكلمي مع منو ؟
    • مع راجل …
    • اجي الراجل منو كمان ؟
    • وتتحرك امها بعد ان تعدل ثوبها ثم تتجه نحو الباب
    • حبابك
    • اهلا …. ازيك … اصلو انا جاي لأهل البيت ديل موصيني ليهم مشلهت .
    وتنظر المرة بريبة وشك لسائق التاكسي … فهذه ليست المرة الاول ولا الثانية ولا الثالثة التي يدعي فيها احد أنه يحمل وصية من مشلهت ثم " يطرشق" الموضوع ..
    وتتساءل المرأة :
    • انت بتقول مشلهت ؟
    • ايوا …
    • يا خوي مشلهت منو ؟
    • مشلهت سيد البيت دا
    • لاقيتو وين ؟
    • انتي بتحققي معاي دايرة شنو . … انا قلت ليكي نادي لي مرتو ولا أولادو ولا اي زول يجي معاي يمشى معاي …
    • يمشى معاك وين؟ …
    • يمشى معاي الاسبتالية …
    • وتصمت المراة برهة وتزداد شكوكها :
    • يا خوي … كان للاسبتالية الناس ديل هسع جو راجعين من الاسبتالية وما لقو مشلهت … تجي انت تقول الاسبتالية .
    • يا ولية … انا من الصباح في الاسبتالية معاهو … مافي اي زول جاهو هناك …
    وتستنكر المرأة ما يقوله سائق التاكسي :
    • اجي … عاد دا سمعتو بو ؟ كيفين يعني ما جا زول هناك؟ .. ومال الناس ديل كلهم بصمتهم ركبوا في عربية الجنا … عبد الباقي ومشوا وجوا راجعين… يكونوا مشوا وين يعني ؟
    ويصيح سائق التاكسي :
    • انتي من فضلك امشى كلمي اي زول من ناس البيت … وما تعملي معاي حجة فارغة .
    وتتحرك المرأة إلى داخل المنزل وهي تجذب بنتها من يدها وتغمغم :
    • هو شنو هو الحكاية ؟ الزول بقى في حق الله … الناس ما يريحوهو ؟ عاد يا ناس الدنيا .. قبلكم وحدكم … قال مشلهت قال… هو مشلهت وين؟ …
    وتدخل على صفية فتجدها مستلقية على سرير في فراندة احدي الغرف … وقد استغرقت في النوم بعد ذلك المشوار .
    • هوي … يا صفية .. صفية ..
    • تهب صفية فزعة … كمن عاد من رحلة بين السماء والارض وفجأة وجد نفسه مستلقياً على سرير في تلك الفراندة .
    • بسم الله الرحمن الرحيم … مالك يا ولية خلعتيني ؟ الحصل شنو ؟
    وترجع المرأة إلى الخلف وهي تلمح عيني صفية المحمومتين …
    • معليش … اصلو في راجل واقف برة
    • راجل منو؟
    • ما بعرفوا … لكين سايق ليهو تاكسي .
    • ومالو … عايز شنو ؟
    • والله قال كلاماً كدي تلاطيش … تلاطيش .. قال موصيهو مشلهت
    • وتصيح صفية :
    • مشلهت تاني ؟ يا ناس خافوا الله … نحنا صبرنا ورضينا بالقدر … لكين جنس دا اصلوا ما سمعنابو ولا شفناهو … كل دقيقة جايينا زول ناطي قال مشلهت موصيهو … ولما نمشي ما نلقي حاجة … وهسع قال عايز شنو يعني ؟
    • والله انا ما نضمت معاهو كتير … بس قال لازم يقابل زول عشان يكلمو بحكاية مشلهت … وانا قلت ليه انتو مشيتوا كم مرة وما لقيتوا حاجة .
    • امشى قولي ليهو … اولاً مافي راجل في البيت … حيدر وعلاء وصاحبهم عبد الباقي مشوا للخطوط عشان حيدر عايز يحجز للسفر .. راجع السعودية وانا طبعاً محبوسة ما بقابل رجال .
    • ياهو كدي الكلام … بعد دا اخير ياخد بعضو ويمشي . وتعود المرأة لتخاطب سائق التاكسي :
    • يا خوي … البيت مافيهو راجل هسع … علاء وحيدر مشوا مع عبد الباقي عشان حيدر بدور يحجز مسافر السعودية .
    • حيدر منو؟
    • حيدر ما بتعرفو
    • ما بعرفو؟
    • عاد كيفين ما بتعرف حيدر وبتعرف ابوه لمن وصاك؟ اها هسع كن لقيت حيدر جاي تقول لو شنو وانت ما بتعرفو ؟
    • يا ولية انا زول موصيني مشلهت عشان اقابل اي زول في البيت آخدو معاي… وهو ما شرح لي عندو ولد اسمو حيدر ولا علاء … بس قال لي تمشى تجيب اهل البيت … هسع لو ممكن تكلمي مرتو …. تجي تمشى معاي .
    • اجي .. تمشى معاك وين ؟ وهي محبوسة … لا بتقابل رجال ولا غربا
    ويتساءل سائق التاكسي
    • محبوسة كيف ؟
    • الحبس الواحد دا … مالك ما بتعرفو كمان؟ المرة وكت راجلها يموت ما بتتحبس؟.
    • وتتحبس ليه ؟
    • قلت ليك المرة لما راجلها يموت ما بتتحبس؟
    • لكين دي راجلها ما مات … راجلها حي … انا بقول ليكي هو مرسلني … تقوم هي تنحبس ليه ؟
    • يا زول صفية ما بتمشي معاك … كن قعدت في محلك دا لي بكره .. ومافي مرة راجلها ميت وفي الحبس بتفك الحبس وتقابل الرجال الأغراب … دي صفية ما بتسويها .
    ويحتار سائق التاكسي :
    • وطيب انا اعمل شنو ؟ مشلهت مشرط على انو ما ارجع فاضي …. لازم أجيب زول معاي … وانا هسع بطلت شغلي لي يومين في الحكاية دي؟
    • بطلت شغلك بطريقتك … ولكن مافي مرة بتمشى معاك وانت مشلهت دا ما تجيبو هو بنفسو مالو ما جا معاك؟
    • أولا هو حاجزنوا في الاسبتالية …
    • ما قلت ليك الاسبتالية دي مشو ليها مرتين مالقوهو .
    • هم مشوا ياتو اسبتالية ؟
    • ما عارفة … لكين انا متوكدة انهم مشوا الاسبتالية مرتين مالقوه … وهسع انت ما قلت لي لشنو هو ما جا معاك … يعني حالتو ختري ؟
    • لا … حالتو ما ختري … لكن معاهو واحد بوليس حارسو …
    • يا كافي البلا … وحايد المحن .. بوليس عشان شنو؟ يا زول أمشى شوف لك زولاً تاني … مشلهت من يومو وزمانو لا هو زول بواليس ولا زول محاكم ولا زول شبك … زول خايف ربه وماسك دربه عديل..
    ويقف سائق التاكسي ولا يعرف ماذا يفعل .. فكيف يؤكد لهذه المرأة أو زوجة مشلهت أن مشلهت بخير وأنه يود أن يرى زوجته وأولاده الذين انقطع عنهم قرابة الأسبوعين .. ولا أحد يصدقه ألآن عندما يقول انه يحمل وصية من مشلهت .

    في هذا الأثناء كان مشلهت يحسب الدقائق والثواني ولم يتوقع ان يستغرق سائق التاكسي كل هذا الوقت لكي يحضر عائلته … فالمسافة مهما بعدت لن تستغرق هذا الزمن ويلتفت إلى رجل البوليس المكلف بحراسته :
    • تفتكر بتاع التاكسي دا ما أتأخر؟
    • يمكن يكون أتأخر شوية … لكين الغايب حجتو معاه … غايتو انت اصبر … وهو بجي .
    وينتظر مشلهت والقلق ينشب مخالبه في روحه وتتمدد براثن غربة هائلة في داخله … هذا المكان لا يعرفه ولا ينتمي إليه … انه يفقد علاقته بالأشياء … هل صحيح إنه مات ؟ لقد قرأ نعيه في الصحف … والصحف عادة لا تكذب في مثل هذه الأخبار فلا يمكن ان تنشر أية صحيفة صورة لشخص متوفي ومعها نعياً له ثم تنفي ذلك في اليوم التالي … فأغلب الظن انه قد توفي ودفن وانتهت رحلة الحياة لديه بتلك الصورة التي اقتلعوها من جواز سفره وبعثوا بها للجريدة لانها تحمل ختماً ظهر جزء منه على الصورة .
    هذه الوجوه من حوله تبدو مصلوبة على الأسرة … يدخل آخرون ويخرج آخرون ولكن نفس الملامح والشبه … نظرات … نظرات منطفئة من المرض … ونظرات اكثر انطفاءة من الجوع. وعندما يغادر الشخص المستشفى يوصونه ألا يكثر من الأكل. كلمات معلقة في زور أي مغادر للمستشفى مع إنه لو كان يأكل تلك الأشياء لما أصابه مرض في المقام الأول . طافت هذه الأفكار بذهن مشلهت وهو في انتظار سائق التاكسي … تري ما الذي أخره ؟ هل زحمة الشوارع أم حدث له مكروه أم أوقفه شرطي مرور .
    وسائق التاكسي يقف محتاراً .. يود لو يصرخ في آذان جميع اهل الحي ويخبرهم ان مشلهت موجود وانه يود ان يرى عائلته واولاده حتى يطمئن عليهم ويطمئنوا عليه ولكن لا احد يصدقه … وهذه المرأة تقف امامه حاجزاً منيعاً بين ما قد كان وبين ماهو كائن فعلاً .
    ويسأل المرأة :
    • طيب .. حيدر بجي متين ؟
    • انت بتدور تنتظرو ؟
    • ايوا
    • والله عاد اقول ليك شنو… الله عليمو … هو ماشي يحجز وعنده غشوات .
    • طيب ممكن تقولي ليهو ما يسافر لحدي ما يعرف حقيقة ابوه … وانا حتماً بجي راجع تاني
    • تجي تسوي شنو ؟
    • انت مالك اجي اسلم عليهو مش على كيفي ؟
    • ونان هسع ما قلت ما بتعرفو
    • ويكاد ينفجر من الغيظ
    • يا ولية … انتي مالك ومالي …. اجي ولا ما اجي … الراجل يمكن لما احكي ليهو يصدقني ويمشى معاي يشوف ابوه …
    وفي هذه الاثناء يمر احد الجيران … ويسمع جزءاً من هذا الحوار :
    • شنو يا اخوانا الحاصل شنو ؟
    ويلتفت سائق التاكسي ويحمد الله ان بعث له رجلاً ربما يستمع إليه فيسأله :
    • انت ساكن هنا …
    • ويجيب الرجل :
    • ايوا انا اسمي العاقب … وساكن هناك في البيت القصاد الشجرتين ديك .
    • الحمد لله .. شوف يا إبن العم … انا لي يومين في الاسبتالية في أم درمان مع مشلهت … وهو وصاني قال اجي ابلغ اولاده انو هو موجود واجيبهم معاي عشان يطمئن عليهم ويطمئنوا عليه .. لكين المرة دي ولا حتى مرتو عايزين يصدقوني .
    • انت قلت مشلهت
    • ايوا
    • عجيبة والله .. مشلهت دا نحنا دفناهو وفرشنا ليهو هنا …
    • يا خوي … يمكن داك زول تاني .. وهسع انت بتقول انك جارو ؟
    • ايوا بلحيل ..
    • وبتعرفو كويس .
    • جداً … كمان مشلهت بيغباني ..؟
    • طيب ممكن تجي معاي تشوفو بعينك وتحكم بنفسك وتجي تكلم أهله هنا ؟ أنا ما لقيت ولده حيدر ولا ولده علاء .. فبالله عليك تمشي معاي الزول دا في حالة بطالة جداً … ولو ما مشى معاي اي زول من هنا … يمكن تحصل ليهو حاجة .
    ويقف العاقب … جار مشلهت … برهة يفكر .. ويقلب الموضوع في ذهنه … ولكنه يعود إلى نقطة البداية :
    • طيب الزول الدفناهو دا منو ؟
    ولا يجد سائق التاكسي إجابة حاضرة لأنه هو أيضا لا يعرف حقيقة الشخص الذي دفن ولا حتى مشلهت نفسه يعرف ما الذي حدث ومن الذي دفن بدلاً عنه .. كل ما يدريه انه هو ليس ذلك الشخص المدفون .
    ويلمح العاقب في نظرات سائق التاكسي توسل ملح واستجداء ان يذهب معه ليحسم هذا الموضوع طالما إنه يعرف مشلهت معرفة حقة إذ يقول انه نشأ في نفس الحي الذي نشأ فيه مشلهت … فيقول ؟
    • طيب … انا بمشي معاك … لكين انت بعدين تجيبني راجع
    ويتنفس سائق التاكسي الصعداء :
    بجيبك راجع ونص وخمسة …
    ويلتفت للمرأة قائلاً :
    • خلاص … قولي لمرة مشلهت نحنا ماشين نجيب ليها حقيقة مشلهت … وهي ما عليها حبس ولا حاجة .
    ويتحرك التاكسي وعلى ظهره سائقه والعاقب جار مشلهت الذي يعرفه حق المعرفة.
    يقف التاكسي أمام المستشفى … ويخرج سائقه بسرعة فائقة … وينزل العاقب على مهل لانه يشكو من رطوبة كان كثيراً ما يتحدث عنها لمشلهت … ويتبع سائق التاكسي فيبادره :
    • وين الجماعة ما جبتهم معاك ؟
    • الأولاد ما لقيتهم … قالوا حيدر مشى يحجز عشان يرجع السعودية .
    • يعني حيدر ذاتو جا … طبعاً إذا كان أبوه مات ليه ما يجي … وصفية مالا ما جات معاك ؟
    • زوجتك ؟
    • ايوا
    • دي قالت هي محبوسة ما بتقابل الرجال ويصيح مشلهت غير مصدق :
    • محبوسة على منو ؟ على انا ؟ طيب انا أهو حي وما مت … المرة دي جنت ولا شنو ؟ وعملت شنو طيب ؟
    • جبت ليك واحد من جيرانك اسمو العاقب … ويصيح مشلهت بفرح :
    • حاج العاقب …. وينو هسع ؟
    • اهو جاي بوراي … اصلو عنده رطوبة … ومشيهو تقيل .
    وفي نهاية الممر يظهر حاج العاقب وهو يسير ببطء …
    ويسارع سائق التاكسي ويمسك بيده ويساعده إلى حيث يوجد مشلهت :
    • اها وينو مشلهت؟
    • اهو قدامك …
    • ويحدق حاج العاقب في الشخص الواقف أمامه الممدود إليدين ولم يصدق :
    • دا مشلهت …؟
    • ايوا … دا مشلهت …
    • لا يا خوي .. دا ما مشلهت … مشلهت ما كدي … !!
    شئ يعصف بمشلهت كالملح في حلقه … لم يصدق مشلهت ان يديه تيبستا في نصف المسافة وهو يمدها ترحيباً بحاج العاقب الا ان حاج العاقب الذي نشأ معه في ذات الحي … انكره أمام الجميع :
    • دا مشلهت ؟ … دا ما مشلهت … مشلهت ما كدي …
    وكيف يكون مشلهت إذن ؟ وكيف يبرهن مشلهت إنه مشلهت الذي عاش حياته كلها وسط قومه ما عدا تلك السنين التي قضاها في الاغتراب بعد ان أجبرته ظروف الحكم المايوي على مغادرة السودان بعد ان كان وكيلاً لإحدي الوزارات ذات الشنة والرنة ؟
    • يا حاج العاقب … ما عرفتني ؟
    • ما عرفتك انت منو ؟
    • لا حول ولا قوة الا بالله … انا مشلهت يا حاج العاقب … مالك انت حاصل عليك شنو ؟
    • انا ما حاصلة على حاجة … لكن انت ما مشلهت البنعرفو … مشلهت داك غير كدا … وما بشبهك ولا انت بتشبهو .. وبعدين يا أخي مشلهت مات ودفناهو وقعدنا في فراشه كيف يعني بتكون انت مشلهت؟
    • يا حاج العاقب … انا بقول ليك انا مشلهت … حتى كمان انا بعرف أولادك على وصبير …
    • يا زول هوي … كن بتعرف شنو … انت ما مشلهت … واخير ليك تقول انت منو … قوم يا زول وديني … قال هذا الكلام وهو ينظر ناحية سائق التاكسي حاثاً له على الذهاب . سائق التاكسي كان يستمع لهذه المحادثة وهو غير مصدق … لابد ان أحد الرجلين يكذب وخرج سائق التاكسي من العنبر وسط دهشة الشرطي ومشلهت الذي قذفته المفاجأة في قاع التساؤلات والإحباط والحيرة ...حاج العاقب الذي خاطبه إبنه حيدر بخصوصه وانه يود من مشلهت ان ينقل له رغبة حيدر في الاقتران بإبنته فائزة … كيف يتناسى عرفته … وماهو الهدف من وراء ذلك ؟
    ويغمغم الشرطي :
    • دا كلام شنو دا ؟ … هسع طيب الزول دا منو .
    • ويفتح سائق التاكسي باب عربته ثم يقفز في داخلها .. بينما يتحرك العاقب ببطء حتى يقترب من باب العربة وبعد جهد يستطيع ان يفتحه ثم يرمي بجسده على المعقد .
    • يا لطيف …
    • ويتحرك التاكسي … ثم يقول حاج العاقب :
    • انت هسع موديني وين .
    • موديك محل ما جبتك … موديك بحري طبعاً …
    • وأسوي شنو في بحري ؟
    • الله … انا مش جبتك من بحري ؟
    • انتي جبتني من بحري … ؟
    • بسم الله الرحمن الرحيم .. جبتك من وين طيب ؟ … انت مش ساكن جنب ناس مشلهت ؟
    • ايوا … ايوا …. ايو خلاص نمشي بحري … قول يا لطيف .
    وتدور بذهن سائق التاكسي أسئلة كثيرة … ما معني هذه الأسئلة التي يسال عنها حاج العاقب ؟ لقد اتفق معه ان يحضره لمشلهت في المستشفى وان يعيده إلى المكان الذي أخذه منه … وألآن فان المهمة التي نقل حاج العاقب من أجلها إلى مقابلة مشلهت قد انتهت ولكن إلى غير ما يشتهي أحد … وهاهو يحمله إلى منزله … فلماذا يسأل بتلك الطريقة … هل يمكن ان يكون حاج العاقب قد "خرف" وانه لا يعرف الناس ؟ إذا كان هذا هو الحاصل فان هذا يوضح لماذا لم يتعرف على مشلهت … والتفت سائق التاكسي إلى يمينه فإذا بحاج العاقب يغط في نوم عميق وقد فتح فمه واخذ يشخر بصوت واضح … ومن وقت لآخر يفتح عينين محمرتين عندما يتوقف التاكسي عند إشارة مرور يسأل :
    • يا خوي .. انت موديني وين ؟
    • موديك لبيتكم يا حاج …
    • كدي؟
    • أيا …
    ويواصل نومه مرة أخرى …
    وتوقف سائق التاكسي أمام الشجرتين في نهاية الشارع الذي يقع فيه منزل مشلهت ويوقظ الحاج :
    • يا حاج … يا حاج … خلاص وصلت …
    • وصلت وين؟
    • وصلت بيتك
    • وينو بيتي؟
    • ماياهو دا القدامو الشجرتين … مش انت قلت دا بيتك ؟
    • ايوا … لكن قاعدة فيهو بتي … قول يا ليطف …
    وخرج حاج العاقب ببط شديد من التاكسي … وبدلاً من ان يتجه نحو بيته … اتجه في الاتجاه الآخر … فإذا بسائق التاكسي يناديه :
    • وين يا حاج … وين ماشي .. ؟ دا مو بيتك ؟ …
    • ايوا … بس عايز أسأل صاحب البفالة
    • تسأل صاحب البقالة؟ والله حكاية …
    واخيراً قرر سائق التاكسي ان يقود عربته ويغادر … فقد أوفى بوعده واوصل حاج العاقب إلى منزله … أما إذا أراد حاج العاقب ان يذهب لصاحب البقالة فهذا من شأنه بينما لا توجد بقالة في الإتجاه الذي ذهب إليه حاج العاقب.
    ويستعيد سائق التاكسي في ذهنه تلك الأحداث العجيبة … ولا يدري ما الذي يمكن ان يفعله مشلهت بعد ألآن … واحس بتعاطف قوي وعميق يربطه بمشلهت … ولا يمكن ان يتركه في محنته هذه … صحيح إنه لا يدري لماذا يرافق ذلك الشرطي مشلهت ولكن الذي يدريه هو إنه يواجه محنة قاسية … تتشابك حلقاتها كل يوم ولا يدري أحد كيف ستنتهي .
    مشلهت يجلس حائرا … ما معني كل هذا ؟ … أهله لا يصدقون انه على قيد الحياة … وذلك بعد ان قاموا بثلاث زيارات لمراكز الشرطة والمستشفيات … والشخص الوحيد الذي زاره كان يمكن ان يساهم مساهمة فاعلة في حل مشكلته لم يتعرف عليه …
    وبحث مشلهت حوله ليجد مرآة يرى فيها صورته … وهل صحيح إن ملامحه قد تغيرت إلى الحد الذي جعل حاج العاقب لا يتعرف عليه ؟ حمامات المستشفى ليست بها مرآة … ولو كانت بها بقية من ماء فان هذا يعتبر محمدة عظيمة للفيلق الإداري الذي يقود المستشفى .. واخيراً هداه تفكيره ان ينتهز فرصة الزيارة ويتقدم لأي فتاة تحمل شنطة ان تعطيه مرآة ولابد ان تكون هناك مرآة داخل شنطتها … ان فتيات اليوم يحملن معهن غرفة مكياج متحركة ويضربن بأحمرهن على شفاههن فلا نامت أعين المتطفلين .
    جلست الفتاة بالقرب من والدها على السرير وأول شئ وقع عليه نظر مشلهت هو شنطتها وكانت الفتاة تضبطه من وقت لآخر وهو يطيل النظر لشنطتها … فتغير من جلستها وتضع كفيها الاثنتين على الشنطة … ولكن الأمور لا يمكن ان تسير هكذا … فزمن الزيارة سينتهي وستغادر الفتاة المستشفى دون أن يكون مشلهت قد نظر إلى وجهه في المرآة … فتشجع وقال لها :
    • يا بتي …. ما عندك مراية أشوف فيها عيني دي … باقي وقعت لي فيها وقيعة .
    ألآن فقط تدرك الفتاة لماذا كان هذا الرجل يطيل النظر إلى شنطتها … فأسرعت بالبحث في محتوياتها وناولته مرآة صغيرة مستديرة .. لا يستطيع أن يرى فيها كل وجهه في آن واحد … ولذلك قرر ان يقسم مساحة وجهه ( لحواشات) صغيرة يمر من خلالها على تفاصيل ما حدث له في الأسبوعين الماضيين منذ أن فارق بيته .
    تجاعيد مبعثرة تحت العينين أصبحت سوداء وذات خطوط واضحة تفشى فيها قلق واضح … وعلى جبينه تقطيبة لم تكن موجودة من قبل ولكنها حفرت أخدودا بين الحاجبين … أما الشيء الذي غطي مساحة كبيرة من وجهه كانت ذقناً ( بلاك آند وايت) مثل التلفزيون ابيض واسود يمكن ان تقاس بالبوصة .. لقد مضي الزمن الذي كان يمكن ان يرى فيه صورته وهو يرتدي ذقناً سوداء … لان طيلة مرحلة الشباب هو لم يدعها تنمو بل كان يحلقها .. واليوم يا عجائب الزمان .. هاهي تخرج من قبوها بيضاء من غير سوء … يتخللها بعض السواد … انتهزت فرصة إنشغال مشلهت بمشاكله المتعددة فلم ينتبه لحلاقاتها كما كان يفعل … فنمت وترعرعت وها هي تطل من وجهه معلنة للجميع ان هذا ليس بمشلهت … والا لماذا لم يعرفه حاج العاقب ؟
    ولكن هل تعرفه زوجته وأولاده ان رأوه على هذه الحال ؟ تلك أمور يصعب الجزم بشأنها ولكن … مشلهت لم يكن يدري ان حاج العاقب قد (خرف) وإنه أصيب بمرض الزهايمر أو النسيان منذ مدة وان أولاده بحجة العلاج حجزوه في المنزل فترة طويلة وأول يوم يغادر فيه المنزل كان عندما سمع بوفاة مشلهت ثم عندما وجد سائق التاكسي يقف أمام منزل مشلهت … ولهذا عندما عاد سائق التاكسي ووجد مشلهت ينظر في المرآة بادره مشلهت قائلاً :
    • شفت المصيبة … الزول الجبتو ما قدر يتعرف علي ونحنا ناس ساكنين سوا … يعني بعد دا معقول أولادي يتعرفوا علي ..؟
    • ويرد سائق التاكسي :
    • أولادك يا خوي … ما ممكن ما يتعرفوا عليك … علا بس الموضوع يعني الله ما أراد يلاقيك بيهم … وهسع لو مرتك ساكت سمعت كلامي وجات كان خلاص الموضوع اتحل … لكين هي المسكينة عشان جات تلاتة مرات وطلعت الحكاية فشوش استسلمت ورضت بحكم السيد .
    ويرد مشلهت بيأس :
    • وحتى ولو جات ما حتعرفني … انا ذاتي ما كنت قايل شكلي دا بتغير بالطريقة دي .. وبعدين يا أخي حاج العاقب نفسه ما عرفني
    • ويوضح سائق التاكسي مخففاً عن مشلهت ما يحس به :
    • حاج العاقب دا بقولوا في كلاماً … والله انا ذاتي ما خابر حكايتو شنو … مرة يقول لي انت موديني وين وهو عارف انا موديهو البيت .. ومرة يقول لي المحل دا … وين .. يا خوي .. الزول دا ظنيتوا عقلو ما تمام
    ويرد مشلهت بقوة :
    • كيف يا راجل تقول على حاج العاقب كدا … دا مخه زي الساعة الراجل كان محاسب كبير وحافظ ليك الأرقام كلها … تجي تقول لي عقلو ما تمام؟ .. عقلوا تمام وستين تمام … بس انا الشكلي ما تمام … وخلاص نقنع من حكاية ناس البيت دي لحدي ما انا أمشى ليهم برجلي … يمكن ربك يفرجها … وزي ما شايف … اهو انا هنا في الاسبتالية مافي زول عمل لي حاجة … بس كل يوم تجي الممرضة تغير الجرح وتسألني:
    ما جابوا ليك المصل ؟
    وانا خلاص نسيت حكاية المصل دي وبقيت على طينة ود الطريفي .. ويؤكد سائق التاكسي :
    • يا زول ارقد قفا …الطينة دي اصلو ما بتجيك معاها عوجة .. لكين يا أخوي مشلهت بدور اسالك … انت خبارك معاك البوليس دا هنا … سويت شنو ؟
    • دي زي ما قلت ليك قصة طويلة … واخذ مشلهت يحكي قصته لسائق التاكسي والذي ازداد تعاطفاً مع مشلهت … وكأنه يستمع لقصة من قصص الأحاجي التي كانت تقصها جدته عليه وهو صغير ينام على رجليها في قريته … ولا بد ان يجد حلاً لمعضلة صديقه مشلهت فيقول :
    • اسمع … انا بكرة بمشى لمركز سوق ليبيا أشوف القضية عملوا فيها شنو … لازم يحكموا فيها عشان تعرف البيك والعليك …
    ويراجعه مشلهت :
    • يا أخي … انت هسع بطلت شغلك … وضيعت وقتك معاي كتر خيرك .
    • لا والله … انا ما عملت الا الواجب … وبعدين الناس بالناس وكان للشغل … انا عندي موظفين بوصلهم واخر اليوم برجعهم والصباحية دي كلها شغال … وموضوعك دا لو ما خلص انا أصلي ما برتاح …
    • يا أخي كتر خيرك .. والله قمت بالواجب واكتر وما خليت للرجالة شئ … وعلى أي حال ما تتعب نفسك ناس القضية نفسهم بجوا هنا عشان يحققوا معاي … وهم اصلاً اخدوا أقوالى …
    • لا … انا لازم أمشى ليهم …
    وتمد الفتاة يدها لمشلهت .
    • عمو … إذا انتهيت من المراية …
    • ايوا .. يا سلام … اتفضلي … شكراً جزيلاً.
    ويناولها المراية ويشعر إنه في هذه اللحظة محتاج لحمام ولماكينة حلاقة ليحلق ذقنه ولنومة طويلة … طويلة …
    وقف سائق التاكسي أمام المتحري…هو يسأل عن قضية مشلهت و أبكر بتاع العناقريب .
    • وليه انت عايز تعرف حاجة عن قضية أبكر بتاع العناقريب ..
    • انا عندي واحد قريبي مقبوض في القضية دي …
    • قريبك اسمو شنو ؟
    • بقولولو مشلهت
    • مشلهت دا … هو وين هسع ؟
    • في الاسبتالية في الثورة
    • والوداهو هناك شنو ؟
    • اصلو عنده قضية مع ناس غرب الحارات .
    • على أي حال بالنسبة للقضية دلوقت قدام النيابة ومر علينا بعد يومين تعرف الحاصل .
    ويقف سائق التاكسي ليشرب ماء من زير تحت شجرة في فناء المركز عندما يقف بالقرب من رجل جاء هو الآخر ليشرب .
    • يا أخوي … بسمعك … بتتكلم مع عن قضية أبكر بتاع العناقريب .
    • ايوا .. باقي عندنا ولدا لينا مقبوض … وجايين نعرف الحصل لهم شنو
    • ويفاجأه الرجل قائلاً :
    • اسمع يا خوي … ولدكم دا … والله قول لو الحبة دي ما جاياك … وخلو إليطمئن
    • كيف ؟
    • انا سمعت كلام كتير … فايت اضاني .. اصلو انا شغال في البوفيه الهناك دا… والخبورات بتجيني في محلي … اها من الخبورات السمعتها قالوا اصلو القضية دي فيها واحد اسمو إسماعيل الساعاتي وإسماعيل الساعاتي دا عنده سفلي وحتى هو اسمو ورد في القضية .. بعدين عاد بقولوا تحت تحت … إسماعيل رسل خدامو … غتسوا ليك حجر القضية … وهسع موهن قادرين يسووا شئ … لكين عليك آمان الله قضية مافي … وهداك إسماعيل الساعاتي في شغلو … دا زول ختري … من المغرب يقفل دكانو وبيتو زي العيادة … والسفلي حقو دا … سفلي كافر … نسأل الله السلامة
    ويتساءل سائق التاكسي :
    • لكين قال القضية قدام النيابة :
    • هي وين … تسمع الكلام دا … غايتو إسماعيل الساعاتي والسفلي بتاعو عملوا عملتهم … وقلت ليك قضية مافي … وكل مرة ما بلقوا أي شهود .
    • لكين المرة دي في شهود .
    • شهود زي منو مثلاً ؟
    • قريبي القلت ليك مقبوض دا … هو الشهد وقال جا عشان يشتري مصل .
    • اوف .. اوف ..اوف .. أمانة ما كتل … لي شنو تخلي قريبك يشهد كدي … والله وقع في ورطة كبيرة … انت قايل إسماعيل والسفلي حقو دا بخلوا قريبك ؟ ديل والله بجهجهو ليك ما يقدر ينضم … إذا كان هم غتسوا حجر القضية ما بقدروا يغتسوا ليك حجر قريبك ؟
    ويشعر سائق التاكسي عوض الله بخوف شديد على صديقه مشلهت … فيستفهم اكثر من الرجل :
    • اسمع انت قلت إسماعيل الساعاتي ما بخليهو ؟
    • طبعاً … يخليهو كيف ؟ تلقي هسع مرسل ليهو السفلي حقو مطير جنو … وفي حالة القضية ذاتها لازم زولك دا يغير اقوالو …. وبعدين انت لازم تمشى معاهو لإسماعيل الساعاتي تراضوه وتخليهو يفكوا … ديل يا خوي ناس الزول العاقل ما بقع في شبكتهم .
    ويتساءل عوض الله :
    • ويعني تفتكر لو مشيت أنا لإسماعيل الساعاتي ممكن يفكو لينا؟
    • دون شك …
    • يفكو كيف؟
    • دي شغلتو هو … بس لازم تمشوا وتراضوه .
    ويتحرك عوض الله وقد ألقي بجسمه داخل التاكسي في طريقه للمستشفى بالثورة وفي ذهنه تختلط أشياء كثيرة .. هل كل تلك المتاعب التي مر بها مشلهت كانت بسبب تلك الشهادة التي أدلى بها ضد أبكر بتاع العناقريب وإسماعيل الساعاتي ؟ هل مجيء أهله وعدم مقابلتهم له وما حدث له مع المسدس وعدم حصوله على المصل وعدم معرفة حاج العاقب له كلها بسبب شهادته تلك ؟ هل أرسل إسماعيل الساعاتي السفلي الذي يعمل معه ليعقدها على مشلهت بمثل ذلك التعقيد ؟ ربما … ولكن من أين يستمد ذلك السفلي قوته وقدرته على تنغيص حياة الأخرين أمثال مشلهت وهو رجل قذفت به الأقدار في دوامة من المشاكل ليس له فيها يد ولا كراع؟ .. صحيح ان الظروف التي مر ويمر بها مشلهت ليست عادية … وكانما الأقدار تترصده لتضع أمامه كومة من العراقيل والمطبات ولذلك قرر ان ينقل هذه المعلومات لمشلهت في المستشفى .

    لم يجد مشلهت ماكينة حلاقة لحلاقة ذقنه ولم يأخذ حماماً بل غط في نوم عميق … تلك الأمنية الثالثة التي لم يستطع أحد ان يحرمه منها … وظلت ذقنه معشعشة تغطي جزءاً كبيراً من وجهه .
    جلس عوض الله سائق التاكسي بالقرب منه يراقب الحركة الروتينية داخل العنابر … كالعادة الباعة المتجولين والمرافقين وزوار المرضي والممرضات والنقالة التي تحمل مريضاً من وقت لآخر لتضعه على سريره .
    واخيراً صحا مشلهت ونظر في ساعة يده ووجد ان وقت صلاة العصر قد دخل . فجلس على سريره واصلح طاقيته بينما كان الشرطي الذي يحرسه ينام على كرسيه وقد اسند يده على حافة شباك العنبر .
    • اها … مشيت للمتحري ؟
    • ايوا …
    • قال ليك شنو؟ …
    • كلامو خلو … قال القضية لسع قدام النيابة لكين انا سمعت كلاماً اخر قالو لي زول البوفية .
    • قال ليك شنو؟ ..
    • قال في واحد أسمو إسماعيل الساعاتي … بتعرف الزول دا ؟
    • ايوا .. بعرفو … دا اصلو الوصلني ل أبكر بتاع العناقريب .
    • وانت عارف عنده سفلي ؟
    • بقولوا كدا …
    • الزول دا قالوا عنده سفلي كافر … وهو رسل السفلي دا وغتس حجر القضية .. وهسع ما لاقينها وقالوا زعلان منك جداً …
    • زعلان مني انا .. ؟
    • ايوا …
    • وانا عملت ليهو شنو ؟
    • كيف … انت شهدت ضدهم وقلت انك جاي تشتري مصل …
    • ودي مش حقيقة ؟ ودي فيها شنو؟
    • فيها انو اسماعيل الساعاتي رسل ليك خدامو عشان يجهجهوك ويخلبطوا عليك امورك … وهسع دا السبب الخلا اهلك ما يلموا فيك و لاتلم فيهم وبعدين عملية القضية الكلو يوم انت داخل في قضية .
    ولم يشعر ان هناك ربطاً بين ما شهد به وما يحدث له .. فمن الطبيعي ان يدلي بشهادته والتي يقول فيها إنه قد جاء لشراء مصل ولا يمكن أن يقول بغيرها
    كما إنه ليس هناك من نبهه إلى هذه المسألة .. ثم انه يمكن ان يدافع عن نفسه لانه لم يجد مصلا في الصيدليات وسمع أن المصل موجود في سوق ليبيا فماذا يفعل؟ …ولكن هل صحيح ان ما حدث له كان بسبب غضب اسماعيل الساعاتي والسفلي؟ … اذا كان الامر كذلك فانه يشكل خطورة عليه .. لقد ظل حياته كلها لا يؤمن بهذه الاشياء … فقال :
    • والراجل دا عايز مننا شنو ؟
    • انا الزول الكلمني قال لي لازم انت تمشي تراضيهو وتتعضر ليهو يمكن يرفع منك شوية …
    • وانا امشى كيف ؟ ما انت شايف الحراسة المشددة دي …
    • ولا يهمك انا بمشى لاسماعيل وبخليهو يشتغل الحكاية دي ويمهد ليك تقابلو

    بالنسبة لمشلهت فالأحداث تأخذ برقاب بعضها وتشتبك كشوك شجر الكتر … لا تستطيع ان تعبر من نقطة إلى أخرى دون ان تدمي جسمك أشواك كانها قرون الشياطين . فما الذي أتي بإسماعيل الساعاتي مرة أخرى في هذا الكابوس المتسلسل … لقد ظن مشلهت ان قضية أبكر بتاع العناقريب وإسماعيل الساعاتي أمرها انتهي بأنتقاله من حراسة سوق ليبيا وتجواله بين المستشفيات وانتهائه بحراسة غرب الحارات ثم إلى هذا المستشفى بالثورة ولكن يبدو انه يجر من خلفه قائمة من القضايا ستظل تلاحقه وتنفرد به وأهله لا يدرون عنه شيئاً . أية ريح مجنونة تلك التي قذفت به إلى هذه الأصقاع دون إرادته واسلمته للتيه والأرق العبثي .
    اقتحم بصره وجه عوض الله سائق التاكسي … وشعر ان عوض الله ضائع مثله .. ولكنه ضائع باختياره … فلم يكن هناك شئ يجبره ان يغوص في وحل التيه الذي يتلاطم حول مشلهت .. هل هو ذلك الفضول الذي ينتاب بعض الناس أمثال عوض الله فيجعله يغرق في تفاصيل كربة رجل اخر ؟ … لا … لا يمكن ان يفسر الفضول بقاء عوض الله بجانبه … شئ يتحرك داخل التركيبة النفسية لبعض السودانيين فيجعل منهم أسرة واحدة … تنهار بين أفرادها الحواجز والأسوار .
    قال مشلهت لعوض الله :
    تفتكر ممكن إسماعيل الساعاتي والسفلي بتاعو البقولوه دا يغطسوا حجر القضية وممكن كمان يتسلط على ويغطس حجري انا ذاتي ؟
    ويجيب عوض الله بالكثير من التأكيد :
    • يا زول … عليك أمان الله … ديل ناساً خترين .. الزول تب ما يرقد لهم على أمان .. وانا عندي الزول لو أتساوى معاهم احسن … على الأقل يكفي شرهم .
    ويتساءل مشلهت :
    • لكين انا ذنبي شنو عشان ما يغطس حجري ..؟ وبعدين يا أخي هو اصلو حيغطس حجري اكتر من دا يعني يعمل لي شنو ؟
    • هه .. يعمل شنو ؟ … قلت لك دا عندو سفلي … جان وجان كمان كافر … والما بخاف الله انت خافو … ونحنا عايزين شنو هسع ؟ نحنا عايزنك تطلع من هنا … عشان تمشي اهلك .. وتشوف حكايتك هناك شنو .
    • طيب انت بتقترح شنو .
    • انا كان في محلك … لازم أصلو … واتساوى معاهو …
    • أصلو كيف؟ … ما انت شايف … انا ما عندي طريقة
    • كيف ما عندك طريقة ؟ انا أولا بمشى بقابل إسماعيل … انت بس وصف لي محلو ..
    • محلو في سوق ليبيا .. لو سالت أي زول .. في محل الإلكترونيات بوريك ليهو … وبعد ما تمشى تقابلو حتقول ليهو شنو ؟
    • انا بعد ما اقابلو … بشرح ليهو ظروفك كلها وبشوفو هو داير شنو …
    • بعدين بجي بوريك ؟
    ويوافق مشلهت وهو غير مقتنع مائة بالمائة ان تلك الخطوة سينتج عنها إطلاق سراحه … فهو رجل متعلم ولا يؤمن بالدجل والشعوذة … ولكن قناعته تلك وهو في محنته هذه اهتزت … فلماذا لا يجرب … ربما كانت هناك أمور هو لا يدركها تقع في لحظة زمنية مصيرية في تاريخه .

    ***
    إسماعيل الساعاتي يجلس على كرسي وأمامه طربيزة لها سياج زجاجي … معلقة عليه بعض الساعات وتناثرت أمامه على سطح الطربيزة عدد من الساعات التي أخرجت أمعاؤها وملأت مساميرها أرجاء المكان … وإسماعيل يضع على عينه عدسة أسطوانية ينظر من خلالها إلى ساعة مكشوفة الحال امسكها بأصابعه وامسك بمفتاح صغير يلعب في أحشائها … و لا يرفع رأسه إلا من فترة لأخرى … أو عندما يريد ان يخاطب الولد الذي يعمل مساعدا له في المحل … ولذلك عندما وقف عوض الله أمامه … ظل إسماعيل فترة منهمكاً في العمل في أحشاء الساعة ثم توقف برهة رفع فيها رأسه فرأى عوض الله يقف أمامه .. فقال :
    • أهلا .. خير
    • خير ان شاء الله .. انا اصلو جاييك بخصوص أخونا مشلهت
    • مشلهت دا منو
    • دا الراجل الكان شهد على أبكر بتاع العناقريب وقال انو جا بيتو عشان يشتري مصل .
    • انا ما بعرف زول بالاسم دا …
    • يا أخي كان جاك هنا … وانت رسلت معاهو واحد وصلو ل أبكر بتاع العناقريب
    • شوف يا أخي انا ما بعرف حاجة زي دي .. ولا عندي علاقة بزولك دا … ولا بي أبكر بتاع العناقريب … يمكن انت وصوك تقابل زول تاني :
    • زول تاني زي منو مثلا ؟
    • الناس كتار … انت أمشي شوف زولك الوصوك تقابلو
    • انا بس وصوني أقابلك انت …
    • يا أخي تقابلني عشان شنو ؟ انا زول ساعاتي … والناس دي كلها بصلحوا ساعاتهم عندي وعارفيني انا ما عندي كدا ولا كدا ولا بشتغل في الأمور الفارغة.
    إسماعيل كان يتكلم بصوت عال وكأنه يريد ان يرسل تلك الرسالة لأحد .
    لم يكترث عوض الله بما كان يقوله إسماعيل إلى اخر الحكاية حتى يفهم حقيقة الموقف ولكن إسماعيل ظل في انكاره بأنه لا يعرف مشلهت أو أي شئ متعلق بقضية أبكر بتاع العناقريب .
    بالقرب من محل إسماعيل الساعاتي توجد كافتيريا من تلك التي تستطيع ان تتحصل منها على زجاجة مشروب غازي وسندوتش شاورما … وفنانة ذات صوت مشروخ تملأ الساحة غناءً هابطاً.
    يا يابا يا والد
    ما تبقي لي عارض
    ود الناس احرجتو
    بسؤالك البارد …
    وبما ان عوض الله طلب شيئاً بارداً يشربه فلا بأس ان يستمع لود الناس وقد أحرجته أسئلة الوالد البارد.. وبينما هو يحتسي مشروبه ويفكر في الذي سيفعله بعد انكار إسماعيل جهاراً نهاراً لعلاقته بأي شئ يختص بمشلهت أو بمشكلته ربت على كتفه المساعد الذي يعمل مع اسماعيل في الدكان … وقال له :
    • اسمع …انا عايزنك في كلمة .
    • ان شاء الله خير…
    • انت لما كنت بتتكلم مع اسماعيل انا كنت بغمز ليك عايزنك تفهم انو اسماعيل ما ممكن يتكلم معاك في موضوع مشلهت هنا في الدكان وناس الأمن في كل بكان .
    • يعني انت بتعرف مشلهت ؟
    • ايوا بعرفو .. واسماعيل ذاتو بعرفو …
    • طيب يعني شنو هسع؟
    • ما قلت ليك يا اخي دا ما محل كلام بخصوص مشلهت ؟
    • طيب هسع نعمل شنو؟
    • هسع بس انت اسمعني ..اولاً لو عايز تعرف حاجة عن قضية مشلهت لازم تجي في بيت اسماعيل .
    • واسماعيل بيتو وين ؟
    • ما هنا ..
    • ما هنا يعني وين ؟
    • بعيد شوية …انا بوصف ليك البيت .. انت لازم تجي بعد المغرب … شفت محطي الرملة …
    • ايوا …
    • لما تصل محطة الرملة .. على يمينك مش في محل اتصالات ؟
    • ايوا…
    • انا بنتظرك هناك في محل الاتصالات … ونمشى سوا …
    • نمشى وين ؟
    • نمشى لبيت إسماعيل …
    • وإسماعيل بيتو مش هنا ؟
    • ايوا … هنا بيتو .. فيهو أولادو … لكين محل الخدام والشغل هناك …
    ويتساءل عوض الله :
    • طيب إذا انا جيت هناك … وبرضو أتغابى فيني العرفة … وقال ما بعرف مشلهت زي ما قال.... هسع انا اعمل شنو ؟
    ويجيب المساعد مؤكداً :
    • ما ممكن يقول كدا … هو ذات نفسه كلمني ورسلني ليك عشان أقول ليك الكلام دا …
    ويطمئن عوض الله سائق التاكسي لما سمعه من المساعد … ويتحرك راجعا من سوق ليبيا … ويعود لينقل ما دار بينه وبين إسماعيل إلى مشلهت … وانه لا شئ يمكن عمله الا بعد المغرب وذلك بعد مقابلة إسماعيل الساعاتي بواسطة مساعده في محطة الرملة .
    ويقول مشلهت :
    • شوف يا عوض الله … انت خلاص كتر خيرك … تعبتك معاي دحين انت أمشى قضي باقي يومك .. وأمشى شوف إسماعيل في المساء وما تجيني الا الصباح بعد ما تودي الموظفين بتاعينك … رينا يقدرنا على جزاك .
    • يا راجل … انا ما عملت الا الواجب .. وانت ان شاء الله ربي يفك كربتك ويفرجها عليك .

    أمور مشلهت وهو في المستشفى تسير بروتينية لا يكسرها الا حضور عوض الله سائق التاكسي والذي لازمه منذ ان تعرف عليه وقد اعتاد مشلهت ان يعطي رجل الشرطة المكلف بحراسته بعض النقود لإحضار طعام له ولرجل الشرطة الذي اصبح يعرف كل شئ عن مشلهت واخذ يشترك معه في اقتراحات تتعلق بحل مشكلته:
    • انا شايف يا مشلهت .. حقو انت تشوف زول يضمنك وتقدر تمشى لأهلك … بعدين يوم القضية تجي .
    • زول يضمني وين ؟ وانا عندي كم قضية هسع ؟ … قضية أبكر بتاع العناقريب وقضية الهدوم بتاعة البقجة الفاتحين على بلاغ فيها والبلاغ المفتوح برضو بخصوص المسدس وكمان ما تنسى انو حاج العاقب ما عرفني … ودا زول نحنا اتربينا سوا … يعني تاني منو الحيعرفني … وطبعاً انا ذاتي بالنسبة لأودلاي مفروض اكون مت … ودي كلها حاجات عجيبة غريبة بتجي من وين انا ما عارف .
    ويوافقه الشرطي إنها فعلاً ظروف عجيبة … غير انه لا يتوانى عن إحضار الطعام .

    ***
    إسماعيل الساعاتي في منزله إسماعيل آخر … ليس هو ذلك الرجل الذي ينكر انه يعرف مشلهت هذا شخص آخر … ذو شخصية طاغية متحكمة… يتحرك وسط الموجودين في تلك الصالة والتي بطنت بستائر حمراء وينطلق من وسطها بخور اجتهدت في صنعه " خردوات" عديدة مثل اللبان وحبة الملوك والكافور الطيار والكابسندة وعرق الطيب وغيرها من العيدان العطرية فتجعل الجو مسحوراً .. يسلب ما تبقي من إرادة مقاومة للدجل والشعوذة … وسط هذا الجو يتحرك إسماعيل وهو يرتدي عباءة حمراء يقال ان السفلي المرافق له أحضرها من فاس أما ما يضعه على رأسه من غطاء اخضر فقد وهبه له شيخه الذي علمه هذا العلم وذلك بعد ان بلغ مرحلة كبيرة في الشياخة … فأذن له بالعلاج وكشف المستور وتسهيل الزواج منهن وان ظفروا بالزواج يسلبهم القدرة فيصابوا بالخزي والعار … فنعوذ بالله من سوء الحال وبلاء المآل وتوبيخ النساء للرجال … يتحرك إسماعيل واسمه في البيت الشيخ إسماعيل وسط ذلك الحشد من الناس من أصحاب الحاجات والمرضى مزهوا بقدراته وما يمكن ان يتحقق على يديه وهو يعرض أصلة ضخمة يلفها حوله … جعلت عوض الله سائق التاكسي يرتجف ويتعلثم وهو يفصح عن مشكلة مشلهت للشيخ إسماعيل :
    • والله يا الشيخ بدور اتكلم لكين المصيبة حقتك دي ام لسنات بالحيل مخوفاني … دحين ابعدها منى خلني اتكلم .
    ويبتسم الشيخ اسماعيل بزهو :
    • اتكلم … اتكلم … دي بس من الحراس … ما بتعمل حاجة
    الجو كله مشحون بطاقة من السحر التي تجعل سيدنا موسى عليه السلام يتخيل من سحر سحرة فرعون ان العصي حيات تسعى … فلا غرو ان تملك ذلك السحر وجدان عوض الله .
    • انا جيت بخصوص ولدنا مشلهت
    • هو ولدكم؟
    • يعني .. اخونا …
    • واخوكم دا … ليه يغلط معانا كدا … ويخلي الخدام يزعلوا منو ؟
    • والله يا الشيخ .. هو اصلوا غشيم وما عارف … وما في زول وجهو ولا كلمو يقول شنو.
    • يمشى يقول هو جا عشان يشتري مصل ؟
    • غايتو الحصل … حصل … وانت عايزنك تسامحو وتحل مشكلتو … هسع أهلو ذاتهم ما عرفوه .
    • ايوا … اهلو ما يعرفوه … عشان نحنا والخدام زعلانين منو جداً … أبكر بتاع العناقريب دا راجل أخونا وما عمل ليهو حاجة … يمشى يفتن عليهو ؟
    • ما خلاص … انت بس سامحو …
    • انا بسامحو … بشرط انو يمشى يغير اقوالو ويقول انو هو ما جا بيت ابكر عشان يشتري مصل لكين جا عشان يشتري حبال … وكان قاعد منتظر يديهو الحبال وبعدين هم قبضوا عليهم … يقول الكلام دا قدام النيابة .
    • خلاص … دي ليك على … انا اخليهو يغير اقوالو … هو اصلو جا عشان يشتري حبال … وبعدين كان منتظر يقوم يديهو الحبال والبوليس جا وقبض عليهو … وانا ذاتي ممكن اقول الحبال دي كان جايبها لي انا … انا الوصيتو يجيب لي الحبال … ويشعر الشيخ إسماعيل بقدرته على السيطرة على زبونه فيسأله :
    • انت لكين عندك ناس مضادينك في التاكسي بتاعك دا وديل ناس قريبين منك
    ويفتح عوض الله فمه من الدهشة … فمن اخبره بذلك ؟
    • والله يا شيخنا كلامك تمام … وانا حالتي جيت في موضوع أخونا مشلهت تقوم انت تشوف لي موضوعي انا ذاتي ؟ والله دي حكاية عجيبة .
    ويؤكد الشيخ إسماعيل :
    • ولا عجيبة ولا حاجة … الخدام دلوقت كلموني …
    • طيب انا اعمل شنو ؟
    • في كلام كتير تقدر تعملو
    • طيب ما تعملو لي انت …
    • خلاص نشوف الخدام بقولو شنو
    ويغمض إسماعيل عينيه كمن يستمع لصوت يأتيه من بعيد وبقول
    ايوا … ايوا …تمام … تمام … خلاص نبلغو … طلباتكم ؟ معقول … معقول … معقول
    ويفتح إسماعيل عينيه :
    • الخدام بقولوا … نعمل ليك كشحة … انت تاخذها وتكشحها محل الجماعة ديل يلمو .. تاني ليوم القيامة ما يلمو … وانت تمشي تلقى شهادة البحث بتاعة التاكسي باسمك … وناسك ديل مارقين كيت ..
    ويصيح عوض الله بفرح :
    • الله يبارك فيك … خلاص يعني ارقد قفا ؟
    • ايوا ارقد قفا … واشخر كمان .
    • الله يبارك فيك .. خلاص تكون مشكلتي اتحلت .
    • ومشكلة صاحبك مشلهت اتحلت … لكين لازم يمشى يغير اقوالو
    • يا سلام .. دا كلامك؟ … يمشى يغير اقوالو هوا .
    • والخدام بقولوا .. هم ما بياخدوا قروش هسع لكن تديهم أيراد التاكسي بتاع يومين … ولو نقصت منو قرش هم بيعرفوا الحكاية دي وبعدين التاكسي بتاعك دا ما بقوم من محلو
    ويصيح عوض الله بفزع .
    • لا .. لا .. انا كلو شئ ولا يقيف التاكسي إيراد بكرة وبعد بكرة ان شاء الله يصلك هنا في محلك .. بس انت طمن الخدام .
    ويشعر عوض الله انه قد انجز عملاً عظيماً لصديقه مشلهت ولنفسه لأن موضوع التاكسي كان يؤرقه جداً وخاصة من الذين استدان منهم بعض المال وذلك لتصليح وعمل عمرة للتاكسي … واضطر أن يرهن التاكسي بأسمهم … وهم يطالبونه فيضطر إلى الزوغان منهم … وألآن فانه سيرتاح منهم إلى الأبد بتلك الكشحة وقبل ان يغادر منزل إسماعيل … طلب منه إسماعيل ان يبقى فترة حتى يقضي بعض الأمور مع شخص نادى عليه من وسط الناس … فإذا به يقول له :
    • شوف انت مشيت سنار لابو راكوبة عشان المسدس بتاعك … وابو راكوبة ما عمل ليك حاجة … دلوقت انا جبت ليك زول مشلهت هنا في محلك وهو من دربه دا ياخدك لمشلهت محل ما يكون وانت تلقي المسدس بتاعك .
    ويسلم ذلك الشخص على يد الشيخ إسماعيل ويتجه نحو عوض الله .
    • انت بتعرف محل مشلهت ؟
    • ايوا…
    • يا سلام … خلاص انا ما بفكك لحدي ما توديني لمشلهت … انا مشيت سنار لابوراكوبة طلع غير راكوبتو ما عنده حاجة … وهسع أخوي زكريا جابني هني … وقال لي الناس وصفوا ليهو شيخ إسماعيل … واهو شوف جابك من وين عشان توديني لمشلهت .
    • انت منو؟
    • انا الرقيب موسى الحاكم … كنت حارس مشلهت في الاسبتالية … بعدين جيت لقيتو مافي … والمسدس بتاعي برضو مافي عشان هو اخدو معاهو … وانا مشيت سنار عشان أحوطه عشان ما يمرق من ولاية الخرطوم .
    • يمرق وين … يا أخي دا فاتحين عليهو ستين بلاغ وهسع عشان مسدسك دا ودهو لغرب الحارات :
    • غرب الحارات .. دا انا كنت تابع ليهو … وهسع مشلهت وين ؟
    • مشلهت في المستشفى في الثورة …
    • طيب يلا وديني ليهو بالليل دا … ما بنتظر لبكرة الصباح .
    • يلا نمشى…
    وخرج الاثنان من منزل شيخ إسماعيل في طريقهما إلى المستشفى بالثورة .
    اختفت حركة الزوار داخل عنابر المستشفى وبقيت حركة المرافقين وبعض المرضى الذين وجدوا ان الجلوس مشكلة وان النوم مشكلة وان " الصحيان" مشكلة … واخف تلك المشاكل ان يتجولوا بين ردهات المستشفى والعنابر … يزورن دورة المياه دون هدف معلوم ويقفون ليبصقوا خارج البرندات … في انتظار ان يأتي النهار فإذا جاء النهار تحوصلوا داخل قلقهم حتى يهبط الليل … ولكن مشلهت كان يغط في نوم عميق عندما وقف بالقرب من سريره عوض الله سائق التاكسي والرقيب موسى الحاكم .
    ومن أغوار سحيقة يعود مشلهت ليرى شبح الرقيب موسى الحاكم أمامه فينهض من نومه مذعوراً:
    • بسم الله الرحمن الرجيم … منو ؟
    • كيف حالك يا زول ؟
    • انت مش … مش
    ويرد عوض الله :
    • ايوا … هو ذاتو …
    • وجيت من وين … ولاجبتو من وين هسع ؟
    • كدي انت روق وأهدأ .. وبعدين نشرح ليك
    وفي هذا الأثناء يصحو الشرطي المكلف بحراسة مشلهت وقد تسربت إلى أذنيه تلك الضوضاء .
    • اها … يا أخوانا …. انتو عاوزين شنو ؟
    ولكنه يتدارك السؤال عندما يلمح عوض الله :
    • ايوا … عوض الله …لا … كويس .. كويس …
    ويجلس الرقيب موسى على طرف السرير الذي جلس عليه مشلهت بينما يجلس عوض الله بالقرب من الشرطي الآخر … وتتقدم منهم امرأة منطفئة النظرات … وتقول :
    • في زول فيكم عنده حبة وجع راس ؟
    ويلتفت كل منهم نحو الآخر وكانه يبحث في جيوب الآخر قبل ان يبحث في جيبه وذلك لتأكده انها خإلية من حبوب وجع الرأس …
    • انتي ما تشوفي الممرضة … تديكي حبة …
    • الممرضة ما عندها… وقالت لي … شوفي الجماعة العيانين ديل بتلقي في زول فيهم عنده حبة وجع راس
    ويدخل مشلهت يده تحت المخدة ويخرج قرصين بندول ويسلمها للمرأة :
    • خدي …
    • يا يابا تتبارك …
    وتتحرك المرأة مبتعدة عن المسرح … هذا مستشفى … يتحرك في داخله الباعة والمتسولون .. ولكن تسول الدواء من المرضى هذا لم يسمع به أحد من قبل ولكن بالنسبة لمشلهت فان ظهور الشرطي صاحب المسدس الذي اختفى مرة أخرى جعل الأمور تتحرك في عدة اتجاهات ويتساءل مشلهت :
    • انت اصلو حكايتك شنو ؟ مش انت كنت آخر مرة في مستشفى السكر ؟
    • ايوا …
    طيب … مش خليت المسدس بتاعك معاي وقلت لي انا ماشي أتسير ؟
    • ايوا
    • وتاني ما جيت؟
    • لا … جيت لكين ما لقيتك … مافي زول قال لي انت مشيت وين …
    • يعني انا … أكون مشيت وين ؟
    • ما انا قلت يمكن انت هربت بالمسدس بتاعي …
    • طيب وعملت شنو ؟
    • ماياهو … بعد داك … انا مشيت لاخوي زكريا … وهو قال لي تمشي سنار
    • وتمشى سنار ليه ؟
    • عشان نشوف كلام المسدس دا
    • وباستغراب شديد يستفهم مشلهت :
    • كلام المسدس في سنار ؟ وسنار دخلها شنو ؟ والودا المسدس لسنار شنو؟
    • ما ياهو دا كلام زكريا … قال انت تمشي لابوراكوبة في سنار وهو بوريك المسدس والزول الشال المسدس وين … دا كلام زكريا أخوي …
    • يا أخي … بدل تسال ناس الاسبتالية عني وعن المحل الودوني ليهو … تمشى تسأل ابوراكوبة في سنار ؟ وتدخلنا نحنا في حيص بيص ؟ انت عارف انو بسبب مسدسك دا انا فاتحين لي بلاغ في غرب الحارات … مش انت كنت في غرب الحارات ؟
    • ايوا …
    • طيب هسع انت حتتصرف كيف ؟
    • انا بكرة بمشى لغرب الحارات وببلغ هناك …
    ويتدخل الشرطي الآخر وكان قد عرف القصة كلها من مشلهت .
    • لا … انت ما تمشي غرب الحارات …انت تمشي تبلغ مع وحدتك في سوق ليبيا … مش انت نقلوك هناك سد طلب ؟
    • ايوا
    • خلاص انت شيل معاك اورنيك … قول انك كنت عيان وكان عندك ملاريا شديدة وهسع نصيح وجيت راجع …
    • وحكاية المسدس أقول فيها شنو ؟
    • قول انك خليتو مع مشلهت … ولما جيت راجع ما لقيت مشلهت عشان هم كانوا حولوه لمستشفى السكر … لكين برضوا دا كلو ما بمرقك من المساءلة … أصلك خليت شغلك وأهملت في حراسة متهم …
    • وبعدين كيف موضوع المسدس دا ؟
    • المسدس ناس سوق ليبيا بكتبوا جواب لغرب الحارات وبرسلوك هناك عشان يأخذوا أقوالك عشان انت ماخد المسدس عهدة منهم … وبعدين هم يشطبوا القضية ضد الزول دا …
    ويبدو على الرقيب موسى الحاكم انه قد اقتنع بما يفعله … وهدأت خواطر مشلهت الا إنه يريد ان يعرف كيف سارت الأمور مع إسماعيل الساعاتي وبالأحرى كيف التقي سائق التاكسي عوض الله بالرقيب موسى الحاكم ؟
    • وانتو اتلاقيتو كيف ؟
    • يرد عوض :
    • لقيتو بالصدفة عند إسماعيل الساعاتي ….
    • وهو ذاتو مشى إسماعيل الساعاتي ؟ والله دي حكاية ….
    • ايوا … انا بعد ما جيت من سنار وأبو راكوبة ما عمل لي حاجة … أخوي زكريا قال نمشي نقابل إسماعيل الساعاتي … كمان جيت هناك …. ياهو لقيت الزول دا … وإسماعيل الساعاتي قال لي :
    • شفت الشغل كيف ؟ اهو نحنا جبنا ليك الزول البوديك لي مشلهت في محلو…
    • ويفتر فم مشلهت عن ابتسامة
    • يعني هسع اسماعيل الساعاتي جابك لي هنا؟
    • ايوا إسماعيل الساعاتي انا بسمع قالوا عندو سفلي بوريهو حاجات كتير… ومن ضمن الحاجات ياهو وصف محلك … وشوية كدي جا سيد التاكسي دا وجابني ليك .
    • على العموم انا ذاتي كنت عايزك … عشان تفكني من حكاية المسدس دا … الفاتحين على بلاغ بسرقته … ويلتفت نحو عوض الله :
    • اها … ما قلت لي حصل شنو مع إسماعيل الساعات .
    • إسماعيل الساعاتي كان زعلان جداً
    • مني انا ؟
    • ايوا … زعلان منك … قال انت شهدت ضد صاحبو أبكر بتاع العناقريب والخدام زعلانين جداً وعشان كدا قاموا عملوا ليك الجهجهة دي كلها … ودلوقت لازم تمشى تغير أقوالك تقول انك جيت تشتري عناقريب ويصمت مشلهت برهة ثم يتساءل :
    • وافرض أبيت أغير أقوالى …. الحيحصل شنو ؟
    • الحيحصل الله لا وراك ليهو … يا زول … إسماعيل دا ملعون … والسفلي ألعن منو … البدخلك في شبكتو شنو ؟
    يتدخل الرقيب موسى الحاكم :
    • والله كلامك صحي … انا إسماعيل دا مما شافني طوالي سألني قال لي مشكلتك شنو ؟ حكيت ليهو المشكلة … ما اشعر ليك الا دقائق كدا وناداني وقال لي اهو دا الزول البوديك لمشلهت … وناس كتار حل ليهم مشاكلهم … وانا شايف … إذا قال ليك تغير أقوالك … تغيرها المكاجرة ما من الصالح … وانا بكرة بمشي ببلغ هناك …. وممكن اسحب ورقة الأقوال دي ذاتها …
    ان فكرة تغيير الأقوال التي ينادي بها إسماعيل الساعاتي ويروج لها عوض الله سائق التاكسي والرقيب موسى الحاكم تحتاج لتقليب على نار هادئة في دماغ مشلهت فهو رجل قضى فترة من الوقت في السجن من قبل في نظام الحكم المايوي وذلك لانه رفض ان يغير أقواله في ادانة الوزير … ولما كان شخصاً ناشفاً مثل الويكة لم تستطيع كل الاغراءات ان تجعله يغير أقواله … فحكم عليه بالطرد من الوزارة … واضطرته الظروف إلى الهجرة خارج السودان … وعاد أخيرا ومر ببعض الصعاب ولكن الناس كالأشجار … ينحنون للطرق المستمر ولكنهم يخضرون من جديد … وهاهو ألآن يواجه بإمتحان جديد … فهل يصمد أم ان الظروف تستدعي ألا يكون الشخص لينا فيعصر ولا يابساً فيكسر … وان كانت كمية العصر التي تعرض لها تفوق توقعاته …. مما جعله يؤمن ان ألآنسان لفي خسر .
    وما الذي سيحدث لو انه انكر انه قال انه جاء لشراء مصل – الدليل الوحيد الذي يدين أبكر بتاع العناقريب – وقال انه جاء ليشتري حبال؟ … هل عدم انكاره سيوقف سيل الأدوية التي تباع " كيرى" أي خارج نطاق التصاريح الطبية والضوابط الطبية ؟
    وانتقل إلى السطح سؤال ظل يلح عليه من وقت لآخر .
    • لماذا هو هنا ؟ ما الذي يبقيه هنا في هذا السرير وفي هذا المستشفى بصحبة هذا الحرس الذي توطدت علاقته به ؟ ان كان ذلك للعلاج فهو لا يجد علاجاً … كل الذي يجده فحوصات تقوم بها الممرضة أحيانا فما الذي سيحدث لو انه عاد إلى مركز الشرطة وبقي في الحراسة هناك ؟ على الأقل سيضمن تحريك قضيته … وهو قد نسي تماماً الكلب … والمصل المضاد للسعر … ولذلك عندما أعلن عن رغبته صراحة في الرجوع إلى الحراسة بسوق ليبيا بادره … الشرطي قائلاً :
    • مركز ليبيا ما عندو بيك أي شغلة … دلوقت انت مقبوض في بلاغ في مركز غرب الحارات ولو عاوز تمشي هناك خلي ناس سوق ليبيا لو عايزنك يطلبوك من قسم غرب الحارات .
    • حتى لو ما عندي حاجة مع غرب الحارات ؟ وحتى لو الرقيب موسى مشى وشرح ليهم الموضوع ؟
    • ناس غرب الحارات بعرفوا ليك دفترهم دا وبعرفوا المكتوب فيهو شنو … وإلى ان يكتب في الدفتر ان القضية شطبت في مرحلة التحري أو ما بعد التحري فالوضع هو … هو
    وفي هذا الأثناء تأتي الممرضة وبطريقة روتينية تتناول أوراق المريض مشلهت لتفحصها ثم تسأل:
    • طيب … انت عندك سكري .. والسكر مرتفع ….
    وبتاخذ حبة دوانيل في الصباح وحبه في المساء وعندك غذا خاص
    ويقاطعها مشلهت :
    • اهو دا ما حصل … غذا بتاع شنو ؟ انا من ما جيت هنا بأكل من حسابي وبأكل العسكري دا معاي .. ويعني انا محل ما أمشي بستعمل الحبايتين ديل بالطريقة دي … ودي محتاجة ليها لإسبتالية ؟
    وترد الممرضة :
    • يا أخي ماهي دي اصلها الاسبتالية كدا ولا انت ما عارف؟ … وبعدين يا أخي حقو تحمد الله انك في الاسبتالية على الأقل بجوا اهلك بزورك كل يوم … وناس كتار في السجن عايزين يجوا هنا ما لاقين .
    ويصيح مشلهت :
    • أهلي وين يزورني ؟ حلوين زي ديل بجوا يزورني ؟ ليه … انا عندي أهل ؟

    وتشعر الممرضة بمرارة شديدة في كلمات مشلهت ولكنها لا تدري لها سبباً … الا انها تصر على رأيها :
    • شوف من هنا ما عندك مرقة الا الدكتور يكتب ليك …. ويتدخل عوض الله سائق التاكسي :
    • ما يمرق كيف ؟ مش عندو اورنيك طبي هنا ؟
    • ايوا … لكن إلا يجي الدكتور يكتب في الاورنيك دا خروج ويسلمه للحارس بتاعو …
    ذلك الحوار الذي دار ليقرر مصير مشلهت أضاف لحيرته حيرة جديدة … ولأول مرة يشعر انه في سجن حقيقي … وتفور في داخله نافورة من الأحزان والكآبة. لقد فقد صبره ورباطه جأشه وأهله وذلك الخيط الذي يربطه من الداخل ويجعله يشد حيله وألآن فقد حريته وهو ميت مدفون بالحياة … ففي نظر أهله مات وانتقل إلى جوار ربه ونصب صيوان العزاء … أمه جميع معارفه وأهله وأصدقاؤه وجيرانه ونشر نعيه في الصحف مع انه ينادي ويصر على انه حي وانه مستعد لاعطاء الدليل على ذلك ولكن الحصار الذي ضربته حوله الممرضة وحارسه والبلاغات المفتوحة ضده ثم تلك المساومة التي فرضت عليه مع إسماعيل الساعاتي لتغيير أقواله … كلها تدفنه بالحياة … فهل سيبقي حجراً ملقى على قارعة الطريق أم انه سيملك إرادة من نوع ما ويتدحرج إلى المكان الذي يختاره ؟
    في تلك الليلة لم يستطع مشلهت ان يعقد حلفاً مع النوم. لقد كان يشعر بأن الكلب الذي عضه في البداية تحول إلى وحش جائع يعوي في داخله وهو ألآن يعيش في ذاكرة الأمس.. شخص كان يتحرك بإرادته واليوم فهو لا يملك الا ذاكرة مليئة بالاحباطات والخيبة .
    تحرك من سريره ومشى في الممر الذي نام الرجال والنساء على جنباته والرائحة المميزة للعنابر تملا خياشيمه وهو لا يرى لماذا وصل إلى هنا … وكان يقصد دورة المياه وليس له رغبة في ذلك … ربما كانت تلك الخطوات هي الوحيدة التي بقيت له يمارس من خلالها إرادة محصورة في مساحة لا تتعدى ستين متراً مربعاً هي بطول الممر وعرضه … وعندما رجع إلى سريره واستلقي لينعم ببعض الراحة والنوم كان الآذان يعلن دخول الفجر.
    في الصباح جاءت عربة عليها شرطي يحمل أمرا بأخذ مشلهت إلى مركز سوق ليبيا. كان هناك ممرض تولى أمر العنبر جاء خلفاً للممرضة التي كانت تؤدي وردية الليل .
    • عندنا أمر هنا عشان نأخذ مشلهت للحراسة …
    • بس الراجل دا عيان … وحالته امبارح ما كانت كويسة وهو دلوقت نايم
    • نايم نصحيه..
    • ايوا … بس انتظر يجي الدكتور عشان يكتب ليهو خروج .
    • نحنا مش عايزين يكتبوا ليهو خروج … نحنا حناخدوا عشان ناخد اقوالو … وبعدين نرجعوا …
    ويوافق الشرطي المرافق لمشلهت .. والذي جاء لتوه ليغير الشرطي الذي كان مرابطاً بالقرب من مشلهت ليلة البارحة .
    • ايوا … دا إجراء عادي … اصلوا قاعدين ناخذهم ونرجعهم والموضوع تحت تعهدنا …
    ويرد الممرض :
    • بس انا غير مخول لي عشان اكتب خروج أو أدي إذن لمريض عشان يخرج … انتو انتظروا الدكتور يجي في المرور ويكتب ليهو خروج ؟
    • بس نحنا لازم ناخدوا عندنا جلسة بعد ساعة ووكيل النيابة لازم يشوفو ويسمع اقوالو. ولا يستطيع الممرض ان يعترض سبيل الشرطي وهو يوقظ مشلهت ويخبره بأنه مطلوب للمثول أمام النيابة في شرطة سوق ليبيا. لم يفاجئ هذا الأمر مشلهت لانه كان قد تعود على ان تحمله الأحداث ولا يحمل هو الأحداث فإذا كانت الأحداث ألآن تحمله على ظهر عربة إلى مركز سوق ليبيا … فان ذلك يتوافق مع جريان الأحداث التي مر بها .
    خرجت عربة البوليس من المستشفى وعلى ظهرها مشلهت و بقية أفراد الشرطة و الشخص الوحيد الذي كان غائبا عن هذا المولد هو عوض الله سائق التاكسي و لهذا التفت مشلهت إلى الممرض موصياً:
    • بالله إذا عوض الله جا هنا قول ليهو مشلهت أخدوه لمركز البوليس في سوق ليبيا و بعدين حيرجعوه آخر اليوم.
    و في مركز الشرطة كان وكيل النيابة يوجه أسئلته التقليدية لمشلهت .. اسمك ، عمرك ، عنوانك … الخ ثم قرأ عليه الاتهام و هو انه متورط بأنه قد احتال على البائع المتجول فأخذ ملابسه دون حق و اختفى.. و كان البائع المتجول يقف على ناحية و هو ينظر إلى مشلهت و تتجاذبه مشاعر متعددة .. هل فعلاً هذا هو الرجل الذي احتال عليه ؟ و لماذا احتال عليه و هو قد ذهب لإحضار أهله لرؤيته؟

    أوضح مشلهت للمتحري انه فعلاً أخذ بقجة الملابس بعد ان تركها البائع المتجول معه و ذلك عندما أخذ للمستشفى إذ انه ليس هناك مكان يتركها فيه .. و عندما عادوا به من المستشفى مرة أخرى للمركز وجد بلاغاً مفتوحاً ضده و انه قد سرق الملابس و هو يقول انه لو كان فعلاً ينوي سرقة الملابس أو الاحتيال على صاحبها .. لم تركها دون ان تمسسها يد و دون ان يفقد صاحبها قطعة واحدة ؟

    ظهر التأثر على وجه البائع المتجول و هو يستمع إلى مشلهت يدافع عن نفسه و شعر انه قد تسرع بفتح ذلك البلاغ و لذلك عندما سأله وكيل النيابة عن رأيه فيما سمعه من مشلهت أجاب:
    • و الله يا جنابو انا يبقى لي غلطت .. و الزول دا ما عليهو شبه سرقة .. لكين تقول شنو .. انا جيت و ما لقيتو و ما في زول قال لي هو وين.
    و يقاطعه وكيل النيابة:
    • يعني انت عايز تشطب البلاغ ؟
    • انا بقول الزول دا شايفو كدي ود حلال .. و يقاطعه وكيل النيابة مرة أخرى:
    • يا أخي خليك من حكاية شايفو .. و ما شايفو انت عايز تشطب البلاغ و لا لا؟
    • انمهل يا جنابو اللحدثك
    و لكن جنابو لا ينمهل .. فالموضوع يحتاج لكلمة و غطايتها.
    • ما بنمهل .. انت عايز تشطب البلاغ ؟
    • أيوا
    • خلاص شطب البلاغ كطلب الشاكي و عليه تقفل القضية و تحفظ.

    سارت عربة البوليس على ذات الشوارع المزدحمة في طريقها لمركز غرب الحارات .. و بقي مشلهت ساهماً ينظر من خلال النافذة تنقله أفكاره الشاردة إلى أزمان بعيدة في الذاكرة .. لا يشوش عليها إلا توقف العربة أمام إشارة المرور و متسول يمد يده من خلال النافذة يطلب شيئاً .. فلا يجيب عليه أحد .. و من وقت لآخر يدخل سائق العربة مع العسكري في حديث مثل:
    • هسع تلقوا موية وين في غرب الحارات ؟
    • الموية تجي و تقطع .. و ناس الحارات أغلبهم بيشتروا الموية من ناس الكارو ..
    • و يتذكر مشلهت انه قرأ مرة ان الحرب القادمة ستكون حرب مياه و خاصة في منطقة الشرق الأوسط فقال:
    • انتوا عارفين الحرب الجاية حتكون حرب مياه ؟
    • كيف يعني تكون حرب مياه ؟
    و يجيب مشلهت إجابة الشخص المستنير:
    • أصلو الحكاية انو ما حتكون في موية كفاية .. عشان كدا لازم الدول تتحارب عشان كل دولة تاخد نصيبها من الموية..
    و يلتفت نحوه العسكري و يقول:
    • و هي دي حالتها حرب جاية ؟ نحنا عندنا هناك جات من زمان و بتحصل هسع كل يوم…
    و يتساءل مشلهت:
    • جات وين ؟
    و يجيب العسكري إجابة الواثق:
    • انت ما سمعت بالحرب بين المعالية و الرزيقات في الدونكي بتاع أب كارينكا في سنة كم و سبعين؟ ما عرفت الماتوا كم من الجانبين ؟ تفتكر ماتوا في شنو ؟
    • مش ماتوا في الموية ؟
    • بالله حصلت حكاية زي دي ؟
    • و انت كنت قاعد وين .. ما سمعت بحكاية زي دي ؟

    أما مشلهت فكان وين ؟ هذه قصة طويلة و لو حكاها لما انتهت .. و يبدو ان الحرب بين المعالية و الرزيقات قد حدثت عندما كان في بلاد الإغتراب .. و يبدو اننا نسبق العالم في جميع الحروب .. و لو بحثنا في التاريخ القديم لوجدنا اننا قد سبقنا حرب داحس و الغبراء بحرب بين موسى ود جلي و بين يوسف ود سنينات .. و يواصل العسكري حديثه:
    • هناك الموية و المرعى سبب موت الرجال ..
    • و في مداخلة سريعة يقول سائق العربة:
    • و النهب المسلح …
    • النهب المسلح دا .. ما جا ورا .. في اليومين دي ..
    • في اليومين دي كيف ؟ … و طيب الهمباتة ديل كانوا بعملوا شنو ؟
    و يستمر النقاش حول ظاهرة النهب المسلح و حول المياه التي تقطع في جميع الحارات .. و يتذكر الرجال عندما كانت السيول تغمر الحارات فينقطع الماء و يغرق الناس من تحت و يعطشون من فوق … جملة من متناقضات المشهد السوداني و كأننا قد انفردنا بها…
    و تصل العربة إلى مركز غرب الحارات … و ينزل مشلهت و العسكري و يدخلان مكتباً يجلس بداخله أحد الذين يقومون بالتحري و بعد ان يؤدي العسكري التحية العسكرية يقول:
    • المتهم دا قالوا نجيبوا عندكم هنا …
    • و يتساءل :
    • أولاً هو منو و تجيبوا هنا عشان شنو ؟
    • عشان في بلاغ مفتوح ضده هنا …
    • بلاغ بتاع شنو ؟
    • بلاغ حيازة مسدس حكومي بدون ترخيص …
    • و يتذكر برهة ثم يقول:
    • أيوا .. دا مش الكان مع الرقيب موسى الحاكم ؟
    • أيوا ..
    • و هسع انت جبتو من وين ؟
    • جبتو من سوق ليبيا
    • و الوداهو سوق ليبيا شنو ؟
    • عشان كان عنده بلاغ مفتوح هناك و شطبوه …
    • و هو أصلاً كان وين ؟
    • كان في الاسبتالية .. بعدين أخدناهو من الاسبتالية للبلاغ في سوق ليبيا و هسع جبناهو هنا ..
    • و ليه ما رجعتو الاسبتالية ؟
    • عشان الرقيب موسى الحاكم مشى بلغ هناك …
    • و في هذه الأثناء يدخل الشرطي سائق العربة …
    • انا أمشى يا جنابو ؟
    • تمشى وين ؟
    • أرجع سوق ليبيا .. أصلو قالوا لي وصل الجماعة ديل و تعال طوالي ..
    • لا .. انتظر شوية .. عشان تاخد الراجل دا و العسكري المعاهو لللاسبتالية في الثورة هناك ..
    و باستجداء يقول العسكري:
    • يا جنابو انا مفروض أكون في الراحة .. و يجي واحد يغيرني ..
    • و انت معاك منو ؟
    • معاي النفر عبيد
    • طيب هسع تاخد الراجل و تمشي معاهو الاسبتالية الأورنيك بتاعو بكون هناك .. و انا أخلي النفر عبيد يجيك يغيرك..
    • و هنا لا بد ان يقول مشلهت شيئاً … فيسأل:
    • طيب و انا هسع مصيري شنو ؟
    و ينتبه لذلك السؤال الذي لن يجد له إجابة إلا بعد ان يعرف أين الرقيب موسى الحاكم فيتساءل:
    • طيب الرقيب موسى الحاكم نفسه وين هسع ؟
    • و يجيب العسكري:
    • هناك بتحروا معاهو في سوق ليبيا …
    • يعني هو اتعرف ليهو محل ؟
    • أيوا
    • و يلتفت ناحية مشلهت:
    • خلاص القضية بالنسبة ليك قربت تخلص .. الرقيب موسى الحاكم يتحروا معاهو في سوق ليبيا بعدين يجي عندنا هنا و يقول حسب روايتك انو خلى المسدس العهدة عندك و لما جاء ما لقاك نقلوك لمستشفى السكري حسب ما قلت في أقوالك .. و بعد دالك بنطلق سراحك .. إلا إذا في حاجة تانية .. على العموم انت دلوقت ارجع الاسبتالية .. و هناك أحسن ليك من هنا …

    و يخرج مشلهت ليصعد على ظهر العربة و تتردد كلمات في إذنيه:
    • إلا إذا في حاجة تانية ..
    طبعاً في حاجة تانية و تالتة و رابعة .. من الذي قال ان مشاكله ستنتهي بمجرد ان يدلي الرقيب موسى الحاكم بأقواله ؟ و كما هو واضح من الأقوال التي أدلى بها الرقيب موسى في مركز سوق ليبيا فإنه كان يحاول ان يخرج من ورطته و ذلك بإلقاء المسئولية كلها على مشلهت .. فكما ألقى بمسدسه الحكومي في يد مشلهت فكذلك سيلقي بتبعاته عليه .. و شعر مشلهت في تلك اللحظة انه يحتاج فعلاً لمحام قدير يعرف كيف يخترق الثغرات في أقوال الرقيب موسى الحاكم .. و في هذا الوقت بالذات هو في حاجة لصديقه عوض الله سائق التاكسي و الذي كان يتبعهم بعربته إلى مركز غرب الحارات .. و ألآن فهو لا يدري أين اختفى عوض الله …

    عوض الله في طريقه إلى غرب الحارات و هو داخل عربته التاكسي .. و لا ينوي ان يأخذ ركاباً .. استوقفه شرطي المرور وهو قد اعتاد على ذلك إذ ان شرطة المرور يقضون وقتاً كبيراً في فحص أوراق السائقين و رخصهم و دائماً تكون أعينهم مفتوحة على سائقي التاكسي. و لذلك فهو يحرص على ان تكون كل أوراقه حسب النظام ولا يحاول ان يخالف القواعد و إشارات المرور ، و لذلك فان إيقاف رجل المرور له لا يهمه كثيراً لان الموضوع لن يتعدى دقيقة أو دقيقتين ويطلع على أوراقه ثم يشير عليه بالتحرك .. و سيلحق بصديقه مشلهت في مركز غرب الحارات .. و لكن رجل المرور هذه المرة صعد إلى عربته و أمره ان يسير بسرعة ليلحق بعربة كان رجل المرور قد أشار لسائقها بالتوقف فلم يتوقف .. و من حق رجل المرور ان يستعين بأي مواطن في مثل هذه الحالات طالما إنه لا توجد عربة مرور أو موترسايكل لدي سلطات المرور .. العربة المطاردة زرقاء اللون ذات زجاج مظلل لا يدري أحد من بداخلها .. كما انها سريعة تمر من بين السيارات كالسهم فكيف يطاردها و هو يسير على عربة كورولا موديل 76 ومن قطع غيار تلك السنة التي انتجت فيها لا شئ يدل عليها إلا إسمها .. و هو يحافظ عليها إذ أنها عادت للخدمة من جديد بعد انتهاء عمرها الإفتراضي و الإضافي والجزافي .. فتساءل قائلاً:
    • العربية الزرقاء دي ؟
    • أيوا
    • عمل شنو ؟
    • أشرت ليهوا عايز أشوف ترخيص التظليل .. رفض يقيف ناس ما عارف مخهم كيف .. انت أسرع شوية ..
    يسرع شوية ؟ سيسرع كثيراً لو يقدر و لكن هذه قدرته و تقف الحركة فيجدها رجل المرور فرصة سانحة فيقول لعوض الله:
    • انت أطلع بجاي و حاول تجيهو من قدام ..
    و يحاول عوض الله ان يتجاوز الصفوف المنزرعة أمامه و المتزاحمة بالمناكب الحديدية .. فتسير العربة و نصفها على التلتوار و نصفها على شارع الأسفلت .. و عندما تقترب من بداية الصف تضئ الإشارة باللون الأخضر فتنطلق العربة المطاردة كالسهم .. و تندفع جحافل العربات فتضيق المساحة على عربة عوض الله فينزل شرطي المرور ليوقف العربات و ذلك ليسمح لعوض الله بالدخول في الشارع مرة أخرى ثم يصعد إلى العربة و تكون العربة المطاردة قد توارت عن ألآنظار … و لم يفطن عوض الله إلى وجود سائق موتر على شماله فيدلف شمالاً حيث يصطدم به سائق الموتر فيقع على الأرض وسط ذهول رواد الشارع.
    يوقف عوض الله سيارته و ينزل رجل المرور و يحاول ان ينهض سائق الموتر و الذي يبدو عليه أنه قد أصيب على الجنب الأيسر من رأسه حيث كان الدم يتدفق .. و لم تمض دقائق حتى ضاق الشارع بمن فيه و ذلك لتجمهر الناس و هم يتأملون منظر سائق الموتر ملقى على جنبه و العسكري منحني فوقه .. و توقف رجل يحمل جوالاً و قال:
    • أديني رقم أتصل بيهو للأسعاف ..
    • و في كلمات قليلة شرح الرجل للجهة من الجانب الآخر من المكالمة تفاصيل ما حدث و طلب منهم إسعاف الرجل و مضت فترة ليست بالقصيرة ثم جاء الإسعاف و كانت هناك سيارة مرور نزل منها ضابط تفقد مكان الحادث و وجه حديثه لرجل المرور الآخر:
    • إيه الحصل ؟
    • دا كان جاي من هنا و قام لف على شماله و صاحب الموتر كان على شماله .. و حصلت الحادثة ..
    • و انت عملت شنو ؟
    • نحنا بنعمل في الإجراءات لحدي ما الزملاء البغطوا المنطقة دي يجوا ..
    • و انت يا زول ما كنت شايف بتاع الموتر بشمالك ؟
    • لا أبداً .. انا لو شفته ما بلف على شمإلى …
    • انت عندك رخصة وتأمين وأوراقك كلها جاهزة ؟
    • أيوا عندي … و ما ناقصاني حاجة ..
    • المهم عندنا الزول ده بعدين يكون كويس ..
    • ان شاء الله …
    قضي عوض الله فترة طويلة و هو بين شرطة المرور و بين المستشفى و بين أهل سائق الموتر .. بينما كان مشلهت منشغلاً عنه طيلة الوقت يتساءل لماذا اختفي عوض الله و هو الذي كان يقود عربته خلفهم .. و كان يتوقع مجيئه في مركز غرب الحارات .. و هو ألآن في طريقه للمستشفى .. ان عوض الله يمثل صلته بالعالم الخارجي .. و قد سهل عليه أموراً كثيرة و لكن يبدو ان عوض الله اليوم في حاجة لمن يكون صلته بالعالم الخارجي و هو لا يدري كم سيبقى في ضيافة الشرطة .. و ينظر باحتجاج صامت و غضب لرجل المرور الذي تسبب في هذا الموقف و لكن رجل المرور لا تظهر عليه أية علامات للتأثر .. فهو يقول لعوض الله:
    • يا أخي انت ما شايف الزول على شمالك ؟ تقوم تلف بالطريقة دي ؟
    ولكن عوض الله لا يمكن ان يحتفظ بذلك الاحتجاج الصامت فيقول:
    • يا أخي ألف يمين و لا شمال .. مش انت الجبتني في الحتة دي .. انا مالى و مال أطارد زول .. وكت انتو ما عندكم عربيات بتطاردوا الناس مالكم ؟
    • انا قلت ليك أمشى ورا العربية ديك .. قلت ليك أضرب دا ؟
    • هي لكين انا بخاطري أضربو ؟ ما انت قعدت تقول لي لف يمين و لف شمال .. و انا صالحي في دا كلو شنو ؟
    ويحاول رجل المرور ان يتنازل في نبرة تصالحية:
    • غايتو انحنا ممكن نطلعو هو الغلطان ..
    • و يرد عوض الله:
    • يا أخي تطلعوه .. ما تطلعوه.. بس انا عايز أمشي من هنا ..
    • تمشي من هنا كيف و الزول ما معروف عندو شنو في الاسبتالية ؟ يمكن عنده نزيف داخلي ..
    • و دا كلو انا مسئول عنه ؟
    • و المسئول عنه منو ؟
    • بالله شوف الحكاية دي .. انا لا إيدي لا كراعي أجي ألقى نفسي مدبس في حاجة زي دي …
    • و يشعر عوض الله ان هناك خيطاً قوياً يربطه بمشلهت فالظروف ذات الظروف .. و ما حدث لهما متشابه في غرابته بإخراج مختلف.

    ****
    • استقبلت الممرضة مشلهت و هي تقول:
    • تاني جابوك هنا ؟
    • نعمل شنو ؟
    • و انت أصلو عملت شنو ؟
    • انا بعمل و لا بعملوا فيني ؟ كل مصيبة رامنها علي …
    • خلينا نقيس السكر .. و هاك افتح خشمك .. و وضعت ميزان الحرارة .
    و قامت بكل تلك الأعمال الروتينية و سجلتها في الدفتر ثم قامت بإعطائه حبة الداونيل و طلبت منه ان يرتاح ويأكل شيئاً بينما اتخذ العسكري كرسياً بالقرب منه و أسند رأسه على الحائط .. و بعد فترة قصيرة تدلي رأسه على صدره و هو يغط في نوم عميق…
    مضي ذلك اليوم بحاله و عوض الله لم يحضر و لكن حانت التفاتة من مشلهت فلمح البائع المتجول .. و كانما قد هبط عليه من السماء ..
    • هوي يا عربي هوي .. تعال ..
    ودخل البائع المتجول العنبر و فرحة طاغية تغمره ..
    • يا زول كيفنك ؟ خلاص وصلتو هني ؟
    • أيوا بس انت عرفت محلنا كيف ؟
    و يجيب البائع المتجول:
    • انا من ما قالوا مودنك غرب الحارات .. مشيت عديل على غرب الحارات و سألتهم في المركز هناك و هم قالوا لي أجي أفتش هنا ..
    • الحمد لله انك وصلت .. مش زي صاحبنا عوض الله صاحب التاكسي .. انت مش شفتو معانا في مركز ليبيا ؟
    • أيوا تمام ..
    • لحدي هسع ما جا .. ما عارفين الحاصل عليهو شنو ؟
    • يتلقي حصلوا الحصلوا .. لكين الزول دا راجل عديل ما عندو عوجة .. و لا بد يجي ..
    • بس بجي متين ؟ عندنا حاجات كتيرة و مستجدات عايزين نناقشها معاهو .. الراجل دا انا ما اتخيلت انو ما يجيني إلا يكون حصلت ليهو حاجة ..
    • يا أخي الغايب حجتو معاهو .. و يمكن يكون لقي ليهو مشوار بره الخرطوم ..
    • لا ما أظن .. أصلو مافي يوم هو مرق بره العاصمة ..
    • و هو أهله من وين ؟
    • من المسعودية ..
    • طيب ما يمكن يكون مشى المسعودية كان عندهم فرح و لا كره ؟
    • جايز .. على العموم الله يجيبو ..
    و في هذه الأثناء تأتي الممرضة و توجه سؤالاً لمشلهت:
    • انت عملت شنو في موضوع المصل ؟
    • وانا خلوني أمشى عشان أفتش للمصل ؟
    • و ليك كم يوم هسع من الكلب ما عضاك ؟
    • أكتر من شهر ..
    • أكتر من شهر و ما سعرت ؟ ما أظن الكلب بكون سعران ..
    • انا برضو قلت كدا .. أو يمكن دي طينة ود الطريفي ..
    • و تتساءل الممرضة:
    • و انت برضو بتؤمن بالحاجات دي ؟
    • أومن و لا ما أومن .. الحاجات دي موجودة و نحنا ما لاقين ليها تفسير .. لكين على أي حال طالما لحدي ألآن ما حصلت لي حاجة .. أقول يمكن الكلب ما كان سعران .. و دي الحاجة البتدي الاطمئنان …و بصراحة انا ما قاعد أفكر في الحكاية دي .. إذا أصلو ربنا حكم على بالسعر نعم بالله … قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .. انا بس عايز عوض الله يجي عشان القصة عايزة ليها محامي وتوكيل و غلبة كتيرة ..
    و فجأة تنتاب البائع المتجول حالة بيع فيقول للممرضة:
    • يا اختي ما عايزة ليك ملايات كانون أصلية ؟
    • عندك انت ؟
    • أيوا
    • معاك هنا ؟
    • بلحيل .. حتى شوفي …
    و يجذب بقجة الملابس و يخرج منها الملايات من داخلها و هو يقول:
    • شوفي البضاعة دي كيف .. قماش أصلي ونقشة بلدها .. ما في زول الليلة في البلد دي بديكي قماش بالحالة دي .. و السوق مليان بالبضاعة الفاسدة ..
    و تتمعن الممرضة في البضاعة ملياَ ثم تقول:
    • طيب انا ما عندي قروش هسع ..
    • مالو .. انتي ما ست مضمونة . ما ياهو دا محلك ؟ أيوا شيليهم و بعدين انا ذاتي بجي هنا من شهر لشهر و نقول أول كل شهر تجيبي لينا القسط .. و حتى كمان ممكن تخليهم مع ٍأخونا دا .. انا بجي باخدهم منو ..
    و ينتبه مشلهت لما قاله البائع المتجول:
    • و انا يا خوي حأقعد هنا إلى يوم القيامة ؟
    • لا .. حاشاك .. انا ما قصدي .. لكين هي مضمونة و انا بجيها هي و اخواتها .. ان بقى عندها واحداتاً دايرات ملايات متل حقاتها .. انا بجيبهم .. و البضاعة كتيرة و راقدة و رخيصة ..

    كل تلك الحوارات و الأحداث التي تجري في المستشفى لا تلفت انتباه مشلهت بعيدا عن حقيقة أنه في انتظار عوض الله سائق التاكسي .. و هو يحس في قرارة نفسه أن مكروهاً قد لحق بعوض الله .. يسأل الله ان يجعله خفيفاً .. و لكن عوض الله لم يحضر.
    ظل عوض الله سائق التاكسي في حراسة البوليس و ظل الشخص راكب الموتر في المستشفى و أدخل العناية المركزة .. إذ انه فقد الوعي بعد وصوله لقسم الحوادث .. و يبدو ان الموضوع دخل مرحلة التعقيد .. لقد قال له رجل المرور انهم سيطلعون صاحب الموتر غلطان .. و لكن كل الأمل ألآن الذي يتعلق به عوض الله ان "يطلعوه" من العناية المركزة سليماً .. وبالرغم من أن هذه المشكلة العارضة التي يمر بها عوض الله فانه لا يزال مشغولاَ بصديقه مشلهت : تري ماذا فعل ألآن ؟ و هل أعادوه للمستشفى أم لا زال بمركز غرب الحارات .. و خيل إلى عوض الله ان جميع أهل السودان متشابهون و ان مشاكلهم متشابهة و ان الذين يوجدون بالحراسات أو السجون هم ضحايا المكان الخطأ والزمان الخطأ … يكفي ان تكون موجوداً في المكان الخطأ أو الزمان الخطأ او كليهما … فتدخل في دوامة من المشاكل لن تجد فكاكا منها … واي مجهود تبذله للخروج من المأزق يزيدك تكبيلاً . ولهذا فضل ان لا يسأل حتى يسأل اذ ان اجابة اي سؤال ربما تسوءه اذا بدت له . وهو ألآن يدرك لماذا ظل مشلهت مستسلماً تعصف به الاقدار .. خوفاً من عاصفة اكبر .
    مشلهت كان قلقاً على صديقه عوض الله .. غيابه لا يجد له تفسيراً و كما يقول السودانيون "لعل المانع خير" و لكن ما حدث لعوض الله لا يمكن ان يوصف بأنه خير .. إلا ان الغائب يحمل معه حجته… هكذا كان مشلهت يجد العذر لصديقه

    الروتين اليومي في المستشفى يسير كالعادة .. و ليس هناك ما يلفت ألآنتباه .. حتى الذين ينتقلون إلى جوار ربهم ينتقلون بهدوء و كانهم ذاهبون في نزهة .. و كل الذي يفعله الأطباء في هذه الحالة ان يتناقلوا كلمة انجليزية واحدة حاسمة .. تضع المريض في حالته الأبدية "Passed" .. يعني مات..
    و كم واحد "Passed" أو مات منذ ان ولجت قدما مشلهت من خلال بوابة المستشفى ؟ لا أحد يدري ..
    كان البائع المتجول يتحدث مع الممرضة التي اتفق معها ان يحضر لطاقم المستشفى من الممرضين و الممرضات و السسترات و بقية العاملين .. لبسات و ملايات و لوازم التجميل و غيرها من احتياجات أهل المدن .. و ذلك بالتقسيط المريح جداً للطرفين.
    كان مشلهت يستمع للبائع المتجول و هو يصل لذلك الاتفاق مستغرباً كيف استطاع البائع المتجول الذي تبدو عليه سذاجة لا نهائية ان يبرم ذلك الاتفاق؟ ان عبقرية هذا الشعب تتجلي في سلوك أفراده الذين يلتزمون جانب الواقعية.. و لو سارت الأمور على ذلك المنوال لاستطاع السودانيون ان يصلوا لاتفاق شامل كامل حول جميع القضايا. وبينما يعجز السياسيون الفطاحلة .. و دهاقنة علم الحكم أن يصلوا الى تلك المعادلة .. لا يعجز أولئك الناس الذين نطلق عليهم لفظ "عربي ساكت" و لو كان ساكت فانه ساكت فوق رأي.
    و ينتهي الاتفاق و تتحرك الممرضة إلى عنبر آخر عندئذ يقول البائع المتجول:
    • و الله الست ما عندها عوجة .. نجيضة .. ما شاء الله عارفة كل حاجة.
    • و انت خليت ليها حاجة عشان تعرفها ؟ ما انت وريتها كل حاجة ..
    • بس عندى فرقة صغيرة ان بقت اتملت خلاص تاني عوجة ما في ..
    • زي شنو ؟
    • هسع يا مشلهت البضاعة دي ان بقى جبتها خليتها عندك و انت تصرفها حسب معرفتك و تاخد حقك المانع شنو ؟
    و يستغرب مشلهت لهذا العرض و يجد نفسه يقول بأندهاش:
    • المانع شنو ؟ المانع شنو ؟ انت يا أخي ماك شايف العسكري القاعد دا ؟ و بعدين انا في يد الحكومة .. توديني أي حتة .. أقعد كمان أشيل بضاعتك معاي زي المرة الفاتت .. و أجي ألقاك فتحت على بلاغ؟.. لا يا خوي حكاية زي دي أصلك ما تفكر فيها..
    و يجادل البائع:
    • يا خوي ان بقى على العسكري .. خلو على انا .. و بعدين نحن قلنا انت ما دام قاعد ساكت .. تستفيد و نحنا نستفيد ..
    و يرد مشلهت:
    • و يعني انت فهمك الاستفادة لازم تتم بالطريقة دي ؟
    و يرد البائع المتجول:
    • هي نان كدي ورني كيف الاستفادة بتحصل ؟ الناس دي كلها ما ترى شغالة كدي .. اشمعني يعني لما نجي نحنا عشان نسترزق زيهم تحصل المشاكل ؟
    لقد لعبت الصدف دوراً كبيراً إلى الحد الذي دفنته حياً .. و لكن مشلهت لم يكن يتوقع عرضاَ كهذا .. ان يصبح وكيلاً للبائع المتجول .. و باختصار شديد ان يمثل هو البائع المقيم…
    و تلفت مشلهت حوله ليجد عدداً من المرضى و مرافقيهم أصبحوا تجاراً وسط العنابر .. و يبدو ان إدارة المستشفى تغض الطرف عن ذلك النشاط لانه يوفر للمرضى ما يحتاجونه من أغذية و مواد مساندة كالشاش و القطن و الإبر أو السرنجات ..
    في اليوم الرابع جاء عوض الله سائق التاكسي .. و كان مشلهت يغط في نوم عميق .. فجلس عوض الله يتحدث مع العسكري ..
    • انت كنت وين المدة دي كلها ؟
    • انا كنت في الحراسة ..
    • مالك ؟
    • ضربت واحد راكب موتر .. لكن ربك هون .. بقي كويس و انا فكوني بضمان
    • عشان صاحبك دا كان قلقان عليك .. طوالي بسأل عنك …
    • و الله لو ما ربنا ستر انا ذاتي كنت أكون في قصة و ورطة زي ورطة صاحبي دا ..

    و كانما يأتي صوت عوض الله من بئر سحيقة الأغوار .. تسلل الصوت إلى أذن مشلهت .. فاختلط مع حلم كان يأخذ شكلاً ..فرأي مشلهت صديقه عوض الله … و كان يتحدث إلى جماعة .. و كان مشلهت يرجو من العسكري ان يعطيه إذناً حتى يسلم على صديقه .. و لكن العسكري رفض .. و كان مشلهت يحاول ان يصرخ و ينادي على عوض الله و لكن عوض الله لا يسمعه .. و فجأة هب مشلهت من نومه ليجد عوض الله يجلس مع العسكري .. فلم يصدق .. إذ انه قال:
    • انت ما كنت سامعني و لا شنو ؟
    • سامعك وين ؟
    • هنا قبل شوية ..
    • بسم الله .. انت بتهلوس و لا شنو ؟
    و رويداً رويداً يكتشف مشلهت انه كان في حلم فيبتسم و يسلم على صديقه عوض الله ..
    • يا زول شفقتنا عليك .. مالك بالله ؟ حصل ليك شنو ؟
    • دي قصة طويلة بحكيها ليك .. المهم كيف انت ؟
    • أهو زي ما شايف .. ما في جديد .. و فضلت لينا بس قضية المصيبة دا .. الرقيب موسى الحاكم .. يعني لو كان موسى الحاكم جا و اعترف انو خلى المسدس عندي و انو انا ما عندي بيهو شغلة .. كان من زمان فكوني و مشيت البيت لكين تقول شنو ؟ المهم انت - الحصل عليك شنو؟ ان شاء الله مافي عوجة؟
    و أخذ عوض الله يحكي لمشلهت ما حدث له و من وقت لآخر يقاطعه مشلهت:
    • شوف بالله .. زي حكايتي تمام ! ..
    و أخيراً يقول مشلهت:
    • يعني في الآخر اتخارجت منها؟ …
    • أيوا .. بعدما اتراضينا انا وبتاع الموتر .. و هو طلع ود حلال و اتنازل .. و بقت حكاية تسوية حأدفعها و خلاص.
    و كأنما الجميع كانوا على موعد للالتقاء إذ ان البائع المتجول عاد يحمل بقجة كبيرة .. و صاح عندما رأي عوض الله:
    • عان زولك ! .. ما قت لك بجي؟ .. تراهو جا .. ها زول .. إزيك .. كيفنك
    و استمر البائع المتجول و عوض الله في عناق و تحيات .. ثم مد البائع المتجول يده ليسلم على مشلهت و العسكري .. و جلس و وضع البقجة على الأرض ثم أدخل يده فيها و أخرج كرتونة صغيرة بداخلها سندوتشات فصاح عوض الله:
    • دا الكلام .. و الله يا ود عمي تب ما عندك عوجة .. عفيت منك .. انا ذاتي كنت عايز أجيب أكل لكين تقول شنو .. الواحد لامن يفوت محل السندوتشات حتى يتذكر .. القلب مشغول …
    و يتناول ثلاثتهم طعامهم .. و بتلقائية اعتادت عليها تتحرك بائعة الشاي لتقدم لهم الشاي .. و لا أحد يسأل من يدفع الحساب .. المهم في النهاية يأتيها حقها
    لاحظ عوض الله ان بقجة البائع المتجول قد زادت وزناً و محتويات فيقول:
    • الشئ شنو ؟ شايل السوق الشعبي كله هنا ؟
    و يرد البائع:
    • سوق شنو ياخوي ؟ دا كلو هتش ..
    • و نان وكت دا كله هتش .. مالك شايلو فوق ضهرك متل –الله يكرمك- الحمار؟
    و يبتسم البائع فيقول:
    • يا خوي خلنا في تلقيط رزقنا .. الزباين منتظرين و الليلة مواعيدهم ..
    • زباين شنو كمان ؟ انت عملت ليك زباين هنا ؟
    • أي و الله ببركة الزول دا .. جوني ناس كتار واحدين ممرضين و واحدين ممرضات و سسترين و سسترات .. أوع بالك دكاترة كن ماك عارف …
    • و هسع انا قلت صاحبك دا طالما هو قاعد هني .. و ما بتحرك من محلو و زول مضمون .. قلت لو .. نشارك .. انا ببضاعتي و هو يبيع في محلو .. و قروشو تصلو لحدي محلتو دي .. لكين بشوفو كدي ما رضيان …
    و يفكر عوض الله برهة ثم يقول:
    • و الله يا العربي بقيت كمان بتخطط .. خلي بالك العرب ديل ما ساهلين .. شوف الزول دا هسع بفكر كيف .. خامين القروش دي و مكنترنها بجنس الشغل دا .. غايتو انا بفتكر انو الحكاية دي كدا تمام .. و كمان يا مشلهت أخوي انت في محلك دا محتاج لمصاريف و القروش الأخدتها من صاحبك ما فضل فيها شئ .. اشتريت منها الجلاليب و العراريق والمعجون و الفرشة و عدة الحلاقة و سويت ليك منها شنطة فيها حاجاتك المهمة .. و لامن يفرجها الله عليك .. تراكا هنا في الاسبتالية .. و كلام الزول دا تمام .. و انا لو قاعد في محلك هنا .. كنت فتحتو كنتين عديل دحين انت وافقو و انا ذاتي بشتغل معاكم .. بـ"عربيتي" انقل ليكم البضاعة و انتو اشتغلوا بعدين البمرقا الله نتقاسما …
    ويتدخل العسكري:
    • و الله حكاية عجيية .. و انتو هنا .. تخططوا و تعملوا سوق و تجارة و انا قاعد بسمع في كلامكم .. انتو قايلين حكومة مافي ؟ …
    و يسارع عوض الله لتهدئته:
    • ياخوي انت موجود .. و حقك برا .. إت قايل نحنا ناسنك .. لا و الله .. نحنا عاملين حسابك …
    و يتدخل مشلهت:
    • بس الزول الما عاملين حسابو هو انا .. كيف يعني نعمل لينا سوق هنا في العنبر ؟
    و يرد عوض الله:
    • و فيها شنو ؟ ما الناس كلها عاملة أسواق .. الله ما كتر إلا الأسواق .. و انت قايل البلد دي كلها شايلاها المواهي ولا العلاوات .. أتخن تخين ماهيتو ما بتقضيهو لآخر الشهر .. كل زول فاتحلو سوق .. و الما فاتح سوق بسمسر .. و عليك أمان الله إت قاعد في محلك دا .. الناس يبيعوا و يشتروا فيك .. من قبل التجارة ياها عصب الحياة .. زي ما بقولوا .. إلا بس الحكومات جات و سوت بعض الناس أفندية حددت رزقهم .. بقوا ياخدوا راتبهم آخر الشهر … و ات قايل الضيق الحاصل على الناس دا من وين ؟ مو من الماهية؟ …عشان كدي .. هسع الأسواق فتحت وصاحب كل رزق يجي يشيل رزقو.
    وبالطبع فان مشلهت الذي عمل يوماً ما وكيلاً لإحدى الوزارات لا يمكن ان يفهم ذلك المنطق .. فهناك موردون و تجار جملة و تجار تجزئة و بياعون لهم رخص و أسماء مسجلة في الغرفة التجارية و في ديوان رجال الأعمال ... و لا يمكن ان يسمح القانون لكل من هب و دب ان يفتح دكاناً تحت سريره في عنبر المستشفى .. و لكن ماذا يفعل مع هؤلاء ؟ لقد امتدت لوثة البيع و الشراء لتشمل كل مناحي الحياة .. و صدق عوض الله إذ قال ان المجتمع كله تحول إلى باعة و سماسرة .. إلا إنه لا يمكن ان يجاريهم:
    • شوفوا يا أخوانا .. انتو ناس كرام .. و انا وجدتكم في محل أهلي هنا .. و كل زول يعمل في المجال الهو بعرفو .. انا لا التجارة مجالي و لا العنبر دا محلي .. لكين انتو إذا عايزين تبيعوا و تشتروا على كيفكم .. لكن انا ما تدخلوني معاكم
    و بامتعاض يرد البائع المتجول:
    • و الله نحنا قلنا بس تستنفع انت في قعدتك دي لكين معليش .. وكت قلت ما موافق خلاص .. معليش ..
    و تمر فترة صمت قصيرة يكسرها عوض الله قائلاً:
    • طيب انت آخر حاجة عملوها معاك شنو ؟
    و يرد مشلهت:
    • مافي حاجة .. بس قالوا ننتظر لحدي ما أوراق الرقيب موسى الحاكم تتحول لمركز غرب الحارات و طبعاً هسع هو بحققوا معاهو في سوق ليبيا و ما عارفين دي بتنتهي بتين و بعدين كويس انك جيت .. انا شايف انو الحكاية دي بعد ما سمعت كلام موسى الحاكم .. حتتعقد .. و لذلك محتاجين نجيب محامي ..
    • محامي زي منو ؟
    • انا من يومداك بفكر في زملانا من المحامين الكانو معانا في الجامعة .. و عايزك تمش تشوف أخونا المحامي عبد العظيم .. مكتبو جنب الخطوط البلغارية في الخرطوم …
    • أيوا شفتها …
    • ممكن تصلو و انا بديك جواب ليهو .. و تشوفو يقول شنو …
    • طيب انت الجواب بتديني ليهو متين ؟
    • بكرة لما تجي حتلقاني حضرت ليك الجواب …
    و يستمر القوم في جلستهم تلك حتى يأتي موعد انتهاء الزيارة فيغادرون بينما يكون البائع المتجول قد صرف نصف كمية البضاعة فيحمل الباقي على كتفه و يغادر.
    ****

    ليل المستشفى طويل .. يحمله المرضي في دواخلهم ألماً و قلقاً و هم يجلسون على بوابة الموت .. فالذي يدخل تلك العنابر لا يخرج منها إلا إلى بيته أو إلى المقابر مروراً بالبيت .. و لا يوجد باب آخر .. و الذين يبقون مع المرضي ملازمين لهم تكتسب شخصياتهم بعداً متشابهاً .. نساء يجلسن على الأرض داخل و خارج الردهات .. كل واحدة لها كوزها الخاص .. و هي دائماً تبحث عن ماء وعندما تتفقد المريض تقول له:
    • أديك موية ؟
    و في أغلب الأحيان يوافق المريض .. فينهض ليحتسي كوزاً من الماء أكانت به حاجة للماء أم بدون حاجة… و بالتالي فان دورات المياه لا تخلو من رواد …
    و في كل ليلة يستعيد مشلهت تلك الصورة المتتابعة لما حدث له منذ أعوام خلت و حتى ورطته الأخيرة.

    عند بداية الزيارة في اليوم التالي كان عوض الله يغادر المستشفى وهو يحمل معه خطاباً للمحامي عبد العظيم زميل مشلهت و قد قرر ان يذهب له في المساء . . فقد علم من مشلهت ان عبد العظيم يعمل في المساء عندما يكون في الخرطوم .. إذ انه اعتاد السفر إلى خارج السودان…
    لم يستغرق عوض الله زمناً طويلاً في العثور على مكتب المحامي عبد العظيم فهو في مكان ظاهر .. فصعد إلى الدور الثاني و استقبله موظف الاستقبال قائلاً:
    • اتفضل اجلس .. الأستاذ معاهو واحد جوه و قرب يخلص …
    و بعد مدة خرج الرجل وهو يتكلم مع موظف الاستقبال طالباً ضم بعض الأوراق إلى ملف يحفظه الموظف عنده و هو يقول:
    • الأستاذ قال ليك بكرة ذكرو بالملف دا
    • كويس…
    • أها مع السلامة …
    • مع السلامة … و يلتفت إلى عوض الله:
    • اتفضل أدخل …
    و يقرأ الأستاذ خطاب مشلهت فيرفع حاجبيه و يقول:
    • مش معقول .. مشلهت مش مات ؟
    • لا أبداً …
    • طيب المات منو ؟
    • ما عارف …
    • يا أخي انا قبل كم شهر كدا واحد صاحبنا قال لي مشلهت مات و مشينا عزينا فيه.. انا شخصياً ما مشيت لأني كنت خارج السودان .. لكين الجماعة أصحابنا قالوا مشلهت مات …
    • أبداً .. هو ما مات … و هسع لو ممكن تشوف قضيتو دي و تتولاها …
    • طبعاً حأتولاها … لكين بس نشوف حكاية موتو دي …
    • قلت ليك ما مات و انا هسع جاي منو.
    • أيوا … بس دي كمان إذا ثبت انو الناس اعتقدوا انو مات و دخل في السجلات كدا .. دي قصة تانية .. على العموم انا بكره بجي عليهو .. الساعة حداشر صباحاً …
    • شكراً جزيلاً يا أستاذ …

    ****
    استمع عبد العظيم المحامي لقصة مشلهت من بدايتها و كان يردد بين الحين و الآخر (شئ غريب) .. لم يكن يتوقع ان تتضافر الأحداث بمثل تلك الصورة لتطبق في النهاية على عنق مشلهت و تحوله إلى كومة من الاستسلام ترقد على سرير في مستشفى في انتظار ما تخبئه الأقدار. أمر غريب في سلوك الناس .. شئ يختص به أهل السودان دون غيرهم من الأمم.. لا أحد يعرف حقوقه القانونية .. حتى في أعلى المستويات التي نالت قدراً عالياً من التعليم .. أمية بالقانون مستشرية جعلت الناس يستسلمون ولا يتمسكون بحقوقهم التي كفلها لهم القانون .. و لذلك تظل الحراسات مكتظة بمنتظرين ما كان لهم ان يكونوا في ألآنتظار لو أنهم وجدوا مساعدة من جهة قانونية .. فكيف بقي مشلهت في الحراسة طيلة هذه المدة دون ان يتحرك هو أو تتحرك الأمور ناحيته .. و سأله المحامي:
    • هسع انت في الحراسة ليك كم يوم ؟
    • أكثر من شهرين
    • في المدة دي كلها ما في زول سألك و لا عرضوا قضيتك في المحكمة ؟
    • كان في بلاغين و اتشطبوا و بقي بلاغ واحد ..
    • بلاغ بتاع المسدس ؟
    • أيوا
    • دي حكاية بسيطة .. ما محتاجة لإجراءات كتيرة.. انا دلوقت بمشي لمركز غرب الحارات أشوف البلاغ المسجل كيف و حأمشي برضو مركز سوق ليبيا عشان أطلع على أقوال الرقيب موسى الحاكم .. و حأعمل عريضة للنيابة .. و في أمل كبير الليلة تمشى بيتكم..
    و تتهلل أسارير عوض الله سائق التاكسي و هو يرى كيف طوى ذلك المحامي الضليع كل مشاكل مشلهت و وضع يده على ذلك الضوء في نهاية النفق فإذا بكل شئ يبدو ساطعاً مبهجاً مملوءً بالأمل و التفاؤل…
    خرج المحامي و قد ترك مشلهت و أصحابه و قد سرت فيهم روح نشطة و حماس و فرح يحسون به يغمرهم و كانهم أطفال .. فيقول عوض الله:
    • يا زول شوف كيف الأمور اتحلت .. هسع كان من الأول مشينا لصاحبك دا ما كان قعدت انت في الحراسة المدة دي كلها .. و يوافقه مشلهت بنبرة متفائلة:
    • أصلو أيام .. ربنا حكم اننا نقضيها هنا .. و كان لازم نقضيها ..
    و يوافق البائع المتجول:
    • أيا .. كلامك تمام والله .. الزول عاد جاي يفوت المكتوبالو ؟ لكين الله كريم
    و يتواصل الحوار بين الأصحاب و هم يشعرون إنهم يخرجون من دوامة كادت ان تبتلعهم.
    كان مشلهت يرقد على سريره و هو يرقب زوار المرضي يتوافدون و تختلط أصواتهم بأصوات الأقدام على ممرات المستشفى .. فيكتظ العنبر بمجموع الزوار و هم يتحلقون حول كل مريض بعضهم واقفون و بعضهم يجلسون بالقرب من المريض على سريره و من وقت لآخر تطوف بنت بصندوق حلوى و أخرى تقدم أكواباً من الماء .. منظر مألوف .. مطبوع في ذاكرة الأمة السودانية .. و لا تكتمل صورة المريض و بقائه في المستشفى إلا به
    و من بين الذين زاروا مشلهت في ذلك اليوم كان المحامي .. الذي قضى يومه متجولاً بين مركز غرب الحارات و مركز سوق ليبيا .. كان الرجل يتحدث و مشلهت يثبت نظره على ربطة العنق التي كان يرتديها … و قد أصبحت ربطة العنق شارة يعرفهم بها الناس .. فليس في صيف الخرطوم و حره من يلبس ربطة العنق إلا المحامون …
    • شوف يا صديقي .. انا مشيت قريت الكلام المكتوب والأقوال والموضوع واضح جداً .. والمتحري نفسه قال لي يظهر من كلام الرقيب موسى الحاكم انو لقى نفسه في ورطة و عايز يتخارج منها وانا حركت الأمور كلها .. وعلى العموم حتكون في جلسة في اليومين دي .. و دلوقت انا عايزك تركز معاي و تحكي لي الموضوع بتاع المسدس دا من أوله …
    أخذ مشلهت يحكي القصة والمحامي يسأل و يدون .. و استمرت هذه العملية مدة طويلة .. نفد صبر مشلهت فتساءل قائلاً:
    • هي أصلو الحكاية معقدة بالشكل دا؟
    • هي مش معقدة لكين ممكن تكون معقدة .. بيعتمد على إفادات الرقيب موسى الحاكم .. و طبعاً هو لازم يحاول يرمي المسئولية عليك .. و تكون انت الضحية .. عشان كدا الواحد لازم يفتح عينو و يعرف كل كبيرة و صغيرة .. و المهم في الموضوع انو انت ما عندك مصلحة في سرقة المسدس أو إخفاء المسدس .. بس المشكلة انو إتلقى عندك و بواسطة واحد من ناس المباحث .. لكين دي كلها أمور من السهل الواحد يجاوب عليها ؟
    • جداً .. مستعدين نجاوب على أي سؤال مهما كان.
    و ينهض المحامي مودعاً مشهلت:
    • هانت .. كلها يومين تلاتة و ان شاء الله تكون مع أهلك.. طيب مع السلامة …
    • الله يسلمك.
    و يغادر المحامي و يستلقي مشلهت على سريره في انتظار آذان المغرب و هو يستعيد في مخيلته شريطاً طويلاً .. هل سيعود فعلاً إلى أهله ؟ أمراً كان يظنه بعيد المنال .. زرع في نفسه الحسرة وألآنكسار و عدم الرغبة في المقاومة .. و لكن الأمل ألآن ينهض في داخله وأن ما حدث له لا يمكن ان يكون نهاية العالم .. و لهذا ظل يستمع للمتحري في تلك الجلسة و هو يلخص أقواله وأقوال الرقيب موسى الحاكم وإنه يتحدث عن شخص آخر .. و خاصة عندما كان القاضي يستجوب الرقيب قائلاً:
    • انت بتتهم الزول دا بأنو سرق منك المسدس ؟
    • انا ما قلت انو سرقو .. انا قلت شالو ..
    • الفرق شنو ؟
    • أيوا .. الفرق انا كان عندي ملاريا خبيثة و دخلت في غيبوبة و بعدين ما صحيت إلا لقيت نفسي في البيت و المسدس مافي .. و عرفت انو مشلهت لقاهو و شالو ..
    و هنا يوجه المحامي للرقيب عدداً من الأسئلة:
    • انت قبل كدا جاتك ملاريا خبيثة ؟
    • لا
    • يعني دي أول مرة تجيك فيها ملاريا خبيثة ؟
    • أيوا
    • و الفرق شنو بين الملاريا الخبيثة و الملاريا العادية ؟
    • انا نعرف كيف ؟ انا ما دكتور .. بس الحمى المسكتني قالو لي دي اسمو ملاريا خبيثة ..
    • القال ليك منو انها ملاريا خبيثة ؟
    أخوي زكريا ..
    • و أخوك زكريا دكتور ؟
    • لا
    • بشتغل شنو ؟
    • بشتغل ترزي ..
    • يعني مافي دكتور قال ليك عندك ملاريا خبيثة ؟
    • لا
    • و لما دخلت في غيبوبة .. كنت قاعد وين ؟
    • كنت بقوم بحراسة مشلهت و جالس في الكرسي .. بس شعرت بتعب شديد في جسمي كلو .. بعدين تاني ما وعيت ..
    • و الغيبوبة استمرت معاك كم ساعة و لا كم يوم ؟
    • انا ما عارف ..
    • كيف ما عارف ؟ ما عارف انت كنت واعي بتين .. و بعدين بقيت ما واعي و بعدين وعيت ؟
    • لا
    • طيب نسهل عليك السؤال .. لما حصل ليك التعب و انت ما وعيت بنفسك كانت الساعة كم ؟
    • دي كان يوم الاثنين في العصر .. يعني قول الساعة خمسة ..
    • و لما صحيت لقيت نفسك في بيت أخوك زكريا كانت الساعة كم ؟
    • كانت الساعة حوالى خمسة و نص ..
    • في نفس اليوم ؟
    • لا
    • كان ياتو يوم ؟
    • ما بعرف ..
    • يعني انت صحيت لقيت نفسك في بيت أخوك زكريا ؟ طيب دا كان ياتو يوم الثلاثاء .. الأربعاء ..الخميس ؟
    • يكون يوم الخميس ..
    • انت متأكد ؟
    • أيوا متأكد ..
    • طيب دي حكاية بتاعة يومين أو ثلاثة .. في اليومين دي انت كنت وين ؟
    • كنت في غيبوبة ..
    • أيوا ..بس كنت في بيتكم و لا كنت في الاسبتالية ؟
    • ما عارف ..
    • ما انت لازم تعرف .. لانك لو ما عرفت .. نحنا ما بنقدر نقدر الحصل شنو للمسدس ..
    • الحصل للمسدس ما ياهو ظاهر .. الزول براهو بخشمو قال شالو ..
    • انت عندك أورنيك طبي ؟
    • أيوا ..
    • الأورنيك دا الطلعو منو ؟
    • طلعوه في الاسبتالية ..
    • الماضي عليهو منو ؟
    • المراقب ..
    • مختوم و معتمد ؟
    • أيوا ..
    • الأورنيك دا موجود هنا ؟
    • أيوا ..
    و يتقدم المحامي ليقف أمام القاضي قائلاً:
    • ممكن نطلب من المحكمة الموقرة السماح لنا بالاطلاع على الأورنيك الطبي ؟
    • اتفضل ..
    و يأخذ المحامي الأورنيك و يدون بعض الملاحظات ثم يتجه نحو الرقيب:
    • و ليه انت حسب الأورنيك ما قعدت في المستشفى ؟
    • عشان أخوي زكريا قال المستشفى ما فيها علاج .. و أحسن يوديني البيت يعمل لي علاج بلدي ..ويموص لي عرديب أشربه.
    • و نقلوك في نفس اليوم ؟
    • و الله ما عارف ؟
    • و جيت تاني راجع المستشفى بعد ما طلعت من بيت أخوك ؟
    • لا
    • ليه ؟
    • بقيت كويس ..
    و يتقدم المحامي بطلب:
    أرجو من محكمتكم الموقرة السماح للدفاع بفحص الختم على الأورنيك و استدعاء كل الموقعين به بالإضافة إلى رئيس العنبر ..
    أوافق ..
    • وأن نحتفظ بحقنا في استجواب الشاكي مرة أخرى ؟
    • أوافق ..
    و يستجوب القاضي مشلهت قائلاً:
    • انت سمعت كلام الشاكي ؟
    • أيوا ..
    • طيب إيه إفاداتك في هذا الموضوع قبل ما نوجه ليك الاسئلة ؟
    • أولاً يا مولانا الزول دا جا معاي من مركز سوق ليبيا .. كحرس .. و فضل معاي طوالي إلا لما تنتهي ورديتو بجي واحد تاني يغيرو .. و في يوم الاثنين جا وخلى عندي المسدس بتاعو و قال لي انا ماشي مشوار صغير كدا و لو أي زول سأل مني قول ليهو مشى يتسير .. و بعدين انا جوني و قالوا لي انت السكر بتاعك مرتفع و نحنا حاولنا ننزلوا هنا و ما قدرنا و لازم نوديك مستشفى السكر في بحري .. حتى قلت لواحد ممرض حقو تنتظر الحرس المعاي عشان لما يجي ما حيلقاني هنا .. و هو قال لي:
    • نحنا عندنا الإسعاف واقف . . و إذا فوتنا الفرصة دي تاني ما بتلقي بسهولة .. و لازم انت يعملوا ليك إسعاف سريع بعد دا بتخش في غيبوبة و عشان كدا انا مشيت معاهم و ما كنت عارف أودي المسدس وين .. قمت ختيتو مع الهدوم بتاعة البائع المتجول الخلاها عندي .. بعدين شرطي المباحث شاف المسدس في المستشفى بتاع السكر و حقق معاي و فتح على بلاغ ..
    و يسأله القاضي:
    • طيب .. لما الممرض قال ليك عايزين نرحلك لمستشفى السكر ذكرت ليهو أي حاجة عن المسدس ؟
    • لا
    • ليه ؟لاني كنت ملخوم و ما كنت عارف أتصرف كيف .. و بعدين يا مولانا انا لو كنت عايز أسرق المسدس أقوم أخليهو في محل ظاهر عشان أي زول يشوفو ؟
    • انت بتوجه سؤالك لي انا ؟
    • معليش يا مولانا انا متأسف ..
    • الأسئلة دي تقولها في دفاعاتك ..
    رفعت الجلسة و رجع مشلهت إلى المستشفى و هو منقبض النفس .. ثقيل الهم .. كثير الوساوس .. فقد ظهر الرقيب موسى الحاكم في موقف أقوى من موقفه .. هل يستطيع صديقه عبد العظيم المحامي ان يجد له مخرجاً بعد تلك الأدلة الدامغة التي قدمها الرقيب موسى الحاكم ؟
    لاحظ عوض الله ان مشلهت بقي ساهماً بعد عودته من المحكمة .
    • يا أخوي ما يهمك .. صاحبك المحامي دا نجيض و هسع بمرقك منها زي السلام عليكم .. الحبة دي ما بتجيك ..
    و يتنهد مشلهت و هو مستلق على سريره ينظر للسقف ..
    • زي السلام عليكم كيف ؟ مش شايف الرقيب عامل كيف ؟ جايب أورنيك ووثائق .. و انا ذاتي خلاني أشك انو انا سرقت المسدس و انه كان عندو غيبوبة ..
    و ينتبه عوض الله قائلاً:
    • كان كدي يا خوي الرقيب موسى عاملو حاجة الزول دا انا لقيتو عند إسماعيل الساعاتي صاحب السفلي .. و لازم يكون مشى لإسماعيل و أخد منو عمل .. و خلاك انت و القاضي في شك و لجم المحامي خلاهو ما قادر ينضم ..
    و ينهض مشلهت و يستعدل في جلستة في السرير:
    • معقول يكون عمل كدا ؟
    • معقول و نص و خمسة .. ديل ناس مخافة الله عندهم قليلة .. ناس بتاعين شواطين و جن و سفلي .. لازم يكون إسماعيل عمل ليهو عمل..
    • لا لا .. دي حاجات انا ما مؤمن بيها ..
    و يجادل عوض الله:
    • تقدر تقول لي كيف القضية بتاعة أبكر بتاع العناقريب شطبوها ؟ دي يا خوي حكاية واضحة .. أسماعيل رسل السفلي بتاعو قام غطس حجر القضية ..
    و بنصف موافقة يرد مشلهت:
    • انا حقيقة ما عارف كيف اتشطبت القضية .. لكين دا ما معناهو انو إسماعيل كانت عندو يد في الحكاية دي ..
    • طيب ليه شطبوها ؟
    • ما عارف ..
    • يا خوي قلت ليك الكلام واضح .. و انا رأيي أقوم من دربي دا أمشي لو .. و أشوف الحكاية معاهو .. باقي هو بكون في بيتو مع خدامو و مصايبو في المسا .. بعد صلاة المغرب ..
    • يا خوي ما تتعب نفسك ساكت .. البسويها الله بتبقى ..
    كان مشلهت يتوقع حضور عبد العظيم المحامي بين كل لحظة و أخرى .. و لكنه لم يحضر .. و أخذت الأوهام تساور مشلهت و تطوف بذهنه مثيرة الكثير من التساؤلات التي لا يجد لها إجابة ..هل يعزي ذلك إلى ان المحامي قد وجد موقف مشلهت ضعيفاً فلم يأبه به ؟ لماذا لم يحضر ليخبره بما ينوي عمله في الخطوة التالية ؟ أشد ما يؤلم مشلهت ان تدينه المحكمة و هو لم يخطر بذهنه ان يدبر لسرقة المسدس .. و ماذا يفعل به و هو الذي لم يمسك بيده مسدساً في يوم من الأيام ..

    ليلة طويلة مرت عليه .. تمددت في تاريخه الطويل .. في هذه الليلة الأضداد تنام إلى جوار بعضها .. الصدق و الكذب .. الخير و الشر .. الظلمة و النور .. الحر والبرد .. الأبيض و الأسود .. و الذي يمشى بينهما يقتله الحياد .. فإما ان تقع في حبال الوهم فتتخيل ان الذي مر بك هو كابوس طويل مرعب ستفيق منه حتماً أو ان تسقظ في براثن الحقيقة فيقتلك الوهم .. أشياء كثيرة نمشى بينها و نحن نحمل أكفان اللامبالاة و الاستغراق في تفاصيل الحياة اليومية .. فتنحني قاماتنا من البحث عن الرزق في فجاج الأرض أو البحث عن العدل وسط ركام من الأكاذيب و الافتراءات و التضليل و التزوير .. و كأننا نبحث عن إبرة وسط كوم من القش ..
    أطل الفجر .. و استبدل المستشفى نشاط الليل بنشاط النهار .. حيث اختفي عراك القطط الليلي حول القمامة .. بحركة الممرضين و الممرضات و الأطباء و هم يمرون على المرضى .. العسكري الذي يحرسه استبدل بغيره .. اناس طيبون حكمت الظروف ان يحرسوه و هم يؤدون واجبهم وان يكون محروسهم .. و لكن لاحظ إنه سرعان ما تذوب الحواجز بينه وبينهم فيشتركون في طعام واحد ويتبادلون التحايا و يفتحون قلوبهم لبعض .. فإذا كل منهم قصة طويلة من المعاناة والمشاكل .. إلا انهم متماسكون من حيث البناء الخارجي .. مثلهم مثل غيرهم من أهل السودان .. صابرون راضون بما قسمه الله لهم .. و طمأن مشلهت نفسه .. و هو يدير حواراً داخلياً .. هذه قسمتك يا مشلهت .. ما الذي ستفعله .. أو قل (ما الذي ستفعله لو كان هناك أكثر من موت ؟)
    لم يمض وقت طويل حتى جاء عوض الله يحمل الفطور كعادته .. جلسوا يفطرون .. مشلهت و عوض الله و العسكري .. و انضم إليهم ممرض كان يقف قريباً دعوه فلبي دعوتهم .. و التفت إلى مشلهت قائلاً:
    • انت بتاكل في الرغيف .. ما بنفع معاك ..
    • هو انا أصلو البنفع معاي شنو ؟
    • بينفع معاك أكل خاص ..
    • طيب وينو الأكل الخاص ؟ مالكم ما جبتوه لي ؟
    • هو قال ليك المستشفى فيها أكل ؟ إذا كان انت بتجيب الشاش والقطن و الدوا و الإبر .. كلو من بره .. كيف يعني يكون فيها أكل ؟
    و يتدخل عوض الله:
    • يعني الزول يا مات من السكري يا مات من الجوع ؟ أخير نموت شبعانين .. و لا مو كدي يا جنابك ؟
    • أيوه تمام .. الجوع كافر ..
    في هذه الأثناء كانت بائعة الشاي "حواية" تجهز الشاي كالعادة أيضاً ..
    عالم دخل في موازنة مع أموره المختلفة .. كل شئ يحدث بالتتابع .. تكيف معه الجميع .. لا يكسر ذلك الروتين إلا وفاة شخص أو حضور مريض على النقالة..
    و ينظر مشلهت في عيني عوض الله و كانه يقرأ جديداً و صدق حدسه .. إذ ان عوض الله قال:
    • يا خوي .. البارح مشيت لك .. لإسماعيل الساعاتي .. لقيت البيت مكردن .. و البوليس و ناس الأمن بطلعوا في الناسم من جوة .. سألت قلت الحكاية شنو .. قالوا لي إسماعيل كشوه ..
    • هو و السفلي بتاعو ؟
    • أيوا ..
    • يعني كنت عايز تودينا هناك عشان كمان يكشونا مش كدا ؟
    • و انت ذاتك ربنا سلمك .. انا قلت ليك .. يا أخي دا راجل دجال .. خليهو دلوقت يقدر يفك نفسو ..
    و لا زالت عند عوض الله بقية من إيمان بقدرات إسماعيل فيقول:
    • يا أخي ديل ناس عندهم سبعة أرواح .. هسع باكر يرجع لمحلو .. و انت تشوف..
    و قبل ان يستمر الحديث عن إسماعيل الساعاتي و السفلي .. يطل عليهم عبد العظيم المحامي فتتهلل أسارير مشلهت:
    إتفضل.. دخل إيدك معانا..
    شكراً... ماكل قبل شوية.
    طيب أقعد..
    يجلس عبدالعظيم المحامي على حافة السرير وهو يقول:
    • انا طلبت تأجيل القضية لحدي بكرة .. عندي شك في الأورنيك القدمو الرقيب . . و كمان في دفتر الاسبتالية ذاتو .. وعلى العموم القضية في صالحنا .. بس انا جيت عشان أطمنك .. أمس ما قدرت مريت عليك كان عندنا عقد بعد صلاة العصر في العزوزاب .. لكين خليك مطمئن .. انا حأطعن في كل أقوال الرقيب و في الشهود بتاعينو ..واضح المسألة فيها تزويز ..

    لم يستغرق المحامي عبد العظيم زمناً طويلاً في الكشف عن التزوير الذي توصل إليه في الأوراق التي قدمها الرقيب موسى الحاكم .. كما إنه لم يكن هناك ما يدل على ان الرقيب دخل في غيبوبة أو انه أصيب بملاريا خبيثة..
    استمع القاضي لكل تلك الإفادات و أصدر حكمه بشطب البلاغ صد مشلهت و ان يفتح بلاغ بالتزوير في الأوراق التي قدمها الرقيب موسى الحاكم .. و أمر بإطلاق سراح مشلهت.
    إجراءات إطلاق سراحه لم تأخذ زمناً طويلاً أيضاً .. و لأول مرة منذ ما يقارب الثلاثة أشهر .. يشعر مشلهت بالهواء يملأ رئتيه و بحيوية و نشاط يتسرب إلى خلاياه .. و إن الدنيا ليست قاتمة كما كان يعتقد .. و لم يستطع ان يعبر عن فرحه لصديقه المحامي ولا لحارسه ولا لصديقه عوض الله سائق التاكسي و لا للبائع المتجول .. هؤلاء هم الذين ربطته بهم وشائج قوية .. و قد إنطوى لسانه على كلمات كثيرة كانت في نظره أضعف من أن تعبر عما بداخله لهؤلاء .. و اندفع نحوه الجميع يهنئون و يباركون و يحمدون الله على انه فرج كربته و أزال عثرته و انه ألآن سيطير إلى بيته ليعلن للجميع إنه لم يمت ..
    • قال عبد العظيم المحامي:
    • شوف يا مشلهت .. بعد دا عربية البوليس ذاتها ما عايزنها .. انا حأسوقك بعربيتي دي لحدي الأسبتالية تاخد حاجاتك و طوال على بيتكم و أنا عايز أكون أول من ينقل الأخبار السارة دي للأولاد .. يا سلام .. بالله شوف ربنا حلاها كيف ..
    و يوافقه عوض الله قائلاً:
    • يا زول و الله كنا متوكدين انو حيطلع منها زي السلام عليكم و ياريت كان جيناك من الأول .. دا كلو ما كان يحصل ..
    و يقول البائع المتجول:
    • يا أخي قال لك دي حكاية مسطرة .. ربنا قدرها .. و الواحد لازم كان يمشى في المكتوب لو ..
    جمع مشلهت أشياءه من العنبر و ودع الممرضين و الممرضات و حواية ست الشاي .. ثم وضع كل تلك الأشياء في عربة عبد العظيم المحامي بينما صعد إلى المقعد الخلفي البائع المتجول وقد أصر ان يرافقهم بينما تبعهم عوض الله بعربته التاكسي ..
    و بينما هو في عربة عبد العظيم في طريقهم لمنزل مشلهت يقول عبد العظيم:
    • نحنا طبعاً بعد دا لازم نعمل عريضة عشان نصحح وضعك لانك هسع بتعتبر في عداد الموتى .. لازم نعمل الحكاية دي ..
    يا سبحان الله .. اليوم يعود مشلهت إلى بيته و غداً يعود إلى الحياة في أوراق رسمية .. من كان يصدق هذا؟
    من بعد ما يقرب على الثلاثة أشهر يشاهد مشلهت باب منزله و كانه يراه لأول مرة .. ذلك الباب الحديدي الذي اشتراه من منطقة أبوروف بأم درمان و جاء العمال و ركبوه إيذاناً بضرب خصوصية لمشلهت تجعله ينتهي إلى الداخل
    • وقف عبد العظيم بعربته أمام الباب ثم قال:
    • انت خليك هنا .. انا عايز أعملها مفاجأة .. أقول ليهم انا عايز مشلهت .. يقولوا لي مشلهت مات .. أقوم أدخل معاهم في مغالطة .. و بعدين اناديك تقوم تجي و تكون مفاجأة ..
    طرق عبد العظيم الباب .. و بعد مدة جاء رجل يلبس جلابية و على رأسه طاقية مزركشة ..
    • أهلاً ..
    • يا أخي انا عايز مشلهت ..
    • مشلهت منو يا خوي ؟
    • مشلهت سيد البيت دا ..
    • أيوا تقصد المرحوم أبو الأولاد الكانوا هنا ؟
    • كانوا هنا يعني شنو ؟
    • يعني كانوا ساكنين هنا ..
    • و مشوا وين ؟
    • ديل أصلو عندهم ولد في السعودية .. و قدم ليهم في اللوتري بتاع أمريكا .. و جا و ساق والدته و أخوانه عشان يعملوا عمرة و بعدين عرفت انهم مشوا أمريكا أو كندا مش عارف ..
    • يا زول ؟!! كيف الكلام دا ؟
    • يا هو كدا ..
    • و طيب هسع البيت دا ساكنو منو ؟
    • البيت دا هو وكل عليهو بتاع عقار قام أجرو لينا ..
    كان مشلهت يستمع لذلك الحوارمن المحامي و هو غير مصدق .. كل تلك الأشياء تحدث في مدي ثلاثة أشهر .. يموت هو ويذهب أولاده و أمهم لأداء العمرة ثم يهاجرون لأمريكا أو كندا مش عارف .. أهو حلم أم كابوس جديد ؟ .. أصابه ذهول و تدلت شفته السفلي من الدهشة .. و مر برأسه دوار جعل ألآنجم البعيدة تخرج عن وقارها فتغادر مداراتها ..
    و يعود عبد العظيم إلى العربة و هو يقول:
    • و الله دي حكاية عجيبة .. انت أصلك ما كان عندك خبر بالحكاية دي ؟
    • لا
    • طيب هسع حتعمل شنو ؟
    • ما عارف ..
    • انا طبعاً بكره أول شئ أعملو .. أمشى أصحح وضعك القانوني .. أقدم عريضة أثبت فيها انك حي .. و بصوت خافت و نظرات أخفت .. يقول مشلهت:
    • و لزومو شنو دا كلو .. انا خلاص مدفون بالحياة .. كلنا مدفونين بالحياة .. مافي لزوم ..
    • و يتساءل عبد العظيم:
    • طيب و هسع أوديك وين ؟
    • أي حتة ..
    • و هكذا تبدأ رحلة الضياع الكبير …

    تمت ويليها الجزء الثالث من الثلاثية (مشلهت والضياع الأكبر)


                  

09-03-2007, 04:49 PM

Manal Mohamed Ali

تاريخ التسجيل: 01-06-2005
مجموع المشاركات: 1134

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    جميل هذا السرد
    هذه الممرضة ذكرتني بممرضة في مستشفي عطبرة عام 1993 عندما كانت الطفلة العينة تعاني من مرض افقدها النظر وكانت الممرضة التي تقوم بصب القطرة عيني الطفلة محننة بالصبغة .. فكان ان كنت بجانب سرير الطفلة فطلبت مني تلك الممرضة فتح عيني الطفلة لانها تضع الصبغةفي يديها وتمسك فتيل القطرة باصابعها .. يومها عرفت ان ارخص الاشياء في بلدي هي الانسان
    بالمناسبة تلك الطفلة اصابها العمى لانها لم تاكل جرجير (ّVAITMIN A ) ولكن ايضا قد تكون صبغة الممرضة افقدتها اي امل بالرؤيا
    بالمناسبة الممرضة الان رئيسة عنبر.. ون ترى مجددا ...وانا تركت تلك البلاد
    له الله مشلهت
    منال
                  

09-03-2007, 06:10 PM

خالد سند
<aخالد سند
تاريخ التسجيل: 07-14-2006
مجموع المشاركات: 275

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Manal Mohamed Ali)

    جميل جدا يا دكنور


    نحن في انتظار شقيش
                  

09-04-2007, 06:02 AM

المسافر
<aالمسافر
تاريخ التسجيل: 06-10-2002
مجموع المشاركات: 5061

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: خالد سند)

    Quote: • و لزومو شنو دا كلو .. انا خلاص مدفون بالحياة .. كلنا مدفونين بالحياة .. مافي لزوم ..
    • و يتساءل عبد العظيم:
    • طيب و هسع أوديك وين ؟
    • أي حتة ..



    عطاء رائع وأدب رفيع

    وكل جانب من جوانب كثيرة يحين وقتهاً لكي يتكاثر في عرض من عروض الحياة
    مشلهت الذي وصل إلى درجة وكيل وزارة وهي درجة دستورية ماذا يكفل له نظام الإستخدام.. إذا ما هو كفل نفسه بنفسه .. وبل ذلك أين مشوار الحياة أين الرفقاء في الدراسة والعمل.. (الإليت أو الصفوة) بعد كل ذلك هل يتحدد مصير يومه بمن يصادفه من إنسان.. شرطي .. أو سائق تاكسي .. أو معرفة لحظة مع بائع متجول..
    أين هي الأبواب التي يمكن أن يطرقها صديق أو زميل أو معرفة قديمة..
    أين هو مشوار الغربة الذي أثمر في ولد مغترب وولد ينتظر من يدفع رسوم إمتحانه.. وأين هن البنات.. عسى أن تكون قافلة الإغتراب جمعتهن بأزواجهن في ديار الغربة..
    وأين هو حصاد السنين .. وها هو ينتظر وصول الحذاء الطبي ( سوفت كمفورت).. لكي يمشي به مشوار صباحية في هذا الحي غير الآمن وكلابه الضالة العقورة..
    مازلنا بين فكي كلب أو لفخة الجمل.. ( عضة الكلب تزلزل الوقار ولفخة الجمل ورميته تأخذ العقل)
                  

09-06-2007, 09:40 AM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: المسافر)

    حبيبنا المسافر

    أما آن لهذا المسافر أن يضع عصا الترحال؟

    إلى أين أنت مسافر؟

    هل أنت مسافر في شرايين الوقت؟

    أم مسافر في العيون؟

    أم مسافر في بلاد الله الواسعة كما قال المولى عز وجل:

    (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم
    تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)؟ صدق الله العظيم.
                  

09-06-2007, 01:34 PM

مجدي مسعد حنفي

تاريخ التسجيل: 03-09-2006
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    الاستاذ محمد عبدالله الريح
    كما عودتنا دائماً اسلوب رائع ومنمق وسرد متماسك يسلبك الاراده
    ويجعلك تتابع الابحار دون توقف حتى تصل الى الشاطئ فتتولد لديك
    الرغبه في الابحار مرات ومرات عديده فتابع وسنتابع معك .

    بالمناسبه انا مازلت في انتظار ردك على رسائلي فهل سيطول الانتظار .
                  

09-07-2007, 03:35 PM

Rayah
<aRayah
تاريخ التسجيل: 08-26-2007
مجموع المشاركات: 158

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: مجدي مسعد حنفي)

    الأخ مجدي مسعد حنفي

    تحياتي

    وصلتني رسالتك في الماسنجر وإن شاء الله سأرد عليها. رحم الله والدكم ورحم الله أبوصلاح فكلاهما أعطيا لهذا الشعب فناً راقياً لن يتكرر لأن الظروف التي صنعتهما لا تتكرر. تلك أمة قد خلت وتركت ما ينفع الناس باقياً في الأرض صدقة جارية وأنتم أبناء مسعد حنفي وأبناء أبوصلاح صلة والديكما التي لا تنقطع فادعوا لهما فالله رحيم يسمع دعاءكم .


    لك كل التقدير وللأسرة الكريمة

    محمد عبدالله الريح
                  

09-06-2007, 01:43 PM

الناظر

تاريخ التسجيل: 12-18-2005
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    رائع جدا يا ود الريح
                  

09-15-2007, 11:11 AM

معتز تروتسكى
<aمعتز تروتسكى
تاريخ التسجيل: 01-14-2004
مجموع المشاركات: 9839

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: الناظر)

    خالص التحايا
    دكتور محمد
    الاخبارك والصحة ، كنت على حسب رائي ان تقوم بتنزيلها في جزاء بدلا من نص كامل لانو صعب القراءة كهذا، عموما لاباس وسعيدين بالعمل وبرجعتك..

    *ويادكتور الحاصل شنو الشباب ديل باقين لي فى حلقي الموضوع داك لو اتلغى كدى نورنا عشان ارسيهم على بر ونحن ذاتنا نرسى على بر..

    التحايا النواضر..
                  

09-16-2007, 08:10 PM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 10839

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Rayah)

    قرأته بتمهل كم مرة واعجبني شديد
    وإقتراح أن تحول هذا العمل لمسلسل تلفريوني
    دا شغل أحسن مليون مرة من آلاف المسلسلات المصرية
                  

09-17-2007, 12:20 PM

جمال السنوسي
<aجمال السنوسي
تاريخ التسجيل: 09-14-2002
مجموع المشاركات: 6372

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مشلهت والضياع الكبير (Re: Nasr)

    انا مشلهت

    انت مشلهت

    انتي مشلهت

    كلنا مشلهت

    غايتو الشلهتونا في الدنيا دي

    الله يشلهتم دنيا وآخرة


    تحياتي لك يا دكتور
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de