دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى
|
ولكم جميعا مقالات كانت قد نشرت فى بداية سنوات التسعين فى الملتقى..
شكل التعبير الدينـي في روايات الطيب صالح الميلاد
بروفسر إبراهيم محمد زين
الفصل الأول الميلاد
1. : إن دراسة تطور شكل التعبير الدينى في أدب الطيب صالح تسعى لفهم أبعاد العلاقة بين الفن والدين. وتقوم الدراسة على منهج فريد، اذ يفترض أن هناك صلة ما بين شكل التعبير الدينى الذي يتخذ وبين معنى تلك التجربة الدينية، وكذلك يفترض بان التعبير الدينى يتولد من معاناة شخصية في الصلة بين المطلق والمتجذر تحبسها أشكال التطور الاجتماعى والسياسى والشعائرى الرمزى. لكن تبقى جذورة تلك المعاناة الروحية هى القيمة العليا في فهم تلك الأبعاد الاجتماعية والسياسية والشعائرية الرمزية، وهذا بالطبع لا يعنى اختزالا لتلك الأشكال وانما يعنى بيان أولويات تلك المعادلة الخطرة بين الشكل ومادة الفعل الدينى. ومن المفيد ان نسأل: ما المقصود بالتعبير الدينى؟ و هل هو شئ في مقابل التعبير الفنى أم هو نوع من أنواع التعبير الفنى؟ ذلك بالطبع يقودنا للحديث عن العلاقة بين الدين و الفن في أدب الطيب صالح، وأخيرا ما هو شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح؟ كل الأسئلة السابقة تؤسس لحل قضايا بالغة الاهمية لفهم العالم الداخلى للطيب صالح من خلال رواياته، وهذه الاسئلة تنبنى على مقولة ان النص الذي يؤلفه الكاتب قابل للفهم و التفسير دون الرجوع إلى الحياة الاجتماعية أو الشخصية للمؤلف. فالنص له حياته الداخلية وله آلياته، لكن في ذات الوقت هذه ليست محاولة لتمجيد النص. المقولة الاساسية التي يسعى هذا البحث لاثباتها هى أن هنالك ثنائيات للتعبير الدينى استخدمها الطيب صالح لتأكيد معنى الاطلاق و التصالح في مستوى آخر لحل قضايا الصراع. فالثنائيات ليست مقصودة لذاتها، ولكن لبيان معنى التوحد في اطار الثنائيات وكل ذلك لتأسيس خيال ديني في إطار تشكل الحضارة العربية الإسلامية استطاع الكاتب من خلاله أن يتخذ مقام المعبّر عنه. سنحاول اثبات هذا المعنى من خلال دراسة نصوص الطيب صالح، وذلك في محاولة لتقسيم النصوص إلى مستويين: أولهما المستوى الاجتماعى: والذى سنحاول فيه استقصاء: أولا: معانى الميلاد من خلال دراسة ميلاد الزين و ميلاد قرية ود حامد ثم اجراء مقابلات بين ميلاد مصطفى سعيد في موسم الهجرة و ميلاد ضو البيت في ود حامد، وأخيرا ميلاد بلال، والتقابلات و التكاملات التي تنشأ بينه وبين ميلاد الزين. ثانيا: معانى الزواج من خلال استقصاء معنى الزواج في عرس الزين/النعمة، عشا البايتات/بت الناظر، والمقاربات الاجتماعية و الروحية حول الزواجين، و كذلك التحول الغريب في معنى الزواج في زواج مصطفى سعيد من جين موريس، وزواج ود الريس من حسنة بنت محمود، ثم أخيرا اللانهائيات في معنى الزواج في زواج بلال من حواء بنت العريبى، وزواج مريود من مريوم. لتكتمل ثلاثية الفعل الاجتماعى الانسانى، ننتقل لاستقصاء فكرة الموت لنرى في جهة: الموت الطقسى عند جين موريس، وظاهرة اختفاء مصطفى سعيد وضو البيت، وظاهرة القتل والانتحار عند ود الريس وحسنة بنت محمود، وأخيرا موت بندر شاه. ومن جهة أخرى: موت مريوم الاسطورى، وموت بلال الذي تمنى فيه الناس ان تقبض أرواحهم في ذلك اليوم ليذوقوا حلاوة ذلك الموت. أما المستوى الثانى فهو المستوى الشعائرى: سنحاول فيه تتبع المعانى الدينية التي تلحق بالمسجد والضريح والنيل، ونلاحظ التطور والتقابل في فهم هذه الثلاثية من خلال دومة ودحامد و عرس الزين وموسم الهجرة إلى الشمال وبندر شاه (ضو البيت) وبندر شاه (مريود). ثم أخيرا ننتقل للحديث عن التعبير الدينى في تطور شكله ورموزه ولغته. لنقل على وجه الاجمال ان شكل الصراع في ود حامد بين التحديث (الماكينة/الباخرة) / التقليد (الدومة/الضريح) هو صراع في مستواه الباطنى حول الوجود الانسانى، هو صراع خبرات ذلك المشروع الانسانى، حيث ان التقليد او الحداثة هى حالة ذهنية، وان الانقسام الوجودى هو حالة انقسام في الوعى الانسانى وهو شكل من أشكال نفى الآخر، وان محاولات التوفيق بينهما التي اقترحت هى حل مؤقت لا يعالج الانقسام في مستواه الوجودى، وانما يستدعى ميراث التصالح والتعايش في ظل الانقسام. وكذا الحال في عرس الزين، فان الصراع بين الدين الرسمى (امام الجامع) المؤسسة الصوفية (شيخ الحنين) هو امتداد لثنائيات الصراع في ود حامد، لكن بعد تخفيف حدة التضاد وطرح امكانيات التعايش الظاهرى ليتخذ التقارب شكلا أكثر توفيقا و استلهاما لروح التوافق الظاهرى في حفل عرس الزين! ان كان هذا الصراع يحل بالتوفيق في عرس الزين ودومة ودحامد، فان الصراع في موسم الهجرة إلى الشمال بين الحضارة العربية الإسلامية / الغرب، وبين القيم الجديدة وبين القيم التقليدية.في النموذج الاول ادى الصراع المرضى إلى قتل أو انتحار جين موريس، و في النموذج الثانى أفضى الأمر إلى اكتمال الدائرة بالقتل والانتحار بين حسنة بنت محمود وود الريس. ما لم يحقق في لندن قد تحقق بصورة رهيبة في ود حامد. لكن، برغم وحشية الصراع في موسم الهجرة إلى الشمال ودفن الموتى دون بكاء الا انه كانت هناك نماذج للتوافق لكنها بلا شك كانت على هامش الصراع الاساسى، فنموذج مستر ومسز ربنسون في الصلة بالحضارة العربية هو نموذج استثنائى. اما في ضو البيت، فيستمر هذا الصراع بين القيم الجديدة / القيم التقليدية، بين أولاد بكرى و محجوب، وهو تحول اجتماعى يورث الحسرة ويبين كيف ان الحاضر لا مكان له وانه غارق بين لحظتى الماضى والمستقبل، كما وان الأب ضحية للجد و الحفيد. في هذه الرواية تستوى الاضداد و يصير الصراع في ساحة لا وجود لها وهما كبيرا يمكن تجاوزه، لكن يتأخر ذلك التجاوز إلى صدور مريود، وفيها تتحول اللغة التي تكرس الصراع إلى لغة تكثف الوهم لتنفى حقيقة الصراع. تكثف التواصل ليتأكد معنى صيرورة الأنا في الآخر. بعد هذه المقدمة، فلنحاول تلخيص المقولات الاساسية وربطها مع بعضها البعض حتى يتمكن الناظر من رؤية أدب الطيب صالح في كلياته. ولا يمكن فهم هذا الامر الا من خلال تتبع أشكال التعبير الدينى في تطورها من مراحل التكثف والجمود إلى مراحل الملاطفة والانعتاق. لنقل في شخصية الحنين بأنها شخصية ليس لها تاريخ في القرية فهى تظهرمن ما وراء الأفق لتعود اليه. لكن الزين هو أداة تلك الشخصية. وهو محض استسلام ازاء تلك القوة الروحية الغامرة التي يمتلكها الشيخ الحنين. هى الموجه الذي يحول طاقة الزين المدمرة إلى فعل بناء. ويتدخل في اللحظات الحرجة لوقف الافعال المأساوية والعنف الدموى، مثلما فعل حينما منع الزين من قتل سيف الدين. بالاضافة إلى ذلك ان كل من شهد تلك الحادثة قد حدثت له بركة من نوع ما، فالفعل المأساوى لم يمنع ـ فقط ـ ولكن تحول إلى لحظة ايجابية في التاريخ الشخصى لكل من شهده. اما في موسم الهجرة إلى الشمال، فتغيب شخصية الحنين تماما. ويختفى هذا النموذج الانسانى الفريد ويوكل الناس لصراعهم الارضى في البحث عن القوة و اللذة، فتحدث مأساة القتل والانتحار. و يشتعل الكون بعنف اسطورى وتتفاقم دورات الصراع الذي يبدأ بين الحضارات لينتهى على يد افراد بعينهم، أفراد بلحم ودم. هذا الصراع الغريب يزداد ضراوة وكأنه مقصود لذاته. كل التغيرات الخطيرة تحدث، بعنف وصخب دموى! النهايات التي فيها التصالح السحرى والتوفيق بين الاضداد تختفى تماما ليذهب الصراع إلى مداه الدموى. مثلما جمع زواج الزين بين الاضداد، يحسم الزواج الصراع بين الماضى والحاضر في حالة قتل وانتحار، حينما يحاول ود الريس أن يتزوج حسنة بنت محمود. أما بندر شاه (ضوالبيت)، فهنالك محاولة للرجوع إلى ود حامد وذلك بتكثيف لحظة الحلم. فالنداء لكل الناس، لكنه في ذات الوقت يأتى لكل فرد على حدة كأنه يختص هذا الشخص دون سواه، كأنه هو وحده الذي أوتى ‘‘البصيرة‘‘ التي تسمع، فـ‘‘النداء‘‘ يقود الناس من بيوتهم في آذان الفجر في أمشير ويأتون فرادى لأداء الصلاة ـ الذين اتوا من قبل والذين دخلوا المسجد لأول مرة في حياتهم. وتشهد ساحة المسجد في ذلك الصباح هذا الجمع الغريب وهذا التوحد. هنا الأمر يتجاوز الضريح والمسجد ليعقد توحد ساحته كل الكون برغم انه قد اختار قرية ود حامد. ثم يأتى "الاسم الرهيب"، هو نداء آخر كذلك، لكنه في شكل اسم سحرى يستدعى عوالم اخرى يحرك الاشياء الساكنة، وتفقد الالفة للأشياء رتابتها، ليعاد ترتيب العالم على أساس "الاسم الرهيب" والموقف من ذلك الاسم. وبندر شاه برغم انه اسم اطلق على عيسى ولد ضو البيت الا ان له دلالات و معان أخر. كما وأنه يأتى من الفراغ فجأة، كذلك يذهب من حيث أتى، تاركا فراغا عريضا بين "النداء" و"الاسم الرهيب". صلة واضحة فكلاهما يستدعى تكثيف الحلم لتعود الاشياء كما لو انها لم تكن. ثم أخيرا، تأتى رواية بندر شاه (مريود)، التي حاول فيها الطيب صالح اعادة بناء النص الدينى الذي يعتمد على امكانات الصلة بين المتجذر والمطلق. قصة المعرفة المحكومة بالزمان والمكان، ومعرفة المطلق الذي لا يحده الزمان والمكان، تأتى قصة الصلة بين بلال والشيخ نصر الله ودحبيب. وكما نعلم أنه في عرس الزين لم يكن هنالك أدنى شك في أن الزين هو التابع او الحوار وان الحنين هو الشيخ او ان الزين هو رمز المتجذر والحنين هو رمز المطلق، لكن في العلاقة بين الشيخ نصر الله ود حبيب وبلال، فان هذه الثنائية لها ظاهر وباطن. وباطنها يحكى قصة اخرى تدل على علو مقام بلال وسمو مكانته في ميزان الحق، برغم ان ميزان الناس يضعه في مرتبة الحوار التابع لشيخه، او في أسوأ الاحوال المملوك الذي لا سيد له. وكأن المعنى ان لهذه الثنائيات أكثرمن وجه، وأكثر من معنى. ويعتمد ذلك على المستوى الذي نطل منه لفهم هذه الثنائيات. فبالنسبة لأهل ود حامد الشيخ نصر الله ود حبيب هو قطب زمانه، لكن الشيخ نصر الله ود حبيب نفسه يعى انه باستخدام ميزان اخر و حيازة معرفة لحقائق الاشياء في مستوى غير المستوى الظاهرى يرى امرا غير ذلك. لتكتمل هذه الملاحظات لا بد من الاشارة إلى ان قراءة نصوص أدب الطيب صالح، بالصورة التي ذكرناها، تستدعى استخدام خبرات ومدارسات متعددة الجوانب، قد لا نشير لبعضها بسبب طريقة الترسل والخطابة التي سنتبعها في هذه الدراسة. 2ـ المستوى الاجتماعى: الميلاد ان قضية الميلاد، او قل التعبير عنها في المستوى الاطلاقى في شكل قصة الخلق تشكل وضعا محوريا عند اصحاب الديانات، فما من ديانة الا وقصة الخلق فيها تكون مفتاحا رئيسيا للتعبير عن الصلة بين الحق والخلق، ويبدو ان هذه الصلة هى التي تخلق التمايز بين الديانات التي تسعى إلى تأليه الانسان، او اضفاء القداسة على الوسائط عموما، والديانات التي تسعى للفصل بين الحق والخلق. نقول ذلك ونحن نعلم ان مسألة الميلاد نفسها موضع زلل وتخليط حيث ان الازل فيها يتجدد في التاريخ كما يبدو لاول وهلة، وحيث ان الصلة بين المتجذر والمطلق تبدو في اطار دخول المطلق في اطار التاريخ عن طريق المتجذر او قل ان المطلق يعبر عن نفسه في داخل التاريخ! ولحظة الميلاد يكتنفها كثير من الغموض على مستوى الوعى وعلى مستوى التعبير الميتافيزيقى، ولذلك تحاط بكثير من الطقوس الاجتماعية والدينية في المجتمعات الانسانية، وتنحرف الفطرة الانسانية بالركون إلى تقديسها واخراجها من اطارها الدنيوى إلى اطار مقدس. 2ـ1 ميلاد ود حامد: بعد هذه المقدمات نقول بأن الأمر في قصة دومة ود حامد يواجهنا بميلاد بالغ التعقيد حيث ان الرجل الصالح (ود حامد) والدومة (دومة ود حامد) يتصلان بصورة تجعلك لا تملك القدرة العملية والشعورية في التفريق بينهما، حيث ان الدومة تقف رمزا مقدسا في وعى اهل القرية، في احلامهم وفى يقظتهم، فهى متصلة بالضريح ولكنها منفصلة عنه بذاتية خاصة بها يعبر عنها أهل القرية في أحلامهم ـ كما سيتضح فيما بعد ـ فهى ذات خاصة، لا متصلة بالضريح كلية ولا منفصلة عنه. لكنها ليست شيئا زائدا على الضريح ولا مضادا له. فأهل القرية في توجههم نحو الضريح لا يفرقون بينه وبين الدومة وهى دائما في وعيهم دومة ودحامد. ويزداد الامر تعقيدا حينما تدخل إلى هذه الثنائية رمزا ثالثا هو (القرية) نفسها وتضفى عليها ذات الصفات المطلقة في شأن بدايتها للتفريق بينها وبين القرى الاخرى بسبب انها قرية ود حامد. إذاً هذه الطقوسية بالغة التعقيد في شأن الميلاد تحتوى على ثلاثة رموز اساسية هى: الرجل الصالح ـ الدومة ـ القرية، وان بدا الامر لاول وهلة متعلقا بالرجل الصالح وحده الذي منح العنصرين الآخرين صفاته. ولكن بالتدقيق نلاحظ ان لكل منهم نصيبا يعبر عنه في وعى أهل القرية، سواء اكان في احلامهم او في حراكهم اليومى في مواجهة العالم من حولهم، وتسجيل صوتهم في ذاكرة التاريخ. القراءة الفاحصة تقول بأن البدايات في المكان بدايات أزلية وان سبقها زمان، ولكن لا أحد يعرف ذلك الزمان على وجه من الوجوه. بالطبع، فهذا النوع من المحاجة يبدو فجا ان حاولنا ان نحيله إلى قانون التناقض ولكن ان حاولنا الاحساس به سنجد ان هنالك مقابلا له في انفسنا، ولعل ذلك يكفى لاضفاء نوع من الصدق النفسى عليه. وعليه، هذا الامر يخرج من ذات الوعى الذي عبرت عنه الحضارة السامية في لغاتها المختلفة: عن أن هنالك زمانا سابقا على الزمان، وهذا المعنى للزمان لم تسعه اللغة اليونانية ولا منطقها المباشر والعقيم، ولا حتى الخيال اليونانى الذي لم يستطع فهم أو الاحساس بامكانية وجود زمان قبل الزمان. ولعل جوهر الخلاف بين الغزالى و الفلاسفة هو حول هذا المعنى. من ذلك نقول بأن الشخص الذي رويت على لسانه قصة دومة ود حامد ـ بواسطة راوى القصة ـ يقول: "هذا الشئ الذي احب ان أريكه، قل انه متحف، شئ واحد نصر ان يراه زوارنا" (الدومة: 34). لاحظ في هذا النص محاولة التعبير عن مقدسات القرية بلغة العصر تقريبا للفهم بايجاد المقابلات، الشئ الذي يعطى صاحب النص القدرة على المشاركة في أكثر من عالم وذلك يؤهله لنقل تجاربه ببساطة ويسر برغم صعوبة تلك التجارب حينما نحاول التعبير عنها بلغة الآخر. ينتقل النص بعد ذلك إلى وضوح ومباشرة "ها هى ذى الدومة... ود حامد..انظر اليها شامخة برأسها إلى السماء (....) أتراها عقابا خرافيا باسطا جناحيه على البلد بكل ما فيها؟" (الدومة: 37). ليتصاعد وصفه لها بمباشرة في كثير من الوثنية الصريحة التي قصد منها تخليص الوثنية من الحصار الثقافى وادراجها في تيار العادية: "انظر اليها يابنى ـ إلى الدومة ـ شامخة آنفة متكبرة كأنها.. كأنها صنم قديم، أينما كنت في هذه البلدة تراها.. بل انك لتراها وانت في رابع بلدة من هنا" (الدومة: 3. بلا شك انه في استراتيجية الحوار مع الآخر الانتقال من التعمية إلى النص الصريح يفقد الآخر القدرة على التخليط والاتهام، حينما يعترف أهل الريف او البادية بوثنيتهم وتعدديتهم في العبادة والتوجه في مقابل توحيد أهل الحضر يفقد اهل الحضر ميزة احراج الآخر. بعد ذلك يتحول الحوار الداخلى إلى سؤال محورى يحاول فيه الوافد (الحضرى) ان يجرد الدومة من قدسيتها عن طريق طرح سؤال بريء ـ كما يبدو ـ حول من الذي زرع الدومة؟ وبالطبع فان الذي زرعها احق بالتمجيد منها، واحق كذلك بالأولوية في الوله والقصد، لكن تأتى الاجابة بذات القطع والوضوح: "ما من أحد زرعها يابنى. وهل الأرض التي نبتت فيها زراعية؟ الم تر أنها حجرية مسطحة مرتفعة ارتفاعا بينا عن ضفة النهر كأنها قاعدة تمثال، والنهر يتلوى تحتها كأنه ثعبان مقدس من آلهة المصريين القديمة؟". وتكرر التأكيد مرة أخرى لتختم به هذه الفقرة القاطعة والموحية في ذات الوقت ليقف حوار الريف الوثنى والحضر التوحيدى عندها: "لا يا بنى ما من أحد زرعها".(الدومة: 3. بعد ان يتركز في الذهن بصورة جلية أن الأرض التي نمت عليها الدومة ليست أرضا زراعية لتنفى امكانية تعلق الدومة بزارع، وكذلك فان هيئة الأرض التي نبتت فيها هى كأنما قاعدة تمثال، ثم تستدعى الصلة بين الدومة والنهر كل الميراث الوثنى المصرى القديم، فان كان ذلك كذلك نقول بان هاتين الصورتين تعملان على توكيد هذا الجو الاسطورى والدينى المقدس للدومة وللنهر الذي يجاورها، لتعبر عن سفر التكوين او قصة الخلق بالنسبة للدومة، ورمز يحمل كل هذه المعانى لابد وان يكون الاحتمال الوحيد في سفر تكوينه هو "أغلب الظن أنها نمت وحدها"، ولتأكيد سيادتها وأوليتها يستدرك قائلا: "لكن ما من أحد يذكر أنه رآها على غير حالتها التي رأيتها عليها الآن" (الدومة: 39). هنا يضفى على الدومة معنى الابد بالاضافة إلى اوليتها التي تدانى الازلية هى كذلك، وستستمر كذلك ما دامت هنالك عين ترنو لها بالوله والقصد، بالطبع هذه مقتضيات النص، وليست معناه المباشر. يختتم هذا الأمر بالتعبير عن الحالة ـ الفريدة من نوعها ـ حين يكون الحديث عن بدايات الدومة. وهو بلا شك حديث عن البدايات التي ما بعدها بدايات واضحة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، انها بداية كل شئ دون ان تعرف لها بداية "أبناؤنا فتحوا أعينهم فوجدوها تشرف على البلد، ونحن حين ترتد بنا ذكريات الطفولة إلى الوراء، إلى ذلك الحد الفاصل بين الذي لا تذكر بعده شيئا، نجد دومة عملاقة تقف على شط عقولنا كل ما بعده طلاسم فكأنها الحد بين الليل والنهار، كأنها ذلك الضوء الباهت الذي ليس بالفجر ولكنه يسبق طلوع الفجر" (الدومة: 39). بعد هذا التكثيف الشاعرى في الحديث عن البدايات ووهم الذاكرة الذي لا يفهمه أهل الحضر يستدرك قائلا: "اتراك يا بنى تتابع ما أقول؟ هل تلمس هذا الشعور الذي احسه في ذهنى ولا أقوى على التعبير عنه؟ كل جيل يجئ يجد الدومة كأنما ولدت مع مولده ونمت معه" (الدومة: 39). هنا لا يمكن الاستعاضة عن هذه المعانى بايجاد مقابلات في لغة أهل الحضر او في تشبيهاتهم، "فالمتحف" الذي استخدمه لبيان مكانة الدومة في بداية حديثه صار ضربا من تشويه الصورة، هو طريقة في ادخال الآخر إلى عالمه، لكن سرعان ما ينبه الآخر بأن لهذا العالم رموزه الخاصة به ولغته السحرية و الشاعرية والتى يجب على الآخر ان يُصعِّد وعيه ويكثفه حتى يبلغ الدرجة المطلوبة من الفهم والا لن يكون هنالك تواصل، ولكن طالما ان الآخر قد دخل في هذا الحوار، فلا شك انه في نهاية المطاف سيتولد لديه الاحساس بغرابة الأمر على أسوأ تقدير، وسوف يرى الأشياء من داخلها وان رفض المنطق الذي تؤسس عليه. اذا نحن أمام ميلاد ميتافيزيقى سوف تتضح معالمه عندما تكتمل الصورة كلها. تلعب الاحلام دورا مهما في ايصال الرسائل الدينية في التقاليد السامية، او قل هى واحدة من وسائل الاتصال بين المطلق والمتجذر، ولقد استخدم الطيب صالح الحلم للتعبير عن هذ الصلة، وغنى عن القول بأن الميلاد يبدأ بالحلم، والرؤيا تسبق البشرى. وكذا قام الطيب صالح في دومة ود حامد باستخدام هذا التراث الغنى للتعبير عن تلك الصلة من حلم يرويه رجل وآخر ترويه امرأة، وكيف ان الرواية والحلم قد تداخلا مع بعضهما وصار التاريخ جزءا من الحلم والحلم باعثا على تدوين التاريخ ـ كما سنبين فيما بعد. وقد أبعد الطيب صالح النجعة حينما ذكر" وهكذا يا بنى، ما من رجل أو امرأة، طفل أو شيخ يحلم في ليلة الا ويرى دومة ود حامد في موضع ما من حلمه" (الدومة: 40). بهذه الصورة اختتم فهمه لموضع الدومة في أحلام اهل القرية. ولأهمية الحلمين في فهم مسألة الميلاد نرى ايرادهما دون أدنى تدخل في نصيهما. ونقول: ان الحلم الأول هو لرجل ـ وكان على سبيل المثال ـ (يصحو الرجل من نومه فيقص على جاره أنه رأى نفسه في أرض رملية واسعة رملها أبيض كلجين الفضة مشى فيها فكانت رجلاه تغوصان فيقتلعهما بصعوبة ومشى ومشى حتى لحقه الظمأ وبلغ منه الجوع والرمل لا ينتهى عند حد ثم صعد تلا فلما بلغ قمته رأى غابة كثة من الدوم في وسطها دومة ـ دومة طويلة، بقية الدوم بالنسبة لها كقطيع الماعز بينهن بعير. وانحدر الرجل من التل وبعدها وجد كأن الأرض تطوى له، فما هى الا خطوى وخطوى وخطوى، حتى وجد نفسه تحت دومة ود حامد، ووجد اناء فيه لبن رغوته معقودة عليه كأنه حلب لساعته، فشرب منه حتى ارتوى ولم ينقص منه شئ. فيقول له جاره: (ابشر بالفرج بعد الشدة). (الدومة: 39). بالرغم من بساطة هذا الحلم الظاهرية الا أنه استخدم لتثبيت الحضور الدائم للدومة في مستوى الواقع العملى والبشارة التي تجلى المستقبل، اى ان الدومة جسر بين التاريخ والحلم. ونقول بأن عناصر هذا الحلم هى الأرض الفلاة المقفرة والتى تفضى إلى الهلاك، في مقابلها غابة الدوم التي تمتاز فيها دومة ودحامد عن غيرها من الدوم بطولها وجمالها، عندها يكون الخلاص. ويكون اللبن الذي لا ينقص منه شئ بسبب الشرب منه ـ وهذه واحدة من طرائق اضفاء البركة والديمومة على هذا النوع من الحليب أو الشراب في التقاليد السامية ـ في هذا الحلم سميت فيه الدومة بدومة ود حامد واختفى شخص ود حامد ونابت عنه كرمز للخلاص او الفرج بعد الضيق. بلا شك ان حلم المرأة أكثر تعقيدا وفيه شاعرية أقوى من حلم الرجل وفيه كذلك صلة واضحة بين الرجل الصالح والدومة فالخلاص يتم بسبب النداء ويكون ذلك عند الدومة، "وتسمع المرأة منهن تحكى لصاحباتها: (كأننى في مركب سائر مضيق البحر، فاذا مددت يدى مسست الشاطئ من كلا الجانبين، وكنت أرى نفسى على قمة موجة هوجاء تحملنى حتى أكاد أمس السحاب، ثم تهوى بى في قاع سحيق مظلم, فخفت وأخذت أصرخ وكأن صوتى قد انحبس في حلقى، وفجأة وجدت مجرى الماء يتسع قليلا ونظرت فاذا على الشاطئين شجر أسود خال من الورق له شوك ذو رؤوس كأنها رؤوس الصقور ورأيت الشاطئين ينسدان على وهذا الشجر كأنه يمشى نحوى فتملكنى الذعر وصحت بأعلى صوتى: (يا ود حامد!) ونظرت فاذا رجل صبوح الوجه له لحية بيضاء غزيرة غطت صدره، رداؤه ابيض ناصع وفى يده سبحة من الكهرمان فوضع يده على جبهتى وقال: (لا تخافى!) فهدأ روعى، ونظرت فاذا الشاطئ يتسع والماء يسيل هادئا ونظرت إلى يمينى فاذا حقول قمح ناضجة وسواقى دائرة وبقر يرعى ورأيت على الشاطئ دومة ود حامد، ووقف القارب تحت الدومة وخرج منه الرجل قبلى فربط القارب ومد لى يده فأخرجنى ثم ضربنى برفق بسبحته على كتفى والتقط من الأرض دومة وضعها في يدى والتفت فلم أجده). وتقول لها صاحبتها: (هذا ود حامد، تمرضين مرضا تشرفين منه على الموت لكنك تشفين منه، تلزمك الكرامة لود حامد تحت الدومة)". نقول بأن هذا الحلم عبارة عن أمر شائع وظاهرة متكررة لدى الشعوب ذات التراث الشفاهى الغنى وهو يعبر عن طرائق التدين لدى تلك الشعوب، ويبين العلاقة بين التاريخ والحلم وبين الميلاد والاطلاق. وبالرغم من التشابه الظاهرى بين عناصر هذا الحلم وحلم الرجل في مستوى العناصر الاساسية الا ان هنالك بعض الفروق. وعناصر حلم المرأة هى البحر الذي يكون سبب الهلاك في مقابلة القارب الذي لا يعرف طريقه وسط ذلك البحر الا بوجود الرجل الصالح إلى جانب المرأة، ثم أخيرا دومة ود حامد
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)
|
"وروجت ام الزين ان ابنها ولى من أولياء الله وقوى هذا الاعتقاد صداقة الزين مع الحنين" (عرس الزين: 35)، بالاضافة إلى تلك الانسانية الفائقة والصداقة الغريبة التي تربطه بعشمانة الطرشاء وموسى الأعرج وبخيت الذي ولد مشوها ـ واحسانه اليهم وسعيه في بذل أقصى جهده لخدمتهم وذلك الامر يجعل أهل القرية يقولون: " لعله [أى الزين] نبى الله الخضر، لعله ملاك أنزله الله في هيكل آدمى زرئ ليذكر عباده ان القلب الكبير قد يخفق حتى في الصدر المجوف والسمت المضحك كصدر الزين وسمته" (عرس الزين: 37). لكن الزين لا يجعل تلك الصورة ـ الدينية ـ المهيبة عنه تستقر في أذهان أهل القرية كثيرا اذ ان صوت الزين لا يلبث ان يرتفع مناديا: "يا أهل الفريق يا ناس الحلة انا مكتول" فتحطم هذه الصورة وتعود صورة الزين التي يألفها الناس ويؤثرونها (عرس الزين: 37). إذًا ميلاد الزين كان يحمل ـ في طياته ـ مشروعين: مشروع المهرج الأثير لدى شباب وفتيات وأطفال القرية والذى يضحك ولا يضحك بمرح! والذى يكتشف الجمال للآخرين ولا يستطيع ان يناله. والمشروع الثانى هو مشروع صاحب الهم الاجتماعى تجاه المستضعفين او قل نبى الله الخضر او احد اولياء الله الصالحين. استمر الزين يؤدى مهام المشروعين دون كلل، لا يرسخ في أذهان أهل القريةمشروعا دون الآخر. فهو الزين المهرج والولى الصالح في ذات الوقت، هو الزين الذي تتوحد عنده المتناقضات: لذلك أفلح في جمع كل المعسكرات المتعارضة والمتشابكة في عرسه. وعكس جملة اهل القرية كان الحنين ونعمة يأخذونه مأخذ الجد، وكذلك كان سيف الدين وامام الجامع يأخذونه مأخذ الجد ولكن من منطلق آخر. كان الحنين ونعمة وسيف الدين وامام الجامع ينظرون اليه بعين غير تلك العين التي يراه بها أهل القرية، وكان لتلك النظرة أهمية بالغة في تطور شخصية الزين. فسيف الدين لم يفهم عبث الزين وتعامل معه بجدية أخرجت العبث عن معناه الاجتماعى، ولذلك فقد رد سيف الدين على عبث الزين تجاه اخته في يوم عرسها ـ حيث قام بضرب الزين بالفأس على رأسه. وكذلك امام الجامع كان يقول عن الزين ان " الناس افسدوه بمعاملتهم له كأنه شخص شاذ، وان كون الزين ولى صالح حديث خرافة، وانه لو ربى تربية حسنة لنشأ عاديا كبقية الناس" (عرس الزين: 101)، وكان الزين يبادله بغضا ببغض " لكن الزين في موضوع الامام كان معسكرا قائما بذاته، يعامله بفظاظة، واذا قابله قادما من بعيد ترك له الطريق" (عرس الزين: 100)، من الواضح ان الزين شخص لم يعرف الكره في حياته، ولكنه في مواجهة الامام " لعل الامام الشخص الوحيد الذي يكرهه الزين، كان مجرد وجوده في مجلس يكفى لاثارته فيسب ويصرخ ويتعكر مزاجه ويتحمل الامام في وقار هيجان الزين" (عرس الزين: 100). من الواضح كذلك ان شخصية الزين تتغير تماما حينما تكون في حضرة الامام، صحيح ان هذا التغير يحدث كذلك حينما يظهر الحنين او نعمة، لكن الفارق شاسع بين التغيّر في الحالتين. اذن ميلاد الزين الاول كان محوره الضحك وهدفه تكريس دور المهرج في شخصية الزين، برغم ان ذات الميلاد بالكيفية التي تم بها وكذلك التطور الجسمانى للزين كان يمكن ان يقود إلى خلق شخصية الولى الصالح او نبى الله الخضر في سلم علاقات القوى الاجتماعية والدينية في القرية، لكن كان لا بد من مخاض جديد يؤدى إلى ميلاد جديد يؤهل الزين ليلعب الدور الجديد المناط به. يأتى هذا الميلاد الجديد مصاحبا لتغيرات كونية واجتماعية ودينية في ود حامد يستعصى على الذهن فهمها دون اللجؤ إلى الحديث عن الكرامات. فسقوط الجليد في منطقة صحراوية وموافقة الحكومة على اقامة مشروع زراعى في ود حامد، وبناء المدارس والمستشفيات فيها وكذلك ما حدث من تغيير في سيف الدين. كل هذه التغيرات بالاضافة إلى احساس الناس بالبركة، تلك الكلمة ذات الشفافية الفائقة في نفوس اهل القرية والتى عمت كل مناحى الحياة في ودحامد. يمكننا القول بأن الميلاد الثانى للزين قد جاء بعد اقصى لحظات العنف الذي مارسه الزين ضد سيف الدين ـ " وفى ضوضائهم سمعوا شخيرا يصدر من حلق سيف الدين، رأوه يضرب برجليه الطويلتين في الهواء. وصاح محجوب مات. كتلته" (عرس الزين: 65). بالرغم من ان الرجال الستة ـ الذين حضروا الحادث ـ قد فشلوا تماما في انقاذ سيف الدين من بين يدى الزين، الا ان ظهور الحنين وقوله للزين: "الزين المبروك، الله يرضى عليك" (عرس الزين: 65)، قد فعل فعلته في الزين "وانفكت قبضة الزين ووقع سيف الدين على الارض هامدا ساكنا، ووقع الرجال الستة دفعة واحدة، فقد فاجأهم صوت الحنين وباغتهم الزين بسكوته المفاجئ، فكأن حائطا أماهم كانوا يدفعونه، انهد بغتة ومضت برهة قصيرة جدا.." (عرس الزين: 65)، تلك هى لحظة الميلاد الجديد"بعد ذلك جاشت الحياة فيهم مرة أخرى وتذكروا سيف الدين. انكبت رؤوسهم عليه. ثم صاح محجوب بصوت فرح مرتعش (الحمد لله).." (عرس الزين: 65)، ثم قاموا باعادة الحياة إلى سيف الدين "وفى أصوات متوترة خافتة اخذوا يعيدونه إلى الحياة، حينئذ فقط تذكروا الزين" (عرس الزين: 65). وبالطبع كان هنالك شخص آخر يتولى أمر الزين، ليخرجه إلى ميلاده الجديد "فرأوه جالسا على مؤخرته ويداه بين ركبتيه مطأطئا رأسه. وكان الحنين قد وضع يده على كتف الزين في حنان بالغ" (عرس الزين: 65). ثم كانت نبوءة الحنين "كل البنات دايرتنك يا المبروك، باكر تعرس أحسن بنت في البلد دى" (عرس الزين: 65)، وحينما يؤكد هذا الامر الحنين في رده على محجوب ـ وهو الوحيد الذي استنكر حدوثه ـ يبدأ ميلاد الزين بضحكة أخرى " وفجأة ضحك الزين ضحكة بريئة، ضحكة طفل، وقال: "كت داير أموته. الحمار الدكر، يفلقنى بالفأس عشان أخته دايرانى انا؟"، ويتدخل الحنين بحزم ليبدأ الميلاد الجديد بمنطق جديد "دحين دايرنك تصالحوا"، "خلاص الفات مات، هو ضربك وانت ضربتو.." (عرس الزين: 67). ذلك الضحك ـ الذي يثير الضحك ولا يصدر عن مرح ـ والذى كان سمة للزين تحول إلى ضحك فيه رنة مرح وسرور بعد ميلاد الزين الثانى، حينما سأله الحنين: "متين سيف الدين ضربك بالفأس في رأسك؟" فأجاب الزين ضاحكا ووجهه مشبع بالمرح: "وقت عرس أخته" (عرس الزين: 67)، ويتكثف الامر بصورة أكثر وضوحا في النص التالى والذى تكمن أهميته في أنها المرة الأولى التي ينال فيها الزين ما يريد ممن قتلنه حبا، الان هو قتيل حوش حاج ابراهيم، ولن ينال احد غيره الزواج منها "وشرب الزين الشاى... وفجأة وضع الكوب من يده ثم ضحك وقال في سرور: "الحنين قال لى قدامكم كلكم باكر تعرس احسن بت في البلد دى" (عرس الزين: 112). ثم وقع شئ آخر هو ان الزين لم يعد موضع سخرية وضحك بل تحول إلى معان أخرى أجل من ان تكون مثار عبث وسخرية الآخرين "خلاصة القول ان حاج ابراهيم أعلن النبأ فجأة. وكأن الناس كانوا يتوقعونه بعد حادث الحنين. الغريب ان احدا لم يضحك او يسخر ولكنهم هزوا رؤوسهم وزادت حيرتهم وهم ينظرون إلى الزين ـ ينظرون اليه فيتضخم في نظرهم" (عرس الزين: 177). فيحدث الصلح والسلم الحقيقى بين الأشياء والأحياء والذى يفضى إلى تغيرات كونية واجتماعية وسياسية في ود حامد، هو ليس صلحا مرحليا تتوجس فيه الاطراف خيفة من مستقبل أيامها، ولكنه صلحا نهائيا تستأصل فيه شأفة الشر وتحسم مادته، ذلك هو الصلح الذي يبدأ بالاصلاح، وتدخل فيه النفس في سلام داخلى مع نفسها، تذهب تلك الروح القلقة التي كانت لدى الزين إلى غير رجعة، وكذلك يحدث ميلاد جديد لدى سيف الدين، الذي اعتقد انه في لحظة ما حينما ضيق عليه الخناق "في هذا الوقت، يقول سيف الدين انه رأى الموت وجها لوجه. ويجزم عبد الحفيظ وقد كان أقرب الناس إلى سيف الدين حين عاد إلى وعيه، ان أول كلمات فاه بها حين جاش النفس في رئتيه من جديد، اول شئ تفوه به حين فتح عينيه، انه قال: "أشهد ألاّ إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله" (عرس الزين: 72). ذلك بلا شك ميلاد جديد لسيف الدين تكثفت فيه اللحظة الدينية لتخرج الحى من الميت، لتخرج أفقا جديد من طيات حياة خربة "ومهما يكن فمما لا شك فيه ان حياة سيف الدين، منذ تلك اللحظة، تغيرت تغيرا لم يكن يحلم به أحد.." (عرس الزين: 72). هناك نقطة جوهرية: وهى أن الرجال الذين حضروا تلك الليلة التي حدث فيها الصلح بين الزين وسيف الدين قد أمسك كل واحد منهم بيد الحنين في صمت مهيب وقبلها " وقال الحنين بصوته الرقيق الوديع: "ربنا يجعل البركة فيكم" (عرس الزين: 6. ثم اختار الحنين أن يذهب مع الزين وان يرفض بلطف دعوة محجوب للعشاء "العشا في بيت المبروك. وغابا معا في الظلام، رف على رأسيهما برهة قبس من ضوء المصباح المعلق في دكان سعيد، ثم انزلق الضوء كما ينزلق الرداء الحريرى الأبيض عن منكب الرجل.." (عرس الزين: 6. بهذه الصورة الشاعرية وفى لحظة يتسارع فيها الزمان دون ان يدرك محتواها الوجودى، ذهب الحنين إلى حاله بعد ان اكتملت مهمته، فالحنين لم يؤذن له بحضور العرس، فهو قد حمل النبوءة بهذا العرس وقد مهد له بالميلاد الثانى للزين، وانحاز إلى معسكر الزين حينما رفض دعوة معسكر محجوب للعشاء، ومعلوم محورية معسكر محجوب في قيادة القرية وتدبير أمرها. كان عام الحنين يمن على الجميع في مختلف المجالات، كانت بدايته معجزة سيف الدين وانصلاح شأنه، وختامه عرس الزين ـ الذي سنفصل القول فيه حينما ننتقل إلى ذلك المستوى من التحليل الاجتماعى ـ "كانت معجزة سيف الدين بداية لاشياء غريبة تواردت على البلد في ذلك العام" (عرس الزين: 80). بعد ميلاده الجديد تغير سيف الدين تماما ـ فيما يشبه المعجزة ـ لكن ليلة الحادث نفسها كانت ليلة غير عادية في كل القرية. ونريد ان نركز في الأذهان هذا الامر البالغ الخطورة في تحليلنا للنص التالي "ويذكر الناس الذين لم يسعدهم الحظ بحضور الحادث لأنهم كانوا يتهيأون لصلاة العشاء في المسجد ان الامام تلا في تلك الليلة، حين صلى بهم، جزء من سورة مريم. وحاج ابراهيم والد نعمة وهو رجل مشهود له بالصدق يذكر تماما ان الامام قرأ الآية: {وهزى اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} من سورة مريم، وهى آية فيها الخير والبركة" (عرس الزين: 81). من المعلوم ان هذا الجزء من سورة مريم فيه وصف دقيق لقصة الميلاد الوحيدة التي فصلها القرآن الكريم، حيث ان مريم ابنة عمران قد بين القرآن الكريم قصة ميلاد ابنها المسيح عيسى بن مريم، كذلك قد تولى القرأن تفصيل شأن ميلاده لأهميته الدينية عند المسلمين في محاجتهم لأهل الكتاب حول طبيعة المسيح. ولعل هذه التوافق بين الميلاد الثانى للزين وسيف الدين وتلاوة هذه الآيات بالمسجد له دلالة عميقة على فكرة الميلاد هذه. إن ميلاد الزين الأول "ميلاده الطبيعى" كان تمهيدا لميلاده الثانى "ميلاده الاجتماعى"، ولا يفهم ميلاد الزين الثانى الا في اطار صلته بسيف الدين ومعسكر الامام فيما بعد، فان كانت رواية عرس الزين قد بدأت من نقطة النهاية: حدث عرس الزين، فان كلا الميلادين كان مقدمة منطقية لحدث العرس. فالميلاد الأول قد بدأ بضحكة بدل الصراخ، لكنها كانت ضحكة دون مرح، مهدت لمشروع المهرج في شخصية الزين الذي يضحك الناس دون ان يتسرب إلى نفسه المرح، ثم بدأ ميلاده الثانى بعد بشارة الحنين بأنه سيتزوج "أحسن بنت في البلد دى"، فيضحك الزين ضحكة طفل برئ، كلها مرح وثقة في المشروع القادم من حياته هو مشروع لم الشمل والتوحيد بين المعسكرات والأضداد التي لا تجتمع الا على يده "والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة بقامته الطويلة وجسمه النحيل، فكأنه صارى المركب.." (عرس الزين: 12. خلاصة الأمر، أننا في رواية (عرس الزين) قد انتقلنا من مرحلة الميلاد الميتافيزيقى كما هو الحال في قصة (دومة ود حامد) إلى مستويين آخرين من الميلاد في مشروع الطيب صالح، هما الميلاد الطبيعى والميلاد الاجتماعى لشخص بلحم ودم، لشخص يسميه شيخ الحنين "المبروك" ويسمى هو شيخ الحنين في حياته "الراجل المبروك". ولا أحد يعرف عن أبى الزين شيئا سوى أنه أخ لحاج ابراهيم والد نعمة. كما واننا لا نعرف من هو أبو الزين، كذلك يسكت النص تماما عمن يكون أبو الحنين؟. لكن الزين في ليلة عرسه ـ حينما تجده مجموعة محجوب عند قبر الحنين ـ يقول، في صوت يقطعه النحيب: "أبونا الحنين ان كان ما مات كان حضر العرس" (عرس الزين: 127). وكون الزين قد وصف الحنين بأنه أب للجميع فهذا الوصف له دلالته العميقة في أن الحنين اب للزين في ميلاده الثانى! وهذه الابوة لها أهميتها في الدور الذي لعبه الزين، فهذا الابن "المبروك" قد نقل البركة عن "الراجل المبرواك" في عام يفيض يمنا وبركة على أهل ودحامد. والأهم من ذلك كله هو ان الزين نجح في جمع كل المعسكرات في عرسه في تصالح فريد من نوعه. نجح في كسر ثنائية الدين الرسمى/المؤسسة الصوفية، وقد نجح كذلك في توحيد القسمة الدينية في ود حامد: (المؤسسة الصوفية/الدين الرسمى)، حيث ان الامام كان واضحا في موقفه تجاه الحنين "لم يحفل الامام بأن الحنين وهو يمثل الجانب الخفى في عالم الروحانيات (وهو جانب لا يعترف به الامام) كان هو السبب المباشر في توبة سيف الدين (عرس الزين: 102). وبالرغم من رأى الامام الواضح في زواج الزين من نعمة بنت حاج ابراهيم الا أنه أخيرا خرج عن اهابه "أجرى الامام مراسيم الزواج في المسجد" (عرس الزين: 119)، وقال امام الاشهاد: "ان الجميع يعلمون انه عارض هذا الزواج، اما وان شاء الله له ان يتم فهو يسأله سبحانه أن يجعله زواجا مباركا.." (عرس الزين: 119)، وتعجب الناس غاية العجب حين "رأوا الامام يمشى نحو الزين ويضع يده على كتفه فالتفت اليه الزين بشئ من الدهشة. أمسك الامام يده وشد عليها بقوة وقال بصوت متأثر: (مبروك، ربنا يجعله بيت مال وعيال) " (عرس الزين: 119). اذا ميلاد الزين الثانى جعله مؤهلا لذلك الدور الخطير في كسر ثنائية (المؤسسة الصوفية/الدين الرسمى)، والذى لم يقم به الحنين نفسه في حياته. 2ـ3 ميلاد مصطفى سعيد: الكتابة عن ميلاد مصطفى سعيد عثمان تستدعى أفكارا كثيرة كلها تأتى دفعة واحدة يصعب على المرء تنظيمها: من اين تبدأ؟ وما هى العلاقات التي يمكن ان تنشأ بين الأفكار المتداخلة لترسم لنا صورة أقرب للحقيقة عن ميلاد "أكذوبة مصطفى سعيد"؟ تلك الأكذوبة المؤثرة والفاعلة في الحياة من حولها.. هل كان هنالك حقا مصطفى سعيد؟ ام أنه اكذوبة؟ هذا الوهم يبعث الحيرة والانتباه إلى معنى الميلاد حينما يتعلق بميلاد شخص كمصطفى سعيد، الحيرة التي تجئ بسبب ان مصطفى سعيد هو الوحيد الذي يمتلك تاريخا مدونا لميلاده، لديه شهادة ميلاد تقول بأنه ولد يوم 16 أغسطس1898م، لكن برغم ذلك نحن أمام وهم كبير او احتمال مريع هو اننا امام اكذوبة وجودنا الذي برغم وجود الوثائق التي تؤكده الا انه قد تناسل من رحم ملئ باحتمالات الوهم. كل ذلك يجعلنا ننظر بنوع من الحذر والانتباه لمعنى الانتقال من مرحلة الشفاهة إلى الكتابة، ان لم تكن هنالك أسباب تتخذ ليكون لذلك الانتقال معنى ضمن معان أخرى، فسوف يؤدى الامر إلى تشويش وتخليط شديد، حيث ان مرحلة الشفاهة لها عالمها ولها دلالاتها، ومعانيها الخاصة بها، وكذا الأمر بالنسبة لمرحلة الكتابة لها رموزها التي لا تأخذ معانيها الا من خلال نسق الكتابة نفسه. لكن مصطفى سعيد كان يمثل فوضى الانتقال من الشفاهة إلى الكتابة لذلك كان ميلاده أكذوبة ووهما كبيرا، يستعصى على الفهم ولا يورث الا الفوضى، يزعجه النظام ويستبد به العبث، ونحن نعلم ان الميلاد هو تقيد بسلسلة نسب والتزام بشرائع تنشئة تفرض فروضا وطقوس رسوم يرثها الأبناء عن الآباء والأجداد، وهى التي تقيد من معنى الحرية لدى الأبناء كما فعلت فعلتها مع الآباء، ولا مفر من ذلك البتة، فالطلاقة التي نحسها في أنفسنا تقف عند تلك القيود لتحدد هوية وتاريخ أى منا، فنحن أحرار في إطار ميلادنا الذي يمنحنا معانى جديدة لتلك الطلاقة، بل قل قيود تحدد معالم ذلك العبث، الذي تبعثه فينا طلاقة الميلاد المتحلل من القيود! لكن مصطفى سعيد كان نسيجا فريدا، فهو لم يقيده الميلاد، كان يحس في داخله بتلك القوى المدمرة، تلك الطلاقة أو الحرية القاتلة التي تحيل الوجود إلى اكذوبة إلى تحرر مطلق. لعل علاقة مصطفى سعيد بأمه تكون مدخلا مهما لفهم ذلك المعنى، فهو قد ولد دون ان تقيده قريش بأنسابها وأحسابها ـ كما يقول الفصحاء ـ لقد مات أبوه قبل ان يولد ببضعة أشهر ولم يكن له اخوة، كا هو وأمه اهلا لبعضهما البعض، لكن في ذات الوقت لم تكن صلته بأمه كصلة الابن بأمه، بل انه يقول: " كانت كأنها شخص غريب جمعتنى به الظروف صدفة في الطريق" (موسم الهجرة: 23). وشخص بهذه الكيفية لا بد وان تتكرس في نفسه نوازع الفردية وعدم الاحساس بالانتماء، بسبب ان الميلاد لم يكن يعنى ثمة شئ بالنسبة له، قد جاء إلى الحياة وهذا هو الحدث المهم، ولن يقيد مشروع حياته ـ فيما يبدو ـ ثمة شئ. سوف يقرر هو محتويات ذلك المشروع، لذلك نجده يقول: "أحس احساسا دافئا بأننى حر، بأنه ليس ثمة مخلوق، أب او أم، يربطنى كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين" (موسم الهجرة: 23). يبدو ان مصطفى سعيد يمثل نموذجا مثاليا يمكن ان تتخذه الادارة الاستعمارية ـ في ذلك الوقت ـ لبيان خطتها في معنى عبء الرجل الأبيض، ها هو ذا شخص بلا تاريخ شخصى يصف نفسه: "كنت مثل شئ مكور من المطاط تلقيه في الماء فلا يبتل، ترميه على الأرض فيقفز" (موسم الهجرة: 24)، بالطبع فهذا هو الوصف المثالى لشخص يمكن لحركة الاستعمار أن تشكله بالكيفية التي تريد، فهو لم يتصل بميلاده بالسودان بقيد يجره إلى الصراع مع الاستعمار، هو من جيل ولد بعد انقضاء المهدية، ولم يتعلم الحذر من الاستعمار في البيت، وانما أقبل بكل روحه وطاقته على مدارس المستعمر. صحيح ان أمه لم تقل له شيئا حينما اختار الذهاب إلى مدرسة المستعمر ـ والتى كان الناس يخشون على أولادهم منها ـ وصحيح كذلك بأن أباه لو كان حيا لم يكن ليعترض على هذا الامر، لأنه من مجموعة قبلية كان لها دور نشط في انتصار المستعمر. لكن المهم في ذلك هو ان مصطفى سعيد يقول في شأن اختياره للذهاب إلى المدرسة "وكانت تلك نقطة تحول في حياتى. كان ذلك أول قرار اتخذته بمحض ارادتى" (موسم الهجرة: 25). نحن نقول بأن مصطفى سعيد قد اختار ذلك الطريق في بدايته، لكن كل الظروف كانت تمهد لذلك الاختيار، بل ان كل عناصر النجاح كانت تعاضد بعضها البعض ليبلغ مصطفى سعيد قمة النجاح الذي يمكن ان يتاح لشخص مثله. توالت من بعد تلك اللحظة التي اختار فيها مصطفى سعيد ان يدخل في المشروع الاستعمارى بكليته دونما تحفظ او تردد، فهو بحق كان وعاءً فارغا صبت فيه كل تجارب الرجل الابيض تجاه ابناء المستعمرات. استوعب تلك التجارب بطاقة مذهلة لأنه كان بميلاده معدا لذلك الدور. كان فاقد الانتماء للناس والأماكن. لم تكن الخرطوم ـ مكان ميلاده ـ سوى موضع ان عاجلا ام آجلا سوف يتركه إلى موضع جديد، وكذلك كانت القاهرة بالنسبة له، بل حتى لندن نفسها لم تكن سوى حلقة من حلقات ترحاله، برغم انها كانت تمثل النهاية الميلودرامية لذلك الميلاد الفريد. لكننا نلاحظ ان هذا الميلاد الذي أفضى إلى مشروع حياة فيها قدر وافر من الاستسلام للمشروع الاستعمارى ادى ـ في نهاية الأمر ـ إلى فعل مأساوى، خلق من مصطفى سعيد اكذوبة لم يقتنع هو نفسه بجدواها، وفعل المستحيل ليتخلص من تلك الأكذوبة. كانت النقطة المضيئة الوحيدة في صلته بنساء أوربا هى مسز روبنسون ـ زوجة ذلك المستشرق الذي استطاع بحكمته وانسانيته الفائقة ان يتخلص من ميراث الاستعمار والاستشراق و ينشئ علاقة مع الآخر تفضى لاعتناقه الإسلام ـ والتى استطاعت ان تلعب دور الأم الحقيققة له، لكنه لم يعترف بذلك الدور الا حينما اكتشف حقيقة اكذوبة ميلاده ومشروع حياته، كانت هى الوحيدة ـ من بينهم ـ التي وقفت بجانبه وقد وعت عظم المأساة حينما حكم عليه في الأولد بيلى بالسجن لسبع سنوات "لم أجد صدرا غير صدرها أسند رأسى اليه. ربتت على راسى وقالت: (لا تبك يا طفلى العزيز) " (موسم الهجرة: 29). وكان مصطفى سعيد برغم اختلاط الامور في ذهنه تجاه النساء الا انه قال عنها بصدق " لكنها كانت عذبة، أعذب امرأة عرفتها، تضحك بمرح، وتحنو على كما تحنو أم على ابنها" (موسم الهجرة: 30). ولعل مصطفى سعيد الذي لم يجد له ميلادا يشده إلى بلاده ـ إذ أطلق لنفسه العنان وراء سراب أجنبى ـ كان يبحث عن تلك الأم. وقد قيض لمسز روبنسون ان تلعب ذلك الدور بسبب صلتها بالعالم الإسلامى، وبسبب زوجها الذي أوتى حكمة وسعة جعلته يفهم الأخر، ويقدم أجل الخدمات المعرفية للحضارة العربية الإسلامية، وينتمى اليها بعيدا عن الصيغة الاستعمارية التي كانت رائجة في زمانه. كان من الممكن ان تعدل مسز روبنسون ذلك الميلاد الأجوف، لكن الشروط الاستعمارية كانت أقوى، ولم يكن مصطفى سعيد بميلاده الأجوف ليصلح إلا لخلق اكذوبة يصعب على الغرب ان يتخلص منها، برغم معرفة الغرب بأن المهمة التي جاء من أجلها قد أثبتت فشلها الذريع في حالة مصطفى سعيد. لكن مصطفى سعيد جماع لشتات غريب: الأب من قبيلة العبابدة ذات الأصل العربى المعلوم، والأم التي وصفها المأمور زميل مصطفى سعيد في الدراسة " ويقال ان امه كانت رقيقا من الجنوب من قبائل الزاندى او الباريا، الله أعلم، الناس الذين ليس لهم أصل هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الانجليز" (موسم الهجرة: 57). ومهما يكن من رأى المأمور المتقاعد في أصل مصطفى سعيد، وتلخيصه العنصرى للفوضى التي سعى المستعمر لاحداثها في السودان ـ بعد خروجه ـ فان هذا التزاوج بين العبابدة وامرأة من بقايا الرقيق (واسمها فاطمة عبد الصادق) كان واحدا من العوامل التي جعلت لمصطفى سعيد تلك الطلاقة الاجتماعية المخيفة، ومنحته الاحساس بعدم الانتماء والتوحد. إذًا ذلك الميلاد الذي وقع لمصطفى سعيد، هو ميلاد يقوم على رؤية معينة لذلك التمازج العرقى الذي لا يورث سوى الضياع والانسلاخ عن الأصول. فلحمة النسب في المجتمع القبلى هى التي تشعر الفرد بوجوده في التاريخ وبارتباطه، وبأنه جزء من شجرة ضاربة الجذور وليس قشة في مهب الريح. لعل الصورة الكلية لميلاد مصطفى سعيد تريد ان تركز في الأذهان هذا المعنى، ولذلك تجد التبرير للفوضى وعدم الانتماء الذي كان يكتنف حياة مصطفى سعيد حتى قتله لزوجته جين موريس. تلك البقعة المظلمة في مصطفى سعيد كانت بسبب ذلك الميلاد التعيس. تلك البقعة المظلمة في نفسه جعلته يبدد أسمى طاقة لدى الانسان، وهى طاقة الحب، ليتحول الحب والجنس عنده إلى طاقة صراع مدمر، فيبدأ الحريق من غرفة نومه ـ بلندن ـ ليتصعد لمستوى صراع عقيم بين ما تمثله الحضارة العربية الإسلامية وما تمثله الحضارة الغربية. لنقل بأن مصطفى سعيد هو شكل من أشكال التعبير المنحرف عن الشخصية السودانية في مواجهة الآخر، شخص بميلاده كان مؤهلا لدور الاكذوبة لكنها أكذوبة مهمة: هى التي زينت أمر عبء الرجل الابيض، وجعلته ممكنا في مستوى من المستويات. ذلك لأن مصطفى سعيد ـ عندى ـ يحمل في داخله صورة الراوى (محيميد) وكان من الممكن ان يأتى إلى بلده كما أتى محيميد لكن الفارق هو ان محيميد قد منح ميلادا عاديا، لكننا نقول كذلك بأن محيميد نفسه حينما قال " عدت سادتى" (موسم الهجرة: 5) انه ـ في الحقيقة ـ لم يعد كما توهم إلى القرية، فالقرية لم تعد القرية التي تركها كما هى او كما أراد، وهو نفسه لم يرجع كما ذهب، لقد عاد حقا إلى المكان، لكنه عاد حاملا تلك الجرثومة القاتلة، ذلك الاستلاب الذي دفع ثمنه مصطفى سعيد. وفى مستوى آخر نرى أن محجوب هو جزء من مشروع محيميد والفارق بينهما هو ان محجوب قد اختار ود حامد، حيث انه دخل المدرسة لتحقيق أهدافه هو وليس أهداف المستعمر. لذلك فان اقصى انحراف يمكن ان نجده في الشخصية السودانية في مواجهة الآخر هو ما حدث لمصطفى سعيد، والنقيض لذلك هو محجوب، والمنزلة بين المنزلتين هى لذلك المتردد محيميد، والذى برغم نقاء ميلاده الا ان الاستلاب كان قاهرا وغلابا. يمكننا القول بأن مصطفى سعيد كان يحمل في داخلة امكانات محيميد ومحجوب، لكنه اختار ذلك السراب الاجنبى، اختار تلك الاكذوبة المريعة. لكنه حينما أفاق التزم الجميع حياله بقوانين اللعبة، ولم يتخلصوا من تلك الاكذوبة في الأولد بيلى، لم يستطيعوا ان يحاكموا فشل مهمتهم الاستعمارية، ولم تكتب لهم الشجاعة الكافية لنقد أنفسهم، لذلك تركوا لتلك الاكذوبة خيار التسويف او الاعتساف. وقد اختار مصطفى سعيد لنفسه ميلادا آخر، لكنه كان اختيارا فيه كثير من التسويف، لأن دورة حياته قد اكتملت بعد قتله لجين مورس، ولن يمنح فرصة اخرى ليجعل من مشروع حياته مشروعا يماثل اختيار محجوب. جاء مصطفى سعيد هذه المرة من النيل، والأطفال ـ عادة ـ تأخذهم امهاتهم إلى النيل بُعَيْد الميلاد، لكنه في ميلاده الثانى جاء من النيل بالباخرة ومعه ذاكرته وتاريخه، وليس مثل ضو البيت ـ كما سنبين لاحقا ـ واختار مصطفى سعيد ود حامد ليعيش فيها حياة جديدة قائمة على التسويف. الفرق بين ميلاد مصطفى سعيد هذا وبين ميلاد الزين الثانى ـ كما بينا من قبل ـ هو ان شيخ الحنين كان هنالك يكلأ الزين بالرعاية ليخرجه للناس شخصا آخر يسهم في اداء دور خطير في تاريخ ود حامد. وفوق ذلك هو ان الزين ابن شرعى للثقافة السودانية في ترتيبها للناس، وفى صنعها للرموز التي يلتف الناس من حولها، اما مصطفى سعيد فكان السراب الاجنبى يلمع برقا خاطفا بين عينيه، يغريه بالمسير ثم يتركه لحلكة الظلام مرة أخرى وغياب شخصية الحنين من موسم الهجرة إلى الشمال جعل الجمع بين الأضداد أمرا في عداد المستحيل وفتح الباب واسعا للصراع الدموى لنموذج القتل والانتحار، كان من الممكن ان يثمر ميلاد مصطفى سعيد الثانى في ود حامد، لكن ود حامد لم تعد ود حامد، ومصطفى سعيد نفسه لم يتحرر من ميلاده الأول ومشروع حياته الذي قاد اليه ذلك الميلاد. كانت تلك الغرفة التي بناها في بيته بود حامد ـ والتى جمع فيها شتات ذكرياته في الغرب ـ تشده إلى عالم جين مورس، غرفة بها كل تلك الذكريات التي تشده إلى الاكذوبة، لكل ذلك كان ميلاده الثانى مصطنعا وامتدادا لمساحات التسويف في حياته، كان من الممكن لمسز روبنسون ان تكون أما لميلاده الثانى لكنها بلا شك ليس لديها عمق وقدرة زوجها مستر روبنسون والذى اختارها لمشروع حياته في القاهرة ولم تختر هى ذلك الطريق. وبالطبع هى ليست مثل الشيخ الحنين، فكان هذا الميلاد الثانى لمصطفى سعيد مفتقرا لتلك الطاقة الروحية التي تباركه. وأخيرا، فميلاد مصطفى سعيد يجلى امكانات الشخصية السودانية بمستوياتها الثلات (مصطفى سعيد/ محيمد/محجوب) في مواجهة الآخر في ظل شروط الاستعمار، ليقول لنا: ما لم تصلح الشخصية السودانية من شأنها وتنتج تعليما تستلهم واقعها وتراثها ولا يتعالى عليه، فسوف تستمر تعبر عن نفسها بذات الالتواء، والاستلاب في مواجهة الآخر، ولن تخلق معه حوارا خلاقا ومتكاملا. بالطبع فالمدارس التي تلد أجيالا تعلمت أن تقول "نعم" بلغة المستعمر لن توفر مشروعا انسانيا كريما لتلك الأجيال. والأهم من ذلك ـ في لغة الشعر ـ هو ان هؤلاء لن يملكوا القدرة على رؤية الدومة في أحلامهم وستكون لديهم أرواح غريبة تنكر عليهم اشياء وينكرون عليها، وحينما تتفاقم الأزمة في داخلهم ويختل نظام الأشياء من حولهم يصرخون بملئ أفواههم: اقتلوا الأكذوبة! ذلك الميلاد الثانى لمصطفى سعيد تناسل في جملة أكاذيب مريعة جعلت حياته بين طرفى الاعتساف او التسويف. 2ـ4 ميلاد ضــوالبـيــت: ان رواية بندر شاه "ضو البيت" هى عبارة عن لوحتين، اللوحة الاولى عن قصة الصراع بين محجوب واولاد بكرى بكل ما يحمله هذا الصراع من معان وكل الهوامش التي يمكن ان يحتويها بالاضافة إلى ذلك الجو الاسطورى الذي يتعلق بالاسم الرهيب. اما اللوحة الثانية فهى عن ضو البيت، ويبدو لأول وهلة ان ضو البيت لا صلة له باللوحة الاولى برغم انه "صاحب الزمان" بلغة التصوف ـ او ان الرواية نفسها يفترض ان تكون عن سيرته وحسب. لكن بالتدقيق في بناء اللوحتين نجد ان تلك الشخصية الغامضة صاحبة الاسم الرهيب في اللوحة الاولى ما هى الا اشارة رمزية لضو البيت، وهذا الاسم الرهيب هو الذي يعطى الصراع بين محجوب وأولاد بكرى المعانى التي ارادها له الطيب صالح، وبالتالى يربط اللوحة الاولى باللوحة الثانية. ونقول بأن ذلك الصراع التاريخى حول السلطة وحول معنى التغيير الاجتماعى ينتهى بصورة فيها كثير من التلقائية دون قطرة دام تراق او احقاد تبقى في النفس لتأجج نار ذلك الصراع وتدور عجلة الحياة والتاريخ القهقرى لتدفع حساب ذلك الصراع مرة تلو الاخرى. ذلك امر سوف نتناوله بالتفصيل في موضع آخر من هذه الدراسة ـ باذن الله. لقد اتى من النيل لا اسم له ولا دين له غريبا خائفا منهكا يترقب، فوصل إلى مكان، كما وصفه حسب الرسول ود مختار بأنه "محل عشا الضيفان وجمة الفتران" (ضو البيت: 104). ان قصة خروج ذلك الغريب من النيل هى قصة بالغة الحساسية والتعقيد في التاريخ السياسى والاجتماعى للسودان، هى بلا شك تحكى طرفا من دخول الاتراك المصريين إلى السودان وكيف تعامل اهل ود حامد مع ذلك الامر. صحيح ان مستوى الصراع والنظر إلى تلك القصة قد تحول من مستوى الوصف او السرد التاريخى كما هو الحال في موسم الهجرة إلى الشمال التي تناولت فترة الاستعمار البريطانى للسودان وما تبع ذلك من سياسات بعد خروج المستعمر ـ إلى مستوى الشعر والاشارة الرمزية. يمكننا القول كذلك بأن عجز بيت أمير الشعراء احمد شوقى: أين التماسيح من لـــجــــة فـــى بلاد تموت من البرد حيتانــــها؟ والذى استخدمه الطيب صالح في رواية موسم الهجرة إلى الشمال لبيان الفرق الواضح بين الشمال والجنوب لا ينطبق على حالة ضو البيت ذلك الغريب الذي اتى من النيل مثلما جاء مصطفى سعيد بعد ميلاده الثانى إلى ود حامد، والفرق بينه وبين مصطفى سعيد هو انه قد آثر الانتماء إلى ود حامد وطلق إلى غير رجعة تاريخه السابق. كلنا يعرف ـ بكثير من التبسيط ـ ان الاتراك المصريين قد اتوا إلى ماعرف باسم السودان كغزاة طالبين المجد ومتاع الدنيا على حساب السكان المحليين. لكن الطيب صالح اختار نموذجا معينا لحكاية تفاصيل تلك القصة على ارض ود حامد.وقد بدأ ذلك الامر قبل طلوع فجر ذلك اليوم الذي ذكره حسب الرسول ود مختار حينما حكى قصة خروج ضو البيت من النيل ـ وكيف انه في ليلة من ليالى شتاء امشير، وحيدا عند الشاطئ يدير الساقية ـ قائلا: "رايت الدهمة تتشوبح بين النهر والسماء كأنها ممدودة بين النار على الشاطئ وقبس الفجر الباهت تحت خط الافق، وأحسست بنفسى اضيع وفيما انا أهوى تذكرت اننى متوضئ لصلاة الصبح وان وضوئى ينتقض. بدأت أطفو وانا اتشبث بتلابيب القرآن اردد الاسماء بلا وعى، حال رجل من الأميين" (ضو البيت: 101،102). ولما هدأ روعه قال " رايت الدهمة صارت شيطانا واحدا، وقلت الذي كفانى شرهم يكفينى شر هذا كمان" (ضوالبيت: 102). وحينما تشجع حسب الرسول وملك ناصية امره كان أول ماقاله "وقلت للمارد الواقف بين الارض والسماء (السلام على من اتبع الهدى)" (ضو البيت: 102). لكن المارد لم يرد وانما تقدم ـ وهو يخوض الماء خطوات نحو حسب الرسول فاستعان حسب الرسول بمحفوظاته وحصيلته الدينية من التحصن والتعوذ لذلك كان السؤال الثانى ـ الذي ألقاه حسب الرسول ـ للتخلص من مخاوفه التي انبنت على مسلمة ان الآخر دائما هو الشيطان "انت شيطان ام إنسان؟" (ضو البيت: 102)، وتستمر المحاورة ويهدأ روع حسب الرسو ل بسببها، إلى ان تصل إلى السؤال الحاسم الذي يلقيه حسب الرسول "وجيت عشان ايش؟"، فيرد عليه (عشان جوعان)" (ضوالبيت: 103). هذه المحاورة كانت عن هوية الغريب، لكن تلك الاجابة الاخيرة ردت لحسب الرسول صوابه، فالجوع هو حالة افتقار للآخر، وهو من ضرورات الاجتماع البشرى، فهذا الآخر تحول بسبب كلمة واحدة منه إلى شئ مألوف، وانقشعت الغمة عن حسب الرسول، وعادت ود حامد كما هى لذلك ضحك حسب الرسول "ضحكت وسمعت ضحكتى تسافر إلى الشاطئ الثانى وتعود. قلت له وقد عدت حسب الرسول ود مختار، والدنيا في ودحامد فجر قرب يطلع: (يا زول شيطان جوعان؟ عليك امان الله انت بنى آدم متلى متلك) " (ضو البيت: 104). بالطبع فان الآخر "الغريب" بالنسبة لاهل ود حامد هو شيطان يريد بهم الشر خاصة وان ارتبط عندهم بالبحر فهذه واحدة من مسلماتهم، بسبب ان العالم لديهم مرتب ومفهوم ومألوف وكذلك فان اهل ود حامد لا يسرعون في الحكم على الاشياء والاحياء من حولهم ان كان الامر يتعلق بتجربة متعينة وليس افتراضا نظريا. برغم اعتقاد حسب الرسول بأن تلك الدهمة التي رآها قبيل طلوع ذلك الفجر قد تمثلت له في شكل شياطين جرد لها اسلحته الدفاعية من آيات الذكر الحكيم الا انها حينما صارت بالنسبة له ماردا حمد الله على ذلك وسأله ان يخلصه منه، وابتدره بالسلام ككلمة سواء بينه وبين ذلك الآخر. ثم عبر له عن مخاوفه، وكأن تلك المخاوف والحواجز التي بينه وبين الآخر قد تبددت واحدة تلو الاخرى عن طريق الكلام، عن طريق اللغة، فهى التي اختصرت المراحل وتخطت الحواجز، فذلك الآخر الذي تصوره حسب الرسول دهمة سوداء من الشياطين قد تحولت إلى مارد ثم إلى شئ يتحدث العربية بلكنة اعجمية، ثم اخيرا إلى إنسان ضعيف قد انهكه الجوع والسهر، إلى شخص تألفه وتتجه نحوه بواجب الضيافة. وبرغم ضيق ذات اليد الا ان حسب الرسول قد بالغ في اكرام ضيفه وآثره على نفسه لكن ذلك لم ينس اهل ود حامد الفرق الذي بينهم وبين الغريب حينما اراد ان يتزوج منهم، لذلك كانت هذه المقارنة التي عقدت بين اهل ود حامد وبين ذلك الغريب حتى بعد ان صار واحدا منهم، وتبين الفرق الذي رآه اهل ود حامد "وهو عيونه خضر ونحن عيوننا سود، وهو وجهه ابيض مثل القطن ونحن وجوهنا سوداء مثل الجلود المدبوغة، وهو خرج من الماء ونحن خرجنا من الطين، وهو مسلم منذ ستة أشهر ونحن مسلمون منذ الازل، ونحن حياتنا تبدأ وتنتهى بين النيل تحت والصحراء فوق، وهو ما ندرى حياته كيف بدأت وكيف تنتهى وهو اسمه ظهر مع ظهوره، ونحن اسماؤنا مسلسلة ابا عن جد مثل البنيان المرصوص" (ضو البيت: 117). هذه التفاصيل الدقيقة للفروق بين اهل ود حامد وبين الغريب لم تمنعهم في نهاية الامر من تزويجه ابنتهم، وبرغم من قبولهم له وقبوله المطلق لعالمهم الا ان تمثل اهل ود حامد له قد صاحبه كثير من التردد والحذر. يمكننا القول بأن: ضو البيت قد ولد فىود حامد ميلادا فيه اختيار وحب للمكان وأهله ومحاولة جادة للانتماء له، برغم كل العقبات. نقول: ان هذا الغريب على ود حامد من الراجح انه من عسكر الترك حسب الوصف الذي قدمه حسب الرسول حينما رآه لاول مرة " الوجه مثل الصخر والانف مثل الصقر والاسنان زى أسنان الحصان، والعيون تلمع زى الفيروز. جلت صنعة الله" (ضو البيت: 105)، ثم يضيف " وهدومه زى لبس الاتراك مشرطة ومقطعة ومبلولة وعليها بقع دم. وعنده علبة سألته عنها، قال وهو يضحك (فيها الاكسير) " (ضو البيت: 105). هذه العلبة قد حوت كل ما كان يملكه ذلك الغريب. وهذا الامر مهم للغاية وهو جزء اساسى في وصف ذلك الغريب ورمز للصراع بين المهدية والاتراك، وما حوته تلك العلبة هو التنباك "وكان هو احضر معاه بذرة التمباك في العلبة ال طلع بيها من النيل يقول عليها الاكسير" (ضو البيت: 116). هو بلاشك علمهم زراعة التنباك "وعلم الارض تنبت التنباك" (ضو البيت: 134). والناظر في طبقات ود ضيف الله يجد ذلك الحجاج الفقهى المطول حول حرمة التنباك، وكيف ان رجالا مثل الشيخ ادريس ود الارباب والشيخ محمد الهميم والشيخ حسن ود حسونة قد قالوا بحرمته،و وكذلك قصة النزاع الشهيرة بين الشيخ ادريس والشريف عبد الوهاب "راجل ام سنبل" في مسألة التنباك، ثم بعد ذلك منشورات المهدية التي جعلت عقوبة التنباك ثمانين سوطا، وهى عقوبة مغلظة، وهى مساوية لعقوبة حد القذف. لكن المهم في الأمر هو ان تعاطى التنباك كان له معنى سياسى في المهدية وكذلك الترويج له كما يفهم من مذكرات الاستاذ المرحوم بابكر بدرى، حينما ذكر قصة ذلك الدرويش الذي صاح " التنباك في كسلا" فانفض بعض الجمع من حوله لان معنى عبارته ان كسلا ستسقط في يد الطليان وسيرجع فيها التنباك الذي منع بقوة الدولة المهدية!! لقد اختار الطيب صالح من بين كل رموز التركية في السودان التنباك والذى حاربته الدولة المهدية استنادا على ميراث الفقه في الدولة السنارية. وقد حارب البعض الدولة المهدية بسبب موقفها من التنباك، ويجب الا ننظر إلى هذا الامر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)
|
بنوع من التبسيط اذ ان التنباك والموقف منه صار يعنى طريقة في التفكير والنظر الفقهى وكذلك سيرة في حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى، وفوق ذلك هو رمز من رموز اعلان الولاء او الخروج. وقد رجح مفتاح الخزنة في رده على عبد الخالق ان هذا الغريب من عسكر الترك " الرجل من الترك قطع شك. يمكن يكون سنجك او سردار او حكمدار. لازم نتدبر ونأخذ حذرنا" (ضو البيت: 10. ويفهم كذلك ان وقت خروج الغريب من النيل كان فيه الترك قد تخطوا منطقة ود حامد، وأوغلوا في الصعيد " قلنا لابد عسكرى من جيش الترك هارب، لكن تلك الايام ما سمعنا بأخبار معارك في الصعيد" (ضو البيت: 109). إذًا ذلك الغريب الذي وصف بمفردات مثل الصخر والصقر والحصان والفيروز يعكس صورة الترك في ذهن اهل ود حامد، لكن هذا التركى ـ ان كان كذلك ـ قد اتى منتميا اليهم طالبا الامن والعلاج، وليس غازيا، هم الذين اعطوه الاسم ومنحوه الارض ليستصلحها، وزوجوه ابنتهم. اتى بدون ذاكرة او تاريخ شخصى فأعطوه هوية وصار له نسب بينهم. فان كان ذلك كذلك، فان الشخص الذي اختاره الطيب صالح ليمثل تلك الفترة من تاريخ ود حامد هو شخص قد تخلىعن كل شئ واندمج بكليته في ودحامد. تعلم منهم وعلمهم الكثير المفيد واحدث ثورة ايجابية في حياتهم "جلب شتل النخل اشكال وألوان من ديار المحس لحد بلاد الرباطاب، وعلم الارض تنبت التنباك،وعلمنا زراعة البرتقال والموز...وهو يسافر مع القوافل مرة إلى ديار الكبابيش..واحيانا إلى غاية حدود مصر ويرجع محملا بالثياب والعطور وألوان من الأوانى والمآكل والمشارب ما عرفناها في ود حامد من قبل" (ضو البيت: 130). ليس ذلك فحسب، بل انه قد غير شكل المعمار في ود حامد "بنينا بيوت الجالوص بدل القش، ال كان عندو غرفة عمل ثلاثة، وال كان ما عندو حوش عمل حوش. الجامع بنيناه من جديد ووسعناه وفرشناه بالسجاد والبساط هدية من ضو البيت" (ضو البيت: 134). اما ضو البيت فقد بنى شيئا كانه مدينة موازية لود حامد، وحول الارض الخراب إلى عمران جديد من نوعه لم تألفه ود حامد من قبل " وهو بنى فوق القلعة بيت داخل بيت وديوان وراء ديوان، وحوش في بطن حوش، سبحان الله تراها من بعيد كأنها مدينة بحالها بعد ما كانت الارض خراب ومهجورة طرف البلد" (ضو البيت: 134). هذا الشئ الذي فعله ضو البيت في ود حامد كانت بشائره قد بدأت في ذلك الضحى حينما نطق بالشهادتين ودخل الإسلام "اعترتنا جميعا حالة عجيبة في داك الضحى في المسجد، كأننا نشاهد معجزة وتأكد لدينا ان موج النيل لفظ (ضو البيت) على شاطئ ود حامد ليكون بشيرا لنا بالخير والبركة" (ضو البيت: 114). ثم رأى اهل ود حامد ان هذا الغريب الذي قبلهم وقبلوه كواحد منهم قد قادهم دون ضوضاء او تسلط إلى آفاق أرحب. لم يكن يتقدمهم وانما كان يكبر معهم ويتعلم منهم ويعلمهم "هو يكبر ونحن معاه نكبر، كأن المولى، جل وعلا، أرسله الينا ليحرك حياتنا ويمضى في حال سبيله" (ضو البيت: 134). هذا الغريب الذي اتى من النيل إلى ود حامد بعد ان اكرم وفادته حسب الرسول بمنزله اتى به إلى المسجد، واجتمع اهل ود حامد للتعرف عليه ولاداء واجب الضيافة نحوه، وبالفعل بعد ان شبع، كان اول الاسئلة عن اسمه "عمى محمود بدأه بالسؤال، قال له (ما اسمك؟) " (ضو البيت: 105)، اجابهم بعد طول اطراق بأنه لا يعلم فاندهش الحضور لذلك الامر وسألوه عن دينه فأجاب مرة اخرى بانه لا يعلم، ثم تجددت المخاوف التي انتابت حسب الرسول قبيل طلوع فجر ذلك اليوم، فصاح قائلا لجمع الحاضرين "وهل نحن اثبتنا انه ابن آدم مش جايز يكون شيطان؟" (ضو البيت: 106)، ثم حينما سئل عن الجهة التي اتى منها ولم يحر جوابا لذلك، عبر حسب الرسول عن مخاوف الحاضرين الدفينة "تذكرت كيف طلع على من الماء مثل السحاحير وقلت في سرى مادام قد شبع فلا بد انه قد رجع شيطان مثل ما كان" لكن في تلك اللحظة كان رحمة الله ود الكاشف قد سرق السؤال من طرف لسان حسب الرسول وقال للغريب بغضب "اسمع يا مخلوق، خلاصة الامر، فهمنا انت إنسان ام شيطان؟!" (ضو البيت: 107). بالرغم من ان الغريب لم يكن يجد اجابة واضحة عن كل الاسئلة السابقة الا انه ما تردد في الاجابة عن هذا السؤال" إنسان. بنى آدم مثلكم" (ضو البيت: 107)، هنا ـ فقط ـ تحول الغريب لدى جمع الحاضرين إلى إنسان له ما لهم من صفات البشر، ويجوز عليه ان يجهل كل شئ الا انه من بنى البشر، فتلك لا يمكن جهلها لدى الاسوياء. لكنه بعد هذه الاجابة الحاسمة وبسبب جرح كبير كان قد امتلأ قيحا، كان قد اصيب به حوالى اسبوعين او ثلاثة، ولم يكن يدرى هو ولا الحضور بهذا الأمر، فقد صرخ صرخة مدوية وسقط مغشيا عليه. ومكث تحت العلاج حوالى الشهر في غيبوبة تامة ثم حينما افاق في وقت الضحى بالمسجد والرجال مجتمعين حوله سألهم هو في هذه المرة: من أنتم؟ ورد عبد الخالق ضاحكا نيابة عنهم "نحن الجان الكان مع سليمان" وتستمر المحاورة، يسأل فيها الغريب عن هذا المكان فيرد عليه ود حمد "هذا المكان جهنم الحمراء". ثم يسأله كيف اتى؟ فيرد ود حمد جابك الطير الأبابيل" (ضو البيت: 110ـ111). لقد تبادل اهل ود حامد مع الغريب المواقف والمواضع، لقد صاروا هم اصحاب الشأن، العارفين لموضع الغريب بينهم، واصبح الغريب فاقدا لهويته يسألهم عنها " ثم وقف وتفرس في أصابع يديه ورجليه وفحص ثوب الدمور الذي البسناه اياه، وبعدين جلس على السرير وسكت برهة وقال "انا من أكون؟ من انا؟" (ضو البيت: 111). تحول عن ملابس عسكر الترك إلى ثوب الدمور. هذا التحول له دلالته ومعناه، تلك الملابس التي جعلته قاب قوسين او ادنى من الهلاك قد خلعها إلى غير رجعة إلى ثوب ثوب الدمور الذي منحه الحياة مرة اخرى، ومنحه وضعا جديدا وهوية جديدة بين الاشياء والاحياء. هو قد نسى كل ماضيه، حتى كيفية مجيئه إلى ود حامد "وبالفعل وجدناه نسى كل شئ، خروجه من النيل وعصيدة الدخن التي أكلها في بيتنا وجلستنا معه في المسجد" (ضو البيت: 111). كان لا بد ان ينسى انه قد خرج من النيل وانه جاء اليهم بملابس الترك حتى يتمكن من اخذ مكانه الجديد بعد ميلاده الجديد في ود حامد، وهذا الامر يؤكده اهل ود حامد حينما يصفونه وهو على تلك الهيئة " كأن الرجل اتولد من جديد داك الضحى في الجامع" (ضو البيت: 111). بعد ذلك الامر يلقى على مسامع الجميع محمود عم حسب الرسول، وهو كان بمثابة زعيم اهل ود حامد وكبيرهم، خطبة موجهة للغريب، ولأهل ود حامد كذلك لتذكيرهم بهويتهم ولتلخيص جملة اعتقاد اهل ود حامد وفهمهم للحياة ولأهمية هذه الخطبة في بيان موقف اهل ود حامد من الحياة حولهم ولدقتها في التعبير وشاعريتها الفائقة راينا ان ننقلها دون ادنى تلخيص يخل بمعناها: "يا عبد الله: نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان، حياتنا كد وشظف لكن قلوبنا عامرة بالرضى قابلين بقسمتنا ال قسمها الله لنا. نصلى فروضنا ونحفظ عروضنا. متحزمين ومتلزمين على نوايب الزمان وصروف القدر. الكثير لا يبطرنا والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد. القليل ال عندنا عملناه بسواعدنا ما تعدينا على حقوق إنسان ولا اكلنا ربا ولا سحت، ناس سلام وقت السلام وناس غضب وقت الغضب. ال ما يعرفنا يظن اننا ضعاف اذا نفخنا الهواء يرمينا، لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول. وانت يا عبد الله جيتنا من أين؟ لا ندرى، كقضاء الله وقدره القاك الموج على ابوابنا. ما نعلم انت مين وقاصد وين طالب خير او طالب شر؟ مهما كان نحن قبلناك بين ظهرانينا زى ما نقبل الحر والبرد والموت والحياة. تقيم معنا لك ما لنا وعليك ما علينا اذا كنت خير تجد عندنا كل خير واذا كنت شر فالله حسبنا ونعم الوكيل" (ضو البيت: 112). تلك الخطبة فيها جوامع الحكمة، ومحمود هو ابن ارض قد انجبت لقمان من قبل، ولذلك كانت اجابة الغريب بالغة التأثر، فقد دمعت عيناه واخذ يردد (نعم. نعم) (ضو البيت: 113). لقد قبل الدخول في عالم ود حامد وأقبل على ميلاده الجديد دون ماض يشده إلى الوراء ويمنعه من فهم الحياة التي عبر عنها محمود في خطبته البليغة والتى كانت بمثابة تجديد عهد لكل اهل ود حامد للدخول في هذا الميثاق الذي يحدد هويتهم ازاء الآخرين، تلك الهوية المرتبطة بميثاق متين مع الخالق وقدرة فائقة على تحمل الآخرين، والصبر على اذاهم، والقيام بواجب تحمل عبء الآخرين. لم يصر الغريب جزءا من ود حامد الا حينما اعطاه محمود ـ نيابة عن اهل ود حامد ـ الاسم الذي كان ينتظره منذ الأزل كأنه كان امانة عند اهل ود حامد جاء صاحبها ليأخذها، وقد اتخذ امر اعطائه الاسم طقوسية فريدة من نوعها في تاريخ ود حامد فهو قد اعطى اسم ضو البيت، وحينما سأله الحاضرون عن اسمه رد بسرور "ضو البيت"، وقال حسب الرسول " جلت قدرة الله، لحظة ما نطق الاسم اصبح شئ حقيقى كأنه كان كذلك منذ البدء" (ضو البيت: 113)، وكأن ذلك الغريب الذي ظهر لحسب الرسول ـ اول ما رآه ـ في شكل مارد يسد الافق قد تقلص إلى "ضو البيت" الغريب المسكين الذي اختار ود حامد، واختارت ود حامد ان يكون هو "ضو البيت" وليس "ضو السجم"، يحل عليهم بالخير والبركة. وقد وقف عبد الخالق ـ بعد ذلك الامر بايام ليتخذ شأن اعطائه الاسم الذي اختير له المراسيم التي يتخذونها في تسمية أبنائهم ـ قائلا "بسم الله الرحمن الرحيم، وبحوله وقوته سمينا هذا المولود (ضو البيت)، فضحك ضو البيت كأنه طفل وضحكوا كلهم مسرورين" (ضو البيت: 122). ولقد نبه الطيب صالح إلى امر صلة الاسم بصاحبه في اللوحة الاولى من رواية ضو البيت وذكر بأن هنالك تناسبا بين معنى الاسم وبين صفة المسمى كأن الاسم قد فصل للدلالة على صاحبه " مسألة الاسماء عجيبة، بعض الناس تناسبهم تماما الخالق الناطق" (ضو البيت: 34). وكذلك فان عملية اطلاق الاسم على صاحبه ليست امرا اعتباطيا، انما يقع ذلك للتعبير عن امانة اودعت في رحم الغيب تستدعى في لحظة صفاء جماعى، فيصير اسم الشخص "مريود " او "بندر شاه". وقد بين الطيب صالح على المستوى الشاعرى مركزية الاسم الرهيب ودوره العجيب في صناعة الاحداث وتطويرها بصورة مختلة ومثيرة للفوضى، وهذا الامر يحدث ـ فقط ـ عندما يختلط الشأن ويكون "بندرشاه" على هيئة "مريود" او "مريود" على هيئة "بندر شاه"، فهذا الاختلاط بين الهوية والاسم وامكانية تداخل الاشياء في بعضها يحدث كابوسا رهيبا وفوضى تثيرها قوى غير مرئية! وحتى نستطيع فهم هذا الامر لنلقى نظرة على الفقرة الاخيرة من هذا المقطع ـ الذي ورد أكثر من مرة في اللوحة الاولى ـ المهم والذى يتكرر كذلك بصورة اخرى في اللوحة الثانية " وفى اطراف ذلك الكابوس كانت نساء حاسرات الرؤوس وجوههن مغبرة يتشبثن برجال مكتوفىالايدى مربوطين بحبل غليظ إلى سرج جمل وعلى الجمل جندى يحمل بندقية ورجال عشرات يسدون طريقه، ثم رد رش شب نتن شر بابه يدنا دا ده، تنصهر وتختلط وتشكل صورة مجسمة هى صورة بندر شاه على هيئة مريود او مريود على هيئة بندر شاه، وكأنه يجلس على عرش تلك الضوضاء ممسكا خيوط الفوضى بكلتا يديه وسطها وفوقها في الوقت نفسه مثل شعاع باهر مدمر" (ضو البيت: 24). ثم يذكر الطيب صالح في وصفه لعرس ضو البيت في اللوحة الثانية " فأخذ ضو البيت يلوح بالسوط وينزله مرة على ظهر عبد الخالق ومرة على ظهر حسب الرسول، ومع وقع كل سوط تزغرد النساء، ويتصايح الرجال ويقوى هدير الطبول، وتتفرق الضوضاء وتتجمع حول (ضو البيت) وهو واقف في مركز الفوضى شاهرا سوطه فوق الجميع، يختفى ويبين وسط الزحام، فكأنه هنا وليس هنا" (ضو البيت: 131). ان الفرق بين الصورتين هو ان الاولى تصور كابوس الغزو التركى المصرى للسودان، دون ان تصرح بذلك الامر، وينتهى الامر في تلك الصورة إلى حالة من الفوضى لا مثيل لها يصير الجميع مثل سرب عظيم من الطيور المذعورة، تحدث جلبة عظيمة تعلو وتهبط دون هدف واضح لكن يصاب الناس بحالة من الذهول تنمحى فيها كل المسلمات " في ذلك الضحى كان الماضى والمستقبل قتيلين لم يجدا من يوارى جثتيهما او يبكى عليهما" (ضو البيت: 24). اما الصورة الثانية فهى حالة اختيار جماعى وفرح فياض بانتماء "ضو البيت" إلى ود حامد، فالسوط الذي بين يديه هو لتأكيد ذلك الانتماء وليس لسلب اهل ود حامد يقينهم ومسلماتهم التي عبر عنها محمود في خطبته تلك. وبرغم ان ضو البيت قد ترك لاهل ود حامد ابنه عيسى الذي عرف بين اهل ود حامد بـ(بندر شاه) الا ان الفرق شاسع بين (بندر شاه) ابن ضو البيت وبين ذلك "الاسم الرهيب" صنو الفوضى والدمار الذي يتحول فيه المستقبل إلى ماض ويحدد الماضى قيم المستقبل ويكون الحاضر كما لا وجود له لانه اما ان يلد المستقبل او يتحول إلى ماض، لكن (بندر شاه) ابن ضو البيت وجهه اسود مثل امه وعيونه خضر مثل ابيه وهو في الناس نسيج وحده لا يشبه دا ولا دا (ضو البيت: 131) عكس ضو البيت بندر شاه صاحب "الاسم الرهيب" في اللوحة الاولى الذي هو "مريود" على هيئة "بندر شاه" أو "بندر شاه" على هيئة "مريود". بهذه الكيفية يمكننا ان نفهم كيف عبر الطيب صالح عن تلك الحقبة المعقدة في تاريخ السودان السياسى والاجتماعى، وكيف كان ميلاد (ضو البيت) في ود حامد هو الخيار الانسانى المفيد للتعبير عن تاريخ تلك المرحلة بصورة ايجابية واكثر ثراء على المستوى الشاعرى واكثر فهما لموضع الآخر المنتمى للحضارة العربية الإسلامية المفارق لأهل ود حامد في لونه وعرقه واقليمه الجغرافى، فميلاد ضو البيت هو دعوة لاحترام التنوع في الحضارة العربية الإسلامية وطريقة في التعبير عن البعد الانسانى لتلك الحضارة. 2ـ5 ميلاد مـريــود: ـ إن كان الحديث عن ميلاد ضو البيت في ود حامد قد ارتبط بمحاولة تفسير الغزو التركى المصرى للسودان عن طريق عقد المقارنة بينه وبين الاسم الرهيب "بندر شاه"، فان ميلاد بلال في ودحامد قد ارتبط كذلك بمحاولة لتفسير وفهم مؤسسة الرق في السودان وربطها كذلك بـ (بندر شاه)، ففى كليهما بندرشاه ولد ضو البيت هو الذي يعطى للناس النموذج الأكثر تصالحا وانسانية لمسألتى الغزو التركى المصرى ومؤسسة الرق في السودان. وبالمقابل فان الصورة القاتمة والمختلة نجدها في حالة "بندر شاه" الاسم الرهيب، وليس "بندر شاه" لقب عيسى ولد ضو البيت(10). اذًا بندر شاه هو الذي يربط بين القضيتين وهو كذلك في رأى ابراهيم ود طه (راوية ثقة في تاريخ ود حامد) (مريود: 55) بأن بندر شاه الذي ينتسب اليه بلال هو ليس ملكا نصرانيا من ملوك النوبة ولا ملكا وثنيا من السود من أعالى النيل ولا أميرا حبشيا ولا رجلا أبيض كان يعمل في تجارة الرقيق، وانما بندر شاه كان لقبا عرف به عيسى ود ضو البيت في صباه وهو نوع من مزاح الصبيان أطلقه عليه ابن خالته حمد ود عبد الخالق(مريود: 56) ثم يضيف " ان بلالا هو الابن الثانى عشر لعيسى ود ضو البيت من جارية سوداء جميلة ذكية كان يحبها ويؤثرها ولكنه لم يلحقه بنسبه ولما مات خجل اخوته ان يسترقوه ولكنهم استكبروا ان يعاملوه معاملة الحر ويشركوه في ميراث ابيه"، ثم يعلق ابراهيم ود طه على أمر نشأة بلال قائلا "لذلك نشأ بلال لا هو حر يقال له ابن فلان ولا هو عبد يقال له عبد فلان" (مريود: 57)... بلا شك ان رواية مريود ـ وهى الجزء الثانى من بندر شاه ـ فيها محاولة ذات بعدين: البعد الأول يتعلق بنموذج انسانى محدد يعرفه اهل ود حامد ويقرون بأنه جزء منهم، اما البعد الثانى فبندر شاه هو محاولة للتعبير عن حالة الفوضى والاختلال او عن حالة العنف الاسطورى الذي وقع ضد أهل ود حامد في حالة الغزو التركى المصرى او عن تلك الحالة التي كان أهل ود حامد هم أصحاب ذلك العنف المتولد عن مؤسسة الرق... فالبعد الأول في بندر شاه هو الرؤية المتجذرة لادراك المستوى الشاعرى والسمو الانسانى عند اهل ود حامد، اما البعد الثانى فهو يمثل ذلك العنف الاسطورى ضد الآخر والعمل على قهره، ليس لذنب جناه ذلك الآخر ولكن اشباعا لنزوات النفس بمشاهدة الذل والهوان في عيون الآخر، وهى حالة من التلذذ لا شفاء منها الا بمزيد من العنف تجاه الآخر. لكن رواية مريود ـ وهى عبارة عن أربع لوحات تمثل محاولة للتخلص من البعد الثانى لبندر شاه. فاللوحة الأولى عن (محيميد)، والثانية عن سعيد عشا البايتات القوى، والثالثة عن الطاهر ود الرواسى، والرابعة عن مريود او مريوم. وبالطبع فان الطيب صالح قد سمى اللوحتين الثانية والثالثة، وترك اللوحتين الاولى والرابعة بدون اسماء. لكن بعد قراءة محتوى اللوحتين يمكن ان نطلق عليهما تلك الاسماء سالفة الذكر، خاصة وان محيميد ـ كما سيتضح لاحقا ـ هو تجسيد آخر لمريود، وعليه يمكن ان نقول بأن اللوحتين الاولى والرابعة هما عن مريود... فلئن كانت رواية ضو البيت قد اوجدت البديل الشاعرى والانسانى لـ(بندر شاه) في حكاية قصة ميلاد ضو البيت في ود حامد لفهم مسألة الغزو التركى المصرى، فان رواية مريود قد اوجدت كذلك البديل الشاعرى والانسانى لفهم مؤسسة الرق في ميلاد بلال في ود حامد.... نجد في اللوحة الاولى من روية مريود محاولة لتجاوز نموذج بندر شاه / مريود الذي صيغ بقسوة وعنف في اللوحة الاولى من رواية ضو البيت. اما في رواية مريود ـ في اللوحة الاولى ـ تجد تلك الكراهية التي يبديها محيميد في مواجهة الجد، وهذه الكراهية موجهة في الاصل ضد نموذج بندر شاه / مريود، نموذج العنف الاسطورى والتسلط على الآخرين، فقد حاول الجد ان يصنع ذلك النموذج بتبنى محيميد، لكن حب محيميد او مريود لمريوم هو الذي جعل محيميد يحطم ذلك النموذج ويتمرد عليه وتظهر عليه بدايات ذلك الامر في اللوحة الاولى من رواية مريود وتكتمل حالة التمرد الصوفى والشاعرى في اللوحة الرابعة من الرواية. صحيح ان محيميد قد خضع لارادة الجد وفرح كثيرا بذلك النموذج القهرى الذي يروح فيه الأب ضحية للابن والجد او يتآمر فيه الماضى والمستقبل على الحاضر، لكن محيميد قد أفاق لنفسه حينما وقف الجد ضد حبه لمريم "ولما سمع صوت جده يناديه امتلأ قلبه بالفرح وهش وقال نعم ولعل كل شئ كان سيظل كما هو لولا أنه احب مريم وجده قال لا" (مريود: 23). اما في اللوحة الرابعة من رواية مريود فان محيميد او مريود قد تجاوز امر كراهيته للجد لانه كان قد خرج عن نموذج بندر شاه / مريود كلية، وبرغم ان ذلك الخروج قد جاء متأخرا بعد اربعين عاما الا انه استطاع ان يسترد كل تلك والشاعرية والشباب الدفاق الذي اضاعه بسبب خضوعه لنموذج بندر شاه/مريود. استيقظت كل تلك القوى الخلاقة في محيميد حينما ماتت مريم فعاد محيميد مريود الذي كانت تبحث عنه مريوم، خرج عن اسار نموذج بندر شاه/ مريود، لقد صنع حب مريم هذا الأمر بعد أربعين سنة من التيه "رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر وسمعت هبوب امشير تنادينى بلسان مريوم (لا شئ لا احد) خطا بها نحو القبر فاعترضت طريقه ومددت يدى" (مريود: 83). ان لحظة ايداع مريم القبر قد فجرت في مريود كل الشاعرية التي يمكن ان تطالها فصاحة العرب، لكنها كذلك ليست احلاما لا رصيد لها من الواقع، وانما هى حقائق في مستوى ارفع "فتركها لى كانت خفيفة مثل فرخ طائر وانا اسير بها في طريق طويل يمتد من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل، لم يكن حلما..." (مريود: 83)... برغم من انها قد ضاعت لانه قد تردد مرة الا انه قد عاد إلى صوابه ونادى "ناديت بأعلى صوتى يا مريوم يا مريوم! فعاد الصدى مجسما بألسنة شتى يا مريود يا مريود!" (مريود: 83). هذا التحدى لنموذج بندر شاه/ مريود بسبب ذلك الحب الوهاب قد اعاد للحياة نظامها وتناسقها ليلد نموذج مريود/ مريوم القائم على حب عميق للخلق والحق. ودفع مريود ثمن ذلك الخروج "ضربت دون هدى في صحراء عقبة تويوى ريحها وتتهايل رمالها حتى بلغ منى اليأس واخذ منى الجهد، كل ذلك في سبيل البحث عن مريوم. فجأة احسست بمريم بعيد العشاء او قبيل الفجر.. لكننى اذكر ظلاما رهيفا وضوءا ينسكب على وجهى من عينيها، شربت حتى بلغ منى الظمأ غايته" (مريود: 84،85). ثم يقوم الطيب صالح بصياغة حوار هو في غاية الدقة بين الحوار وشيخة للتعبير عن رغبة مريود في خلق نموذج مريود/مريوم، وكيف ان مريم قد اعطته الطريق بعد ان بينت له بيانا واضحا خلل نموذج بندر شاه/مريود. ذلك البيان فيه ما فيه من عمق فهم للحياة وسعة افق في تحمل الآخرين، وفيه بيان للفرق الشاسع بين النموذجين. فقد كان مريود بحق لا شئ ولا احد في نموذج بندر شاه/ مريود " يا مريود انت لا شئ انت لا احد. انك اخترت جدك وجدك اختارك.. لأنكما أرجح في موازين أهل الدنيا. وأبوك أرجح منك ومن جدك في ميزان العدل. لقد احب بلا ملل، واعطى بلا امل، وسما كما يسمو الطائر.. حلم أحلام الضعفاء وتزود من زاد الفقراء" كل هذه الصفات هى صفات النموذج الجديد المناهض لنموذج التسلط والقهر، بل في ذلك النموذج قهر لنزوات النفس بصورة مجيدة "وراودته نفسه على المجد فزجرها، ولما نادته الحياة.. لما نادته الحياة" (مريود: 8، يرد مريود على تلك المقالة القوية في معناها ومبناها قائلا "قلت نعم. قلت نعم. ولكن طريق كان أشق لأننى كنت قد مشيت" (مريود: 83). وهذا هو مطلق القبول للنموذج الجديد. اذن اللوحات الأربع في رواية مريود تسعى لتحطيم نموذج بندر شاه/ مريود وتستعيض عنه بنموذج آخر قائم على الحب الخلاق وعلى محاولة رؤية الأنا في الآخر وليس نفيه او سحقه، ولقد كان التمهيد لذلك في اللوحة الأولى، ثم جاءت اللوحة الثانية التي هى عن سعيد عشا البايتات القوى الذي لم يصل إلى السلطة في ود حامد الا عبر المعاناة ومعرفة معنى الهامشية والاضطهاد، وتختتم لوحة سعيد عشا البايتات بظهور مريم لمحيميد واتخاذه لقرار اتباعها " بانت له معلقة في الفراغ، تدنو فاذا هى على مد ذراع، ثم تعدو مبتعدة عنه كأنها حلم عسير المنال" (مريود: 32). لكن محيميد قد اختار الابتعاد عن ذلك الطريق في آخر لحظة "ثم بوعى تام جذب عنان حمارته وأدار ظهره للشمس" (مريود: 32). ذلك يعنى بأن محيميد لم يتأهل بعد لسلوك ذلك الطريق. تأتى اللوحة الثالثة لتعلم محيميد معنى الحب الخلاق، وهذه اللوحة هى التي جعلت نموذج مريود/ مريوم ممكنا. ونلاحظ ان اللوحة الثالثة تمثل نصف الرواية من حيث عدد الصفحات، وهى بلا شك تكون عنصرا أساسيا في بناء وتطوير نموذج مريود/مريوم، عن طريق ايجاد بديل انسانى لنموذج بندر شاه/ مريود. وفيه بندر شاه الذي هو لقب لعيسى ولد ضو البيت على أرجح الأقوال واحدا من عساكر الترك أتى إلى ود حامد واندمج فيها ـ كما بينا في ميلاد ضو البيت فىود حامد ـ لكنه في رواية مريود حسب ما رواه ابراهيم ود طه "ومعروف ان ضو البيت ابا عيسى كان رجلا من الأشراف وفد على ود حامد من الحجاز وتوطن فيها، وتزوج فاطمة بنت جبر الدار الأولى " (مريود: 56). هنا اختار الطيب صالح ان يكون ضو البيت قد اتى من اقليم الحجاز وليس من شمال الوادى الذي كان مدخلا للأتراك و المصريين. وكلا الاقليمين قد أسهما في نشر الإسلام في السودان كما هو معروف. ثم جعل لضو البيت نسبا في الأشراف وجهة جغرافية تتشوف اليها أعناق أهل السودان. وهذا يجعل ضو البيت في رواية مريود في موقف افضل من ضو البيت في رواية ضو البيت. أما اللوحة الأخيرة فهى تستخدم كل الخبرات السابقة التي نالها محيميد من عشا البايتات القوى ومن الطاهر ود الرواسى ولد بلال العبد وحواء بنت العريبى، ليصير اكثر قدرة على فهم معنى الحب ويسير في طريق رؤية (الأنا) في الآخر ليحطم نموذج بندر شاه/ مريود، ويستبدله بنموذج مريود/ مريوم. ان اثبات دعوى عريصة مثل التي سيقت لفهم رواية مريود ومحاولة ربطها برواية ضو البيت يحتاج منا إلى النظر بنوع من الدقة في أمر ميلاد بلال. لأن ذلك الميلاد يجعل قيمة الحب ممكنة في أكثر العلاقات قهرا وتسلطا، وهى علاقة السيد/ العبد. وهى علاقة في جوهرها قائمة على الصراع والعنف المتبادل. فان كانت مؤسسة الرق في السودان قد أفرزت ميلادا مثل ميلاد بلال ومشروعا انسانيا مثل حياة بلال وصلته بشيخه نصر الله ود حبيب، فهى بلا شك مؤسسة تحتاج منا إلى عميق تدبر فيها لفهم شبكة العلاقات التي كانت تديرها. وفوق ذلك هى مؤسسة قد أرقت مؤرخى الاجتماع البشرى في السودان كثيرا، وألقت بظلال قاتمة على مستوى الصراع السياسى بين الشمال والجنوب في السودان(11). فهى مؤسسة تحتاج إلى اعادة نظر لفهمها دون تحيز او غرض يعمى عن القيم الايجابية، وكل ذلك لتصحيح المعانى السالبة التي شابتها لنضعها في موضعها الحقيقى من تاريخ الاجتماع البشرى في السودان. واعتقد بان التطور الطبيعى لرواية بندر شاه ـ وهى ثلاثية ـ ان تتناول في الجزء الثالث منها الصراع بين الشمال والجنوب في السودان بسبب اوهام نموذج بندر شاه/ مريود التي تذكى اواره. بعد كل تلك المقدمات الضرورية لفهم معنى ميلاد بلال في سياق ثلاثية بندر شاه، نقول بأن بلالا قد ولد مرتين، أولا: ولد ميلادا طبيعيا اكتنفته ظروف مؤسسة الرق وشروطها القاسية. ثانيا: ولد ميلادا اجتماعيا، حررته فيه مؤسسة التصوف من أغلال الرق ـ ومما هو أسوأ من مؤسسة الرق، اذ ان بلالا كان عبدا هملا بلا سيد ـ إلى رحابة الاخوة في شأن الحق. لقد اختار الطيب صالح من جملة الروايات المتضاربة حول اصل بندر شاه، تلك الرواية التي رواها ابراهيم ود طه باعتبار انه راوية ثقة في تاريخ ود حامد ـ كما تقدم ذكره ـ والتى يؤكد فيها " ان بلالا ليس من عبيد ملك نصرانى، ولا أمير حبشى ولا ملك وثنى ولا غير ذلك " ثم يبين اصل ذلك السيد الذي تعرفه كل ود حامد " وانما سيده شخص يعرفه كل احد، ليس مجهول الحسب، ولا مطعون النسب، وهو عيسى ودضو البيت" (مريود: 55)، ثم يبين اصل ضو البيت ولد عيسى وكيف انه من الاشراف وقد وفد إلى ود حامد من اقليم الحجاز وتزوج فاطمة بنت جبر الدار التي تنتمى إلى قبيلة الحوامدة صاحبة الاصل والفصل وسادة ود حامد، الذين سميت البلد باسمهم. ثم يبين كيف ان ضو البيت قد مات وعيسى في بطن امه فاطمة، وقد ترك له مالا وفيرا، وتولت امه تربيته، وكانت تدلله كثيرا وتلبسه الثياب الزاهية الفاخرة. وكان الصبيان يطلقون عليه اسم بندر شاه تندرا، وذلك الاسم لم يلازمه طويلا لكن عيسى هذا قد تزوج ابنة خاله رجب فأولدها أحد عشر ولدا، وقد ماتت ولم تبلغ الاربعين ولذلك عرفت فاطمة ام عيسى بـ(ام أولاد ضو البيت) الذين صاروا فيما بعد فرعا قائما بذاته من فروع قبيلة الحوامدة. في وسط هذه العلاقات القبلية الشائكة وهذا النسب الذي بانت شجرته الطيبة ومظاهر القوة والعنفوان فيه ولد بلال "ويؤكد ابراهيم ود طه ان بلالا هو الابن الثانى عشر لعيسى ود ضو البيت من جارية سوداء كان يحبها ويؤثرها" (مريود: 57)، لكن الاب لم يلحقه بنسبه ولم يسترقه اخوته لخجلهم من تلك الفعلة في حق اخيهم ولكنهم استنكفوا امر الحاقه بهم واشراكه في ميراث ابيهم لذلك نشأ بلال لا هو حر يقال ابن فلان، ولا هو عبد يقال به عبد فلان" (مريود: 57)، او كما قال الطاهر ود الرواسى " ان اباه نشأ عبدا هملا بلا سيد، كل الرقيق لهم سادة الا بلال" (مريود: 50). بالطبع فان هذا الوضع اسوأ من وضع الرقيق، ذلك لان الرق هو جزء من مؤسسة هو انتماء ووضع اجتماعى، مهما كان سيئا فهو مكانة في خريطة ترتيب الاجتماع البشرى، هو وجود اجتماعى له مساحته، اما ان يكون الشحص رقيقا بلا سيد، فهذه الحالة هى حالة عدم اجتماعى لا يسعها المكان. هى حالة من الضياع الاجتماعى والاحساس بالعدم. لكن حسن ـ " كان اسمه حسن وسماه الناس بلالا لأن صوته في الآذان كان جميلا وفيه لكنة" (مريود: 46) برغم ذلك استطاع ان يجد له مكانا في الاجتماع البشرى في ود حامد ويأوى إلى ركن شديد. وكان الناس "ينادونه هلا هلا ولد لا اله الا الله" اما "هلا هلا" فلأنها كانت العبارة الوحيدة التي يفوه بها اذا خوطب، اما "لا اله الا الله" فلأنه كان حين يسأل عن ابيه يجيب " انا ولد لا اله الا الله" (مريود: 46). فقد فرض على اهل ود حامد نسبا جديدا ووضعا اجتماعيا معينا. ليس ذلك فحسب بل ان بلالا قد وهبه الله بالاضافة إلى جمال الصوت جمالا في الخلقة والخلق " يحكى الذين رأوه انه كان جميل الوجه حسن الصورة.. لونه يتوهج كلون المسك، لا تستطيع ان تطيل فيه النظر لجمال صورته" (مريود: 46) وكذلك فقد كان عالى الخلق مهابا برغم وضاعة موضعه الاجتماعى " كان كثير السكينة وقور السمت، نبيل الملامح، كأنه من سلالة ملوك قدماء. اذا وقف كأنما تقف معه حاشية غير مرئية" (مريود: 46). لكن برغم ذلك الكبرياء والمهابة الظاهرة كان "اذا جلس جلس القرفصاء ويسكن حتى كأنه يذوب فيما حوله.. قليل الكلام. اذا قام او قعد يظل يطرق إلى الارض، ولسانه لا ينى عن ذكر الله والصلاة على نبيه" (مريود: 46). تلك الصفات التي عرف بها بلال هى بلا شك صفات سادة أماجد، تجمع بين الكبرياء الذي هو في موضعه، وبين التواضع الذي يشى بالرفعة والعلو، وفوق ذلك فقد اوتى لسانا ذاكرا لله ومحبا لرسوله وشاكرا لأنعمه وابتلاءاته. لا شك بأن بلالا هذه قد نشأ فيما هو دون الرق من الهوان والذل لكن التواضع الذي وقع له لا صلة له بتلك النشأة، ربما علمته تلك النشأة الاولى المعانى الدقيقة للكبرياء والتواضع، وربما كانت تلك المعاناة الاولى هى سبب عكسه لكل تلك المعانى بصورة تجل عن الوصف لكن من الواضح ان بلالا كان نسيج وحده في كبريائه وتواضعه، لذلك لخص ابراهيم ود طه امر بلال بقوله "وكان هو في خاصة نفسه انسانا عجيبا، جميل الهيئة، جميل الطباع، متعففا ورعا، أخلاقه أخلاق سادة أماجد " (مريود: 57). وكذلك فان نشأة بلال الاولى لا يعرف عنها كثير شئ. واول ما عرفه اهل ود حامد عرفوه كشخص كامل الهيئة والنضج. ومن عجب انه شب كأنه نزل فجأة من السماء او انشقت عنه الارض، او انه طلع من النيل، شخصا كامل الهيئة والتكوين" (مريود: 57). ويذهب ابراهيم ود طه إلى ابعد من ذلك ليقول " لا إنسان من اهل البلد يذكره طفلا ولا احد يعلم من رباه، ولا احد يقول لك رأيت بلالا او سمعت بلالا إلى ان ظهر فجأة وهو فتى يافع يلازم الشيخ نصر الله ودحبيب ويقوم على خدمته" (مريود: 57). لعل اهل ود حامد ممثلين في راويتهم الثقة ابراهيم ود طه يريدون ان يسقطوا تماما مرحلة العبد الذي لا سيد له التي مر بها بلال، وهى بلا شك عندهم فترة ليست لها أدنى مساحة في اجتماعهم البشرى. او بسبب ان بلالا قد صار واحدا من رموزهم الدينية، فلا يريدون ان يرونه الا على تلك الحالة من العلو والرفعة، لذلك قصة الميلاد الثانى ـ وهو ميلاد اجتماعى ـ لبلال في ود حامد قصة في غاية الطرافة والعجب. فقد كان حسن ـ على أرجح الروايات ـ يتحنث ويتعبد بعيدا في الخلاء " لانه كان غير واضح في البلد، كأنه ليس موجودا فيها بالمرة" (مريود: 5، وقد كانت عادة الشيخ نصر الله ود حبيب ان يمكث ساعة بعد صلاتى العشاء والفجر يعظ الناس ويرشدهم. وذات يوم ـ بعد صلاة الفجر ـ وبينما هو يرشدهم ويجيب على اسئلتهم تغير وجهه فجأة وصاح بأعلى صوته كأنه في جذب صوفى قائلا (الينا يا بلال! الينا يا بلال!)، ولم يفهم الناس على من ينادى وحينما سألوه أجابهم بصوت مختلف (بلال الخير) وردد ذلك ثلاث مرات. لكن القوم لم يفهموا على من ينادى وصمتوا، وفجأة قال احدهم (الشيخ يقصد حسن) ولما استوضحوا القائل اى حسن يعنى احتار كيف يصفه. ثم كأنما انجلت لهم الحقيقة ـ كلهم في آن واحد ـ فصاحوا جميعا (حسن هالله هالله...العبد) (مريود: 59). بالطبع فان حسنا لم يكن جزءا من وجودهم الاجتماعى، كان كما مهملا او قل عدما اجتماعيا. لكنه في تلك اللحظة الخاطفة صار شيئا له قيمته وله معناه. لذلك جاء امر الشيخ نصر الله ود حبيب واضحا وقاطعا برغم انه كان فيما يشبه الغيبة وهو يستدعى حسنا لميلاده الجديد في ود حامد "حينئذ خاطبهم الشيخ نصر الله ود حبيب وهو فيما يشبه الغيبة "بلال ليس عبدا لاحد.. بلال عبد الله. والله لو علمتم من امره ما أعلم لانصدعت قلوبكم خشية ولأصابكم الجزع والبلبلة" (مريود: 59 ـ 60). ليس ذلك فحسب، ولكن الشيخ قد رأى في حسن امرا عجيبا، وصار حسن منذ تلك اللحظة بلالا ووصفه الشيخ بصفات غاية في الخطورة والسمو في مقام اهل الحق (انه رأى وسمع ورقى إلى درجات تتقطع دونها القلوب حسرة، والله ان بلالا لو سأل الله لأبره ولو طلب من الحق جل وعلا ان يخسف بكم الارض لفعل" (مريود: 60). اذاً، كانت ناصية امر اهل ود حامد معقودة بيد بلال الذي كان عبدا هملا لا سيد له، وهذا أمر عجاب لكن الخيال الاجتماعى لأهل ودحامد يسعه. وقد ذكر الشيخ تلك الصفات العالية التي نالها بلال لجمع الحضور بصوت اصابهم بالهلع "قال الشيخ هذا بصوت أصاب سامعيه بالهلع ثم اخذ ينادى من جديد (الينا يا بلال! الينا يا بلال!) " (مريود: 60). تلك الحضرة الغريبة من نوعها في تاريخ ود حامد والتى انجبت رجلا صالحا واخرجته من ذل ما هو دون الرق إلى مصاف الاولياء الصالحين قد سجلها الطيب صالح بدقة وتأثير بالغ " أقسموا انه ما ان فرغ الشيخ نصر الله ود حبيب من ندائه حتى سمعوا صوتا يصيح عند باب المسجد (لبيك! لبيك!) دخل وعليه غبار سفر.. فانكب على قدمى الشيخ يقبلهما وهو يردد باكيا (لبيك! لبيك!)" (مريود: 60). تلك اللحظات الفريدة فىة تاريخ ود حامد قد حفظها الجمع المتواتر عن الجمع المتواتر للتعبير عن ميلاد ذلك الشيخ الفتى الذي انهضه الشيخ نصر الله ود حبيب وعانقه بصورة مؤثرة وقال له بتأثر بالغ (لماذا يا أخى تبعد عنى هذا البعاد؟ اما كفاك وكفانى؟ ترفق بنفسك يا حبيبى فانك قد تبوأت رتبة قل من وصل اليها من المحبين الخاشعين، واننى اركض فلا أكاد الحق بغبارك) " (مريود: 60). يلاحظ هنا ان الشيخ نصر الله ود حبيب قد نادى بلالا (يا أخى) برغم ان اخوته من قبل قد ضنوا عليه بتلك الصفة، لكنه الآن قد أٌعطى تلك الاخوة التي هى أرفع من جملة انساب اهل ود حامد مجتمعين، اخوه ذلك الشيخ العالم الجليل الذي كان يقصده الناس من كل بقاع العالم الإسلامى مقرين له بالريادة في العلم والسبق في سلوك طريق القوم. ذلك امر في غاية الطرافة، فان بلالا هذا قد حرم من قبل ذلك النسب العالى في أهل ود حامد في ميلاده الاول لكنه قد اوتى بلا نزاع نسبا عظيما ورفيعا بواسطة ذلك الشيخ المقدم " قالوا، وكان الشيخ نصر الله ود حبيب قطب زمانه بلا نزاع، كان الناس يقصدونه من اطراف الارض، طلبا لعلمه وتبركا بصحبته، يجيئونه في قوافل من ديار المغرب وتونس والشام وبلاد الهوسه والفلانى" (مريود: 61)، وكان الشيخ نصر الله ود حبيب عفا ورعا كريما لا يبيع دينه بدنياه وقد سار بسيرة السلف الصالح "يحملون له الهدايا النفيسة فيفرقها في الناس في مجلسه ولا يدخل داره منها شيئا" (مريود: 61)، وكان كذلك لا يهاب السلاطين وأصحاب الشأن ويتضح ذلك من موقفه من الامام المهدى وخليفته عبد الله التعايشى. برغم تلك الصفات العالية والسمت المميز الذي وقع للشيخ الا انه رأى في بلال ما لم يره الناس، لذلك رفع بلالا إلى مكانة أعلى منه. لكن بلالا رفض ان يكون من الشيخ بمقام الاخ ورضى لنفسه ان يكون في مقام العبد المملوك ازاء الشيخ نصر الله ود حبيب " قالوا، وبكى بلال حتى كادت روحه تزهق وهو يردد (يا سيدى لا تقل هذا الكلام انت القطب انت صاحب الزمان، وانا عبدك ومملوكك)" (مريود: 60 ـ 61)، فتلك صلة فيها تجاوز يثير العواطف والقرائح معا، اذا قورنت بحالة حسن مع اخوته ابناء ابيه فحسن كان يحتاج لاعتراف اخوته اما كأخ او كعبد لهم حتى يكون له وجود اجتماعى في ود حامد، ولكنهم ضنوا عليه بذلك الامر، وها هو يجد ما هو خير من كل ذلك ومن كل ما يجمعون، لقد وجد اعترافا من كل ود حامد على لسان شيخها المقدم نصر الله ود حبيب " قالوا وأراد الشيخ ان يجعله منه بمقام الاخ فأبى البتة وحلف الا يكون له الا بمقام المملوك من سيده" (مريود: 61). لأول وهلة تعتقد بأن الشيخ نصر الله ود حبيب هو الشيخ والحوار هو بلال ولكنك ان نظرت بنوع من التمعن في هذه العلاقة تجد العكس هو الصحيح. ذلك لأن الشيخ قد رضى بهذا الأمر كارها له لمعرفته بمقام بلال في ميزان الحق "فأذعن الشيخ ونفسه تابى ذلك، فكان بلال يقوم على خدمة الشيخ نصر الله ود حبيب بالليل والنهار" (مريود: 61). إن صلة بلال بالشيخ نصر الله ود حبيب تمثل الحد الاقصى من احترام الانسان لأخيه الانسان، وفيها التقدير الأوفى لمعنى الاخوة في الحق. فالأعلى فيها هو الأدنى، والأدنى فيها يحس بعلو مقامه ورفعته في حضرة من هم أعلى منه. فقد كان بلال "يابى ان يجلس في حضرة الشيخ نصر الله ود حبيب ويقول له (يا بلال يا بلال لماذا تريد ان تهيننا بإذلال نفسك؟" (مريود: 61). إذًا الشيخ نصر الله ود حبيب هو الذي اخرج بلالا لميلاده الثانى فىود حامد وبين للناس نموذجا ثرا من الحب والولاء المتبادل ذلك هو نموذج الشيخ نصر الله ود حبيب/ بلال. واذا حاولنا ان نقارن بين ميلاد بلال الثانى وميلاد الزين الثانى، فهناك كثير من التشابه لكن الشيخ الحنين قد مكث زمنا طويلا يجهز الزين لميلاده الثانى، اما الشيخ نصر الله ود حبيب فقد وجد بلالا مكتمل الهيئة وعالى المقام عند اهل الحق. وكذلك فان الشيخ الحنين قد مضى لربه بعد ميلاد الزين الثانى مباشرة لكن الشيخ نصر الله ود حبيب بقى زمنا يخرج للناس ذلك النموذج الثر، نموذج الشيخ نصرالله ود حبيب/ بلال. وأخيرا فان ود حامد نفسها ـ في زمان الشيخ نصر الله ود حبيب ـ كانت مؤسستها الدينية متوحدة في شخص الشيخ نصرالله ود حبيب الذي كان امام الجامع وقطب المؤسسة الصوفية، بينما كانت المؤسسة الدينية منقسمة على نفسها في زمان الشيخ الحنين. ولنقل: ان ذلك النموذج الفريد الذي بناه الشيخ نصر الله ود حبيب وبلال الذي اكتملت حلقاته في زواج بلال من حواء بنت العريبى وأثمرت الطاهر الذي عكفت امه على تربيته بحب واخلاص يشبه حب المتصوفة "وبعد ان سرحها بلال، ابت ان تدخل على رجل آخر وانصرفت لتربية ابنها، فكان شأنها في ذلك شأن المتصوفة العاكفين" (مريود: 65). يختتم الطيب صالح اللوحة الثالثة من رواية مريود بمقالة على لسان الطاهر ود الرواسى تلخص كيف ان ذلك الحب الوهاب قد حرر بلالا من ذل هو أقسى من الرق وهو امر يحتاج اليه محيميد ليتحرر من نموذج بندر شاه/ مريود الذي هو شكل من أشكال نموذج فرعون/ بنى اسرائيل، ومثلما احتاج بنو اسرائيل لأربعين سنة هى عمر جيل العبودية في مصر حتى يخرج بنو اسرائيل عن ذلك النموذج الطاغوتى، كذلك احتاج محيميد لأربعين سنة ليحطم نموذج بندر شاه/ مريود، ويبنى نموذج مريود / مريوم، الذي فيه استلهام كامل لنموذج الشيخ نصر الله ود حبيب/ بلال القائم على الحب والاخوة في الحق لنيل العبودية لله، ففيه يتحرر الانسان من عبوديته لأخيه الانسان بالتزامه لعبوديته للحق. يمكننا القول بان كل تلك الثنائيات التي استخدمها الطيب صالح في رواياته للتعبير عن مسألة الميلاد (الميلادالطبيعى / الميلاد الاجتماعى / نموذج بندر شاه/مريود /نموذج مريود/مريوم / نموذج السيد/ العبد) الغرض منها الاشارة إلى معنى التوحد ورؤية القدرة الخلاقة التي تعطى هذه الثنائيات وجودها لتعلم الناس مدى قصورهم وافتقارهم لها. لتلزم الناس شأن عبوديتهم للحق وليس للخلق. 3ـ خاتمة: لقد خلصنا من مناقشة مسألة الميلاد في أدب الطيب صالح إلى اثارة كثير من الاسئلة و القضايا المتعلقة بالاجتماع البشرى في الحضارة العربية الإسلامية، وكذلك تطور التاريخ الاجتماعى للسودان باعتباره محور ارتكاز لذلك الأدب. لقد رأينا كيف ان فكرة الميلاد الميتافيزيقى في دومة ود حامد قد عبرت عن قضايا الحداثة والتقليد، والتراث الشفاهى و الكتابة، و العلاقة بين المطلق والمتجذر، و أخيرا الصلة بين الريف والمدن في مستوى الصراع السياسى والاجتماعى والدينى. فميلاد القرية/ الدومة / ود حامد هو الذي جعل التواصل بين أهل ود حامد وغيرهم شبه مستحيل، فاللغة التي عبر بها أهل ود حامد عن ميلاد قريتهم و دومتهم و الرجل الصالح لم تكن لغة ميسورة لأهل الحداثة والتنمية لكنها في ذات الوقت لغة لها رصيد ضخم في أنفس وأحلام أولئك الذين يرون الدومة أو الرجل الصالح أو رموزا مشابهة على طول البلاد و عرضها. لقد فهم الساسة ذلك الأمر واستثمروه لصالح مشاريعهم المؤقتة ونزواتهم الضيقة لكن تبقى المساحة الفاصلة كما هى بين الريف والحضر، وبقى الخيال الدينى في الريف كما هو واتفق الطرفان على ألاّ يزعج أىّ منهما الآخر، و تظل القسمة كما هى بين الريف والحضر. قد يسعى أهل الحضر إلى فرض رؤيتهم للكون والأشياء، لكن ذلك لن يغير شيئا من ثلاثية الدومة/ القرية/ الرجل الصالح في وعى أهل ود حامد.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)
|
لقد تغير شكل العلاقة بين الريف والحضر في مستوى السياسة والتدين في الحضارة العربية الإسلامية، حيث كان الريف هو الذي يرفد المدن بالعصبيات الجديدة والقوى السياسة الناهضة التي تقوم بانشاء الدول. إذًا كان الريف هو مكان القوى الصاعدة التي تقيم الدول والممالك الجديدة. و حسب تعبير ابن خلدون كانت عصبيات العمران البدوى هى التي تناجز العمران الحضرى الهالك لتقيم دولتها الجديدة. ذلك لأن العمران الحضرى الذي يكون شكل الحكم فيه الملك الذي يفضى إلى الترف و الدعة. والترف في نهاية الأمر يفضى إلى الظلم الذي يؤذن بخراب العمران. لكن العمران البدوى معصوم من أن يؤول إلى هذه النهاية بسبب أنه ليس من طبيعته الترف ولا الدعة، وبالتالى لا تدعو طبيعته إلى الظلم، وانما الغاية التي يسعى اليها هى مناجزة العمران الحضرى، ودولته الظالمة لاقامة دولة و ملك جديد(11). اذًا الريادة و المبادرة السياسية كانت بيد الريف و عصبياته، لكننا الآن أمام شكل سياسى جديد حيث فقد الريف كلية هذه المبادرة و صار سلاح التنمية هو الاداة القوية لقهر الريف والتحكم في شكل العمران فيه، بالطبع لا نريد أن نخوض هنا في أمر اقتصاديات التنمية لكن تظل الملاحظة الأساسية صحيحة: وهى أن سلاح التنمية هو ليس الا مبادرة من العمران الحضرى لاحكام السيطرة على العمران البدوى. كانت آليات الحراك الاجتماعى تأتى من الريف الذي يمور بالعصبيات المتطاحنة والمتشوفة إلى آفاق أوسع وكانت المدن تتخذ الأسوار والقلاع الحصينة للدفاع عن نفسها، أى أن المدن سياسيا لم تكن في حالة طلاقة و جيشان كما هو الحال في الريف، بل هى مثال للسكون والدعة والترف. لكن في دومة ود حامد انقلب الامر تماما فكل رموز الثبات نجدها عند أهل ود حامد أولها و أهمها ذلك الميلاد الميتافيزيقى الذي يتجاوز التاريخ ـ الذي يعبر عن الثبات المطلق ـ الذي اتخذه أهل ود حامد للتعبير عن ميلاد القرية/ الدومة / الرجل الصالح. لقد تبادل الريف مقعده مع المدن وصار العمران الذي يحكم الاجتماع البشرى معاكس تماما لذلك الخط الذي رسمه ابن خلدون في مقدمته بسبب ظاهرة الاستعمار التي جعلت المدن تستند في قوتها إلى إمبراطوريات أقوى و أكبر، و ترتبط معها بعجلة السوق العالمىو تسعى إلى ربط كل أشكال الاجتماع البشرى بذلك السوق العالمى الموحد، فالدور الذي كانت يلعبه الريف في التغيير صارت تقوم به المدن تحت شعار التنمية و التحديث. اذا تحولت ديناميات التغيير من كونها كانت تأتى من الريف إلى المدن إلى الاتجاه المعاكس بسبب السكونية والثبات اللذين اكتنفا الريف وبسبب ظاهرة الاستعمار واقتصاديات دول ما بعد الاستعمار. ليس هذا الاتجاه في التحليل لرفع قيمة العامل الاقتصادى و لكن لاعطائه قيمته الحضارية في سنن الاجتماع البشرى، فان كانت الحضارة العربية الإسلامية التقليدية تسعى لتوحيد العمران الحضرى والعمران البدوى عن طريق اعلاء قيم الوحدانية في العبادة و التوجه، فان واحدا من أهم سمات الحضارة الغربية هو إعلاء قيم التوحيد القائمة على نفى الآخر و توحيد سوق الأوراق المالية، فتوحيد السوق العالمى واستخدام سلاح التنمية في ظل علاقة الهامش بالمركز هو الأساس الذي تسعى اليه الحضارة الغربية. بالطبع فان هناك قيما انسانية ونزعات و تيارات مناهضة لهذا التوجه في الحضارة الغربية نفسها، لكن تلك النزعات و التيارات ليست سوى جيوب منعزلة. واذ كان هناك ـ كما يبدو ـ سيطرة للمدن على الريف كما هو الحال في صراع ود حامد مع المركز، الا ان البعض قد يذهب إلى أن حالة ود حامد تمثل معنى آخر، ذلك لأن أهل ود حامد يدركون هذا المعنى لموقعهم من التاريخ الانسانى ويعرفون أن هذا الموقع الجغرافى كانت له سيادة و دولة فيما مضى، وأن بقايا تلك الحضارة التي سادت يوما لا زالت موجودة كما عبر عن ذلك المعنى ابراهيم ود طه راوية القرية و حافظ تراثها الشفاهى (مريود: 55)، بالطبع فان هذا الوعى بأنهم ورثة عمران حضرى ساد فترة من الزمان و باد، وأن ود حامد كانت حاضرة عامرة في يوم ما يجعلنا ننظر بنوع من التدقيق في تفاصيل العلاقة بين الريف والمدن، خاصة و ان كان ذلك الريف له وعى بميراث حضرى ضارب في التاريخ. وعليه، فان هذا ليس ريفا عاديا و انما هو مدينة متحولة إلى ريف، والخطأ الذي وقع فيه دعاة التنمية أو الحداثة هو سوء فهمهم لطبيعة العمران المتمثل في ود حامد. لكن فكرة الميلاد الميتافيزيقى لا تتكرر مرة أخرى في روايات الطيب صالح، وانما ينتقل ليعبر عن ثنائيات الميلاد الطبيعى والميلاد الاجتماعى للزين و مصطفى سعيد و ضوالبيت و بلال، وفى كل ثنائية من هذه الثنائيات يعالج واحدة من مشاكل الاجتماع البشرى للحضارة العربية الإسلامية عى وجه العموم أو للاجتماع البشرى في السودان، فقضايا القبول الاجتماعى للمعوقين، وفهم مؤسسة الرق، والغزو التركى المصرى للسودان، وظاهرة الاستعمار، فهذا كله تلخيص عميق لكل قضايا التاريخ الاجتماعى في السودان. فميلاد الزين الطبيعى يشير إلى الآليات الاجتماعية التي تتخذ لقبول المعوقين لكنها أيضا تشير إلى القيم الايجابية عندهم، بلا شك ان الأدوار التي لعبها الزين قبل ميلاده الثانى أدوار مهمة و حيوية لتسيير الحياة / اليومية في ود حامد، ولتخفيف قسوتها، ولاضفاء نوع من السخرية والضحك المحببين إلى النفوس. و ما الميلاد الاجتماعى إلاّ مواصلة لذلك المشروع دون حرمان الزين من أن يكون طرفا في الوجود الاجتماعى للقرية لا أداة تستخدمها القوى المختلفة لتحقيق أغراضها دون الانتباه إلى أن للزين رغبات مشروعة يجب أن تستوفى، و أنه يجب أن يندمج في المساحة الاجتماعية بالقرية لا أن يتخذ أداة لتحقيق مطالب ورغبات الآخرين. ميلاد الزين الطبيعى هو تعبير عن قيم التصالح الاجتماعى والدينى مع المتخلفين والمعاقين، والنظر إلى عاهتهم بنوع من الايجابية وأنها نعمة تستحق الشكر بنعمة من صاحب الفضل والمنة: نعمة يؤدى بها شكر نعمة بنعمة منه. هذا الموقف فيه وعى بظاهرة القصور المركوز في النفس البشرية، و فيه اعتراف بالضعف والتعامل معها بنوع من البصيرة التي تسعى لتجاوزه بقدرة و "بركة " علوية. فالزين يذكرنا بكل ذلك، ويذكرنا بأن الاجتماع البشرى في ظل الحضارة العربية الإسلامية يستطيع التعايش بوعى انسانى يعترف بالضعف ولا يُأله الانسان، لكنه كذلك يؤمن بالتعدد في المشاريع الانسانية المتاحة، فكل ميسر لما خلق له، و لا يجعل الحلم الجماعى قانونا ينطبق على الجميع، على الذي لديه القدرة على تحقيق الحلم و على ذلك الذي تعمل كل قواعد اللعبة على اقصائه من تحقيق ذلك الحلم. اذا كان من الممكن أن يلعب الزين هذا الدور الفريد في ود حامد، اذًا امكانات تحقيق المشروع الانسانى متاحة للجميع، لا أحد يضع قواعد للعب تجعل الآخرين مكتوفى الايدى. لا أحد له الحق في اقصاء الآخرين و الاستئثار بكل شئ، فالحلم الجماعى في القرية يعترف بتعدد المشارب والأفهام، وبالتالى تعدد الأحلام و التصالح معها. فهى رؤية للحلم قائمة على فهم مشروعية الآخر في أن يسعى لتحقيق حلمه و ان بدا غريبا وبعيد المنال. أما ميلاد مصطفى سعيد فهو يبرز ذلك التعقيد في علاقتنا بالآخر، ذلك الآخر الذي أتى بأكذوبة عبء الرجل الأبيض، ثم بوهم التنمية، ليكتشف مصطفى سعيد في النهاية جملة الأكاذيب و الأوهام دفعة واحدة في قاعة الأولد بيلى حينما تعقد المحاكمة له، وهى بلا شك محاكمة لفشل جملة من الأكاذيب والأوهام التي صدقتها الحضارة الغربية في صلتها بالآخر، بل ان الآخر كان أكثر الناس تلقيا و قبولا لتلك المشاريع الغربية، ولكن بسبب عقم تلك المشاريع و الأنانية المتأصلة فيها فهى لا تقوم الا على قهر الآخر، فالثقافة الامبريالية لا ترى في العالم غير نفسها، فلذلك هى غير مؤهلة لحمل أى عبء أيا كان نوعه، وبرغم أن الأولد بيلى قد ظهر فيها ذلك الأمر جليا الا ان مصطفى سعيد استمر في التسويف، برغم أن رجوعه إلى ود حامد و محاولته لاستئناف حياة جديدة الا ان الماضى كان يطارده. ان جرثومة العنف و التشويه الذي لحقه من جراء محاولة اندماجه في مشروع الغرب الحضارى جعل منه كائنا لا يعبر الا عن أكذوبة ذلك المشروع، لكن ود حامد لم تفقد ذلك البريق الذي يجعلها تستقبل الأبناءالذين أبعدوا النجعة وراء السراب الأجنبى، برغم طول غيابهم عنها الا انها تمتلك وهجا و ضياءا يجعلهم يختارون جوارها على ما سواه. ذلك نداء تمتلكه ود حامد حتى بالنسبة لأولئك الذين نجح الغرب في استلابهم كلية، برغم استحالة هذا النوع من الاستلاب من الناحية النظرية، الا ان نداء ود حامد اليهم لم يفقد معناه، تلك هى عبقرية المكان، تلك هى الجغرافية الفريدة التي تتمتع بها ود حامد دون غيرها، لقد أراد المستعمر في فترة وجوده في السودان محوها واثبات شئ آخر باسم التنمية لكن ود حامد بقيت كما هى بكل رموزها، و حينما عادت الكرة مرة أخرى في العهد الوطنى تحول الرمز إلى حلم عام ثم آثر محيميد ـ بعد نيله لشهادة الدكتوراة ـ العودة إلى ود حامد لقد عاد اليها برغم تغير و تبدل الحال فيها الا انه قرر البقاء فيها و ترك عمله في الخرطوم، وقد اختار محجوب البقاء فيها والعمل على تطويرها بمنطقها الداخلى، و المشاركة في صنع القرار فيها ثم التنحى، لتأتى دورة وقيادة جديدة. محجوب و محيميد و مصطفى سعيد هم بلا شك يمثلون تلك الردود المتباينة على أكذوبة عبء الرجل الأبيض. كل منهم قد تردد في لحظة من حياته بين ود حامد و بين السراب الأجنبى، بعضهم خطى خطوات واسعة في البعد عن ود حامد و بعضهم أمسك العصا من وسطها، و بعضهم انحاز إلى ود حامد جملة و تفصيلا، و كان لميلاده و مشروع حياته معنى متكاملا كما هو الحال عند محجوب، صحيح هو لم يواجه بكل قلق الأكذوبة والألم العميق الذي يدركه المرء الذي يعى اكذوبة دوره في الحياة، ربما كان لذلك القلق والألم قدرة على تكثيف النضج و جعل صاحبه أكثر قدرة على فهم الآخر، لكن المحصلة النهائية لكل ذلك هو الشخص المستلب أو الأكذوبة انما هو شخص برغم كل الوعى الذي حازه الا انه قد خسر نفسه. و عليه يبقى محجوب النموذج الأكثر تماسكا والرد الأكثر ندية و فهما لمنطق ود حامد في مواجهة الغرب. فهو لا يحتاج إلى فرصة أخرى ليعمل عملا صالحا أو ليصير مشروع حياته نهبا للتسويف و الاعتساف، كما حدث لمصطفى سعيد. يأتى بعد ذلك ميلاد ضو البيت، وهو ميلاد متعلق أيضا بعبقرية ود حامد في جذب الأخر وكسبه إلى جانبها. ضو البيت أتى منتميا إلى ود حامد دون تاريخ أو تجارب تمنعه من البقاء و التفاعل مع أهلها و الاندماج في اجتماعهم البشرى، فالغزو التركى المصرى للسودان واحدة من أكثر القضايا حساسية، لكن ميلاد ضو البيت في ود حامد بالصورة التي صورها الطيب صالح يجعل من ذلك الأمر أكثر شاعرية و ايجابية، فتجاوز هذا الأمر التاريخى الحرج على مستوى الشعر: بالحديث عن المستوى الأكثر عمقا و خطورة في الاجتماع البشرى هو الذي جعل ميلاد ضو البيت في ود حامد يضئ كثيرا من المعانى الغائبة حينما يدرس التاريخ في مستواه السياسى السطحى. وعلى أية حال، فقد اختار ضو البيت ود حامد اختيارا واعيا و كاملا و اندمج بالكلية فيها، الفرق بينه و بين مصطفى سعيد أن الأخير لم يطلق عالم جين موريس نهائيا، لقد كانت تلك الغرفة الخاصة التي بناها في بيته في ود حامد دلالة واضحة على حنينه لماضيه. أما ضو البيت أتى لود حامد بدون هوية باحثا عن هوية ومعنى جديد في حياته، لقد راقت له ود حامد و ألف طرائق العيش فيها وصار جزءا منها. و ضو البيت هو مؤشر لامكانات الصراع الداخلى في اطار الحضارة العربية الإسلامية، وقدرتها على قبول التعدد العرقى واللغوى و سعيها للتوحيد على آصرة العقيدة لا على أساس سوق الأوراق المالية. فعبقرية المكان في ود حامد لم تنجح ـ فقط ـ في كسب أبنائها بعد طول الشتات، و انما نجحت كذلك في كسب أناس آخرين مثل ضو البيت رأوا فيها مكانا يكرم فيه الضيف ويلجأ اليها في الشدة. اذًا هى ليست نداء قويا لأبنائها في الشتات، وانما لها جاذبية خاصة تدعو الآخر ليصير جزءا من مشروعها الانسانى. ذلك هو النجاح، وأى نجاح بعد هذا؟ ان كان المشروع الاستعمارى قد خطط بجد لربطها بالسوق العالمى عن طريق ربطها بالمدن الأكبر منها في البلاد و تدمير مقدراتها الثقافية و الاقتصادية باسم التنمية، فان ود حامد نجحت في تحقيق تنمية قائمة على منطقها الداخلى و حاجة أهلها كما فهمها محجوب و ضو البيت، و كذلك نجحت بصورة جزئية في انهاء حالة الشتات لبعض أبنائها، و ذهبت لأكثر من ذلك باستقطابها للعناصر القوية في الاطار الجغرافى الإسلامى. أما ميلاد بلال فكان ذلك لمعالجة أكثر الأمور حساسية في تاريخ الاجتماع البشرى في السودان، وهو أمر مؤسسة الرق. و كان ميلاد بلال الطبيعى و الاجتماعى هما محاولة لتقديم رؤية جديدة لتلك المؤسسة، فموقع بلال في المساحة الاجتماعية و الدينية للقرية بعد ميلاده الاجتماعى يذكرنا بالرجل الصالح ـ ود حامد صاحب القرية ـ فهو رمز لكل القرية لوجودها و خيالها الدينى، لكنه مثل بلال كان عبدا مملوكا، ربما كان بلال أفضل منه ـ بالمقاييس الاجتماعية السائدة حينذاك ـ لأنه ينتمى من جهة والده إلى واحد من بيوتات القرية ذات النسب. الشئ الذي يدعو إلى التأمل هو موقع النزعة العرقية في أنفس أهل القرية، و إلى أى مدى يرون أنفسهم من سلالة أو عرق مغاير لأعراق عبيدهم؟ و ما هى التبعات الاجتماعية و الاقتصادية و الدينية لهذه النزعة في فهم الذات في مواجهة الآخر؟ بلا شك بلال هو واحد من النماذج لكنها أسوأ نموذج يمكن أن تنتجه مؤسسة الرق ـ كان عبدا هملا ـ بالرغم من كل ذلك كانت هناك آفاق من الريادة الدينية و الاجتماعية والاقتصادية ـ بالطبع ـ تنتظره. صحيح أن القرية في زمان بلال قد حدثت فيها تغيرات أساسية ـ على مستوى وعى النص بالمؤسسة الدينية ـ في التعبير عن المؤسسة الدينية، حيث صار الشيخ نصر الله ود حبيب ـ وهو قطب زمانه ـ اماما للجامع. بالطبع فان الحقبة التاريخية التي عاش فيها بلال كانت سابقة لفترة عرس الزين، برغم أن قصة عرس الزين سبقت قصة بندر شاه (مريود). لكن على أية حال اذا نظرنا إلى النصين فان قرية ود حامد كانت أحوج ما تكون للتصالح و التوحد في زمان عرس الزين بسبب الانقسامات و الثنائيات التي كان يعيشها المجتمع. أما في بندر شاه (مريود) فالوحدة كانت السمة الغالبة، فالمؤسسة الدينية لم تنقسم على نفسها بعد، ولذلك كان المجتمع أكثر قدرة على اخراج نماذج تتجاوز ثنائيات العبد / السيد، بل و تستبدل ذلك النموذج بجدلية يكون فيها العبد عبدا و سيدا ويحقق معانى تسيده عن طريق كمال عبوديته. أخيرا، فان مسألة الميلاد في أدب الطيب صالح تعبر عن اشكال التعقيد و التوتر بين المطلق و المتجذر، و كيف يمكن التعبير في المستوى الاجتماعى أو الميتافيزيقى عن الميلاد، فالوعى التاريخى عند أهل ود حامد يسمح بأن يعطى الشخص فرصة ثانية لكنه يتخذ طقوسا لجعل ذلك الميلاد الثانى ممكنا على الصعيد الاجتماعى. اذ يمكننا القول بأن البناء الاجتماعى في ود حامد له آليات طقوسية لقبول الشخص مرة ثانية والتعامل معه على أساس الميلاد الجديد، او ما أسميناه بالميلاد الاجتماعى، اذ ان هذه المرونة الاجتماعية تدل على قدرة فائقة على قبول الآخر برغم الثبات الظاهرى في حالة الاجتماع البشرى في ودحامد.
الفصل الثاني الزواج
1. : تتداخل في معنى الزواج قضايا متعددة تمثل أمورا أساسية في صلة الأنا بالآخر، على مستوى الحب أو مستوى الجنس. الأدب الذي يتحرك الطيب صالح من خلاله هو أدب له رؤيته لمعنى الجنس و الحب. ان الرؤية الدينية في الأساس تنطلق من عاطفة الحب، و هى ذات العاطفة التي تكتمل بها رؤيتنا للآخر. لكن للجنس دورا آخر هو تفريغ هذه الصلة من معنى العبودية إلى معنى الاستعباد، فالوله الذي يجده المحب يتحول في صلة الجنس إلى معنى للقهر والامتلاك. فكلاهما: الجنس والحب، معانى فيها من التطرف و الغلو الذي يجعل المحل الذي يشغله أى منهما عاجز عن احتمال أكثر من وجود في داخله، لذلك إما أن ينفى الآخر ـ في حالة الجنس ـ أو يفنى هو في ذات المحب، في حالة العشق. حاول الطيب صالح التعبير عن هذه المعانى من خلال فهم فرويدى للجنس، و فهم وجودى صوفى للحب. كل ذلك عبر عنه في مؤسسة في غاية الحساسية و التعقيد في ظل الثقافة العربية و الإسلامية، تلك هى مؤسسة الــزواج. نختار ـ من بين نماذج العرس التي ظهرت في أدب الطيب صالح ـ عرس الزين و نعمة بيت حاج ابراهيم، و عرس عشا البايتات و بنت الناظر، ليمثلا معا وجها من مؤسسة الزواج، و زواج مصطفى سعيد من جين موريس، وود الريس من حسنة بنت محمود لتمثيل وجه آخر لتلك المؤسسة، ثم زواج بلال من حواء بنت العريبى كوجه ثالث لنفس المؤسسة. كان حدث العرس (عرس الزين / عرس عشا البايتات) عند كليهما قبولا و تتويجا لهما في السياق الاجتماعى الذي عمل ردحا من الزمان على تجاهل المساحة الاجتماعية التي يحتلها أى منهما. لم يأخذ الناس الزين وكلامه مأخذ الجد، و انما هو مهرج يصلح فقط لإضحاك الآخرين واكتشاف الجمال في القرية والترويج له، لكن أن يكون له الحق في ان يُستمع إلى صوته كما يستمع لأقرانه فذاك امر بعيد المنال ولا يسعه الخيال الاجتماعى في القرية. كذا الحال بالنسبة لعشا البايتات، فهو على هامش الحياة يكد و يكدح طوال يومه، لكن لا أحد يعترف بوجوده الاجتماعى، خاصة اذا أراد أن يكون صهرا للناظر، الذي يمثل جزءا من ارستقراطية ود حامد، والتى بالطبع لا تحفل بوجود عشا البايتات الا اذا كان مؤديا لها فروض الولاء و رافعا عنها عنت و مشقة الحياة في ود حامد، أما كونه انسانا له مطالب و أشواق مثلما لبقية أهل ود حامد فذاك أمر لا يصبر عليه. كلاهما ـ الناظر وامام الجامع ـ يمثلان ذلك الوجود الاجتماعى الذي لا يرى في الآخرين الا درجات تستخدم ليرتفى بها إلى المجد. و أراد الطيب صالح بزواج الزين و عشا البايتات أن يبين ضعف تلك الاسطورة الاجتماعية، وانها ما نشأت الا بحبل من الناس، وان كليهما ـ الناظر والامام ـ أضعف في ميزان الحق في مواجهة القيم الانسانية التي يمثلها الزين و عشا البايتات. لم يكن أحد يتصور أن يفضل الزين على الناظر أو امام الجامع، و ان يكون الاعتراف الاجتماعى بالزين برغم أنف الناظر و امام الجامع. و ما من أحد يصدق أن الناظر سيرضخ ويكون البوابة التي من خلالها يدخل عشا البايتات إلى آفاق المجد الاجتماعى، و أن يكون أول من يعترف بوجود عشا البايتات اجتماعيا في ود حامد هو الناظر الذي سيصير عشا البايتات صهرا له. أما زواج مصطفى سعيد من جين موريس، وزواج ود الريس من حسنة بنت محمود فذلك يمثل معنى آخر للزواج، فيه تتجلى علاقات الصراع والقهر و محاولات استخدام الجنس للتعبير عن تلك المعانى، فيقع العنف و العنف المضاد في محاولة يائسة لامتلاك الآخر، هذه الأنانية الفائقة تستخدم رموز التراث و الصراع بين الشمال والجنوب أو المستعمِـر و المستعمَـرلاضفاء معانى وقيم نبيلة على ذلك الصراع لتبرير تلك الوحشية وذلك الاصرار. فمصطفى سعيد ما جره للزواج من جين موريس الا فشله و انكساره تجاهها: هى ذلك الوجه القبيح له، هى تلك النقاط المظلمة فيه، هى الرغبة المقيتة في قهر الآخر. لكن حين يعى ذلك الآخر بتلك الرغبة أو يكون هو تجسيدا لتلك الرغبة، حينئذ لن تنفع أى محاولة للخداع، و تكون مؤسسة الزوجية أخطر العلاقات التي يمكن أن يعبر فيها عن ذلك الصراع الدفين. صراع ليس فيه ضحية و معتدى، فالضحية مشارك في فعل الصراع ومثير للعدوان. و يتكرر هذا الأمر مرة أخرى في زواج ود الريس من حسنة بنت محمود، فود الريس قد حركه ذلك الشبق الغالب في احتواء الآخر، لكنه أفصح عنه بأنه: يريد الزواج من أرملة مصطفى سعيد، فهذا أمر تقبله تقاليد القرية و أعرافها، فهو ما طلب معصية ولا خروجا عن تلك التقاليد، بل يُرى النبل في فعلته تلك، ويُرى سوء الأدب في رده على أعقابه. لكن حسنة بنت محمود كانت تريد شيئا آخر لأنها رأت في طلب ود الريس ذلك الوجه القبيح من طلبه. هذا الصراع بلاشك لا تحتمله مؤسسة الزواج. فود الريس قد رأى انكساره و فشله في قهر الآخر في عينى حسنة بنت محمود، رأى ذلك مجسدا في رفضها له، وقد رأت فيه معانى قهر الآخر عن طريق استخدام أنبل القيم، كلاهما ضحية و قاتل، و الجنس هو المخرج للتعبير عن هذا السقوط الاسطورى. مصطفى سعيد رأى في زواجه من جين موريس خاتمة لغزواته الجنسية ضد الشمال، رأى في ذلك تتويجا خادعا لانتصاراته على الغرب. لكن ذلك الأمر لم يدم طويلا فسرعان ما اكتشف أكذوبة ما يمثله و أكذوبة ما يتعلل به في البقاء في ساحة المواجهة مع الغرب، فلا هى تمثل الشمال و لا هو يمثل الجنوب، كلاهما جنون شبق لتحطيم الآخر. كلاهما يسعى لصيغة قانونية لتبرير انحطاطه. أما ود الريس فقد عبر بلسان ذلق عن غزواته الجنسية شرقا و غربا و جنوبا و شمالا. و جمع بين أصناف النساء باسم مؤسسة الزوجية كان يبحث عن معنى قهر الآخر و اكتشاف الآخر لذلك القهر، لكنه لم يرَ ذلك الأمر في كل زيجاته على تعددها و اختلافها. فهو برغم تعوده على أفخاذ النساء الا ان بغيته كانت شيئا آخر، كانت حلما مريضا في قهر الآخر والتلذذ باكتشاف الآخر لذلك المعنى. كانت حسنة بنت محمود أقدر الناس على الوعى باختلال هذه العلاقة و بالبعد الدموى الذي تحتويه، كانت ضحية لعدوان ود الريس، ومثيرة لذلك العدوان بخروجها على أعراف و تقاليد القرية المرعية. و صارت مؤسسة الزوجية ساحة للصراع بين الماضى و الحاضر، و محلا لتوجيه ذلك العنف الاسطورى ضد الآخر. أما زواج بلال من حواء بنت العريبى فذلك معنى آخر لصلة الأنا بالآخر، فهى صلة من لا همة له بالنساء لانشغاله بحاله عمن سواه، ولا يقدر على لفت نظره إلى الحكمة من الشهوة الا من تجلت في نفسه لطائف القدرة الإلهية وصفاء الحكمة في جعل الصلة بالآخر مودة وسكنا، لا يُلزم النفس بالوقوع في حرب مفتعلة بين العشق و التوحيد، فان إرادة المحب تتجه بكليتها إلى الحبيب الأول، لكنها تطيعه في الانصياع لمحاسن الفطرة من التزوج دون الوقوع في آفة الزواج وهى الانشغال عن الحبيب الأول، والا يكون الزواج آلة للشيطان ومطية لتغير الوجهة، وانما هو أمر جُـعل حتى يفرغ القلب لما هو أهل له وهو كمال الذكر و دفع غائلة الشهوة و العنت بالترغيب في النكاح. تلك معانى دارت في خلد بلال حينما قبل الزواج بحواء بنت العريبى، بعد توجيه شيخه له على سبيل المقارنة بين حبها له و حبه لله، حتى يتضح معنى الحب في ذهنه، وتلك القيم وعتها حواء بنت العريبى بسبب خبرتها بعاطفة الحب الخلاق من خلال طول اختبارها لأنواع الرجال واحوال نزواتهم. فهى أفضل من وعى موقع الآخر في الحب، و كانت أقدر الناس في
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)
|
[منح الحب لمن يلونها من ذوى المودة والسكن. لقد اختار الطيب صالح ذلك النموذج الغريب للتعبير عن هذه الصلة الفائقة لمؤسسة الزوجية التي لا تشغل الانسان عن قيمته الوجودية. أما زواج مريوم من مريود، فهو ذلك الاتصال بالآخر الذي لا ينفيه ولا يثبته و لا يتصل به و لا ينفصل عنه، هو ذلك التحقق الاسطورى لمعنى التوحد بالمتجذر دون فقدان الرغبة في المطلق، لأن المتجذر ليس الا معنى من معانى المطلق، لذلك تصير الصلة به وهم لا يتحقق في عالم الكون و الفساد، فهو قيمة تعبر عن معنى الزواج المطلق. من خلال هذه النماذج الثلاث حاول الطيب صالح التعبير عن مفاهيم الحب والجنس في الاجتماع البشرى المعاصرفى ضوء الحضارة العربية الإسلامية. فمؤسسة الزواج عنده أو " باب النكاح " عند الفقهاء تكتنفه أكثر الصيغ القانونية تفصيلا، لكن في ذات الوقت تنبه الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية وسير الصالحين على أهمية المعروف والاحسان لضمان نجاح المؤسسة في تحقيق أغراضها، و الناظر في " باب النكاح " عند الفقهاء يراع كثيرا حينما يجد أن من معانى عقد النكاح أنه نوع من الرق، حتى أن كتب التصوف لم تخلُ من هذا المعنى: (و القول الشافى فيه ان النكاح نوع رق. فهى رقيقة له. فعليها طاعة الزوج مطلقا في كل ما طلب منها في نفسها، مما لا معصية فيه.) (احياء علوم الدين: ج4ـ6، 164). فدخولها طائعة مختارة لعلاقة السيد / العبد يقلب ميزان تلك العلاقة و يحررها من كل سلبياتها لتصير علاقة فيها من المعروف و الاحسان ما لا تستطيع أى علاقة أخرى في صلة الأنا بالآخر التعبير عنه. تمتاز الحضارة العربية الإسلامية بالواقعية في معالجتها لقضية الجنس، فالفقهاء و المتصوفة و المؤرخون لم يدخروا وسعا في التعبير عن هذا النشاط الانسانى دون ربطه بالخطيئة الأولى كما في اللاهوت المسيحى، او الاسفاف و الذهاب إلى تشويه سير الأنبياء و الصالحين كما في الكتب المقدسة عند اليهود. هذه الواقعية و الوضوح تجدها في كتب السيرة و السنة و الفقه و الأخلاق و التصوف. ولعل أطرف ما يمكن الاستدلال به ما ذكره الغزالى: " وقال فياض بن نجيح: اذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله، و بعضهم يقول ذهب ثلث دينه. وفى نوادر التفسير عن ابن عباس رضى الله عنهما: (ومن شر غاسق اذا وقب) قال: قيام الذكر. و هذه بلية غالبة، و اذا هاجت لا يقاومها عقل ولا دين. " (الاحياء: ج4ـ6، 109)، وقد ذكر الامام الغزالى هذا في مجال الترغيب في الزواج و الحض عليه. لقد استخدم الطيب صالح كل هذا التراث للتعبير عن مفاهيم الحب و الجنس و تشكلاتها في ظل الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة. بالرغم من أن الطيب صالح قد أكد على استخدامه الجنس في رواياته بالمعنى الفرويدى الذي عبر عنه فانون في فهمة لظاهرة الاستعمار الا انا نجد ذلك الحضور للتراث العربى الإسلامى في رواياته، و ربما ذهب إلى تلك الدعوى العريضة لينفى عن نفسه تهمة استخدام الجنس بغرض الاثارة الرخيصة، لكن على أية حال يظل السؤال الأساسى هو هل من الممكن التعبير عن الجنس باعتباره واحدا من أوجه النشاط الانسانى في الأدب؟ كما عبر عنه الفقهاء والمؤرخون و أصحاب السير و السنن دون مواربة أم أن هناك موانع وضوابط حضارية ؟ و إلى أى مدى يمكن اعتبار تلك الموانع بأنها من باب لزوم ما لا يلزم؟ و هل يصلح الفقه لفهم الأدب أم اننا نحتاج إلى فقه جديد لفهم مآلات التدين في الأدب؟ و كيف يمكن الوعى بتلك المقتضيات لانتاج أدب يرتفع لمستوى الوعى الحضارى، و يعبر عن أشواق الانسان وتشوفاته؟ هل من الممكن ان نستدعى عوالم "ألف ليلة و ليلة" في التعبير عن موقع الجنس في الأدب، و نتجاوزها إلى آفاق أرحب و أنضج دون أن نتهم بالوقوع في حمأة الاستعباد للرغبات الرخيصة أو التبشير بقيم اخراج الناس من عبودية الله إلى عبودية شهواتهم؟ كل هذه الاسئلة تعيننا على فهم معانى الحب و الجنس كما طرحها الطيب صالح في رواياته: هى أسئلة لا يسعنا أن نصدر فتوى بشأنها، لكن يسعنا أن نفهم الأسباب التي جعلتنا نطرحها بهذه الكيفية، حتى تعيننا على فهم التشكل الذي آلت اليه الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة، و حينما ينقدح الوعى بتلك الآفاق في أنفسنا نكون أقدر على اصدار الفتاوى بشأنها، لكن لما يقع ذلك الأمر سنحتاج لأن نتعلم الكثير لفهم تشكلات الوعى الدينى المعاصر كما ينعكس في الأدب الذي يتيح لنا خبرة و دراية بقضايا تشكلات الشخصية المعاصرة والاجتماع البشرى الذي تتحرك فيه، حتى نمتلك فصل الخطاب. اذا هذه النماذج الثلاثة التي استخدمها الطيب صالح للتعبير عن مفاهيم الحب و الجنس في إطار مؤسسة الزوجية هى نماذج تسع كل امكانات التشكل المعاصر و تثير كثيرا من القضايا الحيوية حول معانى المعروف والاحسان على المستوى الأخلاقى و قضايا المودة و الرحمة و السكن، على المستوى النفسى. كيف يمكن أن تتحقق مقتضيات حفظ النوع الانسانى في ظل هذه النماذج الثلاثة؟ و هل يصح القول بأن مؤسسة الزوجية قصد بها حفظ النوع و أن المآلات الحقيقة لمعانى الحب و الجنس هى تحقيق ذلك المقصد؟ ام أننا نواجه بمسائل تقتضى وسائل و مناهج جديدة لفهم هذه المعانى في ظل هذه التشكلات الجديدة؟ بالطبع فهذه ليست دعوة لمراجعة كل شئ، وانما دعوة لفهم أصول هذه القضايا لفهم واحدة من أهم المؤسسات الاجتماعية التي أخرجتها الحضارة العربية الإسلامية، و قام الفقهاء بتعميق هذا الوعى عن طريق الأدب الثر و التراث الفقهى الذي يعكس تجارب اجتماعية عميقة في تدبر آيات النفس و الآفاق و الاجتماع البشرى. لكننا ازاء واقع مختلف أفصح عن بعض قضاياه من خلال تلك النماذج الثلاثة، فلذلك نحن أحوج ما نكون إلى تدبر لآيات النفس و الآفاق و الاجتماع البشرى، لفهم ومعالجة قضايا ذلك الأمر. الوصف الذي طرحه الطيب صالح لمؤسسة الزواج في الحضارة العربية الإسلامية من خلال هذه النماذج الثلاثة معبرا عن وعى معين بمفاهيم المعروف والاحسان و المودة والرحمة و السكن و قضايا الحب و الجنس ـ من خلال تلك المؤسسة الاجتماعية الهامة في الحضارة العربية الإسلامية ـ يثير كثيرا من المخاوف بل ينذر بأخطار تهدد تلك المؤسسة، حيث ان الخيال الاجتماعى الدينى قد حدثت فيه تغيرات خطيرة على مستوى فهم قضايا مؤسسة الزواج، وربما جعلنا ذلك نقول بأن كثيرا من قضايا مؤسسة الزواج التي تبنتها الحركة الإسلامية المعاصرة وليدة التحرشات الفكرية التي أصدرتها مؤسسة الاستشراق، و صارت مسألة المرأة في الإسلام هى في الغالب الأعم ردا على تلك التحرشات أو محاولة للخروج من مأزق التقاليد الدينية التي جعلت مؤسسة الأسرة أكثر المؤسسات قمعا و أضعفها في تحقيق معانى الحب و الجنس والمعروف والمودة و الرحمة و السكن، وهذا الأمر انعكس سلبا على الحركات الإسلامية و على وضع المرأة و إسهامها. لا شك في أن التحليل الذي قدمناه فيه كثير من التعميم، لكنه ليس تعميما مخلا، وواحدة من نقاط القوة فيه أنه يتخذ صور التشكل الاجتماعى المعاصر للحضارة العربية الإسلامية ـ كما انعكست في الأدب ـ مادة للتحليل و يشير إلى أهمية هذا المصدر في فهم القضايا المثارة بصورة أكثر واقعية والدعوة إلى عدم الانعزال في التراث او الركون إلى الرد على التحرشات الفكرية الغريبة، و انما التعويل على فهم منطق التطور الداخلى لمؤسسة الأسرة أو لقضايا الحب و الجنس في الحضارة العربية الإسلامية.
2. عرس الزين/ عرس عشا البايتات لقد ربط الطيب صالح بين عرسيّ الزين وعشا البايتات برباط وثيق في بناء روايتي عرس الزين وبندر شاه (ضو البيت). صحيح أنه أشار إلى عرس عشا البايتات في رواية عرس الزين لتسويغ أمر وقوع عرس الزين "... لكن عبد الصمد ضاق ذرعاً بطلاوة لسان شيخ علي، فقاطعه بشيء من الحدة قائلاً: (أنت رايح بعيد ليه كثير عزة وقبيلة الابراهيمات؟ عند سعيد البوم.. ماك طاري حكاية عرسه). (عرس الزين: 94) لكن يبدوا لأول وهلة أنه لا يمكن إعتبار عرس سعيد الذي أشير إليه في رواية عرس الزين هو ذات العرس الذي أشار إليه الطيب صالح في رواية ضو البيت لجملة أسباب أهمها أنه في رواية عرس الزين أشير إلى أن عرس سعيد البوم قد وقع قبل عرس الزين وثانيهما أن الناظر في رواية عرس الزين قد شهد عرس سعيد وكان ذلك مفخرة يفاخر بها سعيد. بل أن عرس سعيد في رواية عرس الزين كان أمراً طيباً يخفف على الناظر صدمة وقع عرس الزين عليه إذ أنه قد خطب نعمة بنت حاج إبراهيم ولكنه رُدّ بصورة أحس فيها الناظر بإهانة بالغة "دخل الناظر في الموضوع وبسرعة طلب يد نعمة من أبيها. لم يفهم حاج إبراهيم شيئاً أول الأمر، أو لعله تغابى...” (عرس الزين: 92) ثم يمضي الحوار بين الناظر ووالد نعمة إلى نهايات جرّدت الناظر من كبريائه الزائف، صحيح أن والد نعمة لم يهن الناظر بكلامه لكن الناظر قد فهم لأول مرة موقعه الحقيقي في نظام القرية الاجتماعي وهو أنه ليس في استطاعته أن ينال كل شيء بسبب تربعه على قمة النظام الاجتماعي في القرية. والذي حزّ في نفسه أكثر هو كونها ستزف للزين “لكن الناظر في قرارة نفسه، على الرغم من اقتناعه بخطئه، لم يستطع أن يتخلص من الطعم المر في حلقه. ولما سمع بأنها ستزف للزين دون سائر الناس أحس الخنجر ينغرس أكثر في قلبه.” (عرس الزين: 92). أما في رواية ضو البيت فنجد أن عرس الزين كان سابقاً لعرس سعيد عشا البايتات "على الحرام أخوك عرس عرساً خلى الناس تنسى عرس الزين" (ضو البيت: 26) ثم يستطرد عشا البايتات في مكان آخر مقارنا بين عرسه وعرس الزين “عرس الزين بقى جنبه زي الطهورة” (ضو البيت: 32) والأمر الآخر هو أن سعيد عشا البايتات قد تزوج بنت الناظر بصورة فيها كثير من الإذلال الإجتماعي للناظر. “عرس الزين كان أعجوبة. أما أن سعيد البوم يصبح صهراً للناظر بجلالة قدره، فهذه هي المعجزة" (ضو البيت: 26) فقد كان رد الناظر على سعيد حينما طلب يد إبنته أن قال "... أنت سعيد الوسخان العفنان تتزوج بنتي أنا؟” (ضو البيت: 30) لكن سعيد البوم لم يكن غشيماً لا يعرف مآلات كلامه فقد أعد العدة لهذه اللحظة كان الناظر يستغله طوال تلك السنوات دون أن يدري ما أعد سعيد له لم يكن يعرف بأنه سيكون البوابة التي من خلالها سيحقق سعيد مجده الاجتماعي ليصير بدلاً من سعيد البوم سعيد عشا البايتات، بل أنه بعد ذلك قد صيّر الناظر طوع بنانه يحركه حيث يشاء كما قال عشا البياتات "الناظر بقي في أيدي زي العجين. أقول له يمين يقول يمين أقول شمال يقول شمال.. (ضو البيت: 32) بل أن سعيد عشا البايتات قد تجاوز أمر كونه صهراً للناظر إلى أفق اجتماعي أرحب من ذلك "فقال باختصار: "ناظر شنو؟ أنا فاضي في الناظر ولا حتى في العمدة أنا عندي القروش ـ على الحرام في اليوم العلينا إن درت بنت العمدة آخدها" (ضو البيت: 33) لقد صار المال هو الذي يحدد مساحة الوجود الاجتماعي في القرية في نظر سعيد عشا البايتات لعلّ الفرق بين سعيد والزين هو أن عرس الزين جاء تحقيقاً لنبؤة الحنين وقبله الناس ضمن قبولهم لكل ما حدث في عام البركة من أحداث تحيّر العقول أما عرس سعيد عشا البايتات من بنت الناظر فقد جاء تتويجا لمكر بالغ الإحكام من قبل سعيد تجاه الناظر فهو يمثل مكر الضعفاء قبالة غفلة الأقوياء. وكيف أن لعبة القوة والضعف متغيّرة و لا تستقر على حال. صحيح أن الزين وعشا البياتات قد احتلا مكانهما الاجتماعي الجديد بعد حدث العرس لكن الزين قد تحدد موضعه الجديد ضمن نسق الأشياء والأحياء في ود حامد بينما عشا البياتات شارك في إحداث زلزال في ود حامد أفضى إلى خلق نظام جديد. كان سعيد في رواية عرس الزين يحلم ببنت الناظر ولم يكن نسق الرواية يسع ذلك الحلم بسبب طغيان مغزى التصالح على الصراع والتغير ولما كانت رواية ضو البيت قد وسعت ذلك المعنى فقد بدا سعيد البوم فيها سعيد عشا البايتات فقد اشترى اللقب الجديد بماله كما اشترى أن يكون صهرا للناظر بماله ومكره ورغم تنكره لمجموعة محجوب وانحيازه إلى صف أولاد بكرى إلا أن مجموعة محجوب لم تر في ذلك من بأس ربما بسبب هامشية مكر عشا البايتات. وربما ـ كذلك ـ بسبب هامشيته في معسكر محجوب فهذه الهامشية المزدوجة هي التي جعلت محجوب يستنكف على الرد على دعاوى أولاد بكرى في ذلك الاجتماع المشهود تحت شجرة السيال حينما وقف عشا البايتات منتقدا محجوب وجماعته. لأمر ما أراد الطيب صالح الربط بين عرس الزين وعرس عشا البايتات في روايتي عرس الزين وضو البيت ولشأن آخر جعل عرس سعيد سابقا لعرس الزين في رواية عرس الزين وعرس الزين سابقا لعرس سعيد في رواية ضو البيت. وفي كليهما يكون العرس السابق مسوغا للعرس اللاحق ويكون العرس اللاحق أروع وأجل من سابقه. يبدو أن عرس سعيد في رواية عرس الزين لم يكن ذات العرس الذي تحدثت عنه رواية ضو البيت بسبب اختلاف المرأة واختلاف موقع الناظر من ذلك العرس. وأهم من ذلك كله هو بقاء سعيد على لقب سعيد البوم وظل يحلم ببنت الناظر حلما بعيد المنال. لعل الطيب صالح رأى في عرس الزين مثالية عبرت عن قيم مجتمع في طريقه إلى الزوال، زواج الزين من نعمة لم يكن أمرا غريبا فهي إبنة عمه، والشيخ الحنين مهد لذلك الأمر بقوله"باكر تعرس أحسن بت في البلد دي" (عرس الزين: 67) ونبوءات الشيخ الحنين لاتكذب. ونعمة نفسها كانت مؤهلة لذلك الأمر الغريب وتسعى لأن تنال شرف تضحية عظيمة، رغم أنها كانت رائعة الجمال وجليلة النسب وتمناها خيرة الشباب وبادروا لطلب يدها وراودت أحلام الشيب إلا أنها اختارت الزين. لم يكن في الزين شيئا يمكنه أن تتمناه أنثى في سنها ولم يصرح النص بأيِّ جاذبية جنسية بينهما بل على العكس من ذلك فهي قد أحبت فيه أمراً يتعلق بتحقيق معنى التضحية فهو ـ فقط ـ محل لتلك التضحية العظيمة التي كانت تتشوف إليها. لكن عرس سعيد عشا البايتات في رواية ضو البيت كان أكثر واقعية في التعبير عن قيم المجتمع الجديد المال والمكر يمثلان الأساس في قوانين النظام الجديد، فحينما اتصل سعيد بالقوى الماورائية بعد آذان الفجر في ذلك اليوم المشهود في رواية ضو البيت لم يوعد بالزواج من أحسن امرأة في البلد كما وعد الزين من قبل في تلك الليلة المشهودة وإنما أعطى كنزا من المال. لقد حقق سعيد حلمه في أن ينال بنت الناظر وينتمي لطبقتها ثم يتجاوز كل ذلك إلى أفق اجتماعي أرحب بسبب مكره وحسن تدبيره وسرعة تغييره لولاءاته الاجتماعية. كل هذه المعاني وسعتها رواية ضو البيت ولم يكن ذلك ممكنا في رواية عرس الزين، لكن رغم كل ذلك يظل سعيد عشا البايتات صورة أكثر واقعية للزين وتظل معاني الجنس ومؤسسة الأسرة التي يسعى أيِّ منهما لتحقيقها هي ذات المؤسسة التقليدية كما سنبين هذا الأمر لاحقا. إذن فالربط الذي أراده الطيب الصالح لعرس الزين وسعيد عشا البايتات ربطاً فيه محاولة لفهم مآلات معني الجنس والحب في إطار مؤسسة الأسرة كما فهمها الزين وسعيد عشا البايتات وكيف أن هذه المؤسسة هي جزء من كل اجتماعي يُعبر فيها عن قيم قبول الآخر المشوه خلقياً أو اجتماعياً ضمن غنائية وطقوس اجتماعية بالغة في التعقيد من خلالها يعبر عن معنى الجنس بلسان زلق في إطار مؤسسة الأسرة. بعد هذه المقدمة المطولة لنحاول التعرف على تراتيب القبول الاجتماعي والغنائية والطقوس الاجتماعية التي اتخذت للتعبير عن عرسي الزين وعرس سعيد عشا البايتات. ولنبدأ بعرس الزين ـ لاشك أن الزين كان خبيرا بمعرفة الجمال وكان يطرب للجمال ويستبد به فيصرح بذلك خلافا لتقاليد القرية وأعرافها. و الأهم من كل ذلك كانت القرية تشهد له سلامة ذوقه، كل ذلك والزين وما هو عليه من قبح ينسيك معنى القبح: فهذه المفارقة الطريفة المتمثلة في رهافة الحس والانصياع إلى الجمال قبالة القبح المبالغ فيه لدى الزين جعلت منه مجرد مكتشف لقيم الجمال في مجتمع تقليدي محافظ مثل مجتمع ود حامد لا يخشى من الزين على سمعة من يتشبب بها الزين وإنما يكون ذلك بمثابة إعلان عنها حتى ينتبه الناس إلى من تشبب بها الزين ويكثر خُطّابها وسرعان ما تزف لأحدهم، تلك كانت وظيفة الزين منذ أول مرة عرف فيها الحب " قتل الحب الزين أول مرة وهو حدث لم يبلغ مبلغ الرجال، كان في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة نحيلا هزيلا كأنه عود يابس" (عرس الزين: 25) ذلك القبح الظاهري الذي في الزين كان يغلف قلبا نابضا بمعاني إنسانية فائقة تجلت في صلاته الاجتماعية المختلفة وتجلت كذلك في قدرته على اكتشاف الجمال "ومهما قال الناس عن الزين فإنهم يعترفون بسلامة ذوقه، فهو لا يحب إلا أروع فتيات البلد جمالا وأحسنهن أدبا وأحلاهن كلاما" (عرس الزين: 25) تلك إذاً كانت مقاييس الجمال عند الزين والتي أسهمت بقدر وافر في تشكيل معنى الجمال لدى أهل القرية، لاشك أن هذا الآخر فيه مفارقة طريفة وهو أن الزين من دون سائر أهل القرية تثق القرية في فهمه لمعاني الجمال ويكون شباب القرية تبعاً له فأينما حطّ رحاله تسارعوا لخطبة تلك التي صاح الزين بحبها. صحيح أن الأمر لم يكن سهلا على القرية في أول أمرها خاصة وأن التي صاح بحبها الزين لأول مرة هي عزة بنت العمدة "كانت عزة إبنة العمدة في الخامسة عشرة من عمرها وقد تفتح جمالها فجأة كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ" (عرس الزين: 25) ثم يستفيض الطيب صالح في وصف جمالها والأهم من كل ذلك هوأن الزين هو الذي اكتشف ذلك الجمال الذي تفتح فجأة كأن عين الزين ذلك الرقيب الجمالي الذي لا يفوته شأن من شؤون تقلبات الجمال وتصاريفه في القرية " كان الزين أول من نبه شبان البلد إلى جمال عزة"(عرس الزين: 26) وكذلك فإن القرية لم تحتمل طريقة الزين في الإعلان عن حبه لأول مرة لكنها تصالحت مع هذا الأمر فيما بعد " ارتفع صوته المبحوح الحاد، كما يرتفع صوت الديك عند طلوع الفجر "...الزين مكتول في حوش العمدة" "(عرس الزين: 26) لعل الغضب الذي نشأ بسبب تشبب الزين ببنت العمدة كان بسبب التقاليد التي تمنع الناس من التصريح بعاطفة الحب علناً لكن الزين لم يكن يأبه لتلك التقاليد كان صادقا مع ما يحس به لم يكن من طبعه إخفاء هذه العاطفة النبيلة كان ذلك هو الفرق بينه وبين أهل القرية "فوجئ الناس بتلك الجرأة، والتفت العمدة ناحية الزين وقد تحرك غضب غريزي في صدره" (عرس الزين: 26) لم يكن من طبع الزين أن يكبت هذا النداء الطبيعي والفطري فيه تجاه الجمال ولم تكن البادية السودانية ـ مثلا في ذلك مثل البادية العربية عبر البحر الأحمر ـ تقبل هذا الإعلان عن الحب. كان لابد أن يجد الناس مبرراً لقبول هذا الصدق العاطفي دون التخلي عن تقاليد القرية المرعية "وفجأة كأنما الناس كلهم، في آن واحد، أدركوا التباين المضحك بين هيأة الزين، وهو واقف هنالك كأنه جلد معزة جاف، وبين عزة بنت العمدة، فانفجروا ضاحكين كلهم في آن واحد" (عرس الزين: 26) وبسبب ذلك مات الغضب في صدر العمدة ولم ير بأسا في ما قاله الزين بل حاول استغلال هذه العاطفة لدى الزين وسخّره لأداء الكثير من الأعمال الشاقة، وأدى الزين كل ذلك بصبر وجد بسبب وعد العمدة له " الزين... إن بقيت اشتغلت شديد الليله، نعرس لك عزة" (عرس الزين: 26) ومضى شهر إلى هذا الأمر والزين يؤدي ما عليه دون أن يعي بأن العمدة قد وعده بالزواج من إبنته مستخفا به ومحاولا تجاوز الحرج الذي وقع فيه تشبيب الزين بإبنته، فلئن ضحك الناس "فجأة" بسبب المفارقة بين حال الزين وبنت العمدة وكان ذلك مسوغ لقبول جرأة الزين وتطمين النفس بأن أعراف القرية لم تتجاوز بأي حال من الأحوال لأن الذي صدر منه ذلك الأمر هو الزين لقد أنقذه قبحه المفرط قبالة جمال عزة الصاعق الذي اكتشف "فجأة" بواسطة الزين والذي جعل الناس يدركون "فجأة" تلك المفارقة العجيبة بين الزين وعزة بنت العمدة وتحول الأمر كله إلى ضحك وضحك العمدة أيضا ولكنه لم ينسى أن يمارس سلطة الاستغلال التي يمثلها ليحوّل عاطفة الزين الصادقة التي لم يستطع أن يخونها بل عبّر عنها بمسئولية بالغة وظل عند موققه إزاء عزة باذلاً كل طاقته لأن ينال الوصل منها " كنت ترى الزين العاشق يحمل جوز الماء على ظهره في عز الظهر... يسقي جنينة العمدة " (عرس الزين: 27) وإذا ماضحكت له عزة ـ ربما ـ مرة في الأسبوع لا تكاد الدنيا تسعه من الفرح، ذلك موقف عاشق صادق صابر إزاء محبه لكن الأمر الغريب هو أنه بعد مضي شهر خطبت البنت لإبن خالها والذي له وضع اجتماعي راق " لم يثر الزين ولم يقل شيئا. ولكنه بدأ قصة جديدة" (عرس الزين: 27) إذاً لقد صدق ظن أهل القرية حينما ضحكوا من الزين حينما صاح بأنه "مكتول في حوش العمدة" كأن الزين قد فهم بفطرته معنى تلك الضحكة الجماعية وكيف أن العمدة نفسه قد تبدد غضبه حال سماعه لذلك الضحك الجماعي من أهل القرية وشاركهم في الضحك أيضا بل سعى لأكثر من ذلك بأن تبنى مشروع أن يَعِدْ الزين بالزواج من إبنته إن هو اجتهد في العمل على تنفيذ مطالبه حينما صاح الزين بأنه "مكتول في حوش العمدة" كان يُعبّر عن عاطفة حب خلاق صيرته قتيلا. لذلك لم يكن يعنى ذلك أكثر من كونه قتيل تلك الدار وصريع عزة بنت العمدة، وكما بيّنا من قبل في شأن سوسيولوجيا الضحك في شخصية الزين حال حديثنا عن ميلاده، نرى ـ مرة أخرى ـ يلعب الضحك دوراً اجتماعياً بالغ الأهمية، فعن طريق الضحك استطاعت ودحامد أن تقبل جرأة الزين وتجعل منها فعلاً تقبله القرية، ولقد ذهب العمدة أكثر من ذلك حيث حوّل عاطفه الزين لأمر تسعه مؤسسة الزواج، فبادر بعرض اقتراح الزواج على الزين، ولقد فهم الجميع ـ ربما سوى الزين ـ بأن العمدة يسعى لاستغلاله ويجعله قتيل السخرة لا قتيل العشق. لا يمكننا القول: بأن أولى مغامرات الزين الغرامية كانت صدفة في بيت العمدة، فالعمدة يمثل قمة السلطة في ودحامد، والحب تمرد واستجابة عفوية، خاصة إن كان المحب من هو في مقام الزين، لقد استهدف الحب بيت العمدة وكان المخرج هو الضحك، ثم من بعد ذلك تأطير العمدة لذلك الأمر بأنه رغبة عادية من جانب الزين في الزواج من إبنته عزة، فرق بين أشواق الزين وصيحته العارمة بالعشق إزاء الجمال الذي تفتح "فجأة" في بيت العمدة وأرداه قتيلا وبين ضحك أهل ودحامد وضحك العمدة وتأطيره لذلك العشق الوهاج في إطار الزواج. كان يكفي الزين ـ حسب مقامه الاجتماعي ـ أن يكون قتيل بيت العمدة، أن يصرّح بعشقه أما أن يجد الوصل في إطار مؤسسة الزواج فذاك أمر لم يكن يسعه خيال الزين الاجتماعي فلذلك لم يطالب به وحينما زفت عزة لغيره لم يثر، يكفيه أن ينل العشق وحسب. المحطة الثانية لغراميات الزين كانت واحدة من فتيات البدو. فعرب القوز كما يسميهم سكان ودحامد يقيمون على أطراف النيل ويفدون إليه من ديار الكبابيش ودار حمر ومضارب الهواوير والمريصاب في كردفان حينما يضرب الجفاف تلك البقاع بعضهم يرجع على حافرته حيثما تنقشع سنى القحط والبعض الآخر ألف حياة الاستقرار لكنه يبقى على هامش ودحامد ويتجرون مع أهل ودحامد ويؤدون بعض الأعمال الهامشية "لايتزاوجون مع السكان الأصليين، فهم يعتبرون أنفسهم عرباً خلصاً وأهل البلد يعتبرونهم بدواً أجلافاً" (عرس الزين: 27ـ2 رغم ذلك فقد تخطى الزين ذلك الحاجز العرقي المتوهم " ولكن الزين كسر هذا الحاجز" (عرس الزين: 2 وفي أحد جولاته الجمالية التي يتطلع فيها بحثاً عن شيء ضاع منه " فحام حول البيوت كأنه يبحث عن شيء ضاع منه. وخرجت فتاة راع الزين جمالها فتسمر في مكانه" (عرس الزين: 2 حقاً ضاع منه ذلك العشق الذي فقد بزواج عزة بنت العمدة فمقام العشق يحتاج إلى محل يشغله فكانت تلك البدوية رائعة الحسن " فضحكت له وقالت تعبث به: "الزين بتعرسني؟" وتبكم برهة" (عرس الزين: 2 كيف أجاب الزين على السؤال فقد كونه أداة للاستفهام لقد" صاح بأعلى صوته "واكتلتي ياناس" (عرس الزين: 2 لعل الزين كان يعرف أنها لم تكن جادة في طلبها لكن مقام العشق أوقل مقام الزين كان أميناً مع نفسه لا يستطيع أن يخون هذا الحسن الصاعق والحديث الحلو وقال قولته بأنه قتيل لتلك الفتاة وكان يعرف ضراوة أولئك الأعراب وغيرتهم على نسائهم "وهب اخوان الفتاة على الزين، ففرّ منهم ولكن حليمه، حسناء القوز، أصبحت فيما بعد هوسا عنده لم يفارقه إلى أن تزوجت الفتاة” (عرس الزين: 2 مرة أخرى كان إعلان الزين عنها دافعا لأن يتقدم لخطبتها أثرياء البلد وشبانها المرموقين، اكتشف ذلك الجمال ودعا إليه الزين لكن استقر ذلك الحسن في سلك الطبقة المرموقة. يكفي الزين مرة أخرى مقام العشق فمقام الوصل لأصحاب الجاه الإجتماعي. فكأن مقام الجمال للجاه ومقام العشق للفقراء. فالجمال من جملة أسباب الصعود الاجتماعي وقتلاه هم الفقراء، لم يكن الزين يحس بتلك الحسرة ولايعذبه العشق الذي يورث الحرمان وإنما مقام الزين في العشق هو حالة صدق نفسي وأمانة يؤديها اتجاه الجمال لا يخونه ولايتردد في بذل ماعنده لقاء أداء تلك الأمانة. ربما يورث العشق الحسرة والحرمان لدى بقية الفقراء بسبب رغبتهم في تملكه لكن مقام الزين هو سعي للإعلان عنه. والبون شاسع بين أداء واجب الإعلان عن الجمال والسعي لامتلاكه، لقد أدرك الزين استحالة امتلاك الجمال فالمقام لايسع إلا أن يصعقك الجمال ويرديك قتيلاً له وليس لك من الأمر إلا الإعلان عن ذلك. تلك إذاً خلاصة مقام الزين في العشق. بعد هاتين التجربتين تحول الزين إلى رمز داخل مجتمع ودحامد. إلى رمز مهم في علاقات الزواج بالقرية، كأن القرية كانت في أمس الحاجة إلى ذلك الرمز الذي يؤدي وظيفة الإعلان عن الجمال والترغيب في النكاح " فقد فطنت أمهات البنات إلى خطورته، كبوق يدعين به لبناتهن. في مجتمع محافظ، تحجب فيه البنات عن الفتيان، أصبح الزين رسولا للحب" (عرس الزين: 31) تلك وظيفة أسطورية لم يكن ليؤديها في مجتمع ودحامد سوى الزين أن ينفعل قلبه بالجمال ويعلن عنه على الملأ وترهف الآذان له تم تمتد يد الخطاب إلى تلك التي انفعل الزين بجمالها وحين يقام العرس تجد الزين مسخرا لإكمال مراسيم العرس "... وكان الزين يخرج من كل قصة حب كما دخل، لا يبدو عليه تغيير ما" (عرس الزين: 31) هذا المركز الجديد أو قل الوظيفة الأسطورية في الإعلان عن الجمال وحمل رسائل الحب وانجاز مهام مابعد الحب في إطار مؤسسة الأسرة جعل نساء ودحامد يستدرجنه إلى البيوت وينصبن له مجالس الطعام والشراب ويشجعن بناتهن في المجيء وإلقاء التحية عليه والسعيدة منهن من يلهج الزين بذكرها فما تلبث أن تضمن لها زوجا. ويبدو أن الزين قد أحب هذه الوظيفة التي يحقق بها مقام العشق " ووفدت على الزين بسنوات خصب مفعمة بالحب... ولعل الزين بفطرة فيه، أدرك خطورة مركزه الجديد فأصبح يتدلل على أمهات البنات ويتردد قبل أن يجيب دعوة إحداهن للإفطار أو الغذاء" (عرس الزين: 32) لعلّ مقام الزين في العشق صار وظيفة بالغة الخطورة في ودحامد فهو المدخل للتراتيب الاجتماعية في ودحامد ويبدو الفرق واضحا بين أول مرة أعلن فيها الزين عن ذلك المقام في بيت العمدة وعن المآل الذي انتهى إليه، فقد أحب الزين هذه الوظيفة وقد دفعت نساء ودحامد بسخاء للزين لأداء تلك الوظيفةالخطره. لكن لذلك الأمر استثناء واحد ـ فقط ـ هو أن الزين لم يكن يُدرج نعمة بنت حاج إبراهيم ضمن تلك الوظيفة ولقد كرر الطيب صالح هذا الاستثناء مرتين "لتأكيد كل هذا وفي الحي فتاة واحدة لايتحدث الزين عنها ولايعبث بها" (عرس الزين: 32) ثم يكرر الجملة الموحية والمهمة في فهم صلة الزين بالنساء "كل هذا وفي الحي صبية حلوة، وقورة المحيا، غاضبة العينين تراقب الزين في عبثه ومزاحه وهزاره" (عرس الزين: 3 مرة وجدته ـ كعادته ـ وسط مجموعة من النساء يعبث ويضاحكهن فما كان منها إلاّ أن انتهرته فسكت الزين عن الضحك "وطأطأ رأسه حياء ثم انسل بين النساء ومضى في سبيله" (عرس الزين: 3 كان لها ذلك الموقع في نفسه يترك لها الطريق وتأمر فيطيع فمقام الزين لم يتجلى بالكيفية المألوفة معها ووظيفته في القرية كف عن أدائها إزاء نعمة كانت هي تعرف ذلك وهو يرى استحالة تحقق مكان الزين فيها. فهي نشيد إنشاد آخر ومعزوفة جمال يقتضيها مقام آخر فيه كمال العشق والوصل ولذلك آثر الصمت على الصياح بالقتل، هي المحل الذي جعله ينتقل من مكان إلى مكان أرفع وأعلى وأجل هي التي وعده بها من قبل الحنين ووصفها بأنها أفضل النساء في البلد، وكان الزين يعرف ذلك ـ دون شك ـ فهو الذي يصنع مقياس الجمال في القرية ويكتشف ذلك الجمال بفطرة فائقة غلابة هي التي أورثته مقام العشق أو قل مقام الزين. لاشك أن الانتقال من مقام العشق إلى مقام كمال العشق والوصل قد اقتضى غنائية وطقوس بالغة في التعقيد. لقد كانت نعمة امرأة فريدة"ولما كبرت ولم تعد طفلة أصبحت رؤوس النساء والرجال على السواء تلتفت إليها حين تمر بهم في الطريق. لكنها لم تكن تأبه بجمالها" (عرس الزين: 52) وقد تفاعلت بعمق مع معاني القرآن التي حفظتها وفاقت أقرانها ومن هم أكبر منها سناً في سرعة الحفظ وإجادته، كان لما تحفظه من القرآن قيم ومعاني في نفسها "كانت تعجبها آيات معينة منه، تنزل على قلبها كالخبر السار، كانت تؤثر مما حفظته سورة الرحمن وسورة مريم وسورة القصص" (عرس الزين: 52) أي أنها قد تجاوزت مرحلة الحفظ والترديد الآلي إلى مرحلة الفهم والتفاعل مع القيم التي يحملها القرآن في وقت قياسي "وتشعر بقلبها يعتصره الحزن وهي تقرأ عن أيوب وتشعر بنشوة عظيمة حين تصل إلى الآية "وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا" (عرس الزين: 52) لاشك أن شخصية أيوب عليه السلام قد جسدت معاني الصبر ولكن نعمة بنت الحاج إبراهيم رأت في قصة أيوب شيئاً آخر حسب بعض التفسيرات التي تذهب إلى أن "رحمة" هذه هي امرأة أيوب، وعليه تكون زوجة أيوب هذه قد اقتضى حالها تضحية عظيمة حتى يكون لصبر أيوب معنى اجتماعياً وليس مسألة فردية مجردة "وتتخيل رحمة امرأة رائعة الحسن متفانية في خدمة زوجها وتتمنى لو أن أهلها أسموها رحمة." (عرس الزين: 52) كان ذلك ما وجدته نعمة في قصة أيوب وكانت تشعر لأن يحقق مشروع حياتها شيئا مماثلا لما قامت به رحمة من تضحية عظيمة وكان يداخلها شعور غريب وهي تقرأسورة مريم، كل ذلك جعلها تشعر بعظم معنى المسئولية وتعرف موقفها في البيت وتؤدي ماعليها من أعباء بهمة عالية وتعبر عن رأيها بنضج ووضوح شديدين مما أكسبها مكانة خاصة في البيت، كانت تدري معنى التعليم لكنها رأت بحس ثاقب فوضى في المعاني التي يحدثها التعليم الذي أتى به المستعمر حيث كان أخوها الذي يكبرها يحثها على التعليم في المدارس قائلا لها "(يمكن تبقى دكتورة أومحامية) ولكنها لم تكن تؤمن بذلك النوع من التعليم" (عرس الزين: 52) كانت سيدة رأيها لا يستطيع أحد أن يملي عليها موقفا أو رأياً ـ خاصة ـ في أمر في غاية الأهمية بالنسبة للأسرة مثل الزواج فالبنت لاتستشار وإنما يحدد لها أهلها مِن مَن تتزوج ولكن نعمة كانت نسيج وحدها في هذا الشأن ولم يكن أمام أسرتها إلا الرضوخ لرأيها ورفض من ترفضه. وحينما تقدم إليها إدريس وكانت أسرتها ترى فيه كل مواصفات الزوج المثالي لابنتهم "هزت كتفيها وقالت (ما بدوره) "(عرس الزين: 54) ويبدو أن والدها قد احتد معها ولأول مرة هم بصفعها لكنه لم يستطع لأسباب كثيرة أهمها ذلك الشعور الغريب الذي اعترى والدها وهو يرى ذلك التصميم الغريب في وجهها هذه الفتاة لاشك أن من ورائها سر عظيم يعلو عن أن يعبر عنه بكلمات لكنك تحسه وأنها مأمورة بقوى غير مرئية في مسألة زواجها لذلك لا بد للأسرة أن تتخلى عن هذا الأمر لها "ومن يومها لم يكلمها أحد في أمر الزواج” (عرس الزين: 54) هذا الاستسلام العجيب من قبل الأسرة إزاء ما تحمله الأقدار لنعمة في شأن زواجها أمر لا تقبله أعراف القرية فموضوع زواج البنت هو من مسؤوليات الأب والأسرة على وجه العموم أما وإن يترك ذلك لها فذلك يحتاج إلى قوى غلابة لا يستطيع أحد ردها. لا شك أن هناك فرق كبير بين الاستسلام الكامل لتلك الأقدار وبين التسليم بها واعتبار أن أمر الزواج هذا قسمة مسطرة في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الأرض ومن عليها. ففي الحالة الأولى تعبير عن إعطاء مطلق الحرية لها وفي الحالة الثانية الرضاء بمايقع بعد وقعه. ونعمة كان بيدها أن تستسلم لهذه الأقدار التي تحسن بأنها تدفعها إلى جهة ما وتلزم أهلها بالتخلي عن دورهم والسماع لصوتها دون معاندة أو إفتئات عليها وهي في قرارة نفسها كانت تشعر بعظم المسؤولية التي ستوضع على عاتقها في شأن زواجها. إذاً أول تمهيد اقتضاه عرس الزين من نعمة هو تلك الطلاقة والحرية المطلقة التي وفرتها الأسرة لنعمة لأن تختار من تراه زوجاً مناسباً لها ولعل في ذلك خروجاً على أعراف القرية ومفاهيم الولاية في نكاح البكر كما وعتها تقاليد القرية في شأن وضع المرأة وعبرت عنها من خلال تشكل للثقافة العربية الإسلامية في السودان. وكانت نعمة لا تحس بتلك الطلاقة والحرية في شأن زواجها ولكنها كانت تحس بعظم المسؤولية الملقاة عليها مثلما أحست مريم حينما تحققت فيها نبوءة "أن العذراء تلد ولداً" وحينما جاءها الملك يبشرها بعيسى عليه السلام لا شك أن ذلك إحساس بعظم مسؤولية القرار الإلهي وصبر على ثقل وقعه وكانت كذلك نعمة يراها الآخرون بأنها تعبر عن طاقة قاهرة لا تحدها حدود أعراف القرية وقوانينها وهم لا يدرون بوقع هذه الطاقة عليها وأنها يليها من كل هذا الأمر مسؤولية عظمية وأنها مدفوعة بأقدار أقوى منها. إن التعليم الديني الذي سعت نعمة للحصول عليه وفرضت وجودها فيه قد جعل منها كائناً آخر أنثى لا كبيقة النساء في القرية أنثى تعي دورها في الحياة، وتفهم معنى اختيارها وتحمُلِّها لمسؤولية ذلك الاختيار، وقد اتخذت لها نماذج قرآنية للتعبير عن اختيارها، والأهم من كل ذلك هو صحة تمثلها لتلك النماذج القرآنية الفريدة ورؤيتها الثاقبة في الربط بين طلاقة التحرر وعظم مسؤولية تلك الطلاقة لذلك كانت أحلامها خلافاً لأحلام نظيراتها في القرية، فكن يحلمن بذلك الفارس الذي يأتي من عوالم سحرية ويخطفها من أهلها لتلك العوالم حيث السعادة ورغد العيش، لعل هذه الأسطورة فيها كثير من الحلم المتبرِّم بالواقع دون فعل شيء لتغيير ذلك الواقع، حلم يعوض عن مرارة القهر واستلاب الصوت فيجد الصوت له منافذ وردية في التعبير في تزين الخروج واعتباره أفضل من الواقع، والبنت منهن تعرف أنها لن تتزوج فارساً يأتي من عوالم سحرية وإنما ستختار لها أسرتها الزوج المناسب ولن يقود ذلك إلى سعادة ورفاهية وربما قاد لنوع آخر من استلاب القرار فبين استلاب وآخر لا يبقى للأنثى سوى الحلم الجميل في عوالم سحرية "صاحباتها في الحي، كل فتاة تشب وفي ذهنها صورة معينة عن الفارس الذي يربط فرسه ذات مساء ساجي الضوء خارج الدار" لاشك أن هذا الفارس لن توافق عليه أسرتها وهو أيضاً لا يحتاج إلى موافقتهم يكفي أنها تنتظره وإن له القوة والعدة التي تمكنه من أخذها عنوة من أهلها ولذلك يستمر النص مفصحاً عن منطق الصراع والقوة "ويدخل ويختطفها من بين أهلها ويهرب بها بعيداً إلى عوالم سحرية من السعادة ورغد العيش" (عرس الزين: 54ـ55). لم تكن نعمة تحلم بذلك الخروج الذي يؤديه فارس نيابة عنها ولم يكن البيت سجناً كبيراً حتى تهرب منه وإنما كان مكاناً تمارس فيه مسؤولياتها وتشارك فيه برأيها: "ونشأت نعمة، طفلة وقورة، محور شخصيتها واضح في كل شيء وتتحدث إلى أبيها حديثاً ناضحاً جريئاً يذهله في بعض الأحيان" (عرس الزين: 52) إمراة مثل نعمة لن تحتاج لذلك الفارس "أما نعمة فلم ترتسم في ذهنها صورة محددة. كبرت وكبر معها حب فياض ستسبغة يوماً ما على رجل ما" (عرس الزين: 55)، وإنما ستقوم بصورة إيجابية بإسباغ ذلك الحب الفياض على رجل ما وبسبب رأيها الواضح في التعليم الذي أتى به المستعمر والذي يحمل قيم المستعمر في شأن مؤسسة الأسرة ويرفض مسألة التعدد ويرى تعدد الزوجات أمراً منافياً للقيم والأعراف لكن نعمة كانت في هذا الشأن تنتمي إلى قيم ودحامد رغم الحرية والطلاقة التي حازتها بسبب عمق فهمها للمناذج القرآنية من النساء ولذلك كانت ترى في أن ذلك الرجل الذي ستسبغ عليه حبها الفياض ربما “قد يكون الرجل متزوجاً وله أبناء، يتزوجها على زوجته الأولى قد يكون شاباً وسيماً متعلماً أو مزارعاً من عامة أهل البلد..." (عرس الزين: 55). تلك هي جملة الخيارات وأخطرها خيار قبول أن تكون زوجة ثانية، فهي لا ترى خطأ في ذلك وإنما تراه تدبيراً اجتماعياً مقبولاً وسعته القيم التي نادى بها القرآن الكريم، إذاً لا تعارض بين تلك الطلاقة والحرية وبين هذا التدبير الاجتماعي لمسألة الأسرة، حسب فهم نعمة لهذا الأمر. لقد كات نعمة نسيجاً اجتماعياً فريداً فهي تمثل قيم القرآن الكريم وتلك الشفافية الإنسانية لم تكن إمرأة عادية لم تعاني من قهر التقاليد في وودحامد لم يكن زمام أمرها بيد غيرها لقد تحررت من كل أساطير القهر الاجتماعي وألزمت نفسها بنماذج قرآنية فائقة تقتدي بها، لقد أوجدت تلك المعادلة الصعبة بين الطلاقة والحرية وعظم مسؤولية مقام التحرر، لذلك حينما تستعرض نماذج الرجال من حولها ويحط اختيارها على الزين "قد يكون الزين.." (عرس الزين: 55) لا تسعى لأن يحقق الزين مقام العشق فيها ولكنها تمنحه مقام كمال العشق والوصل "وحين يخطر الزين على بال نعمة تحس إحساساً دافئاً في قلبها، من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو أبناءها" (عرس الزين: 55)، حينما تتحول عاطفة الحب بين الرجل والمرأة إلى عاطفة أمومة من المرأة تجاه الرجل يتحول ذلك المجتمع الذي تسوده قيم الأبوة أصلاً إلى مجتمع تسوده قيم الأمومة لكن حينما يقع نوع من التوازن في هذه العاطفة لتصير أمومة مغلفة بشفقة ـ وبمعاني أخرى ـ للبعد على ذلك العشق الفوار بين النساء والرجال، والذي ليس من طبيعة نعمة ـ هنا فقط ـ تحدث الموازنة لم ترد نعمة أن تحل محل الزين في علاقتها به ولم ترد لنفسها أن تبتذل تلك العلاقة في إطار مجتمع محافظ للمرأة مكانها ودورها أرادت شيئاً يحقق لها معنى الطلاقة في صلتها بالزين وفي ذات الوقت لا يسلب الزين موقعه الرائد في مؤسسة الأسرة، لذلك تستمر الغنائية في التعبير عن شعورها إزاء الزين "ويمتزج بهذا الإحساس شعور آخر، بالشفقة يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل، في حاجة إلى الرعاية، إنه إبن عمها على كل حال، وما في شفقهتا عليه شيء غريب" (عرس الزين: 55) يتداخل في هذا النص صوت نعمة مع صوت الراوي يجد لها الراوي مبرراً في ذلك الشعور الغامر تجاه الزين ذلك الحب الفياض الذي وصفه الراوي حال مقارنته بين نعمةوبقية الفتيات في القرية إزاء مسألة الزواج وحينما صار الزين واحداً من أولئك الذين يمكن أن يشملهم ذلك الحب الفياض كرجل بلحم ودم تعرفه نعمة، حينما انتقل الأمر من منطقة التعميم إلى شخص متعين، سعت نعمة والراوي كذلك لتدارك هذا الأمر ومحاولة التعبير عنه بصورة تسعها صورة نعمة إزاء نفسها وإزاء النص الذي حرره الراوي عنها في الصفحات المنصرمة فالكتابة عن نعمة بالصورة السابقة جعلت من الصعوبة النزول بها إلى التفكير في رجل بلحم ودم، فالأيسر لها أن تبقى أسيرة الحديث عن نماذج ولكن أن يخطر الزين دفعة واحدة هكذا دون مبررات اجتماعية، يشوش على نعمة صورتها عن نفسها إزاء التراتيب الاجتماعية، في ودحامد فكون الزين إبن عمها ذلك يعني أنه المقدّم من بين الآخرين في تحقيق كمال مقام العشق والوصل بالنسبة له لكن الزين لم يكن شخصاً عادياً فهو إبن عمٍ لا تقبله التراتيب الاجتماعية في القرية ويحتاج الأمر إلى تضحية عظيمة. ويحتاج كذلك إلى كل هذه العواطف المغلفة التي اجتاحت نعمة وهي تفكر فيه. تلك هي الغنائية التي انتقلت من خلالها نعمة لتحقق للزين مساحة اجتماعية منشودة في مجتمع ودحامد كأن الجنس والحب كما تصورهما مؤسسة الأسرة هما الدافع الخفي وراء ذلك. لعل موقع الزين قد اختلف كثيراً من موقع نعمة في الإعداد لحدث “عرس الزين”. فنعمة كانت تغالب التراتيب الاجتماعية بتبني أقدار أعلى من أعراف القرية وتراتيبها الاجتماعية، وهي المعبر عن تلك الأقدار الغلابة أما الزين فكان ينتظر وعد الحنين أن يتحقق في تلك التي كان يعرف أنها "أحسن بنت في البلد" كان الزين يغالب كل أعراف القرية في مسائل علاقة الأنا بالآخر إلا مسألة صلته بالنعمة فكان طوعاً لتكل الأقدار التي تعبر عنها النعمة يسوقه إليها الحنين بتلك البشارة في تلك الليلة المشهورة التي بُعث فيها الزين من جديد ومُنح ميلاداً اجتماعياً جديداً جعل من زواجه بالنعمة أمراً ممكناً فالزين لم يعد الزين الذي كان يضحك دونما فرح ويضحك الآخرين لكن لا تتسرب إلى نفسه ذرة من المرح والسعادة، ذلك هوالزين الذي كانت تسعه التراتيب الاجتماعية في القرية والذي لا يحق له أن يسعد بالحب ويحقق مقام العشق والوصل معاً. لقد كان حدث زواج أخت سيف الدين أول تلك المبادرات التي اتخذها الزين لتغيير وضعه والاحتجاج على أهل ودحامد لقد أحب الزين أخت سيف الدين وكان يرى أنه أحق بها ممن تزوجها لأمر بسيط هو أنه أكثر فحولة من ذلك الذي تزوج بها أو قل لم ير في ذلك الزوج الحد الأدنى من الفحولة التي تؤهله لذلك، وقد قاد ذلك الأمر إلى اعتداء سيف الدين عليه بسبب تجاوز الزين لأعراف القرية في شأن صلته بأخته التي تزوجت رجلاً لم يرض عنه الزين. لقد كان سيف الدين أبعد الناس في الحفاظ على تقاليد القرية بل كان أكثرهم هتكاً لها على كل المستويات وخاصة على المستوى الاجتماعي فهو الذي أتى لأبيه ذات ليلة ووالده على سجادته بعد صلاة العشاء ليقول له إنه يحب إمرأة ساقطة ويريد أن يتزوج بها، لقد أسودت الدنيا في تلك اللية في عيني الأب وهو يستمع لإبنه الوحيد ورائحة الخمر تفوح من فمه يقوله له "إنه يحب" ـ الكلمة التي تثير في عقول الآباء في البلد كل معاني البطالة والخمول وأنه يريد أن يتزوج جارية ماجنة فارغة العين..." (عرس الزين: 75). كانت ضربة سيف الدين للزين في تلك الليلة هي الفعل الذي قاد في نهايته إلى بشارة الحنين للزين بأنه يتزوج أحسن بنت في البلد". لم يرد الزين أن يعلم أهل البلد في صباح الليلة حينما سقط في فناء داره مغشياً عليه أثر تلك الضربة ولا حتى بعد مضي أسبوعين حينما رجع من المستشفى بعد أن شفي من جراحه تلك. وحينماكان يحكي لمجموعة محجوب أمام دكان سعيد، في تلك اللية ـ مغامراته النسائية مع الممرضات في المستشفى وقد همَّ بأن يُحدثهم ماذا فعل مع تلك الممرضة التي تبذّل في وصفها "ووضع الزين يديه خلف رأسه ومال إلى الوراء قليلاً ثم قال ببطء وعلى وجهه ابتسامة خبيثة: "دايراني يا جماعة تعرفوا شن سويت لها؟" (عرس الزين: 63) ينقطع الحديث عند ذلك الحد ويقفز الزين في الهواء وتسرع المجموعة لتلحق به لكنه ينفلت منهم ويمسك بسيف الدين بصورة جعلت الجميع يوقنون بأن سيف الدين لا محالة هالك. لقد أرد الطيب صالح أن يسكت عما فعل الزين مع الممرضة، لم يرد أن يروي لنا ما حدث للزين هل كانت غزوة جنسية حقيقية أم أن الأمر لا يسع أن تقع شخصية الزين في ذلك الوحل، على كل حال فجملة التناقضات التي تحتمل شخصية الزين تسع كل الاحتمالات التي سكت عنها وحينما جاء الحنين في اللحظة المناسبة وعاد الزين إلى رشده يفصح النص بأن فعلة الزين هذه كانت رداً على ضربة سيف الدين له: “فقال الحنين موصلاً كلامه (متين سيف الدين ضربك بالفأس في رأسك؟" (عرس الزين: 66)، ويجيب الزين في ليلة عرس أخت سيف الدين ثم حينما يسأل عن السبب يقول: "أخته كانت دايراني أنا مشو عرسوها للراجل الباطل داك" (عرس الزين: 66) وحينما ضحك أحمد إسماعيل على رد الزين سارع الحنين مثباً المعنى الذي قال به الزين من أن البنت كانت تريده لكنه زوجوها من ذلك الرجل فقال الحنين: "كل البنات داراتنك بالمبروك، باكر تعرس أحسن بنت في البلد دي" (عرس الزين: 66 ـ 67)، إذا كانت بشارة الحنين رداً على أهل القرية الذين لا يرون الزين أهلاً للزواج، والأمر العجيب أن شيخ الحنين عكس كل أهل القرية كان يرى بأن كل بنات القرية يرغبن في الزين لسبب أو لأخر لكن أعراف القرية لم تكن ترى في الزين رجلاً يصلح للزواج. فاقتضى الأمر بشارة الحنين تلك في ـ تلك الليلة المباركة ـ التي أورثت القرية عاماً من البركة عرف بعام الحنين. والأهم من كل ذلك هو أن أؤلئك الذين لم يسعدهم الحظ بحضور أحداث تلك الليلة وكانوا يستعدون لصلاة العشاء قالوا إن الإمام قد تلا في تلك اللية حين صلى بهم آيات من سورة مريم وقد روى "حاج إبراهيم"، عم الزين، ووالد نعمة وهو رجل مشهود له بالصدق، يذكر تماماً أن الإمام قرأ الآية {وهزي إليك بجذع النخل تساقط عليك رطباً جنياً} من سورة مريم وهي آية فيها الخير والبركة (عرس الزين: 81) فالربط بين حاج إبراهيم ونعمة والزين بهذه الصورة لتأكيد أهمية تلك الليلة المباركة في تاريخ ودحامد له معنى واضح خاصة إذا كان الذي أرّخ لتلك الليلة ممن لم يسعدهم الحظ بحضورها والسماع لنبوءة الحنين فيها ـ هو حاج إبراهيم فهذا يعني أنه صار جزءاً من ذلك الزخم وتلك التضحية والتي هي في وعي أهل القرية حسب النص ـ تحمل كل معاني الخير والبركة، إذاً فالجميع الآن قد تأهلوا لقبول مقام العشق وكمال الوصل الذي سيحققه الزين بالزواج من نعمة وقد لعب الحنين وسيف الدين فيها دوراً أساسياً في إخراج الزين من مقام العشق إلى مقام كمال العشق والوصل، لا شك أن الفرق واضح بين موقع الحنين وموقع سيف الدين إزاء عملية إخراج الزين هذه لكن كلاهما أخذ الزين مأخذ الجد في أشواقه تجاه النساء لم يعملا على تحويل تلك الأشواق إلى وظيفة تحتاج لها القرية حتى تحافظ على تقاليدها المرعية في صلة الرجال بالنساء فالمساحة التي أتاحتها القرية للزين هي مساحة لا تعترف بأشواقه وحبه وإنما تكتفي من كل ذلك بأن يلعب الزين وظيفة الدال على جمال الفتيات المحجوبات عن أعين الشبان لكن أن يسمع له وأن يتحول إلى كائن له أشواق وليس وظيفة اجتماعية في القرية فذلك يقتضي أن يلعب أولئك الذين أخذوه مأخذ الجد دوراً إيجابياً في تعديل تلك الصورة وفرض الواقع الجديد على القرية. لقد قامت نعمة في تعديل تلك الصورة وفرض الواقع الجديد على القرية. لقد قامت نعمة بتهيئة المحل لقبول تلك التضحية العظمية وبدفع تكاليف تلك المسؤولية الجسيمة ولقد قام الحنين بالتعبير عن ذلك الجانب الخفي الذي لم تره القرية من أن كل فتياتها يتعشقن الزين سراً ليس ـ فقط ـ كوظيفة اجتماعية ولكن كرجل بلحم ودم دون أن يبحن بذلك السر لأحد فقد عرفه الحنين وعبر عنه حينما قال (كل البنات داراتنك يالمبروك) ربما بسبب تلك الفحولة الزائدة التي في الزين برغم من قبح هيئته والتهميش الاجتماعي الذي ألبسته له القرية. فالنساء يتعشق تلك الفحلة ولكن يأبى الواقع الاجتماعي التعبير عن ذلك بسبب ما لحق بالزين من تهميش اجتماعي. لقد عرف سيف الدين ذلك الجانب فهو دون الكثيرين من أهل القرية خبر كل العهر الاجتماعي وتمثله في حياته اليومية وعبر عنه بتلك الكلمة التي يمجها الذوق الاجتماعي في القرية (الحب): أن يحب الرجل إمرة ويعبر عن ذلك الحب، بالطبع فقد بلغ سيف الدين بالتجاوز مداه بسبب أن تلك المرأة كانت هي: السارة، جارية من جواري الواحة. ولم يرد سيف الدين المشاركة في تلك المؤامرة الاجتماعية ضد الزين أما الحنين ونعمة فلم يشاركا فيها بسبب حبهما للزين ودفاعهما عن ذلك الحب جهاراً. وقد أضفى كلاهما على هذا الحب نوعاً من القدسية التي جعلت القرية بكاملها تبارك عرس الزين باعتباره تتويجاً لعام البركة، إذاً لم يكن أمر قبول القرية لأن يحقق الزين كمال مقام العشق والوصل أمراً سهلاً وإنما اقتضى كل تلك الشعائرية والغنائية التي اكتملت في حدث العرس والذي لم يكن عرس الزين فقط وإنما كان عرس كل القرية شارك الجميع في ذلك إما رغبة وحباً أو قهراً اجتماعياً مارسه حدث العرس على أؤلئك المكابرين من أمثال الناظر وإمام الجامع لم يستطع الزين فرض العرس عليهم ولكن آليات حدث العرس بكل طقوسه الاجتماعية جعلت أولئك جزءاً منه. لقد اختارت نعمة الزين زوجاً لها اختياراً واعياً، ليس ـ فقط ـ لأنه إبن عمها، أو لأنه محل التضحية العظمية التي كانت تحس بها في نفسها حينما تفكر في أمر الزواج، أو لأن كل النساء يتعشق الزين سراً ولا يبحن بذلك ولكن لأمر آخر ـ في غاية الأهمية ـ هو أن الزين كان متمرداً على كل شيء في القرية إلا في حبه لها، فقد بلغ في الاستسلام لها غاية لا يبلغ مداها أحد، ولذلك فقد أدركت أن خير من يستحق ذلك الحب الفياض هو ذلك الذي يعرف معنى الاستسلام الكامل في مقام العشق والوصل من جملة رجال القرية، كان الزين وحده مؤهلاً لذلك الحب الفياض الذي فيه معنى كامل التضحية والمسؤولية. وليس من عادة أهل القرية أن تكون البنت جريئة في مسائل الزواج لكن نعمة كانت أكثر جرأة من الزين نفسه فهي التي أتت إلى منزله وأخبرته بمواعيد عقد الزواج فيقول الزين لمحجوب "أي جاتني الصباح بدري في بيتنا وقالت لي قدام أمي: يوم الخميس يعقدوا لك عليّ، أنا وأنت نبقى راجل ومره. نسكن سوا ونعيش سوا" (عرس الزين: 112) وقد تأثر محجوب بكلام النعمة للزين وقال بإعجاب مفرط "على باليمين مره تملا العين، طلاق بنت مالها أخت" ثم ختم ذلك الإعجاب الباهر بالنعمة قائلاً: "يمين الزين ما ش يعرس له بنتاً تمشيه فوق العجين ما يلخبط" (عرس الزين: 112) رغم أن البعض كان يخالف محجوب في هذا الأمر إلا أن محجوباً بخبرته بالزين رأى في ذلك الزواج نهاية لمهمتهم الشاقة في السيطرة على الزين ومنعه من الوقوع في المشاكل ـ خاصة بعد وفاة الحينن. فقد كان الزين طاقة متمردة مدمرة لكن نعمة كانت أقدر الناس على تحويله لطاقة بناءة بل إن الزين قد صار من أعيان البلد فيما بعد ـ في رواية ضو البيت ـ "ما دام عبد الكريم وأحمد بقي متصوف والزين أصبح من الأعيان وسيف الدين على وشك يعمل نائب في البرلمان، إيه الغريب سعيد البوم يكون اسمه سعيد عشا البايتات؟" (ضو البيت: 11). إذاً لقد اختارت نعمة الزين ليكن زوجاً لها لأنه وحده القادر لأن يكون طوع بنانها كما هي طوع بنانه تهبه حباً فياضاً يمكنه من تحقيق كمال تمام العشق والوله ويحوله من الزين المهمّش اجتماعياً إلى واحد من أعيان البلد. كلما عظم المعنى الذي لأجله تتخذ الطقوس الاجتماعية كلما تفاقم ذلك الطقس الاجتماعي وتعقد، لقد كان حدث عرس الزين أمراً عظيماً لذلك اقتضى جملة من الطقوس الاجتماعية بالغة التعقيد. قبل وصف العرس يفجر الطيب صالح جملة من التساؤلات العميقة حول الحياة ويعقد مقارنة موحية بين مجموعة الجامع التي انتمى إليها سيف الدين ورفع آذان العشاء في تلك الليلة التي صاح فيها الزين بملئ فيه أنه قتيل نعمة بنت حاج ابراهيم وتستمر المقارنة بين (مجموعة محجوب) التى حالما يذهب الناس لأداء صلاة العشاء يجتمعون لتناول طعام العشاء بطقوسية بالغة التأثير. بعد فراغهم من أكل طعام "العشاء يكون الناس قد فرغوا من صلاة العشاء. يتحدثون (مجموعة محجوب) في هدوء وقناعة، ولعلهم حينئذ يشعرون ذلك الشعور الدافئ المطمئن، الذي يحسه المصلون وهم صفا خلف الإمام... ينظرون إلى نقطة بعيدة غامضة تلتقي عندها صلواتهم" (عرس الزين: 114) ثم تتصاعد الشاعرية في ذلك النص إلى "هل يحسون حينئذ أنهم يزدادون قربا من تلك النقطة؟ أم تراهم يدركون أن النقطة الغامضة الصامتة في الوسط أم تنتهي الحياة ولا ينتهي إليها المرء" (عرس الزين: 114) ثم ينتقل الطيب صالح إلى بداية وصف العرس والذي يبدأ بزغرودة فرح من أم الزين "أيوي... أيوي... أيوي.. أيويا". كأن الطيب صالح كان ينعي مجموعة محجوب والتي انتهت مهمتها في القرية بإنجاز حدث عرس الزين برغم أن تلك الليلة السابقة قد تكررت بالصورة التي وصفها بها الطيب صالح مرات ومرات إلاّ أنها في تلك الليلة كانت قد تكثفت بشاعرية بالغة لتعبر عن معنى الحياة كما تفهمه مجموعة محجوب التي لم تكن تذهب للمسجد لأداء صلاة العشاء وإنما تستعيض عن ذلك بأكل طعام العشاء في مجموعة بصورة فيها كثير من الطقوسية التي تجنح للتأمل في معنى الحياة. من هذه النقطة في التقابل ينتقل نص الرواية ليصف طقوس العرس بدقة متناهية يعبر فيها عن كل المعاني التي حملتها تلك التفاصيل لقد وهبت القرية كل تلك الطقوس ليصير معنى إنتقال الزين مما كان فيه إلى ما سيكون عليه مبرراً "والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة، وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب" (عرس الزين: 12 هكذا يختتم نص رواية عرس الزين فهو قلب للدائرة وصاري المركب لاتخطئه عين ومساحة اجتماعية صعب تجاوزها أو تحويلها إلى وظيفة اجتماعية يستمتع بخدماتها ولايتاح لها حق الإستمتاع بالوجود الإجتماعي المعتبر. لم يكن الزين في عرسه مثل ضو البيت حيث كان في ليلة عرس ضو البيت هم ضو البيت ... (وكل فعل جميل وكل الناس "ضو البيت" (ضو البيت: 121) ورغم ان ضو البيت كان واقفا في قلب الدائرة في ليلة عرسه يهز فوق الراقصات إلاّ أن ذلك الوقوف يمثل مركزا للفوضى وليس صاري المركب كما كان الزين في وقوفه في تلك الليلة "ويقوى هدير الطبول وتتفرق الضوضاء وتتجمع حول ضو البيت وهو واقف في مركز الفوضى شاهرا سوطه فوق الجميع فكانه هنا وليس هناك" (ضو البيت: 121). لم يكن الزين كذلك بل كان هناك وجودا يمنح بقية الاشياء معناها لكن كانت طقوس العرس هي الثمن لتحقيق ذلك الوجود الاجتماعي الذي لا مرية فيه. لقد افتتحت رواية ضو البيت بهزيمة مجموعة محجوب وعرس عشا الباتيات واختتمت بزواج ضو البيت وإختفائه الأسطوري في النيل. هذا التحول الذي حدث في ودحامد لم تكن تسعه رواية عرس الزين، وكانت مجموعة محجوب هي عصب الحياة في ودحامد ويبدو أن دورها قد انتهى بختام عام الحنين حينما تزوج الزين نعمة، لم يكن من المعقول أن يخون الزين مجموعة محجوب أو أن يتحالف مع معسكر آخر ضدها لقد كانت نسق رواية الزين يسع التصالح والتوافق بين الأضداد ولذلك عبّر عن حدث عرس الزين بتلك الطقوسية والغنائية الفائقة التعقيد والتي تسعى لإثبات الزين لا لنفيه لرفعه في سلم التراتيب الاجتماعية لا لتحريره منها تحريراً شاملاً أما عشا البايتات وهو وجه آخر للزين فقد تحرر تحرراً شاملاً من تلك التراتيب الاجتماعية، لم يعلو درجات تلك التراتيب الاجتماعية كما فعل الزين ولكنه تجاوزها تجاوزاً تاماً، لقد حقق أكثر مما كان يحلم به في رواية عرس الزين. حيث كان يحلم بأن يتزوج واحدة من بنات الناظر ـ صار يعتقد بأنه يمكن أن يتزوج أي امرأة أراد وإن كانت تلك المرأة بنت العمدة. في رواية عرس الزين كان من المحال أن يتزوج الزين أو سعيد البوم بنت العمدة يكفي أي منهما أن يحلم أو أن يحقق مقام الزين في العشق لكن أن يجد وصلاً لذلك العشق فلم يكن نسق الرواية يسمح بذلك الأمر. ويبدو أن الطيب صالح قد بلغ حداً من إحكام نسيج نسق رواية عرس الزين بصورة تتحدد في إطارها أبعاد شخصياته وتتناغم وتتكامل في شاعرية وطقوسية مجيدة. وربما قيل أن الطيب صالح قد أدرك أن النسق الأساس في رواية عرس الزين لا يسمح بأيّ فوضى اجتماعية وإنما يتيح إمكانات حسم الصراع الاجتماعي عن طريق التصالح وكذلك تقديم طقوس اجتماعية معقّدة لقبول فكرة التصعيد الاجتماعي والانتقال من وضع اجتماعي لآخر. ولما كانت رواية ضو البيت هي للتعبير عن تلك الفوضى العارمة التي أحدثها الغزو التركي ـ المصري للسودان ومحاولة التعبير عنها بشاعرية على مستوى ودحامد فقد كان التغيير السمة الأساسية في نسق تلك الرواية وكان التحوّل هو المعيار لإعادة تنظيم مسلمات ودحامد وعليه فقد ترجم عشا البايتات ذات أحلام الزين بصورة ملتوية وفيها كثير من التجاوز لأعراف ودحامد. يبقى السؤال المحوري: وهو إلى أي مدى نجح الطيب صالح في التعبير عن معنى التغيير في رواية ضو البيت من خلال عرس عشا البايتات وكيف تغيّر معنى الحب والجنس في إطار مؤسسة الأسرة وما هي التحولات الأساسية في مقام العشق والوصل بين روايتي عرس الزين وضو البيت؟ للإجابة على تلك الأسئلة لا بد من النظر في علاقة سعيد البوم (عشا البايتات فيما بعد) بالمرأة في رواية عرس الزين وكيف تبدلت تلك العلاقة تماما بتبدل لقبه الاجتماعي في رواية ضو البيت. نقول: رغم أن نعمة هي إبنة عمّ الزين وفي أعراف القرية "فكون بنت العم لابن العم حجة ليس بعدها حجة في عرف أهل البلد. إنه تقليد قديم عندهم، في قدم غريرة الحياة نفسها غريرة البقاء وحفظ النوع" (عرس الزين: 91) رغم كل ذلك فقد واجهت القرية ممثلة في مجموعات مهمة منها عرس الزين بعدم القبول وقد احتاج تسويغ أمر ذلك العرس إلى طقوس فصلنا القول فيها فيما سبق. الناظر في رواية عرس الزين يرى أنها تنقسم إلى قسمين اثنين قسم أولى كُرِّس لبيان نبأ العرس الذي افتتحت به الرواية قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة.. "سمعت الخبر؟ الزين مو داير يعرس" (عرس الزين: 5) ويستمر هذ القسم ليبين لنا مدى وقع الخبر على آمنة "والآن يزوجونها للزين ـ هذا الرجل الهبيل الغشيم... وشعرت آمنة كأن في الأمر اساءة موجهة إليها شخصيا، عن عمد" (عرس الزين: 43) أما القسم الثاني فهو يحتوي على الحيثيات الأساسية التي سوغت عرس الزين بما فيها الوصف الطقسي المميز الذي عبِّر به عن حدث العرس. وبين القسمة هذه جزءاً يبدو لأول وهلة أن لا صلة له بالرواية ويبدو ظاهرياً أن هذه القطعة يمكن أن تضاف إلى أيّ رواية أخرى من روايات الطيب صالح دون أن يختل السياق العام. يبدأ هذا الجزء بجملة "وتتابعت الأعوام، عام يتلو عاماً، ينتفخ صدر النيل، كما يمتلئ صدر الرجال بالغيظ..." وينتهي بجملة "وتنشق الأرض عن نبات و ثمر" (عرس الزين: 4 ويبدو النفس الشاعري الكوني عالياً في هذه القطعة وتبدو رمزية النيل في التعبير عن الرجولة والأرض في التعبير عن الأنوثة. "الأرض ساكنة مبتلة ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم. كانها إمرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها" (عرس الزين: 4. هذه المقابلة بين النيل والأرض والذكر والأنثى ثم الإشارة إلى حفل العرس بصورة افتراضية "فإذا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده... كأنه إلى يمين دارك" (عرس الزين: 47ـ4 هذا الزخم الطبيعي عبّر عن الجنس بلسان ذلق، لكنه في ذات الوقت بيّن الأطر التي يقع فيها والثمار التي تجن منه وعليه تكون هذه القطعة دعوى وجودية لتسويغ عرس الزين فهي بين نبأ العرس والطقوس التي اتخذت لتبريره. ذاك ما كان من أمر الزين أما سعيد البوم، فهو مثله مثل الزين ترعاه مجموعة محجوب وكان بينه وبين الناظر مودة خاصة أو قل كان يستغله الناظر في جلب الحطب والماء لبيته وكان سعيد يكدح كل نهاره في الأعمال الشاقة ويدخر محصلة ذلك الجهد عند الناظر، وحينما عزم على الزواج جاء واستشار الناظر في ذلك الأمر وفيما بعد "و تباهى بعد ذلك بأن الناظر في جلالة قدره شهد عقد زواجه” (عرس الزين:94) مجرد حضور الناظر عقد زواجه كان ذلك أمراً يباهي به سعيد أهل ودحامد. إذ لم تسع رواية عرس الزين أكثر من هذا الحلم الاجتماعي. ولقد كان سعيد غريب الأطوار في مسألة الجنس "كل أحد في البلد يعرف قصة زواج سعيد، وأنه عاش مع زوجته قريبا من الحلول [الحول] لا يسمها وكادت المرأة تيأس وتطلقه." (عرس الزين: 94) كان يرى أهمية التريس ثم فيما بعد أولد امرأته أولاداً وبنات. فإن كان الزين عند بعضهم رجلاً هبيلاً وغشيماً فقد كان كذلك سعيد البوم أموره الخاصة دائرة على ألسنة أهل البلد، كيفية معاشرته لزوجته موضوعاً عاماً تتندر به أهل ودحامد في مجالسها. ولعل قصة مجئ زوجته لعبد الحفيظ في الحقل لتحكي له أمراً حدث بينها وبين سعيد في الليلة الماضية وكيف أنه "قال لها أنها امرأة "جيفة ـ هكذا لأنها لا تتعطر وتتزين كبقية النساء" (عرس الزين: 106) وتمضي القصة إلى أنها حينما ردت عليه قولاً بقول صفعها" وقال لها: "امش اخدي دروس من بنات الناظر" (عرس الزين: 106) وحينما سمع هذه القصة الطاهر ود الرواسي سخر من سعيد وعلّق على مجرد حلم سعيد بأن تتعطر امرأته
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)
|
*
الهوامش: ( هذه المقالة هى جزء من كتاب بعنوان شكل التعبير الدينى في أدب الطيب صالح. (1) Mricea Elida, Essential Sacred Writings From Around the Worl (San Fransisco: Harper, 1967(: pp. 44 ـ 67. (2) الإمام أبو حامد الغزالي: تهافت الفلاسفة (القاهرة: دار المعارف) 1980. (3) الإمام البخاري: صحيح البخارى، (استانبول: المكتبة الإسلامية، ج7، ص68 ـ ص86). الإمام ابن سيرين، تفسير الأحلام، (بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة): انظر البحر وأحواله ص453 إلى ص 458، وكذلك انظر في رؤيا الأشجار ص 477 إلى ص 498. (4) أنا مدين للدكتورة نجاة محمود بجملة من الملاحظات القيمة عن مسألة ميلاد مصطفى سعيد. (5) ديوان شوقى، تبويب د. أحمد محمد الحوفى، ج1، ص578 ـ ص579، وعنوان القصيدة "نجاة سعد زغلول"، وهى لا شك تعبير شاعرى عن تعقيدات السياسة التي كان تكتنف مسألة السودان في ذلك الوقت، ولنقتبس هنا بعضا من أبيات تلك القصيدة: ولن ترضى أن تقد القنــاة ويبتر من مصر سودانـها فمصر الرياض وسودانها عيون الرياض وخلجانها وما هو ماء ولكنــــــــــــــه وريد الحياة وشريانــهــا فأين من المنش بحر الغــــــــــــــــزال وفيض نياترا وتهتانها وأين التماسيح من لجــــــة يموت من البرد حيتانـها ولاريب أن الطيب صالح قد أخذ البيت الأخير من الشوقيات، والذى يختلف عما ذكره د. أحمد محمد الحوفى الذي قام باستقصاء أشعار شوقى ونشرها بصورة علمية. (6) محمد الفور بن ضيف الله: كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم، 1985، ص52 ـ 53. (7) الآثار الكاملة للإمام المهدي: تحقيق د. محمد إبراهيم أبو سليم، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم، 1990، ج،، ص303، ص304. ( تاريخ حياتي، بابكر بدري، ج1، ص174. (9) كتاب الطبقات: ضيف الله، ص52 ـ55. (10) Abbas Ibrahim Muhammed Ali, The British, the Slave Trade and Slavery in the Sudan: 1820 ـ 1881 (Khartoum: Khartoum University Press, 1972. كذلك انظر: محمد إبراهيم نقد: علاقات الرق في المجتمع السوداني، القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1995. (11) ابن خلدون: المقدمة، القاهرة: بدون تاريخ، ص138، ص147.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: WadalBalad)
|
ولك كل الود يابروف Quote:
للطيب صالح قصص لا تقل أهمية عن "موسم الهجرة إلى الشمال"..و لكن
ابو بسام- جريدة الوطن
الطيب صالح ـ موسم الهجرة إلى الشمال: اسم المؤلف والمؤلف نالا من الشهرة مايغري بالكتابة و ـ أحياناً الحسد، فقد لاقت الرواية رواجاً عربياً ودولياً منقطع النظير، وجلبت لصاحبها الشهرة الدائمة و ـ أيضاً ـ أشياء أخرى، على أن للطيب صالح روايات وقصصاً أخرى لا تقل أهمية وإبداعاً عن "موسم الهجرة إلى الشمال". ومن المفهوم أيضاً ـ وفي التحليل الأخير ـ أن رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" نالت شهرتها من كونها من أولى الروايات التي تناولت، بشكل فني راق الصدام بين الحضارات وموقف إنسان العالم الثالث ـ النامي ورؤيته للعام الأول المتقدم، ذلك الصدام الذي تجلى في الأعمال الوحشية دائماً، والرقيقة الشجية أحياناً، لبطل الرواية "مصطفى سعيد". وآخر الدراسات الحديثة التي تناولت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" ورواية "بندر شاه" للمؤلف نفسه، تلك الدراسة التي نشرت أخيراً في سلسلة حوليات كلية الآداب التي يصدرها مجلس النشر العلمي ـ في جامعة الكويت بعنوان "رؤية الموت ودلالتها في عالم الطيب صالح الروائي، من خلال روايتي: موسم الهجرة إلى الشمال، وبندر شاه" للدكتور عبد الرحمن عبد الرؤوف الخانجي، الأستاذ في قسم اللغة العربية ـ كلية الآداب جامعة الملك سعود. تتناول الدراسة بالبحث والتحليل رؤية الموت ودلالتها في أدب الطيب صالح الروائي في عملين بارزين من أعماله هما: "موسم الهجرة إلى الشمال" و"بندر شاه"، وتنقسم الدراسة إلى قسمين كبيرين وخاتمة. يعالج القسم الأول منهما محوري الموت الرئيسيين في هاتين الروايتين: محور موت الأنثى، وهو موت آثم يرتبط في أكثر معانيه بغريزة الجنس ولا يخلو من عنف أم خطيئة، وموت الرجل وهو موت نبيل يرتبط بالكبرياء والسمو ولا يخلو من تضحية ونكران ذات. هذان العالمان المتمايزان يثير الروائي من خلالهما عدداً من القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية والنفسية، توحي بأزمة الصراع المكثف بين حضارتي الشرق والغرب فكأن المقابلة بين الأنثى والرجل ووضعهما في إطارين متمايزين من خلال الموت... وهي مقابلة من صنع مؤلف الدراسة لا الروائي ـ تلك الرؤية الفنية ترمي إلى اختصار الصراع بين عالمين مختلفين حضارياً: شمال ـ جنوب، هي في النهاية المعادل الفني لأزلية الصراع بين الشر والخير ممثلين في الأنثى ـ الشر، الخير ـ الرجل، و: شمال ـ أنثى ـ شر، جنوب ـ رجل ـ خير، بما لذلك من مردود أسطوري في وعي وذاكرة الإنسان الشرقي، وهو ما لم تشر إليه الدراسة مكتفية بتتبع أنواع الموت وطرائقه التي تمارس من قبل الرجل في الروايتين. فالمرأة في موسم الهجرة إلى الشمال ضحية لرجل ـ دائماً ـ بينما الرجل ضحية ـ أيضاً ـ لظروف مجتمعية ساهم في خلقها مجتمع الضحية الأنثى بشكل ما، فعلاقة مصطفى سعيد بالأنثى هي دائماً علاقة آخرها موت مدمر إذ إن "مصطفى" ـ كما يلاحظ المؤلف ـ ينتقم في شخص الأنثى الغربية لسنوات الذل والقهر والاستعمار لينتهي بها الأمر إلى قتل نفسها بنفسها. موت الرجل ـ وهو المحور الثاني من القسم الأول ـ فهو دائماً موت علوي تتجلى دلالاته في العودة إلى النيل مصدر الحياة "ذهب من حيث أتى من الماء إلى الماء" كما في بندر شاه. ويتناول القسم الثاني من الدراسة الدلالات الفكرية المتصلة بعالمي الموت وكيف عبرت الروايتان عن هذه الدلالات في قوالب فنية منتهياً إلى أشكال الموت لدى الطيب صالح توزعت على أطر ثلاثة: الموت ـ الوفاة الموت ـ القتل الموت ـ الانتحار وكل إطار من هذه الأطر الثلاثة عن رؤى فكرية وفلسفية ونفسية اقتضتها طبيعة الأحداث والمواقف... لكن النمط الأكثر بروزاً من أنماط الموت الثلاثة السابقة هو النمط الثاني الذي يمثله: الموت ـ القتل، حين جعلته رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" يفجر طاقات متباينة من الدلالات الفكرية ووظائفها الفنية، وظل الموت ـ القتل في صراع الشخصيات يتراوح بين السلب والإيجاب وبين الرفض والقبول وبين القوة والضعف وتتبع الدراسة التجليات المختلفة لهذا النوع من الموت عبر روايتي: "موسم الهجرة إلى الشمال" و"بندر شاه". وتخلص الدراسة ـ عبر خاتمتها ـ إلى أن للموت سلطاناً لا ينكر على عالم الطيب صالح الروائي فقد وفق الروائي من خلال بناء هذا العالم في تقديم عطيل جديد هو: مصطفى سعيد عطيل القرن العشرين الذي حاول عقله أن يستوعب حضارة الغرب لا يبالي ولا يهاب، له القدرة على الفعل والإنجاز، يحارب الغرب بأسلحة الغرب. وبعد: سوف يبقى الطيب صالح وأعماله الروائية والقصصية ذخيرة لا تنضب لبحث الباحثين نقاداً كانوا أم مؤرخين، فهو عالم ثري مليء بقضايا إنسان العالم الثالث الذي آمن به الطيب صالح وعبر عن همومه وآلامه، أفراحه وإحباطاته. |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)
|
تسلم يا جنى,,
وكدى فتش لينا عن المطلوب...
الله يلعن سلسفيل الجماعة ديل,,,
مع الود,,,,,,
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: Agab Alfaya)
|
Quote: وهو من اعمق ما قرأت للنقاد السودانيين عن اعمال الطيب صالح ، |
العزيز عبده شكرا لك على هذه الشهادة التى ستسعد ابراهيم كثيرا لانها منك...
علمنا من صديق ان الطيب صالح قد قرأها و اثنى عليها كثيرا..
الان احاول ان اجمعها حتى تنشر فى كتاب... شغالة سكرتيرة لانه قد اهمل كل اعماله النقدية وصار لا يكتب فى السياسة او الادب تحياتى لك وتحياتك تبلغه ان شاء الله
| |
|
|
|
|
|
|
Re: شكل التعبير الدينى عند الطيب صالح.... بروف ود البلد وعكاشة وجنى (Re: bayan)
|
دكتورة نجاة
Quote: (نحن بلد لا تحط بها الركبان كثيرا....رغم ان اهلى كرماء...طيبون...يحبون الضيف) |
هذه عبارة مجيدة ....وانا اقرا له واحضر له اكثر من محاضرة وحديث وحوارت...واقرا عنه ماكتبه النقاد والكتاب وماسارت به الركبان لاكثر ماينيف عن ثلاثة عقود اواكثر....اقرأ...وأقرأ ما قمت ببعثه للمنبر من مقالات دكتور ابراهيم حول البعد الدينى فى ادب الطيب صالح مما يكشف عن عبقرية الرجلين ابراهيم والطيب... وهذه لفتة بارعة منك فى مقام الاحتفاء بالطيب وابراهيم واحمد الملك وبكل المبدعين....على أية حال ...تقبلى تحياتى وتقديرى...لك وللبروف ونلتقى
| |
|
|
|
|
|
|
|