|
إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية
|
الغربة طاحونة ، و حباتها ( المدقوقة و المدروشة بين رحاها هم المغتربين و ضجيجها يصيب أسرهم هناوهناك فتجعلهم يعيشون في حالة من إنعدام الوزن ). أهلنا في الشمال ، مارسوا الإغتراب منذ عهد الملكية في مصر ، منذ أيام الملك فؤاد و الدون جوان الأرناؤوطي فاروق ، أو قيل قبل ذلك. سألوا أحد جهابذة الإغتراب ( و هو من عندينا ) : ما رأيك في الإغتراب ؟ فقال : العشرة سنوات الأولى صعبة. معنى هذا أن سنوات الغربة عندنا تقاس بالحزمة ( كالسنة الضوئية )، كل حزمة تساوي عشرة سنوات. يعني أربعين سنة غربة تساوي أربعة حزم و كل حزمة إغترابية تكون حبلى بالبحث عن كفيل أو عمل أو تأشيرة للذهاب و العودة بها أو طلبات لا تنتهي إن لم تنتهي كل الحزم بمرض السكر أو الضغط أجاركم الله و إيانا. تسأل واحدة عن زوجها : متى يأتي ؟ فتقول لك : بعد نص حزمة. لأنه لو قالت بعد خمسة سنوات ، الواحد بيشوفها كتيرة ، بالضبط زى فرق السعر بين الجنيه و الدينار السوداني. نحن أحسن شعب نختزل الزمن بصبر عجيب ، حتى أن أحد الظرفاء قال ، إن المدفون في ذلك الميدان ( ليس أبو جنزير ) بل هو سيدنا أيوب عليه السلام ، جد كل السودانيين الصابرين، فرضعنا منه هذا الصبر الجميل و لم نفطم منه إلى يومنا هذا ، و تسرب إلى جيناتنا الوراثية ، فإنساب إلى شراييننا و تحكم في فصائل دماءنا. كل واحد فينا شايل همو ، و هم ناس تانين ، و شايل قصص في راسه ، منها المضحك و منها المبكي و منها المضحك المبكي . زولنا حمد ، زول سوداني ، فنجري الطباع ، فارع الطول كأجداده من سلالة تهراقا ، وسامته لا تخطؤها العين ، مشلخ شلوخا غائرة كخطوط المحراث في أرض بكر. عندما إلتحق في الرياض بعمل لأول مرة قبل كم حزمة إغترابية ، سأله بدوي : ما هذه الشرطات على خديك؟ فقال له حمد مازحا و بهمس : أنا حأقول ليك بس ما تقول لي زول. في بلدنا الواحد لو ما قتل ليهو أسد أو نمر يعتبر ما راجل و ما بيعرسوا ليهو ، أها أنا صارعت نمر و قتلته ، و لكنو عمل فيني الشرطات دي. البدوي تراجع مصدقا و هو يفتح فمه مندهشا و متوجسا خيفة. و لكنه لم يجهد تفكيره و يسأل نفسه : ما هذا النمر الذي يختار الجضيمات فقط و يقوم بتشريطها بهذا الإتقان الهندسي ؟ أوقف القدر في طريق حمد فتاة جنسيتها ( خاتفة بلدين كلونها خاتف اللونين ) فالوالد من قلب أثينا و الأم سليلة أمهرا ( بت عما لي مادلينا ) فكانت للناظر متعة لعينه و قلبه ، و الكمال لله ، كل شيء فيها بديع و جميل ، حبشية أبوها إغريقي سليل هوميروس و أمها سليلة الأمهرا ، ولدت في أثينا ، و ترعرت في أديس ، و إغتربت في السعودية. تتابعها بعيونك و أذنك عندما تتحدث و هي تحاول تقليد لهجتنا الحبيبة ، فكأنها تتكلم و فمها مليء بحلاوة هريسة ، و خاصة عندما تأتي بكلمة بها حرف العين ، فيخرج الحرف و هو شبعان من ريقها ، من جوة جوة الحلق. فتتمنى لو قالت أمامك طوال اليوم ( يا علوية عيونك عسلية ). أحب حمد ريتا ، حبا ملك عليه فؤاده و لبه و جعلت مجاري شلوخه تتوهج كلمبة النيون و تمتليء بدماء العشق التي تغلى في عروقه. و بادلته ريتا حبا بحب. و الساعة اليقولو ليها حمد ، الكلام يكمل و يقيف. قلنا له و نحن نظهر الشفقة و نضمر الحسد : دي ما معروفة مسلمة ولا مسيحية ، يعني أهلك ما حيرضو .. لم نكمل ، فقد قال و الشرر يتطاير من عينيه : و الله لو بقت راهبة ولا من السيخ ما بخليها. تزوجها حمد ، مازحه أحدنا : أولادكم حيطلعوا مشلخين جاهزين و إنت عامل لي شلوخك الغريقة دي. المثل يقول ( البيحبك بيبلع ليك الظلط ) ، و لكن كان حمد بيبلع ليها الدراب و الكركتي و كتل الإسمنت المرورية. فعندما دعانا لأول مرة لوجبة غداء ، قال لنا : ريتا عملت لينا أكلة سودانية بإيديها. و حضرنا في الموعد المضروب ، و نحن نشحذ أسنانا لإلتهام وجبة سودانية بأيدي أجنبية. و حمد يدخل و يمرق ( كأم العروس ) تارة يستحث ريتا و تارة يمدح في ريتا و عمايلها السودانية، و أتت الصينية مغطاة بطبق سوداني ، و عروق من الجرجير تتدلى معلنة أن المائدة ستكون عامرة ، و إنكشف الطبق عن صحن ( ماكن ) يمكن أن يسبح فيه طفل عمره ستة شهور بحرية تامة ، و داخله شيء أشبه باللحاف المطبق ، أطلق عليه حمد إسم القراصة ، كان لونه داكنا يميل للون الكاكي الغامق ، فقلنا ربما من نوعية الدقيق ، و عندما سكب حمد ( الملاح ) و الذي من المفترض أن يكون ملاح الويكة ، إندلق سائل هلامي يمكن أن تحسب من خلال شفافيته عدد حبات الفلفل الأسود و حبات الويكة الناشفة و أجزاء من الماجي التي لم تذب في الحلة. و إندلق السائل بعد عدة محاولات من حمد و كأنه يضع لك مرهم بنسلين في العين ، و الذي غاظني و جعل الدم يصعد إلى نافوخي هو أن حمد ما إنقطع من شكر هذا الهلام و هذا اللحاف القابع في طشت الغسيل الذي أمامنا : قال و هو يبلع بنهم و تلذذ : بالله ما شاطرة إنو الواحدة تتعلم تعمل الحاجات دي و بالسرعة دي ؟ فقلت له متهكما : الكلام على الأستاذ . لم يفهم مغزى تهكمي و واصل بلع الكتل العجينية و نحن نتسلى بالسلطة المليئة بالشطة الحبشية. عند خروجنا ، قالت ريتا : الأكل عجبكم ؟ قلت لها و أنا أفكر في أقرب مطعم : و دي عاوزة كلام ؟ تسلم الأيادي يا مدام ريتا. لكزني صديقي : تسلم الأيادي و تبوظ المصارين ، مش كدة ؟ و عينة أخرى من الدراريب التي إبتلعها حمد. في عرس سوداني بهيج ، صحبها حمد ، و نزلتْ ريتا إلى حلبة الرقص تحاول مجاراة فتياتنا في الرقص ، و شوية شوية الرقص سخن مع الموسيقى الصاخبة ، و حمد يتحاوم حولها كحومان الذئب حول فريسته و كأنه يحميها من الأعين و من المتطفلين ، و بعد عدة محاولات فاشلة من ريتا للتأقلم مع إيقاع رقصاتنا ، أخذت ركنا قصيا من الحلبة بحيث يشاهدها الكل وراحت تتراقص كما آلة الأكورديون في أوج عزفه بيد ود الحاوي ، تلك الحركات بالكتفين التي تجيدها الفنانة المصردانية ( جواهر ) ، فصارت ريتا كالمغرد خارج السرب ، هي في جهة و حسانيتنا في جهة أخرى ، و حمد يصفق و يترنح فرحان جذل و هو يصفق لها و يبشر لوحده ( الفول فولي زرعته وحدي و و سآكله وحدي ). معذور حمد ، فقد كان يرى فيها كل شيء حلو. ثم إختفى عننا حمد ، و لفترة طويلة ضاعت أخباره عنا وسط زحام الحياة و حزمنا الإغترابية تأكل لحظاتنا ، ثانية بعد ثانية. ثم جاءت أخباره ، إنه يقيم في قرية ريتا بأثيوبيا ، فصار شيخا ( ليهو بوخ و إيدو لاحقة ) ينادونه ( شيك همد المشلك ) و أسلمت ريتا و صار إسمها زينب ، و يعتبرون أن من ينظر لشلوخه في خده الأيسر و الأيمن عند أي لقاء به ، يكون قد نال بركته و كان ذاك يوم سعده. بركاتك يا شيك همد. إخواننا المصريين ، أطلقوا علينا إسم البرابرة ، إنطلاقا من مفهوم معين. فقد قام الملك فاروق بتعيين السودانيين في مصر و خاصة النوبة في سلاح الهجانة ، يركبون على الجمال و هم يجرون بالأرض سيطان عنج ، كانوا يحرسون حدود الدولة ، و إن حدث أي هرج أو مرج في القاهرة يطلبهم الملك فاروق فينزلون وسط الدارة و يلهبون ظهور أولاد بمبة بهذه السياط و التي لا يتحملونها. فأطلقوا علينا هذا الإسم تشبيها لنا بالقبائل الهمجية البربرية. المهم إنو واحد من البرابرة ، عاش في تلك الحقبة تاجرا ميسور الحال في أم الدنيا ، و كان بعين واحدة ( المتشاءم يقول له أعور ، أما المتفاءل فيقول أنه بعين واحدة )، ففكر أن ( يلَغْوِس ) شوية في حياته ، و يعمل تحلية و يتزوج مصرية ( تجعل حياته في الغربة طرية و لينة ). فتزوج واحدة من باب اللوق ، و عاش مبسوطا مفتول الشاربين منفرج الشفتين ، يدخل عليها كل يوم و هو يحمل أكياس الفاكهة و اللحمة البتلو ، و البسبوسة ، و دامت حاله هنية و رضية ، إلا أن دوام الحال من المحال ، فأفلس ، و صار يدخل يوميا على زوجته خالي الوفاض ، فتسأله زوجته و هي تزم شفتيها ( ها ... ما لقيتش شغلة ولا مشغلة ؟ ). فيقول و هو كسير العين ( لا ). و إستمر الوضع لبضعة أسابيع ، و في يوم فتحت له الباب بحيث ظهر وجهها و صدرها فقط و قالت له : ها ، مافيش جديد ؟ فقال : لا فقالت و هي تخبط على صدرها : يا لهوي ... و كمان أعور ؟؟؟؟؟؟ و تطايرت ملابسه و حاجياته من البلكونة ، قطعة قطعة ، يلتقطها و عينه الوحيدة تذرف دمعا غزيرا.
اللهم إختزل حزم إغترابنا .. و أرجعنا إلى أهلنا في وطن يسوده السلام . و كل عام و أنتم بألف خير.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-28-04, 12:11 PM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | Mohamed Mohyieldin | 12-28-04, 11:46 PM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 00:10 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | حمزاوي | 12-29-04, 00:34 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | زول ساكت | 12-29-04, 00:57 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 01:05 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ودقاسم | 12-29-04, 01:05 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 01:07 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 01:11 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | مهيرة | 12-29-04, 02:22 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | عمر محمد عبد القادر | 12-29-04, 02:27 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | خالد أحمد عمر | 12-29-04, 02:31 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | خالد أحمد عمر | 12-29-04, 02:32 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 02:46 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 02:55 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 02:57 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | Yasir Elsharif | 12-29-04, 05:42 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-29-04, 11:20 PM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | Yasir Elsharif | 12-30-04, 06:02 AM |
Re: إلى كل المغتربين بحساب الحزم الضوئية | ابو جهينة | 12-31-04, 05:51 AM |
|
|
|