|
|
 Re: المواسم - قصة (Re: Ehab Eltayeb)
|
● موسم الخريف :
قليلا قليلا أيها الضيف ، تدور عجلة الزمان دورتها ، و تمضي بنا رُحل الحياة ضاربة في خضم تيه لا يرى ، وكسراب يذوب و يضمحل ، ينقشع ضباب تلك اللحظات ، وترتحل عن سماء القرية سحب تلك الدعوات المتكررة ، ولا يبقى منها سوى مالا نملك إعلان موعده ..وتهدأُ سماء القرية ، وتغـدو صافية زرقاء , حيث ترتحل عنها أرتال تلك السحب الركامية , والتي حينما تخيم على أرجائها , تضحي السماء قبة داكنة , يخيل للرائي أن حدودها قـد تقلصت على جنبات القرية..
حينئذ وعلى حين غرة ، وبين تارة وأخرى , يسطع البرق العبادي من جهة السافل, ويتلألأُ على جنبات السماء كأنه سيف أغمد في كبد الغيوم ..عندئذ تتعالى أصوات القوم والبهائم , وتنشط الحركة , ويكثر الهرج والمرج , ويهرع كل امريء صاعدا فوق ظهر داره .,.حيث يتم تثبيت السباليق ، أوصبابات الماء بالحجارة لكي لا تقتلعها الرياح الهوجاء ، وتنظف رؤوس المنازل من الحصى ، وتوارى ظهورها بالتراب ,أو بالجيرالخشن0 فالموقف, ينذر بأن مطرا غزيرا لا محالة هاطل ...رويدا,, رويدا ، ينشط تيار الهواء المشبع بالرزاز والرطوبة ، وتبدأ قطرات الماء الغليظة تتساقط ، و ترتضم فوق لأرض اليابسة بعنف ، في إيقاع كأنه وقع حوافر خيول جامحة .. سرعان ما تبتل الأرض ، ويثور الغبار، وتختلط قطرات الماء بالتربة ، وتفوح رائحة الدعاش..
عندئذ ، ومن جهة دار الحبوبة العجوز زهراء بت بلال , تنطلق همهمة صوت مبحوح كأنه عويل نساء البكاء ..يا ضيفي ,هذه المرأة الكبيرة السن, بقيت مثل جذع شجرة معمرة ، ضاربة جذورها في باطن الأرض , و لكن مع مرور الزمن وتكالب الإحن , عطبت ثمارها، و تساقط نوارها , و يبس عودها , و بقيت وحيدة بلا أهل ..حيث أنها أثرت أن تعيش في حضن دارها الخربة ، على أن تكون عالة على أحد .. أما أهل القرية ، رجالا ، وأطفالا ، ونساء ، يحسنون أليها بالماء والغذاء والكساء ، و حينما تلهيهم مشاغل الحياة عنها ، تستغيث بأعلى صوتها , فيهرعون أليها بما تحتاجه ...وعندما تختلط الأحداث أو الأنساب والأصول ، وتتشابك الجذور ، يستغيثون بذاكرتها القوية التي لم ينل منها الدهر .. في استغاثة تسمع نداء صوتها المبحوح يتردد صداه قائلة :
ـ((عوووك يا ناس الحلة الحقوني ,, المطرة جات ,, و بيتي سجمان و رمدان .. لا مزبل ولا فيه سباليق.. يا ناس أنجـدوني ...بيتي صَبّ و خلاص أنا غرقت ...وا مُصٍيبتي ..ووا سوادي,, ووا رمادي ))..
في الحال يهرع جماعة صوب دارها الخربة ، و يصلحون سبلوقة الماء ، ويثبتونها بأحكام على الجدار ، أو يربطون عليها حجرا من الأحجار، وينظفون رأس البيت ، ويوارون ظهره بالجير والتراب .. وفرق أخرى من ذوي المروءة والشباب ، تجند نفسها لكل أمر طارئ ، حيث يخرجون لتفقد أحوال غيرهم من الأرامل واليتامى ، ويعاونونهم على شق مصارف الماء بين الحيشان ، والأزقة الضيقة ...ورويدا.. رويدا ، يشتدّ هطول الأمطار، وتومض البروق , وتتوهج السماء، وتضوي بنورها الأرض ، وينسكب الماء , و تدوي طبول الرعد ، و تفرقع الصواعق , وتختلط مشاعر الترقب و البهجة , بالخوف و الرهبة ، وينكسر حاجز الصمت حين تنطلق أفواه القوم مرددة في فرح ونشوة :
ـ(( كيل يا مكاييل بالربع الكبير وخلي الوادي يسيل))..
وتتراكم الغيوم ، وتدر ضروع السحب ، وينزل الغيث مدرارا ... وتمتلئ الحفير بالماء , وتتكون البرك , و تسيل السيول لتملأ بطون الأودية المنحدرة بأطراف القرية ، ويطفح الخور الكبير ، ويفيض نهر النيل ...
وحينما يخف المطر المنهمر ، و ينزل قطرة قطرة , ويزول الخطر , حينئذ يتسلل الأطفال خلسة ، و يلهون بالماء و يخوضون في الوحل والبرك ، وتارة يرقصون تحت إيقاع قطرات المطر، ويرددون في فرح أغانيهم البريئة :
ـ (( يامطيرة صبي لينا في عـينينا))..
ـ ((يا مطيرة صبي لينا في عينينا))..
وحينا آخر ياضيفي ، وقبل هطول تلك الأمطار الغزيرة ، تثور الرياح من جهة صحراء الشمال , وتهب كريح صرصر عاتية، تجيء داكنة سوداء ، وتارة تكون مصفرة اللون أو محمرة ...ورويدا رويدا ، تتصاعد أجنحة الغبار إلى عنان السماء , و تجيء كخليط إعصار هائل يمتد بين أقطار السماء والأرض ، يثور ويفور ويتمازج ، ويتلوى كأنه المارد..
حينئذ يخيل للرائي أن تلك الرياح العاتية وهي في مسار قدومها صوب بيوت لقرية , سوف تقتلع الأرض من جذرها , و تحيل بيوت الجالوص المتآكلة وكل ما في الحياة , إلى حطام , و أطلال خراب مثلما أهلكت من قبل قوم عاد... وحينها من هول تلك الرؤى الغامضة ، ينهض الأمل في أفئدة أهل القرية , و ترفع الأكف صوب السماء وتبتهل إلى الله , متمنية من المولى عزّ وجل أن يفرق شمل تلك الرياح , و يأتي بها بردا وسلاما0 ومن الناس من يقوى الأيمان في قلبه, فيقرأ القران , ويتحصن بآياته , ومنهم من يلوذ إلى الصلاة وتنطلق عقيرته تجأر بالدعاء قائلة:
ـ(( اللهمّ أنا نسألك خير هذه الرياح و خير ما أرسلت له ، و نعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت له)).. وبغتة تزول تلك الـغُـمـْة , وتنجلي الظلمة , ويتشتت شمل تلك الرياح العاتية , وتأتي خفيفة( سواحية) ، ويسفر المخاض عن هطول الأمطار وتدفقها بغزارة شديدة , معلنة بـدء فصل الخريف, و ارتواء الأرض ..وحينئذ سرعان ما ينبت الحب, وتكتسي الأرض بالعشب, وأزهار الخريف , و تشهد طلائع تلك الأيام ارتحال الأعراب ببهائمهم من ضفاف النهر إلى أعماق الخلاء البعيد في رحلة الخريف ..
حينئذ ياضيفي، تسقط أوراق أشجار الحراز, وتعلن الحداد طيلة موسم الخريف مخاصمة المطر، ويفيض نهر النيل ويطفح فوق الضفتين ، و تورق أشجار الأودية كالطنضب واللعـوت والسيال ، وترك فوق هاماتها الذنانين ، وتفرهد أشجار الغابة و تمتلئ بالثمار ، وتتدلى أغصانها بأعشاش الزرازير وطيور أم دلدلو, وتكتسي الأرض بالعشب الأخضر ، وتزحف في مناكبها الديدان , وأسراب الجراد, وقطارات الُسُرف ، وتزدهر الحياة الفطرية .. وحينئذ تعود من أقصى بقاع الأرض, أسراب الطيور المهاجرة , كالحُبارى والسِمبر و الرّهو , و أم رخم الله ,وصقور الجوّ , تحلق في سماء القرية , وتصفق و ترفرف بجناحيها حرة طلقة من بعد غياب طال...
|
|
 
|
|
|
|
Ehab Eltayeb
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست