صوت الموسيقى

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-21-2024, 07:37 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-05-2004, 12:54 PM

عاطف عبدالله
<aعاطف عبدالله
تاريخ التسجيل: 08-19-2002
مجموع المشاركات: 2115

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
صوت الموسيقى

    صوت الموسيقى
    قصة قصيرة


    إهداء
    إلى روح الموسيقار الراحل
    محمد إسماعيل المشهور بمحمد فوله



    الساعة الثانية بعد منتصف الليل، الشارع المؤدي إلى السوق الكبير هادئ تماماً.. القمر المكتمل يرسل خيوطه البيضاء لتجعل الرؤية ممكنة في الأزقة الضيقة المتفرعة منه، الزمان منتصف التسعينات من القرن المنصرم، المكان أحد أقدم أحياء المدينة وقد تَوَزَّعت في أركانه أعمدة الكهرباء التي افتقدت جميعها لمبات الإنارة.
    فجأة يشق سكون الليل سعال حاد تتبعه صرخات مكتومة:
    - آآه... آآه ه ه آخ آآه ه ه.....
    دَبَّ النشاط في الكلاب المتسكِّعة وبدأت تطلق نباحاً متقطعاً، ثم أخذت تعدو.. تغدو وتروح في حَلْقَة بيضاوية قطرها لا يزيد عن عِدَّة أمتار.. عم إدريس كان أول من خرج إلى الشارع، أضاء لمبة الكهرباء التي في مدخل بيته لينير الطريق. مصدر الصرخة كان من أمام منزله تماماً، خرج وبيده عصا غليظةً ومن ورائه ابنه إسماعيل يجر خلفه قضيباً مُدَبَّبَاً من الحديد الصلب.
    وأمام المنزل وجَدَا رجلاً يرتدي جلباب أبيض مُسَجَّيَاً على ظهره والزبد المختلط بالدم الأحمر يتدفق من فمه وبعد أن دنوا منه تبَيَّن لهم أنه إبراهيم الموسيقي عازف البوق والمعروف بإبراهيم النجَّار وكان قد فارق الحياة.. وما هي إلا ثوانٍ وتدب الحياة في أوصال الشارع من جديد.

    خمس ساعات للوراء
    يمرُّ إبراهيم بَادٍ التعب وقد عَصَف به المرض على مجموعة من الصبية يجلسون القرفصاء ويُشَكِّلون دائرة يصعب اختراقها وأياديهم ممتدة إلى طبق ممتلئ بالفول أمام دكان عبد الحفيظ يبادر أحدهم بعد أن شاهده:
    - أتفضل يا أستاذ.
    يهتف أحد الصبية، فيرد إبراهيم النجار:
    - شكراً.. شكراً يا شباب.. تعبان وما شي أنوم.
    فردد أحد الصبية الخبثاء همساً:
    - هو الغبيان دا ما عارف نفسو إنو رحل من الحله دي وألا شنو!؟
    "أي انتقل من هذا الحي"، فرد عليه أكبرهم:
    - أنت ما بتعرفه.. الغبيان الما عاجبك ده أعظم عازف ترامبت أنجبته البلد.
    فسأل أصغرهم:
    - الترامبت دا شنو؟ صُفَّارة يعني؟
    فرد الصبي الخبيث خاتماً الحديث:
    - يا أخوانا سيبكم منو ومن صفافيرو وخلونا مع الفول المصلح دا.
    يواصل الصبية أكلهم ويواصل إبراهيم سيره في الطريق الذي يُؤَدِّي إلى بيتهم القديم قرب النادي... ولكن هل يعقل أن يكون إبراهيم قد أفقده المرض بوصلته حتى يتيه عن داره التي انتقل إليها منذ أكثر من أربعة أو خمسة أعوام في ذلك الحي البعيد الواقع خارج حدود المدينة... أم أنَّ العشق قد اتقدت شعلته فيه من جديد.
    خمسة أيام للوراء
    اشتدت على إبراهيم آلام الصدر، فذهب إلى المستشفى العمومي الكبير يحمل معه رسوم العلاج حيث رأت الحكومة أنَّ العلاج المجاني لا يتناسب مع التوجُّه الحضاري للبلاد ولا يستحقه إلا المقربون ممن رَضُوا عنهم، وبعد ملهاة الانتظار الطويل في ذلك الطابور المأساوي حيث كل فرد فيه هو ما بين ميت وحي وإبراهيم يتلوَّى ويبصق دماً وقف أب في كامل فحولته يبكى ويستغيث وهو يحمل طفله الذي التهم الحريق جسده البض، الرجل ما بين عويله وصراخ الطفل فَهِم منه إبراهيم بأنه غادر بيته حافياً، حتى صاحب سيارة الأجرة الذي أوصله للمستشفى عَذَره وأعفاه من قيمة المشوار بعد أن رأى حالة طفله ولكن هنا.. في هذا المستشفى العمومي الذي شُيِّد بالجهد الشعبي قبل أكثر من سبعين عاماً.. هنا في عنبر الحوادث.. وقف الأطباء صاغرون عاجزون على مد يد الرحمة للطفل الباكي أو مسح دموع الأب المكلوم.. ليس لأن الأمر أكبر من قدراتهم أو لعجز في الإمكانيات، بل لأنَّ الأمر ليس بيدهم.. الصبية الذين عَيَّنتهم الحكومة، لهم سلطات أعلى منهم، سيطروا على المكان وفرضوا إتاوات على إنقاذ حياة البشر.. وأعلنوا للملأ بأنه لا علاج إلا لمن يملك قيمته.. منعوا أيادي ملائكة الرحمة أن تمتد لمساعدة الطفل المسكين.. انهار الأب تحت صراخ الطفل.. والأطباء مشدوهون.. في تلك اللحظات ودون تلكؤ أو تردد وقف إبراهيم وأدخل يده في جيبه وأخرج ما معه من مال كان قد أحضره ليعالج به، أخذه ووضعه بين يدي الأب الجاثي على الأرض وغادر المستشفى وهو يبصق دمه على ذلك الحال والمآل.
    وما هي إلا لحظات حتى نهض معظم طابور المرضى وأخرجوا ما معهم من مال ووضعوه بين يد الأب الباكي الذي ازداد بكاءاً، وبعد أن جمع ما طلب منه من مال حمل طفله وذهب به عَدْوَاً إلى حجرة العلاج.. لكن الطفل لم يصمد أكثر وأعلن الطبيب المناوب بأن الطفل فارق الحياة.. أتى صبي الحكومة ليواسي الأب وأطلعه على وجود مكتب بالطابق الثالث لصندوق الزكاة يمكن لموظفيه أن يساعدوه في مأتم طفله.. جَفَّف الأب دموعه بطرف قميصه ثم نثر فوق رأسه النقود التي جمعها المرضى لعلاج ابنه، حاول صبي الحكومة أن يستهين بفعلته بأن يبتسم في وجهه لكنه ارتعد رُعْبَاً تحت نظرات الأب وتمتماته المبهمة.
    خمس سنوات للوراء
    قد يعشق القلب عدة مرات، لكن العشق الحقيقي لا يكون أكثر من مرة والذي يتذوَّق طعمه لا يقبل عنه بديلاً، وإبراهيم عَشِق مرة.. عَشق وعٌشق، عاش قصة حب صارت مضرباً للأمثال في الحي مثلها مثل قصص قيس وليلى وروميو وجوليت. وفي ذلك يكمن سر عدم زواجه حتى بلوغه هذا من العمر.. وكبار الحي مازالوا يُرَدِّدون في مجالسهم قصة افتنانه بعائشة.
    عائشة تجاوزت الآن العقد الرابع أو الخامس من عمرها لكنها لا تزال تحمل بين جنباتها ذلك الحُسْن البهي الذي يندر وجوده وهو مزيج مدهش من الحزن والفرح، الجرأة والحياء، الأصالة والحداثة.. أنثى قد لا تشتهيها من أول نظرة.. ولكن إن أمعنت النظر فيها وأصابك سهم لحاظها، فسوف لن ترغب في سواها ولكن ومهما بلغ أوج رغبتك فيها فلن تملك من أمرك شئ لأنها تفرض عليك الطريقة التي يجب أن تعاملها بها.
    عندما كانت صبية وقع إبراهيم في حبائل ودها وعشقها حتى الثمالة وبادلته حُبَّاً بحب وولهاً بوله وكأي علاقة معافاة تقدَّم إبراهيم للزواج منها فرفض أهلها تزويجها له بحجة أنه صايع ويكسب قوته من المشاركة في أحياء الأفراح، ولم يشفع له خُلقه ومروءته ولا حتى أنه عضو بأوركسترا الإذاعة.. رفض أهل عائشة تزويجه منها واشترطا عليه أن يبحث عن رزقه بعيداً عن الموسيقى وبيوت الأفراح كي يزوجوه بها ولكن المسكين لم يكن له أي خبرة إلا في العزف على آلة الترامبت ولا مهنة إلا الموسيقى.. عندما علمت عائشة بحرمانها ممن تحب قَرَّرت أن تضع أهلها أمام الأمر الواقع وأن تهرب مع حبيبها وتتزوجه وعندما عرضت عليه ذاتها وهي بكامل فتنتها رفض إبراهيم مجاراتها واغتنام الفرصة ليس لخوف أو ضعف أو لعدم ثقة في ذاته، بل لرفضه أن يبني سعادته على حساب شقاء الآخرين لأن هذا الفعل حتماً كان سيشقي آخرين وإن كان هؤلاء الآخرون هم غرماؤه الذين حرموه ممن يحب ولكن ما العمل وهم أهل من يحب؟ قَرَّر الابتعاد عنها لعل في ذلك بعض من مصلحتها وهي بكل ما تحمل من صفات حتماً ستجد من هو أفضل منه لتتزوجه. ترك الحي والمدينة واتَّجه شرقاً صوب البحر الأحمر لعل بعض مائه الأُجاج يُخْمِد لهيب الحب الذي يشتعل في قلبه، عاش لسنوات متجولاً في مدن شط البحر الأحمر حتى استقر به المقام جوار الميناء.
    ولكن عائشة كان لها رأي آخر في فكرها وروحها التي رفضت هذا الرأي فمرضت حتى دنت من شفرة الموت ولكن وبعد مضي عامين أو ثلاثة وهي مسلوبة الإرادة، بعد أن أصابها اليأس من عودة حبيبها، زَوَّجها أهلُها من الطبيب الذي كان يعالجها. بعد أن سمع إبراهيم بخبر زواجها أخذ آلته الموسيقية ودفنها مع أحزانه، والتحق بورشة للنجارة وعَمِل فيها وصار يُعْرَف بإبراهيم النجَّار والقليلين فقط يذكرون مدى عبقريته في الموسيقى.
    كل ذلك جرى منذ سنوات بعيدة ولكن ما جرى تحديداً قبل خمسة أعوام وهو الحدث الذي أعاد للحي سيرة إبراهيم وعائشة من جديد كان ما جرى في حفل عرس شقيق عائشة وكان إبراهيم بالمدينة والعرس كان بجوار منزلهم القديم قرب النادي...
    بعد أن امتلأ الصيوان بالحسان واعتلى الموسيقيون المسرح الخشبي الصغير الذي أُعِدَّ بطرف الصيوان، بينما يجلس العروسان على المقاعد المُزَيَّنة بالأنوار وأغصان النخيل، وتسلق الصبية الحوائط على جانبي الشارع وجلس الرجال مقابل النساء وقبل أن يختلطوا في المساحة المُخَصَّصة للرقص والهز والتبشير وبعد أن صعد المطرب الذي أحيا الحفل وانتهى من فاصلته الغنائية الأولى، وإبراهيم ما زال يستلقي فوق سريره القديم في وسط حوش البيت تنهش فيه الذكريات، تؤانسة زجاجة من عرقي البلح، متردداً هل يذهب للعُرْس ويلبي الدعوة من غرمائه السابقين أهل عائشة أم أن الجراح التي أبت أن تندمل ستلتهب من جديد.
    في تلك اللحظات سمع طَرْقَاً على الباب.. ودون أن يلتفت إليه نادى على الطارق بالدخول وكان آخر ما يرغب فيه تلك اللحظة زائراً.. ولكن ليس من طبعه أن لا يأذن للطارق بالدخول، استمر الطَرْق على الباب، وإبراهيم مازال مستلقياً على سريره
    - يا أخي أتفضل.. أدخل الباب فاتح.
    لكن الطَرْق استمر حتى أجبره على النهوض، وضع الكأس من يده واتجه للباب وعندما فتحه ورأى زائره تَسَمَّر كمن أصابته صاعقة.. كانت هي بشحمها ولحمها عائشة الإنسانة التي هام بها وهام الدنيا بسببها.. أتته دون سابق وعد.. لم يلتقيها لأكثر من عشرين عاما لكن طيفها لم يفارقه لحظة.. هي بنفسها الآن أمامه،هي كما هي يا ألهي.. اختلطت الأمور عليه وقف صامتاً فاغراً فاهه من الدهشة ولم يفق إلا على صوتها.
    - متأسفة.. يمكن أكون جيت في وقت غير مناسب.
    - معقول.. عائشة.. معقول..
    وأخذ يردد عبارات مبهمة وكلمات مثل عائشة .. معقول.. دقيقة.. عائشة.. دقيقة، ورَدَّت عليه بابتسامة عذبة حتى تضع حَدَّاً لحيرته:
    - على كل حال أنا مستعجلة وجيت أطلب منك أن تحضر العرس.. ونحنا.. ومهما حصل زمان برضو جيران وأهل...
    قبل أن يفق إبراهيم من آثار الصدمة كانت قد أعطته ظهرها وعادت صوب مكان العرس.
    كانت عائشة في تلك الليلة أجمل جميلات العرس، السنوات التي تراكمت على كاهلها لم تزد إلا هيبة لحسنها وألق لجمالها.. لَبَّى إبراهيم نداء قلبه وجاء لمكان الحفل ووقف في طرف الصيوان يتلصص النظر بين الحسان يبحث عن عائشة..
    ما هي إلا دقائق والمطرب يغني إحدى الأغاني الشعبية والتي جعلت الشبان والشابات يتراجعون إلى مقاعدهم وأخلوا الساحة الصغيرة التي أمام المغني للرجال بعمائمهم وجلابيبهم البيضاء يحملون عصيهم يبشرون ويعرضون أمام المغني، والنسوة الكبار بثيابهم المُلَوَّنة يرقصون رقص العروس في السباتة التي وضعت في الساحة الصغيرة، يخطرون كما الحمام. عندها تقدمت عائشة وتوَسَّطت السباتة، وأنزلت طرف الثوب من على رأسها، أفردت شعرها الليلي الطويل على أكتافها، ثَنَت خصرها وأمالت عنقها للوراء، أرخت ساعديها حتى بانت كفاها المنقوشتان بالحناء، ورفعت صدرها صوب السماء ، ثم أخذت تتمايل وتهتز مع إيقاع "التمتم" في تناغم شجي مع صوت المغني.. في تلك اللحظات لا يدري أحد كيف حدث ما حدث أو أين كانت البداية، أو ماذا كانت النهاية.. لكن إبراهيم تقدم ودنا من وسط الساحة ووقف يتمَعَّن في الإنسان الذي شَكَّل وجدانه وسيطر على عواطفه طوال السنين الماضية، ووقف دون حراك وكانت هي أكثر منه جرأة، تقَدَّمت وخَطَت نحوه في تأنٍ يحفظ إيقاع الأغنية وفمها ينفرج عن ابتسامة عذبة.. أمالت رأسها ذات اليمين وذات اليسار ورمت بشعرها فوق صدره فيما يعرف "بالشَّبَّال".. في تلك اللحظة أحس إبراهيم كأن الزمن قد توقف وأنه طائر كان محبوساً ومنتوف الريش وفجأة وجد نفسه مُحَلِّقَاً وأجنحته لا تتوقف عن الخفقان.. وأن الذي ألقت به فوق صدره، أحاسيس جياشة غمرته مع الشعر المسكوب عليه.. لم يكن شَعْرَاً بل شلال فرح متدفق من الفردوس، وابتسامتها لم تكن ابتسامة بل نور إلهي انبثق ليشرح له صدره، تَقَدَّم نحو المسرح.. صَعِد إليه حيث الفرقة الموسيقية وهو بكامل الإرادة كان دون إرادة، طلب من عازف الترمبت أن يعطيه الآلة الموسيقية، تَرَدَّد العازف الشاب لكن المغني أومأ له بالموافقة فقد كان الوحيد من بينهم الذي تعرف على إبراهيم النجار.. أمسك إبراهيم بالترمبت.. تحسسه.. مسح على طرف فمه بيده اليسرى، ورفع الآلة ووضعها بين شفتيه.. ثم انحنى فوقها.. ولفترة طالت كأنها دهراً والجميع ينتظر سماعه كان هو يكتفي فقط بأن يُمَرِّر أصابعه فوق مفاتيحها، يضغط عليها في رفق دون أن تُصْدِر أي نغمة.. والموسيقى تصدح من الفرقة التي وراءه حتى تعجب العازفون فيها، وإبراهيم مازال منحنياً على الآلة.. والأغنية على وشك الانتهاء.. وعائشة ترقص وإبراهيم مازال يتلَمَّس الآلة الموسيقية، معطياً ظهره للمغني والآلة بين يديه لا تُصْدِر أي صوت، وفجأة أطلقت الآلة النحاسية نغمة أشبه بالنداء.. نغمة واحدة طويلة.. طويلة كأنها صدرت من أحشاء الأرض واستمرت لعدة دقائق دون انقطاع، لم تكن نغمة بل صرخة، لا بل عواء وإبراهيم مازال منحنياً فوقها، قابضاً عليها كأنها مُهْر فالت يودُّ ترويضه من جديد، ثم توَقَّف عن النفخ ورفع رأسه ووجَّه فوهة الترمبت النحاسي صوب السماء وأطلق العنان لمخيلته كمن يُؤَدِّي في قُداس، عندها صمتت الفرقة الموسيقية وتوَقَّف المطرب عن الغناء والراقصون في وسط الحَلْبَة عن الرقص عَدَا عائشة التي كأن أصابها مس من الزار.. حتى الأطفال والصبيان الذين كانوا يجلسون فوق حائط النادي يتبادلون الضحكات مع أنفاس أعقاب السجائر وقفوا على قوائمهم غير عابئين بالسقوط من على الحائط، والذين كانوا منشغلين بالحكي أو تناول الطعام صمتوا عن الكلام وعن الأكل وانشدهوا في مزامير داود التي أطلق معاقلها إبراهيم في تلك الليلة.. عزف ولم يعزف بل كأن الملائكة كانت هي التي تعزف، استمر إبراهيم في تثنيه مع آلة الترمبت.. يميل معها حيث تميل.. وتلبي أصابعه نداء مفاتيحها ويضغط عليها حيث ترغب والآلة بين يديه تستغيث وتطلب المزيد.. عائشة ترقص وإبراهيم ينفخ دون هوادة ينفخ وينفخ والآلة تصدح وتصدح بين راحتيه غير مبالٍ بآلام رئتيه بل تراه كأنما تلبس عشرات الرئات الجديدة.. تَجَمَّع الناس من كل حدب وصوب.. أهل الحي والأحياء المجاورة جذبهم صوت الموسيقى.. حتى السيارات العادية بالطريق العمومي توَقَّف أصحابها عن السَيْر وأرخوا آذانهم لتلك النغمات السماوية التي عبأت المكان، بعد زمن لا يدري أحد طال أم قصر أخذت الآلة تئن وتنوح.. والصمت يُلْجم الجميع.. جلس المغني تحت قدمي إبراهيم وترك العنان لدموعه لتعبر عنه وتغسل أحزانه، ثم تلاه عددٌ من أفراد الفرقة الموسيقية والحاضرون ولم تتوقف الدموع إلا بعد أن سقطت عائشة مَغْشِيَّاً عليها، عندها توقف إبراهيم عن العزف، ووضع الآلة برفق ورَبَّت عليها وتسَلَّل من بين الحضور والجميع مشغولون بعائشة ولم يره أحد بعد ذلك حيث غادر الحي، ثم سُمِع عنه بعد عدة أشهر أنه باع البيت القديم واشترى آخر على أطراف المدينة ولم يُسْمَع عنه أنه عَزَف الموسيقى من جديد ولم يره أحد من الحي عدا ذلك اليوم الذي تاه فيه عن بيته.
    عدة أعوام للوراء، عشرة، عشرون، خمسون أو ربما مائة، غير مهم، فما بات أحد يحسب أو يَعُدّ: شاب نحيف دون العشرين من العمر يرفع آلة الترامبت عالياً وينفخ فيها بملء أشداقه السلام الوطني، وعَلَم البلاد يهفو ويصعد السارية وعَلَم المستعمر ينزوي ويُطوى إيذاناً ببدء عهد جديد.. ذلك الشاب كان هو إبراهيم النَجَّار.


    عاطف عبد الله
                  

العنوان الكاتب Date
صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-05-04, 12:54 PM
  Re: صوت الموسيقى Elnasri Amin08-05-04, 01:17 PM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-06-04, 09:49 AM
  Re: صوت الموسيقى mustafa mudathir08-05-04, 05:10 PM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-06-04, 09:57 AM
  Re: صوت الموسيقى الجندرية08-06-04, 05:07 AM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-06-04, 10:02 AM
  Re: صوت الموسيقى لؤى08-06-04, 05:32 AM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-06-04, 10:07 AM
  Re: صوت الموسيقى TahaElham08-06-04, 10:13 AM
  Re: صوت الموسيقى mustadam08-06-04, 11:18 AM
    Re: صوت الموسيقى تولوس08-06-04, 01:43 PM
  Re: صوت الموسيقى mustafa mudathir08-07-04, 06:28 AM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-08-04, 00:46 AM
  Re: صوت الموسيقى Abdalla Gaafar08-08-04, 04:19 AM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-08-04, 07:23 AM
      Re: صوت الموسيقى mustafa mudathir08-08-04, 11:52 AM
        Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-09-04, 07:16 AM
  Re: صوت الموسيقى Elmosley08-08-04, 01:46 PM
    Re: صوت الموسيقى tmbis08-09-04, 08:52 AM
      Re: صوت الموسيقى mustafa mudathir08-09-04, 06:19 PM
      Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-10-04, 06:22 AM
      Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-10-04, 06:27 AM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-09-04, 09:53 PM
  Re: صوت الموسيقى الجندرية08-19-04, 10:17 PM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-24-04, 00:37 AM
      Re: صوت الموسيقى بنت الاحفاد 200108-24-04, 00:48 AM
        Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-24-04, 05:55 AM
  Re: صوت الموسيقى أحمد طه08-24-04, 02:51 AM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-24-04, 10:58 PM
  Re: صوت الموسيقى willeim andrea08-24-04, 03:57 AM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-24-04, 11:07 PM
  Re: صوت الموسيقى عبدالماجد فرح يوسف08-25-04, 06:12 AM
    Re: صوت الموسيقى عبدالماجد فرح يوسف08-25-04, 01:41 PM
    Re: صوت الموسيقى عاطف عبدالله08-27-04, 10:38 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de