|
من جرائم الحرب _ التحريض المباشر والعلني علي ارتكاب الإبادة
|
نقدم هذا المقال المهم تضامنا مع ضحايا الجنجويد في دارفور ومطالبة بمحاكمتهم
التحريض على الإبادة
كوليت بريكمان* حض الصوت المنطلق من الراديو "اعملوا بجد أكثر، القبور لم تمتلئ بعد". في شهر نيسان 1994، عندما بدأت الإبادة في راوندا، كان الناس يلتصقون إلى أجهزة الاستقبال. ففي ذاك الجزء من العالم الذي لا توجد فيه كهرباء عند معظم الناس، تكون تلك هي الطريقة الوحيدة لنشر المعلومات. ولكن في ذاك الصيف في راوندا، بدا أن غرض محطات الإذاعة الوحيد: تحريض الجماهير الهوتية على تصفية جيرانهم.
وكانت أشهر محطات الإذاعة جميعاً محطة آر. تي. إل. إم.، راديو وتلفزيون الألف تلة. اشتهرت المحطة بوجود أفضل ديجيهات راوندا فيها، وبمزجها الجذاب بين الموسيقى الأفريقية والبرامج الإخبارية والتحليل السياسي. وبشرت المحطة التي أسست سنة 1993 ويملكها أفراد عائلة الرئيس هابياريمانا وأصدقاؤه، برسالة متطرفة تقول بالتفوق الهوتي، ولكن عديد الراونديين غير المسيسين أصبحوا مستمعين لها للموسيقى التي تبثها. وفي الحقيقة، كانت قلوبهم وعقولهم تُحضََّر للإبادة. وعندما أُطلق عنان القتل في السادس من شهر نيسان، أصبح واضحاً ما خلقه أصحاب المحطة ومديروها- منبراً جهنمياً يمكن من خلاله نشر رسالة القتل في جميع أنحاء راوندا.
وما قدح زناد المحنة، إسقاط طائرة هابياريمانا بصاروخ. فبعد دقائق من تحطم الطائرة، اتهمت المحطة القوات البلجيكية التي تقوم بمهمة حفظ سلام للأمم المتحدة في رواندا باسقاط الطائرة. وفي الصباح التالي، قُتل عشرة جنود بلجيكيين بوحشية، وانسحبت قوات الأمم المتحدة. وكانت أر. تي. إل. إم. من أعطى إشارة بدء مجزرة التوتسيين والهوتيين المعتدلين.
قالت آر. تي. إل. إم. في السابع من نيسان والثامن منه: "يجب أن تقتلوا [التوتسيين]، إنهم صراصير...". وفي الثالث عشر من أيار: "يا من تستمعون إلينا جميعاً، انهضوا كي نستطيع جميعاً القتال من أجل رواندانا.. قاتلوا بأية أسلحة تمتلكون، من يملك منكم سهاماً، بالسهام، من يمتلك منكم رماحاً، بالرماح... احملوا أسلحتكم التقليدية... علينا جميعاً أن نقاتل [التوتسيين]؛ علينا التخلص منهم، صَفّوهم، امحوهم من كل البلد... لا تدعوهم يجدون ملاذاً، لا ملاذ على الإطلاق". وفي الثاني من شهر تموز: "لست أدري إذا كان الله سيساعدنا على تصفية [التوتسيين] أم لا... لكننا يجب أن ننهض لتصفية هذا العنصر من الأشرار... يجب أن يصفوا لأنه لا توجد طريقة أخرى".
وفعلت الرسالة فعلها. فإلى شهر تموز 1994، عندما وضع انتصار الجبهة الوطنية الراوندية التي يقودها التوتسيون نهاية للإبادة، كان قد ذبح ما يقرب من مليون راوندي- معظمهم توتسيون، وأيضاً هوتيون ينتمون إلى أحزاب ديمقراطية راوندية. لقد نجحت الراديوهات نجاحاً كبيراً في التحريض على الإبادة.
وطبعاً، كان ما فعلته، تحضير الأرضية للقتل وتشجيع المستمعين على المضي فيه حالما بدأت الإبادة، غير قانوني كلياً وفقاً للقانون الإنساني الدولي الذي لا يعترف بحق مطلق لحرية التعبير. فبالتحديد، كان معظم من قتل مدنيون، أي "الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية". فحسب المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جينيف الأربع لسنة 1949، يعامل المدنيون "في جميع الأحوال معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون، أو الدين أو المعتقد، أو الجنس، أو المولد أو الثروة أو أية معايير مماثلة أخرى".
وإذ انتشر الاهتياج، أصبحت الوثيقة الأساسية اتفاقية الإبادة لسنة 1948 التي غدت راوندا طرفاً فيها سنة 1975. تعرف الاتفاقية جريمة الإبادة بأنها "أفعال ارتكبت بقصد تدمير جماعة قومية أو عرقية أو جنسية أو دينية، كلياً أو جزئياً". وتشمل الأفعال قتل أفراد المجموعة، وإيقاع أذى بدني أو ذهني خطير بها، وفرض شروط حياة مدروسة لتدميرها بدنياً، كلياً أو جزئياً. ولا تجعل الاتفاقية الإبادة نفسها جريمة دولية فقط، بل وتنص في مادتها الثالثة على أن "التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة" محظور. وفي شهر أيلول 1998، حكمت محكمة جنائية دولية مؤقتة لراوندا، أقيمت في أروشا، تنزانيا، على جان كامباندا، رئيس الوزراء السابق، بالتحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة، جزئياً لتشجيعه محطة آر. تي. إل. إم. على الاستمرار في نداءاتها الداعية إلى قتل التوتسيين. وفي ذاك الشهر نفسه، أدانت المحكمة جان بول أكايزو،القائد المدني لكومونة طابا، بتهم شملت التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة.
هذا وقد ثُبِّتت المحظورات التي أقرتها اتفاقية الإبادة والسابقة القانونية التي أقرتها محكمة الجنايات الدولية لرواندا في نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية الذي تم تبنيه في السابع عشر من شهر تموز 1998. ووافقت 120 دولة على نظام روما الأساسي الذي وضع الأحكام الأساسية لأول محكمة جنائية دولية في التاريخ؛ فقد أدرجت المادة الخامسة من النظام الإبادة في رأس قائمة الجرائم التي تتمتع المحكمة بسلطة قضائية عليها.
ظل صحفيو محطة آر. تي. إل. إم. المتاجرين بالكراهية على الهواء إلى أخر لحظة من لحظات الإبادة الراوندية. ففي شهر تموز 1994، عندما هزمت الجبهة الوطنية الراوندية- الجيش التوتسي الذي قدم من أوغندا المجاورة- الجيش الراوندي ووضعت نهاية للإبادة، حمل موظفو المحطة جهاز إرسال متنقل وفروا إلى زائير مع لاجئين هوتيين. وفر فردناد ناهيمانا، مؤرخ مشهور عمل مديراً للمحطة، إلى الكاميرون. اعتقل هناك وسلم إلى محكمة أروشا، حيث يواجه تهمة محددة جداً: التحريض على الإبادة.
أغلقت الحكومة الجديدة التي يقودها التوتسيون محطة آر. تي. إل. إم.، ولكن الرسالة استمرت عندما شرع الهوتيون بالبث من محطة راديو سرية أخرى من كيفو، زائير، والتحريض على كراهية التوتسيين في بوروندي، مستعملة الشعارات نفسها.
-------------------------------------------------------------------------------- * كوليت بريكمان مراسلة للشؤون الأفريقة في لوسوار (بروكسل). وهي مؤلفة كتاب "الفزع الأفريقي" (دار نشر فايارد، 1996)، و"تاريخ إبادة" (دار نشر فايارد، 1994)، و"الديناصور: موبوتو زائير" (دار نشر فايارد، 1991).
|
|
|
|
|
|
|
|
|