مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-09-2024, 05:51 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-24-2004, 07:07 PM

humida
<ahumida
تاريخ التسجيل: 11-06-2003
مجموع المشاركات: 9806

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي (Re: humida)

    قلت:
    - مؤسف حقاً.. ألا تكون قد رسمت كل هذه الفترة.
    أجاب:
    - الرسم كما الكتابة, وسيلة الضعفاء أمام الحياة لدفع الأذى المقبل. وأنا ما عدت أحتاجها لأنني استقويت بخساراتي. الأقوى هو الذي لا يملك شيئا ليخسره. لا تنغش بهيئتي. أنا رجل سعيد. لم يحدث أن كنت على هذا القدر من الخفة والاستخفاف بما كان مهماً قبل اليوم.
    عليك في مساء الحياة أن تخلع هم العمر كما تخلع بدلة نهارك أو تخلع ذراعك أو أعضاءك الإصطناعية, أن تعلق خوفك على المشجب, وأن تقلع عن الأحلام. كل الذين أحببتهم ماتوا بقصاص أحلامهم!
    أدركت فجأة سر جاذبيته. كانت تكمن في كونه أصبح حراً. عندما ما عاد لديه ما يخسره أو يخاف عليه.
    وهو يدرك جماله كلما فاجأ نفسه يتصرف محتكماً لمزاجه, لا لحكم الآخرين, كما عاش من قبل. ولا تستطيع إلا أن تحسده, لأنه خفيف ومفلس. خفته اكتسبها مما أثق به الناس أنفسهم من نفاق. وبإمكانه أن يقول لكل من يصادفه من معارف ما لم يجرؤ على قوله من قبل.
    كرأيه في الرسام غير الموهوب الذي كان ينافقه مادحاً أعماله, والجار الذي كان يجامله اللحية عن خوف, والصديق الذي كان يسكت عن اختلاساته عن حياء, والعدو المنافق الذي كان يدعي أمامه الغباء.
    سألته:
    - ألا تخشى ألا يبقى لك صديق بعد هذا؟
    ضحك:
    - ما كان لي صديق لأخسره. أصدقائي سقطوا من القطار. عندما تغادر وطنك, تولي ظهرك لشجرة كانت صديقة, ولصديق كان عدواً. النجاح كما الفشل, اختبار جيد لمن حولك, للذي سيتقرب منك ليسرق ضوءك, والذي سيعاديك لأن ضوءك كشف عيوبه, والذي حين فشل في أن ينجح, نذر حياته لإثبات عدم شرعية نجاحك.
    الناس تحسدك دائماً على شيء لا يستحق الحسد, لأن متاعهم هو سقط متاعك. حتى على الغربة يحسدونك, كأنما التشرد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً, وأنا رجل يحب أن يدفع ليخسر صديقاً. يعنيني كثيراً أن أختبر الناس وأعرف كم أساوي في بورصة نخاستهم العاطفية. البعض تبدو لك صداقته ثمينة وهو جاهز ليتخلى عنك مقابل 500 فرنك يكسبها من مقال يشتمك فيه, وآخر يستدين منك مبلغاً لا يحتاجه وإنما يغتبط لحرمانك منه, وآخر أصبح عدوك لفرط ما أحسنت إليه " ثمة خدمات كبيرة إلى الحد الذي لا يمكن الرد عليها بغير نكران الجميل". ولذا لا بد أن تعذر من تنكر لك, ماذا تستطيع ضد النفس البشرية؟
    - وكيف تعيش بدون أصدقاء؟
    - لا حاجة لي إليهم.. أصبح همي العثور على أعداء كبار أكبر بهم. تلك الضفادع الصغيرة التي تنقنق تحت نافذتك وتستدرجك إلى منازلتها في مستنقع, أصغر من أن تكون صالحة للعداوة. لكنها تشوش عليك وتمنعك من العمل.. وتعكر عليك حياتك. إنه زمن حقير, حتى قامات الأعداء تقزمت, وهذا في حد ذاته مأساة بالنسبة لرجل مثلي حارب لثلاث سنوات جيوش فرنسا في الجبال.. كيف تريدني أن أنازل اليوم ضآلة يترفع سيفك عن منازلتها؟
    - أنت إذن تعيش وحيداً؟
    رد مبتسماً:
    - أبداً.. أنا موجود دائماً لكل من يحتاجني, إني صديق الجميع ولكن لا صديق لي. آخر صديق فقدته كان شاعراً فلسطينياً توفي منذ سنوات في بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي. لم أجد أحداً بعده ليشغل تلك المساحة الجميلة التي كان يملأها داخلي. معه مات شيء مني. ما وجدت من يتطابق مع مزاجي ووجعي.
    سكت قليلاً ثم أضاف:
    - تدري؟ هذه أول مرة أتحدث فيها هكذا لأحد. لكأنك تذكرني به. لقد كان في عمرك تقريباً ووسيم هكذا مثلك, وكان شاعراً غير معروف ولكنه مذهل في انتقائه الكلمات. عندما أغادر المستشفى, سأطلعك على بعض قصائده.. ما زالت في حوزتي.
    قال فجأة كمن يعتذر:
    - قد أكون تحدثت كثيراً.. عادة أنا ضنين في الكلام, فالرسامون حسب أحدهم " أبناء الصمت".
    قلت وأنا أمازحه:
    - لا تهتم.. فالمصورون أبناء الصبر..!
    قال وقد أضاءت وجهه ابتسامة:
    - جميل هذا.. يا إلهي.. أنت تتكلم مثله!
    كدت أقول له " طبعاً.. لأن رجال تلك المرأة جميعهم يتشابهون" لكنني لم أقل شيئاً. وقفت لأودعه. ضمني بحرارة إليه, وسألني:
    - متى ستنشر هذه المقابلة؟
    أجبته بمحبة:
    - لم تنته بعد لتنشر.. لقاءاتنا ستتكرر إن شئت, فأنا أريد عملاً عميقاً يحيط بكل شخصيتك.
    قال مازحاً:
    - لا تقل لي إنك ستعد كتاباً عني.. ما التقيت بكاتب إلا وأغريته بأن يلملم أشلاء ذاكرتي في كتاب!
    استنتجت أنه يعنيها. قلت:
    - لا , أنا لست كاتباً. الكتابة تكفين الوقت بالورق الأبيض.. أنا مصور, مهنتي الاحتفاظ بجثة الوقت, تثبيت اللحظة.. كما تثبت فراشة على لوحة.
    قال وهو يرافقني نحو الباب:
    - في الحالتين.. أنت لا تكفن سوى نفسك بذا أو ذاك.
    ثم واصل كمن تذكر شيئاً:
    - لا تنس أن تأتيني في المرة المقبلة بالصورة التي حصلت بها على جائزة. لقد أخبرتني فرانسواز أنك مصور كبير.
    كأنني بدأت أشبهه, لم أعلق على صفة "كبير" سوى بابتسامة نصفها تهكم.
    تركته للبياض. وغادرت المستشفى مليئاً بذلك الكم المذهل من الألوان.

    عندما عادت فرانسواز إلى البيت, وجدتني أعيد الاستماع إلى تسجيل حوارنا.
    سألتني إن كنت أفرغ الشريط قصد كتابة المقال. أجبتها أنني أفرغه لأمتلأ به. فلم يكن في الواقع في نيتي أن أكتب أي مقال. ولا توقعت يومها أنني , كمن سبقني إلى ذلك الرجل, سأرتق أسمال ثوب ذاكرته في كتاب!


    ***


    دفع واحدة, قررت الحياة أن تغدق عليك بتلك المصادفات المفجعة في سخائها, حد إرعابك من سعادة لم تحسب لها حساباً. لم أكن أصدق لقائي بزيان حتى كنت في اليوم التالي أتعرف على ناصر.
    أكان في الأمر وما سيليه من مصادفات أخرى.. مصادفة حقاً؟
    " المصادفة هي الإمضاء الذي يوقع به الله مشيئته". ومشيئته هي ما نسميه قدراً.
    وكان في تقاطع أقدارنا في تلك النقطة من العالم أمر مذهل في تزامنه. لن أعرف يوماً إن كان هبة من الحياة أو مقلباً من مقالبها.
    كل ما أدريه أنني مذ غادرت الجزائر ما عدت ذلك الصحافي ولا المصور الذي كنته. أصبحت بطلاً في رواية, أو في فيلم سينمائي يعيش على أهبة مباغتة؟ جاهزاً لأمر ما.. لفرح طارئ أو لفاجعة مرتقبة.

    نحن من بعثرتهم قسنطينة, ها نحن نتواعد في عواصم الحزن وضواحي الخوف الباريسي.
    حتى من قبل أن نلتقي حزنت من أجل ناصر, من أجل اسم أكبر من أن يقيم ضيفاً في ضواحي التاريخ, لأن أباه لم يورثه شيئاً عدا اسمه, ولأن البعض صنع من الوطن ملكاً عقارياً لأولاده, وأدار البلاد كما يدير مزرعة عائلية تربي في خرائبها القتلة, بينما يتشرد شرفاء الوطن في المنافي.
    جميل ناصر. كما تصورته كان. وجميلاً كان لقائي به, وضمة منه احتضنت فيها التاريخ والحب معاً, فقد كان نصفه سي الطاهر ونصفه حياة.
    بدا مراد أسعدنا. كان يحب لم شمل الأصدقاء. وكان دائم البحث عن مناسبة يحتفي فيها بالحياة.
    كانت شقته على بساطتها مؤثثة بدفء من استعاض بالأثاث الجميل عن خسارة ما, ومن استعان بالموسيقى القسنطينية ليغطي على نواح داخلي لا يتوقف.
    سألته متعجباً:
    - متى استطعت أن تفعل كل هذا؟
    رد مازحاً:
    - أثناء انشغالك بالمعارض التشكيلية!
    فهمت ما يقصد.
    - والأغاني القسنطينية, من أين أحضرتها؟
    - اشتريتها من هنا. تجد في الأسواق كل الأغاني من الشيخ ريمون وسيمون تمار حتى الفرقاني. يهود قسنطينة ينتجون في فرنسا معظم هذه الأشرطة.
    رحت أسأل ناصر عن أخباره وعن سفره من ألمانيا إلى باريس إن كان وجد فيه مشقة.
    رد مازحاً:
    - كانت الأسئلة أطول من المسافة! ثم أضاف: أقصد الإهانات المهذبة التي تقدم إليك من المطارات على شكل أسئلة.
    قال مراد مازحاً:
    - واش تدير يا خويا.. " وجه الخروف معروف!"
    رد ناصر:
    - معروف بماذا؟بأنه الذئب؟
    أجاب مراد:
    - إن لم تكن الذئب, فالذئاب كثيرة هذه الأيام. ولا أدري سبباً لغضبك. هنا على الأقل لا خوف عليك ما دمت بريئاً. ولا تشكل خطراً على الآخرين. أما عندنا فحتى البريء لا يضمن سلامته!
    رد ناصر متذمراً:
    - نحن نفاضل بين موت وآخر, وذا وآخر, لا غير. في الجزائر يبحثون عنك لتصفيتك جسدياً. عذابك يدوم زمن اختراق رصاصة. في أوربا بذريعة إنقاذك من القتلة يقتلونك عرياً كل لحظة, ويطيل من عذابك أن العري لا يقتل بل يجردك من حميميتك ويغتالك مهانة. تشعر أنك تمشي بين الناس وتقيم بينهم لكنك لن تكون منهم, أنت عار ومكشوف بين الناس بسبب اسمك, وسحنتك ودينك. لا خصوصية لك برغم أنك في بلد حر. أنت تحب وتعمل وتسافر وتنفق بشهادة الكاميرات وأجهزة التنصت وملفات الاستخبارات.
    قال مراد:
    - وهذا يحدث لك أيضاً في بلادك.
    وكما لينهي الجدل وقف ليسألنا:
    - واش تحبوا تاكلوا يا جماعة؟
    سعدت بالسؤال. لا لجوعي, وإنما رغبة في تغيير نقاش لا يصلح بداية لجلسة.
    ضحكت في أعماقي لما ينتظر ناصر المسكين من مجادلات ومشاكسات يومية مع مراد الذي أقصى تضحية قد يقوم بها إكراماً لضيفه: امتناعه عن تناول الكحول في حضرته. وقبل أن نجيبه قصد مراد المطبخ وعاد بصحن من الصومون وآخر من الأجبان والمخللات. قال وهو يضعها على الطاولة:
    - هزوا قلبكم.. قبل العشاء.
    اقترحت أن نطلب بيتزا إلى البيت حتى لا نتحول إلى فئران بيضاء في مختبر مراد للطبخ.
    قال ناصر ممنياً نفسه بوليمة:
    - عندما تأتي امّا ستعد لنا أطباق قسنطينية تغير مذاق الهمبرغر الأماني في فمي.. كم اشتقت لأكلنا..
    رد عليه مراد مازحاً:
    - دعك يا رجل من الطبخ الجزائري وإلا أصبحت حقاً إرهابياً.
    مواصلاً بمزاح:
    - أتدري أنه قد صدر كتاب مؤخراً في أمريكا يثبت علاقة بعض أنواع الأكل بالنزعات الإجرامية.. لو اطلع عليه مسؤولونا لوجدوا أنه من واجب الحكومة أن تتدخل بعد الآن في ما يأكله الجزائريون بذريعة أن الإرهاب عندنا يتغذى أولاً من المطبخ الجزائري.
    ونظراً لنبرته الجادة سألته:
    - أحقاً ما تقول؟
    أجاب:
    - طبعاً.. أرأيتم شعباً مهووساً بأكل الرؤوس " المشوشطة" مثل الشعب الجزائري؟ حتى في فرنسا ما تكاد تسأل جزائرياً ماذا تريد أن تأكل حتى يطالبك " ببزلوف". ترى الجميع وقوفاً لدى جزار اللحم الحلال ليفوز برأس مشوي لخروف.. أو رأسين يعود بهما إلى البيت, وإن لم يجده أصبح طبقه المفضل لوبيا " بالكراوع". والله لو أن غاندي نفسه اتبع لشهر واحد ريجيم المطبخ الجزائري المعاصر وتغذى " بوزلوف" وتعشى " كراوع" لباع عصاه ومعزاه واشترى كلاشينكوف!
    ضحكنا كثيراً لكلام مراد. قاتله الله. يا لجمال روحه المرحة. إنه نموذج لشعب أنقذته سخريته من الموت.
    قلت مواصلاً جدله المازح:
    - ربما بسبب استهلاكنا الزائد للكراوع لا نفكر سوى بالهروب ومغادرة الجزائر نحو أية وجهة.
    قاطعني مستشهداً بمثل قسنطيني:
    - وبسبب إقبالنا على "بوزلوف" أصبحنا " مثل الراس المشوشط.. ما فينا فير اللسان"!

    حين جاء ( ساعي البيتزا) يوصل ما طلبناه بالهاتف, بذريعة علاقة الأكل الجزائري بالنزعات الإجرامية. خاصة أن البيتزا ولدت في بلد المافيا, وهي بحكم جيناتها الإيطالية ليست بريئة إلى هذا الحد!
    ذلك الفرح الجميل النادر الذي جمعنا, لم ينسني الموضوع الذي كان وحده يعنيني, فاستدرجت ناصر إلى مزيد من الأخبار قائلاً:
    - آن للحاجة أن تحضر, صعب على الذي تربى على ولائم الأمومة أن يرضى بشريحة بيتزا. وإن كان يعز على نفسي ما ستتحمله المسكينة في هذا العمر من عذاب السفر.
    ثم واصلت سائلا:
    - هل ستقيم هنا معك ؟
    - لا.. ستسكن مع أختي في الفندق. لكنها ستزورني هنا حتماً.. لا أدري بعد كيف ستتم الأمور.
    قال الشيء الوحيد الذي كنت أريد معرفته. والباقي كان مجرد تفاصيل.

    هي ستأتي إذن! وكيف لهذه المصادفات العنيفة في سخائها, أن تكتمل بدون مجيئها وبدون شيء على ذلك القدر من صاعقة المفاجأة.
    دخلت في حالة شرود. رحت بعيداً أفكر في مصادفة قد تجمعني بها أو ذريعة تعطيها علماً بوجودي هنا.
    كيف لي أن أعرف في أي فندق ستقيم؟ وإذا كان زوجها سيرافقها أم لا؟
    كنت لا أزال أبحث عن طريقة أستدرج بها ناصر للحديث عن زوجها عساه يبوح ببعض أخبارها, عندما لم يقاوم مراد شهوة شتمه وقال موجهاً الحديث إلى ناصر:
    - واش جاي معاها هذاك الرخيص؟
    سألته بتغابٍ:
    - عمن تتحدث؟
    قال:
    - زوج أخته.. إن النجوم لا ترفع وضيعاً!
    أجاب ناصر:
    - لا أظنه سيأتي.. يخاف إذا زار فرنسا أن يطالب أقارب بعض الضحايا السلطات الفرنسية بمنعه من العودة إلى الجزائر, ومحاكمته كمجرم حرب نظراً لجلسات التعذيب التي أشرف عليها, وبعض الاغتيالات التي تمت بأمر منه. وحدهم أولاده يسافرون لمتابعة أعماله في الخارج.
    أشعل مراد سيجارة عصبية وقال بتذمر:
    - الحرب استثمار جيد, كيف لا يثرون لو لم يكن لهم مدخول من الجثث ومصلحة في إبقاء الآخرين مشغولين عنهم بمواراة موتاهم. فعندما لا تدور آلة الموت بأمرهم كانت تدور لصالحهم. فمن بربك الأكثر إرهاباً والأكثر تدميراً لهذا الوطن.. هم أم القتلة!
    خفت أن يتعكر جو سهرتنا بخلافات في وجهات نظر لا أظنها جديدة على الرجلين, ولكن ما كان الوقت مناسباً لها.
    استفدت من فتح الموضوع لأطرح على ناصر السؤال الذي كان يعنيني ويشغلني دائماً.. قلت:
    - اعذرني.. ولكن لا أفهم كيف استطاعت أختك العيش مع هذا الرجل وكيف لم تطلب الطلاق منه حتى الآن؟
    رد ناصر بعد شيء من الصمت:
    - لأن مثله لا يطلق بل يقتل.
    عبرتني قشعريرة. راح ذهني للحظات يستعرض كل سيناريوهات الموت المبيت. يا إلهي.. أيمكن لشيء كهذا أن يحدث؟
    أوصلتني أفكاري السوداوية إلى تذكر ضرورة عودتي إلى باريس. نظرت إلى الساعة, فوجئت بأنها الثانية عشرة إلا ربعاً. وقفت مستعجلاً الذهاب. كنت أخاف قاطرات الضواحي وما تحمله لك ليلاً من مفاجآت. لكن مراد نصحني بالبقاء لقضاء الليلة عنده. وأغراني بسهرة قد لا تتكرر.
    ترددت في قبول عرضه. فكرت في فرانسواز التي لم أخبرها بعدم عودتي إلى البيت. ثم فكرت في أنني لم أحضر لوازمي معي... وأنه قد لا يكون من مكان لنومنا جميعاً.
    لكن مراد حسم ترددي قائلاً:
    - كل شيء كاين يا سيدي غير ما تخممش!
    وجدت في قضائي ليلة مع ناصر, حدثاً قد لا يتكرر فأنا لم أنس لحظة أنه أخ المرأة التي أحب.
    استأذنت مراد في إجراء مكالمة هاتفية, بدون أن أخبره أنني سأطلب فرانسواز. لكنه بعد ذلك, باغتني بخبث السؤال.
    - واش.. قلتلها ماكش جاي؟
    سألت بتغاب:
    - شكون؟
    رد:
    - " اللبة" متاعك!
    لا أدري كيف وجد في فرانسواز شيئاً من اللبؤة.. ربما بسبب شعرها الأحمر أو ربما بسبب ما رآه فيها من شراسة مثيرة.
    قلت مغيراً الموضوع بطريقة مازحة:
    - أنا هارب يا خويا من أدغال الوطن.. يرحم باباك إبعد عني " اللبات" والأسود!
    - واش بيك وليت خواف.. رانا هنا.. نوريولهم الزنباع وين ينباع.
    لا أدري لمن كان يريد أن يري "أين يباع الزنباع": للإرهابيين.. للعسكر.. أم لفرانسواز..
    أجبته مازحاً لأحسم الجدل:
    - وري زنباعك للي تحب.. أنا يا خويا راجل خواف!
    انضم إلينا ناصر مرتديا عباءة البيت, بعد أن انتهى من أداء صلاة العشاء. بدا كأنه أكبر من عمره. أحببت فيه طهارة تشع منه لا علاقة لها بعباءته البيضاء.
    مازال نقياً, لم تستطع الغربة أن تجعله يتعفن ويتلوث. ولا أصابته تشوهات المغتربين. كان معذباً بذنب وجوده خارج الجزائر. يبدو مبعثراً على أرض الحرية. لكنه لم يفقد رصانته ولا كان له كلام ناري. كان يدافع عن قناعاته بصوت منخفض. وأحياناً بصمته. سأل:
    - عم تتحدثان؟
    قلت:
    - كنت أقول له إنني خواف. هل عيب في أن يخاف المرء؟
    صمت ولم يرد. شعرت أنني خيبت ظنه. قلت كما لأبرز له خوفي:
    - صدقني لفرط ما عشت مع عدو لا يرى, ما عاد الخوف يغادرني. خاصة في الليل. كلما غادرت بيتي لأرمي بكيس الزبالة, توقعت أن أحداً يتربص بي وأنا أنزل الطوابق المعتمة للبناية.. أو أن أحداً ينتظرني في ركن من الشارع لينقض علي. ذلك أنني كل مرة أتذكر سينمائياً كان يدعى علي التنكي, لم أكن أعرفه, لكنه أغتيل في الحي الذي أسكنه بينما كان ذاهباً ليلاً ليلقي بكيس الزبالة. تصور أن ترتبط ذكرى شخص في ذهنك بالقمامة, بأعمار موضوعة في أكياس الزبالة على الساعة العاشرة, كما ليجمعها زبال القدر, كان قد انتهى لتوه من تصوير فيلم عنوانه " الفراشة لن تطير بعد الآن".
    قاطعني مراد:
    - يرحم باباك.. خلينا من هاذ الحكايات.. على بالك وشحال في الساعة؟
    نظرنا جميعنا إلى الساعة.
    واصل:
    - راهي الوحدة.. حبس يا راجل من " لي زافيرات متاع السريكات ولي زافيرات متاع الكتيلاتت" هاذي اللي كالوا فيها " جبت كط يوانسني ولى يبرك في عينيه!" قلنالك اقعد يا راجل توانسنا.. وليت تخوف فينا!
    انفجرنا ضاحكين أنا وناصر كما لم نضحك من زمان.
    لفظ مراد كلامه على طريقو ( المفتش الطاهر) وهو شخصية كوميدية شعبية توفي في السبعينات, اشتهر على طريقة كولمبو بمعطفه المضاد للمطر وبدور رجل التحري المختص في قضايا " السريكات " و " الكتيلات" أي السرقات.. والجرائم. وصنعت شهرته لهجته المميزة في تحويل القاف "كافاً" على طريقة أهل مدينة جيجل. لافظاً القلب "كلباً" وقال لي " كالليً.
    وكان مراد يستشهد بمثل شعبي معناه " جئت بالقط ليؤنسني فأخافني بعينيه اللتين تبرقان في العتمة" بعد أن استبقاني لأؤنسه فرحت حسب قوله أخيفه بأخبار القتلى الذين اغتيلوا ليلاً وهم يلقون كيس الزبالة!
    وكأنما أصابه ذعر العجائز من عواقب الفرح, قال ناصر وهو يستعيد جديته:
    - الله يجعلها خير.. عندي بالزاف ما ضحكتش هكذا!
    رد مراد متهكماً:
    - ياوالله مهابل.. واحد خايف يموت وواحد خايف يضحك..
    إضحك يا راجل آخرتها موت!

    كان هذا شعارنا أيام " مازفران" . يوم كان يحاضر لإقناعنا بالفرح كفعل مقاومة. فبالنسبة إليه مشكلتنا في الجزائر أن الناس لا وقت لديهم للحياة. وهم مستغرقون في الاستشهاد. حتى أنهم في انشغالهم بالبحث عن ذريعة لموت جميل, نسوا لماذا هم يموتون. بينما أثناء انشغالنا نحن بالبقاء أحياء نسينا أن نحيا. فلا هؤلاء هنئوا بموتهم ولا نحن نعمنا بحياتنا.
    حتماً كان على حق. كانت تنقصنا البهجة حتى صار ضرورياً حسب قوله أن يؤسس المرء خلية سرية لتعاطي الفرح سراً في بيته بصفته نشاطاً محظوراً لسنوات في الجزائر. أذكر ذلك الأستاذ الذي روى لي كيف كان مرة جالساً في مقهى على رصيف الجامعة مع صديقين يتجازبون أطراف الحديث ويضحكون, عندما توقف أمامهم رجلان في زي أفغاني وسألاهم بنبرة عدائية: " ماذا يضحككم؟". ولم يشفع لهم إلا أن تعرف أحدهما على أحد الجالسين. ولم يذهبا حتى أخذا منهم عهداً بأنهم " ما يزيدوش يعاودوا يضحكوا"!
    عندما رويت تلك الحادثة الغريبة لمراد, وجد فيها ما يؤكد نظريته بأن الطغاة يجدون دائماً في فرح الرعية خرقاً لقوانين القهر وتعدياً على مؤسسة العسف. ولذا إن أكبر معارضة لأي ديكتاتور في العالم هي أن تقرر أن تبتهج. فأي دكتاتور يعز عليه أن يفرح الناس إن لم يرتبط فرحهم بعيد ميلاده أو ذكرى وصوله إلى الحكم.

    كان مراد أثناء ذلك قد توجه إلى آلة التسجيل ووضع شريطاً لأغنية قسنطينية. وقبل أن نستجمع أفكارنا علا صوت تلك الأغنية الراقصة التي كأنني ما نسيتها يوماً, مع أنني لم أستمع إليها منذ زمن بعيد. أغنية من تلك الأغاني التي تكاد تكون لها رائحة, ويكاد يكون لها جسد. جسد نساء شاهدتهن في طفولتك بشعرهن المنفلت يرقصن منخطفات حتى الإغماء في أثوابهن الجميلة المطرزة بخيوط الذهب.
    وقف مراد, والسيجارة في طرف فمه, يرقص كأنه يراقص نفسه على موسيقى الزندالي. رقصة لا تخلو من رصانة الرجولة وإغرائها, يتحرك نصفه الأعلى بكتفين يهتزان كأنهما مع كل حركة يضبطان إيقاع التحدي الذي يسكنه, بينما يتماوج وسطه يمنة ويسرة ببطء يفضح مزاج شهواته والإيقاع السري لجسده.
    بدا لي فجأة أجمل مما هو. أجمل مما كان يوماً. وفهمت لماذا تشتهيه النساء.

    لا أدري كيف أعادني رقصه إلى زوجها الذي شاهدته مرة على التلفزيون أثناء نقل حفل مباشر.
    كان بهيئة من يدعي الوقار يرتدي مهابته العسكرية, جالساً في الصفوف الأمامية مع أولئك الذين هم أهم من أن يطربوا, مكتفين عندما تلتهب القاعة بصوت الفرقاني مردداً " أليف يا سلطاني والهجران كواني" بجهد متواضع والتكرم على المغني بتصفيق رصين خشية أن تتناثر من على أكتافهم نجومهم المثبتة بغراء هيبتهم الزائفة!
    أشفقت عليه. إن رجلاً لا يتنتفض منتصباً في حضرة الطرب, هو حتماً فاقد للقدرة على الارتعاش في حضرة النشوة!
    شكرت يومها حضوره البارد في سريرها.

    كان مراد أثناء ذلك يزداد وسامة كلما ازداد وقع الدفوف. كأنما كانت الموسيقى تدق احتفاء برجولته. وكأن جسده في انتشائه يبتهل لشيء وحده يعرفه.
    باسم الله نبدى كلامي...............قسمطينة هي غرامي
    نتفكرك في منامـي...............إنتـي والوالديـــن
    كانت الأصوات والدفوف ترد على المغني مع نهاية كل بيت ( الله) وتمضي الأغنية في ذكر أحياء قسنطينة وأسواقها اسماً اسماً:
    على السويقة نبكي وانّوح .................رحبة الصوف قلبي مجروح
    باب الـواد والقـنـطرة.................. رحـتِ يا الزيـن خسـارة
    لكأنها تحيك لك مؤامرة, هذه الأغنية التي مازلت جاهلاً ما سيكون قدرك معها. تهديك شجىً يفضي بك إلى شجن, طرباً يفضي بك إلى حزن. تضعك أمام الانطفاء الفجائي لمباهج صباك, لأنها تذكرك بوزر خساراتك.

    أأراد مراد حقاً إبهاجنا بأغنية, برغم إيقاعها الفرح, هي في وضعنا ذاك دعوة معلنة للبكاء؟ أو ربما نحن من فقدنا عادة الفرح, ولم نعد نصلح للانخراط في حزب البهجة الذي يدعونا إليه عنوة!
    عبثاً حاول مراد استدراجنا لمراقصته احتفاءً بمباهجنا المؤجلة. انتهت سهرتنا كما بدأت, بأحاسيس متناقضة تخفي خسارات لم ندر كيف نتدبر أمرها.
    احترمت حزن ناصر المترفع عن الإفشاء. وعندما كان علي بعد ذلك أن أتقاسم معه غرفة أصبحت للنوم, تركت له الأريكة التي تحولت إلى سرير لشخصين ونمت على فراش أرضي. كان له مقام التاريخ وسطوته. وكنت رجل الشهوات الأرضية والحزن المنخفض الذي نام دوماً عند أقدام قسنطينة.
                  

العنوان الكاتب Date
مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 06:56 PM
  Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 06:58 PM
    Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 06:59 PM
      Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:01 PM
        Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:02 PM
          Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:05 PM
            Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:06 PM
              Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:07 PM
                Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:09 PM
                  Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:11 PM
                    Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:13 PM
                      Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:14 PM
                        Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:16 PM
                          Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:17 PM
                            Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:19 PM
                              Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:20 PM
                                Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:21 PM
                                  Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:23 PM
  Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي Hani Abuelgasim07-24-04, 07:28 PM
    Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:34 PM
  Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي Hani Abuelgasim07-24-04, 07:47 PM
    Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-24-04, 07:53 PM
      Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي حبيب نورة07-25-04, 03:15 AM
        Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-26-04, 01:26 AM
          Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida07-28-04, 01:51 AM
  Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي alin07-28-04, 06:34 AM
    Re: مقتطفات من كتاب .. عابـــر ســرير .. أحلام مستغانمي humida08-01-04, 07:30 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de