شكرا الأخ ياسر على السؤال، إذ أن فيه لفتا للنظر، إلى جانب شديد الأهمية. وهو جانب الممارسات الصوفية التي تنكبت جادة التصوف. وليس كل التصوف تصوف، بطبيعة الحال. ولقد قرأت الوصلة التي تشير إلى مساهمة الأخ الشاعر، عبد القادر الكتيابي، باهتمام شديد. رغم أنني قد قرأتها من قبل. وقد استمتعت بقراءتها، وكأنني لم أقرأها من قبل. مساهمة الكتيابي هذه، فيها بصيرة كبيرة، وليس ذلك بغريب على الكتيابي.
نعم هناك كثير من الشباب الذين يظنون أن إغفال حكم الردة في أي قانون إسلامي، يعني خروجا على أحكام الله. ولذلك فإنهم يظنون، إن هم قالوا بإبطال حكم الردة، فكأنهم يكونون قد وقفوا ضد حكم من أحكام الله، وضد مراده. وهذا ظن بالغ الخطأ. هذا النوع من الفهم، يضر بالدين، أشد الضرر. وهو فهم يكشف لنا، كيف يمكن للتعليم الديني الخاطيء، أن يكبل العقول، ويقيدها عن ممارسة واجب التفكر. والتفكر أمر ديني، في حقيقة الأمر. بل هو أوجب فروض العابد. قال تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس، ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون)) وجاء في الحديث: ((تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)).
الشاهد أن خلخلة مثل هذا الفهم العقيدي الأصم، ممكنة وسهلة. فحين يقول الله تبارك وتعالي: ((وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)) وحين يقول، جل من قائل: ((أدع إلى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين))، وحين يقول: ((فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر)) فهو سبحانه، وتعالى، إنما يأمرنا، أمرا، بكل أولئك. وعلينا أن نطيع أمره، في كل أولئك. فكيف إذن جاز أن نقتل المرتد، والله قد أنزل كل هذه الآيات البينات الدالة على الإسماح؟
والجواب باختصار شديد، هو، أن حكم الردة جاء في الحديث النبوي الشريف، الذي يقرأ: ((من بدل دينه، فأقتلوه)). والحديث النبوي، مأخوذ من قرآن الفروع، الذي أمر بقتال المشركين. كقوله تعالى: ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين، حيث وجدتموهم، وخذوهم، وأحصروهم، وأقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فخلو سبيلهم))، وقوله تعالى: ((يا أيها النبي، جاهد الكفار، والمنافقين، واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم، وبئس المصير))، وهناك الكثير من الآيات، التي تأمر بقتال المشركين. وواضح هنا أن النصوص، تسير في وجهتين مختلفتين.
الفكرة الجمهورية هي الفكرة الإسلامية الوحيدة، التي فكت التعارض الظاهر بين النصوص. وذلك بقولها إن الإكراه، جاء فقط في فروع القرآن، وأحكام فروع القرآن، أحكام مرحلية. وأن الإسماح، والدعوة بالحسنى، جاءتا في أصول القرآن. وأصول القرآن هي الأحكام الباقية. ونحن اليوم مطالبون باتباع قرآن الأصول. قال تعالى: ((واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم)) وتشرح هذه الآية، أية أخرى تقول: ((ما ننسخ من أية، أو ننسها، نأت بخير منها، أو مثلها)). فالأمر بسيط بهذه البساطة. (راجع كتاب الرسالة الثانية من الإسلام، للأستاذ محمود محمد طه على، موقع الفكرة الجمهورية، على شبكة المعلومات الدولية:
www.alfikra.org .
وكل من يقف ضد هذا الفهم، المتناسق، المتماسك، عليه أن يستعد لمواجه، حقيقة، أن النصوص، يناقض بعضها بعضا. وليلق القارئ الكريم نظرة سريعة على النصوص المثبتة عاليه، ليرى تناقضها. ولذلك، فإنه من أجل الخروج من هذا المأزق، علينا الفهم. والفهم، في هذه القضية، هو ما يقدمه الجمهوريون، دون سواهم. وليسأل كل مسلم نفسه اليوم، عن معنى، وقيمة، أن نكره شخصا ما على العقيدة. أو نبقيه داخل هذه العقيدة، بفعل الخوف، مما يطاله من عقوبة الردة. فهل يريد الله سبحانه، وتعالى، منافقين نطقوا بالشهادة، خوفا من السيف، فقط، أم يريد مؤمنين حقيقيين. أما التاريخ، فإنه يقول أن سيف الردة، قد استخدم طيلة التاريخ الإسلامي، إستخداما سياسيا، محضا، لإسكات أصحاب الضمائر، ممن يهبون لنجدة المظلومين. والجبهة القومية لم تحرص على تضمين مادة الردة، منذ أن جرت نميري، إلى قوانين سبتبمر، إلا لكونها أرادت أن تحمي سلطانها، وتحمي فسادها، الذي تعرفه عن نفسها، أكثر مما يعرفه عنها الآخرون. أنظر إليهم كيف يكشفون حال بعضهم بعضا، بعد أن اختلفوا. ولسوف يظهر من خلافهم، ما سوف يجعل الولدان شيبا.
أما فيما يتعلق بتنكب بعض المتصوفة للجادة، فهذا كثير جدا، خاصة، وسط المتأخرين، من المتصوفة. لقد انحط التصوف، في كثير من حقب التاريخ الإسلامي، انحطاطا كبيرا. وقد أفرز ذلم، في كثير من تداعياته، ما عرف، في التاريخ الإسلامي، قديمه، وحديثه، بملوك الطوائف. وفي السودان فقد حدث كثير من استخدام التصوف لتمديد عمر السلطة الزمنية. وكلنا يعرف كيف أسرف نميري في نهايات حكمه، في التقرب للبيوتات الصوفية. والآن فإن أهل الجبهة يسيرون على ذات الطريق. فهم قد وصلوا نقطة لعب (كرت) التصوف، كما جرى قبلهم لنميري. ولكن ريحهم سوف يذهب، كما ذهب ريح نميري. ومبايعة آل أبو قرون لنميري، إماما للمسلمين، في قرية أبو قرون، بحضور الدكتور الترابي، وقيادات جماعته، مثلت واحدة من الصور الصارخة، لانحطاط التصوف. فالمتصوفة الحقيقيون، لم يسبق أن بايعوا حاكما، في الماضي. فالمتصوفة يعلمون أن الدين والدنيا، قد افترقتا منذ الفتنة الكبرى. وأن الحكام فاسدون، بلا استثناء. لأن من سعى إلى السلطة سعيا، لا يملك أن يمتنع، حين يصل إليها، عن الفساد، مهما فعل.
أخطأ آل أبو قرون حين بايعوا نميري، وحين دعوا غيرهم لبيعته، كالدكتور الترابي، وقبيله. فبعد تلك البيعة، ما لبث أن أصبح النيل أبو قرون، مستشارا للقصر. وقد كانت تلك، في فهم أولي الأبصار، عقوبة، روحية، مندغمة في ترقية مادية، تمثلت في القرب من الحاكم. إذ ترتبت عليها، فيما بعد، هبطات أخذت برقاب بعضها بعضا. وكل تلك الهبطات التي تلت، إنما ترتبت على الخطأ الأول الماحق. إذ سرعان ما تآمر النيل أبو قرون، على حياة الأستاذ محمود محمد طه. حتى أنه حرص أن يسند محاكمة الأستاذ محمود، لصهره، ومريد طريقته، القاضي، المهلاوي. وتداعت بالنيل أبوقرون الهبطات، فيما يسميه المتصوفة في مضمار العقوبات الروحية بـ (السلب)، فهرب، في ظروف غامضة، إلى الأردن. وهناك اعتنق المذهب الشيعي، فيما روي عنه. ثم ما لبث أن عاد إلى السودان، ليتم اتهامه بالإساءة لأصحاب، النبي، بسبب بعض الأشرطة التي كان يتداولها، مريدوه. وترتب على ذلك استتابته من من قبل أهل الجبهة، الذين سبق أن بايعوا معه نميري، إماما للمسلمين، ذات نهار كئيب، في قرية أبو قرون، في مطلع الثمانينات. وتاب النيل أبو قرون أمام د. عبد الحي، ود. أحمد علي الإمام، ود. عصام أحمد البشير، وغيرهم، من كهنوت الجبهة.
الصوفي الذي يتزلف للحكام، ليس بصوفي، أبدا. إذ لم يعرف عن المتصوفة تزلف للحكام قط. وليراجع من شاء سيرة الشيخ إدريس ود الأرباب، وسيرة الشيخ فرح ودتكتوك، وسير المتصوفة الذين عاصروا حكام سلطنة الفونج، من (1504) وحتى (1821).
وختاما، للأستاذ محمود تعريف، للصوفي، وللطائفي، اراه يفيد كثيرا في التفريق بينهما. هذا التعريف يقول، الصوفي شخص زاهد في دنيا الناس، الذين يلتفون حوله، وهو يملك إرشادا دينيا لهم. والطائفي، شخص طامع، في دنيا الناس، الذين يلتفون حوله، ولا يملك إرشادا دينيا لهم!.