|
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى (Re: بدر الدين الأمير)
|
عـن بلقــيس و الفاجعــــة
عندما داهم نزار مرض القلب في أواخر الستينات ، كان لابد من جراحة تخفف عنه وطأة الألم ووطأة الخطر ، فأقدم على العملية بشجاعة في أوائل السبعينات .. وبلا تردد أو وجل ، ومن ثم عاد الى حياته الطبيعية مع تغير في بعض العادات ، ومنها المشي اليومي مدة ساعة على أرض مسطحة – كان يمشي على شاطئ البحر أمام الحمام العسكري – والتوقف عن الأكل الدسم بكل أشكاله ، واللجوء الى الأكل المسلوق ، والى الكميات القليلة منه ، والتوقف عن السهر ووجوب النوم المبكر .... أضحى ينام في الساعة التاسعة مساءً .
الا ان عاداته مع الكتابة والكتب لم تتغير ، بقى يقرأ ويكتب في كل صباح ، وهوغير مؤمن بلحظات الالهام التى يعيشها بعض الكتاب والفنانين .. كان يكتب كأنه يعمل في ورشة ، أو كأي صاحب صنعة .. يبحث عن الكلمات اذا عصي المعنى عليه ، ويفتش عن اللحظة المتفجرة ، أو اللحظة الهاربة ، ويغير جملة بجملة ، وكلمة صعبة التداول بكلمة سهلة ممتنعة على غيره ، ويقرأ الصحف ويتوقف عند أي جزء من الاخبار أو الوقائع ينبغي له أن يقف عنده ، فيأخذه بالتحليل ، ويكتب مقاله الاسبوعي ... كان يكتب في ((الاسبوع العربي)) المجلة اللبنانية الشهيرة آنذاك ، ويكتب فيما بعد في المستقبل العربي – مجلة الصحافي الفلسطيني اللبناني الكبير نبيل الخوري – واخيراً يكتب في الحياة بعد أن صدرت من لندن – مجددا – برئاسة الفلسطيني اللبناني جهاد الخازن ، وكان نثره كشعره مليئاً بالمعاني الجميلة ، يتناول القضايا المطروحة بقلم قومي ، لايعرف المحلية ، وبريشة عالمية أكثر تلويناً من ريشة أي شاعر آخر ، وكان حاذقاً وجاداً في لونه الكتابي كأنه يحفر بريشة ألوان ماتيس أو غوغان – كلاهما سيد من سادة الالوان المبدعة – الامر الذى جعل نثره مثل شعره مكان احتفاء ، مع كل مافيه من وضوح متطرف ومدهش في آن واحد .
والذين عايشوا نزار يعرفون أنه بعد نجاحه الاول في ديوانه الاول ، ونجاحه الثاني في صناعة الكتاب ، أصبحت حوافز العمل لديه اقوى وأغنى ، ونتيجة ذلك أصبح بما أنتج حتى وفاته الاغزر إنتاجاً بين كل شعراء جيله العرب والعالميين .... كانت نار الفن المقدسة دائمة الاشتعال في قلبه ... وكانت أصابعه دائمة العزف للقلوب التى أصابها الحب أو التى أصابتها الهزيمة والعسف و التمزق .
* * *
في ليلة لم يخرج فيها نزار كعادته بعد مرضه ،جاءت بلقيس بمفردها الى بيت الكاتبة العراقية ديزي الامير .. جاءت الى سهرة وعشاء على شرف وزير الاعلام العراقي آنذاك شفيق الكمالي ، ومدير التلفزيون محمد سعيد الصحاف ، الذى أصبح فيما بعد – وقبل سقوط بغداد وانتهاء عصر صدام حسين – وزيراً للخارجية ومن ثم الاعلام .
كانت بلقيس لاتترك نزار وحده ، لكن وظيفتها اقتضت تلك الليلة أن تتركه ، فقد كانت مساعدة للسيدة ديزي في الملحقية الصحافية التابعة لوزارة الاعلام ، وكان معظم طاقم السفارة العراقية في بيروت في تلك السهرة ، بما في ذلك السيد نزار طاقة شقيق وزير الخارجية الاسبق والمستشار الصحافي في السفارة ورئيس بلقيس وديزي في الوقت نفسه .
كانت سهرة طويلة تناولنا فيها عشاءً عراقياً صرفاً وتمراً عراقياً استحضره معه الصحاف الى ديزي ، وشربنا على الطريقة العراقية التى لاترضى بالقليل أن يفرح قلب الانسان ، وسمعنا شعراً ينبض بالحرارة والتمني ، وموسيقى وغناءٌ عراقياً حزيناً – كعادته دائماً – وتحدثنا وتناولنا قضايا في الادب ، واخرى في السياسة ، وفاضت أحلامنا بالبشرى التى غمرتها النشوة ، وودعنا بعضنا بعضاً ، وانتهت السهرة ونحن ممتلئون بالرضى .
وسألتني بلقيس .. أن آخذها في سيارتي الى بيتها ، وكذلك الاستاذ نزار طاقة ، وقال بلال الحسن الكاتب والسياسي الفلسطيني : وأنا أجيء معكم ، فركبوا سيارتي ، واتجهت أولاً الى بيت بلقيس ، فاستودعتني الله ومن معي ، وصعدت الى بيتها في حي مار الياس، وانتظرنا الدقائق حتى تأكد لنا انها دخلت البيت ، وعدت وقدت سيارتي الى بيت نزار طاقة الذى لم تمض عليه في بيروت الا أسابيع قليلة ، وسألته في أي طابق يسكن فأشار الى الطابق الاول الذى كان قريبا من الطريق فنظرنا كلانا أنا وبلال الحسن باندهاش ، قائلين : إن السكنى في هذا البيت خطيرة .. فاللصوص يملأون المدينة ، والمقاتلون الضالون يعبثون بكل شيء ، والعراقي في بيروت مستهدف لذاته أمام عداوة النظام السوري للنظام العراقي .
وقلنا له : يجب تغيير هذا المنزل بآخر أكثر أماناً ، وأكثر هدوءاً .. يبعد اللصوص عن تناولك ، أو القتلة ، أو المأجورين الخائنين . فوافق السيد طاقة ولكنه لم ينفذ ، فقد اجتاحته سيارة مفخخة قضت عليه ، ثم قضت على بلقيس وطاقم السفارة وكل من في السفارة بعد أيام قليلة ... وقضت على الحجر والبشر ، ولم تبق من الناس أحداً يروي ماحدث ، ولم تنج من هذه الحادثة الا ديزي الامير ، فقد كان مكتنبها في شارع الحمراء منفصلا عن مكاتب السفارة ، ونجا ايضا الدكتور سهيل إدريس بأعجوبة ، حيث كان على موعد مع السيد طاقة في لحظة الانفجار ، الا أنه لسبب نسي فتأخر ، وهاتف ، واعتذر، وتحرك ، فوصل الى السفارة عندما كانت قد أصبحت حجراً فوق حجر ، لايظهر منها الا الاشلاء وبعض هياكل السيارات ، وبعض الاوراق والملفات المتناثرة والممزقة ، وعاصفة من الرمال والدخان ، وقطعاً من الاجساد البشرية .
وقد ركبت سيارتي وأنا أذكر بلقيس وطاقة وبقية الاصدقاء من الذين أعرف ، واتجهت الى السفارة ورأيت نزار وسهيل إدريس ، وكان كلاهما متجهم الوجه دامع العينين مكلوماً يضرب كفاً بكف وهو بين الذهول والرهبة ، وبين القهر المكتوم والصمت المتفجر ، فتجهمت وبكيت معهما ووقفنا وقتاً ونحن لانصدق أعيننا ، ومن ثم انسللنا من أمام ما كان يسمى سفارة ... يطحننا الحزن والفجيعة ، وتأخذنا الدهشة والرهبة والتبدد ..... نمضي ونحن نلتفت الى الوراء ، وسحب الموت قد ختمت على المكان .. الناس مأخوذون ومتراكضون وجامدون من هول مايرون ، والجنود مذهولون .. مع قرقعة شرطة لاحول لها ولاقوة ، وسيارات الحرائق تحاول أن تنقذ مع الاطفائيين ماتستطيع إنقاذه فلا تفلح في العثور على شيء .. ونسوة ينتحبن ، ويافعات ينحن ، وأطفال يصرخون ... صورة كأنها جزء من هيروشيما بعد إلقاء القنبلة الذرية .
لاأثر للسفارة .. ولارجال السفارة ، ولاحراسها .. ولا((بقية من بقاياها)) .. كل شيء كان في السفارة قد انتهى ، لاشيء الا الخراب والدمار ، مكللين بصوت الفجيعة ونشيج نزار مع دموعه الحارقة والرماد .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-05-08, 08:18 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | خالد العطا | 07-05-08, 08:39 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-05-08, 09:02 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-05-08, 09:23 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-05-08, 09:57 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-05-08, 10:48 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-05-08, 04:49 PM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-06-08, 08:56 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | نصرالدين عمر الجعلي | 07-06-08, 09:26 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | ترهاقا | 07-06-08, 09:26 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-06-08, 09:52 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-06-08, 10:17 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-06-08, 02:12 PM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-06-08, 02:20 PM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-06-08, 06:53 PM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | khaleel | 07-06-08, 06:59 PM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-06-08, 08:22 PM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | ابوحراز | 07-07-08, 06:59 AM |
Re: نزار قبانى واشعار العشق المحرم ومواقف مع المحجوب والأزهرى وكلامه عن الانسان السودانى | بدر الدين الأمير | 07-07-08, 04:57 PM |
|
|
|