الفاتح جبرا .. في ذمة الله
نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب د. الفاتح يوسف جبرا فى رحمه الله
|
Re: مفهوم التهميش وتحديّات العمل المشترك (Re: Hassan Abdoun Mohamed Ahmed)
|
الكتاب الأسود والرؤية المقلوبة
لقد وقع الكثير من المثقفين السودانيين في شرك النظر إلى التهميش من زاويته الرقمية غير المنهجية، فأضاعوا جهدهم وجهد غيرهم فيما لا طائل من ورائه غير تغبيش الرؤية. إلاّ أن هذه الرؤية الرقمية السطحية للتهميش توّجت فيما عُرف بالكتاب الأسود [2003]، وذلك في سبيل نصرة قضية دارفور، وهي رؤية تضرّ بمسيرة نضال القوى المهمّشة، ذلك لأنها تشوّه الواقع أكثر مما تعكسه. وبدءً نشير إلى أن الكتاب قد انبنى على منهجيةٍ فضائحية، متحاملة لونياً وعرقياً، في تناوله للتهميش من حيث مسمّاه. وفي هذا كشف كُتّابُه، في أحسن الاحتمالات، عن تبعيةٍ غير نقدية وغير راشدة لأيديولوجيا المركز التي تحطّ من قدر كل ما هو أسود في بلد السّود الذي اسمه السّودان. إن هذه الأخلاقية الفاشيّة التي تُزري باللون الأسود تكشف عن الخلفيات الأيديولوجية التي قدم منها حاكةُ الكتاب، ألا وهي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، وهي أيديولوجيا تواطأ معها المؤلّفة قلوبهم ممن حاكوا الكتاب الأسود. فمثلاً لتبيان وجهٍ من أوجه الخطل التي انبنى عليها الكتاب يمكن أن نشير، مثلاً، إلى أبناء دارفور الذين انخرطوا في سلك الجبهة الإسلامية المسئولة الأولى عن هذا النظام وعن سياسات التطهير العرقي التي اتّبعها في دارفور وقبلها في جبال النوبة والأنقسنا والجنوب، أكثر عشرات، عشرات المرّات من أبناء المناصير أو البجا أو النوبيين. فهل معنى ذلك أن نحمّل هذه الكوادر مسئولية الإبادة التي لحقت بأهلهم في دارفور؟ إن سياسات التطهير العرقي القائمة على العنصرية من حيث العروبة والأفرقة، متجذّرة في بنية مؤسسة الدولة منذ قيام سلطنة سنار عندما أصبحت تستند في مشروعيتها الفكرية على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وقد انطوت تلك الأيديولوجيا على منزلق سلوكي خطير، به أصبحت الدولة تتحدّر انزلاقاً يوماً بعد يوم. وفي هذا نشير إلى حقيقة أن التطهير العرقي بدأ في دارفو بمذبحة الضعين عام 1987م في ظل حكم الصادق المهدي، أي في الديموقراطية الثالثة [محمد جلال هاشم، 2005]. واليوم لو كان أبناء دارفور ممن بدّد سني شبابهم وكهولتهم في تبعيةٍ عمياء لدولة الجبهة الإسلامية المارقة، على سُدّة الحكم لما أجدى ذلك أهلهم فتيلا من حيث إمكانية تلافي التطهير العرقي، ذلك لأن هذا المنزلق، دون إعفاء الأفراد القائمين به من المسئولية، متأصّل في بنية مؤسسة الدّولة. ولعلنا لا ننسى أن مذبحة المساليت عام 1995م، والتي بدأت بها فعلياً موجة التطهير الأخيرة في دارفور، قد تمّت والوالي أحد أبناء المساليت. ومع ذلك ما انتفع المساليت من ذلك شيئاً.
ولعلّ مثل هذا النهج الجائر هو الذي انتهى بقادة المؤتمر الشعبي (أي نفس الجبهة الإسلامية المارقة في ثوب جديد) ومن والاهم من أتباعهم بحركة العدل والمساواة إلى إحالة مسئولية التهميش إلى مجمل مجموعتين ثقافيتين هما الدناقلة والشايقية، أو النوبيين [راجع تصريحات خليل إبراهيم خليل في قناة الجزيرة في "لقاء اليوم" بتاريخ www.aljzeera.net/channel/aspx بتاريخ 22/11/200]، وما ذلك إلاّ لأنهم ارتأوا أن أبناء هاتين المجموعتين ممن انخرط في سلك هذه الحركة المارقة، جرّاء الاستقطابات الناشبة فيها، قد وحّدوا صفوفهم باعتبار أنهم شايقية أو دناقلة. وهكذا أدّى بهم غياب الرؤية الناهجة إلى الاعتقاد بأن المجموعتين الثقافيتين في مجملهما مسئولتان عمّا حاق بهم من تجريدٍ للسلطة ووخيم عاقبةٍ بين عصابة السُّرّاق. ولا يفيدهم في هذا القول بأن عصابة المتآمرين من دناقلة وشايقية قد شرعوا في توسيع أحلافهم من ذوي القربى تسلّطاً وإثراءً. فذلك ما استنّته هذه الحركة بنفسها عندما جعلت من المحسوبية، عن قرابةٍ كانت أم عن أيديولوجية، سياسةً معترفاً بها من الدولة.
أجدى من ذلك أن ننظر إلى التهميش في بعديه التنموي والثقافي، فإذا وقعنا عليه ما التفتنا إلى كم عدد المثقفين من ذلك الإقليم المهمّش ممن ارتضى أن يبيع أهله طمعاً في السلطة وبدرةٍ من مال السُّحت. بعد هذا يمكننا أن ننظر إلى الواقع المعاش من حيث التمتّع النسبي بالسلطة والثروة الذي فازت به بعض الأقاليم على حساب البعض الآخر، خاصةّ النيلية منها، إمّا لقربها الجغرافي من مركز السّلطة والثّروة، أو لزيادة حصّتها من التعليم الأولي منذ عهد الاستعمار التركي المصري ، أو لمحاباةٍ من المركز في سعيه الدّائم لتحييد بعض قطاعات الشعب ذات السّكون الأيديولوجي الإسلاموعروبي وتحويل ذلك السّكون إلى تواطؤ، ريثما يتمكّن المركز من تدجين القطاعات الأخرى جامحة الأفرقة لغةً وثقافةً. هذه هي الرؤية الناهجة التي كان عليها شهيد الحرب والسلام القائد العظيم جون قرنق [يراجع في: الواثق كمير، بدون تاريخ]، وعلينا أن نقارن بين رشاد هذه وضلالة تلك. في هذا يتضح أن التعليم نفسه قد تمّت قولبته وتشكيله ليخدم أيديولوجيا الهيمنة والقهر التنموية والثقافية. ويشهد واقع النوبيين اليوم ـ على سبيل المثال ـ بهذا؛ فهم من أكثر المجموعات نيلاً للتعليم وفق هذه القولبة الجائرة؛ كما هم الآن، بفضل هذا، من أكثر المجموعات تعرّضاً للاندثار كمجموعة أفريقية لها لغتها وثقافتها وموطنها الجغرافي.
بهذا يمكن القول بأن المجموعات المهمّشة التي لم تنل حظّاً من التعليم بصورته الشائهة للهوية هذه، كالبجا مثلاً، لم تخسر الكثير. فبينما البجا الآن على بكرة أبيهم يطالبون برفع التهميش عنهم نضالاً مدنياً وعسكرياً، نجد النوبيين منقسمين على أنفسهم، غير مدركين في أكثريتهم الساحقة بما يحيق بهم من خطر داهم. ففضلاً عن أن هذه الأغلبية الساحقة ذاهلة، لا تدري على أي وجه قد وقع عليها التهميش، ها هي السلطة المركزية التي يسعى البعض لتحميل النوبيين إجمالاً مسئوليتها قد وجهت طعنة غادرة للنوبيين من الظهر وذلك عندما باعت الحوض النوبي للمصريين بغية توطين 15 مليون فلاح مصري تحت غطاء ما يعرف بالحريات الأربعة [راجع: مذكرة مجموعة العمل النوبي، 2004؛ جريدة الصحافة، 31/3/2004]. ولعلّ من الطريف أن نشير هنا إلى تصريحات عبد الرحيم محمد حسين، وزير الداخلية السابق، في القاهرة (يناير 2005) عندما حذّر من تنامي الأفرقة كمّاً وكيفاً في السودان جرّاء الهجرات المستمرّة من غرب أفريقيا، بينما توقفت الهجرات من الدول العربية، داعياً المصريين إلى التسريع بالاستيطان في شمال السودان حلاًّ لمشكلة الانفجار السكّاني [راجع ذلك في: www.ahram.org.eg/archive/Index. لعلّنا سننتظر حتى يشرع هؤلاء الفلاحون بعد أن يتمّ توطينهم في قتل النوبيين الآمنين، لنسمع بأن عامة النوبيين قد اكتشفوا بأنهم ضحايا آلية جهنمية تعمل تهميشاً للريف السوداني عامةً، ومحقاً للمجموعات الأفريقية ثقافةً ولغةً وكياناً، ثم إبادةً كنهاية طبيعية لهذا المنزلق.
لكن، تُرى هل سننتظر كل هذه السنين حتّى تكتشف القوى السياسية أيضاً ما يحيق بالنوبيين وباقي المجموعات المهمّشة كالمناصير وغيرهم، ثم بالسّودان؟ أوليس من المؤسف أن الإقرار بأن مجموعةً ما تقع داخل دائرة التهميش لا يتحقق إلاّ بعد أن تُسفك دماء الأبرياء من المجموعة، والذين غالباً ما يكونون من الأطفال والنساء؟ فحتّى الآن لم تجرؤ أي قوّة سياسية على التّطرّق لموضوع بيع الحوض النوبي ولو من باب المجاملة. هل ذلك خشيةً من مصر التي ـ بعد اعترافها بالانقلاب الإنقاذي حتى قبل أن يعترف به مدبّره الترابي ـ قد احتضنت المعارضة؟ هل كان ذلك تدجيناً للمعارضة، خاصّةً التّجمّع؟ يبقى أن نسمع منهم. __________________ MJH
|
|
|
|
|
|
|
|
|