|
رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة
|
ذكريات القرية
أحياناً نتعامل مع ذكرياتنا التي تغتصب لنفسها مقاعد في أوجه الطفولة والصبي بشيء من التجاهل والتناسي... ولكني الآن أطري على... أطري على كامل ذكرياتي... أرى نفسي مهتماً بل ومسؤولاً عن حتمية الوقوف على ذكرياتنا التي دائماً تفقأ عين حضور الواقع.
تنهال علي الآن كل الذكريات... لم أجترها... ولكن قررت فجأة السفر بآخر قطار لألحق بعرس اللحظات الخوالي التي أستدعيها الآن ولا أعرف منها سوى طعم الذكرى... مرقت بصعوبة وسط الزحام من الباب العالي الحديدي- الذي دائماً ما يكون في انتظاري في مثل هذه الأثناء- باب محطة القطار الذي لا يزال مفتوحاً على مصراعيه... لم أكترث لا بقليل ولا بكثير أثناء اتجاهي إلى العربة التي ستقلني إلى قريتي قرية "........" إلى قدس أقداس الرصيد الذهبي من عمر أحزاني... أفراحي... خواطري... أبنائي الذين يفترشون جدار القلب تحت ملاءات العري الصاخب- الأكثر صخباً من قريتي- بقُرة عيني في ليلة باردة... أبنائي الذين ساهم في وجودهم طقس القرية... جهل القرية... وحدة اللاائتلاف في حارتي.. "حارة النصارى".
على مسافة ما يقرب من خمسة وعشرين كيلو متراً غرب القاهرة تقع قريتي كلما كانت تقع عيناي بسرعة ذلك القطار الذي أقله سنوياً مرات كثيرة- بحثاً عن الرطوبة مرة وعن الهدوء مرة وعن الجذور والهوية مرات ومرات- على المنازل المتراصة بعشوائيتها المنتظمة التي دائماً تنبئ عن أهلي وتشير إلى دوران الرحى في أنسجة مخيلتي ولكن بغير اتجاه.
دائماً كنت أرى لعبي في أكوام الرمال... وفي الطين الذي نشكله حسب رغباتنا التي نستقيها من سقف أحلام جنتنا... كنا نصنع حيوانات معلومة وأخرى خرافية ومن كان يحلم بالمدنية كان يصنعها... هذه سيارة... وهذه سفينة لا يحصل على مقعد فيها سوى خيرة أهل القرية"الحجيج".
كنا نلعب ولا نعرف فروقاً لألواننا... لم توقفنا مرة نظرة في أعين كل منا للآخر... لم يدخل قاموسنا... "الصح والغلط "... لم ننجح بعد إلا في الوحدة والفرح... حتى الآن لم تكن قد اجتاحتني حمى الأسئلة المرهونة بإجابات تكبرني أو ليست في يدي... ولكن شئ واحد كان يثير انتباهي وفضولي في آن... كنت أرى رجلاً بعد منتصف الليل بكثير يركب حماره ويحمل فانوساً موقداً بشمعة شحيحة... يعلق طبلته المستديرة متدلية على صدره... يدقها قائلاً "سحور... سحور" وفجأة أجد الحياة قد عادت إلى طبيعتها في بيتنا بعد سكون طويل... فأتراقص فرحاً لأني سآكل للمرة الرابعة خلال اليوم بدون تحفظ من أهلي!!
سريعاً ما تمر الأشهر وفى شهر من أشهر الشتاء ألحظ انتشار القصب بطريقة لافتة للنظر في الكثير من المحلات والعديد من البيوت وكنا نشترى "حزمة" ونقطعها إلى "عقل" صغيرة وبعد المغرب نجتمع لنقشرها ونرتشف عصارتها اللذيذة السكرية وسمعت بعض الناس يهنئون بعضهم بموسم الغطاس!!.
لم أكن أدرك ما هو الغطاس... أو ماذا يعني؟... لكنني كنت أنتظره كل عام... لآكل القصب فقط!!!
وعلى الرغم من امتلاء قريتي بالتناقضات المعمارية والدينية والأخلاقية والأعرافية... إلا إنني لم ألحظ يوماً ما أنني أشعر بهذا التناقض يخترقني مثلما يخترقني التناقض المعماري بين دوارنا ودوار "عم فوزي" والد "مجدي"... مجدي... ما زلت أذكرك يا مفتاحي ومفتاح كياني على ذاتي... ما زلت أذكر أنك مستصغر الشرر الذي قد أوقد نار جحيم الأسئلة في عقلي... يا من بوجوده العفوي... قد أيقظ كل مهارات العين على استنباط التناغم المصطنع في أنفس حارتنا.
ترصد عيني الآن هذه البيوت التي يعلوها الصليب الطيني على جدرانها يلاصقها بيوت أخرى قد انتشرت عليها السفن والبواخر التي تعلن عن مشاركة أحد أفرادها في عملية الحج... ترصد الآن عيني عبارات طبعت بداخلي ولم أكن أعرف لها مكنون أو مردود... ترصد عيناي الآن "الله محبة" فباب للدار الذي يليه فـ "حج مبرور وذنب مغفور" على الجدار الآخر المكسو باللون الأخضر... والمنازل التي لم يشارك أفرادها بالحج تعلو جدرانها "الله أكبر"... "لا اله إلا الله" وحتى الآن كان كل ما يمكن أن أؤمن به أنها تجميل لأشكال بيوتنا... حتى الآن لم أكن أدرك أن هناك دوافع لهذه الكتابات أو لهذا السعف المجدول ولهذه الصلبان الطينية...
الشيء الوحيد المشترك بين كل هذه البيوت القديم منها والحديث هو تعليق فانوس كبير على باب كل دار "لمبة نمرة عشرة" يتم إشعاله عند حلول الظلام فتجد الحارة كلها قد أضاءت.
لازلت حتى الآن أذكر كيف كانت بنات حارتنا "حارة النصارى" التائهات بين خضم الحارات التي تشتهر بها قريتي تستيقظن يومياً بعد ساعات العصر وبدء إشعال اللمبات ملبيات للنداء السحري المدوي بهن "يا مغرفتنا يا منقرشة قومي سامية من ع العشا" وهذا هو نداء قائدة حركة اللعب الجماعي لبنات القرية... زلزال من الأفراح لا يعرفن سره... هرولة بالحارة مروراً بالزروع وصولاً إلى شجرة الجميز المعهودة.
هاهن بنات الحارة جئن من منازلهن تشدهن بهجة اللعب سوياً... كانت ألعابهن مألوفة... محفوظة... مرتبة... بمجرد سماعهن النداء يخرجن حتى يكتمل عددهن الذي غالباً لا يقل عن عشر فتيات... بينما الأولاد يلعبون ألعابهم الخشنة العنيفة مثل سباقات الجري (ولعبة الشجاعة ونطة الإنجليز)... لم يكن لديهم طقوسا في تجمعهم أو في ترتيب ألعابهم بعكس الفتيات...
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sabri Elshareef | 09-07-05, 04:32 PM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | nashaat elemam | 10-23-05, 02:18 AM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sudany Agouz | 10-23-05, 03:11 PM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sabri Elshareef | 10-23-05, 04:03 PM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sabri Elshareef | 10-23-05, 04:05 PM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sabri Elshareef | 10-23-05, 04:10 PM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | bint_alahfad | 10-23-05, 11:46 PM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sudany Agouz | 10-24-05, 04:00 AM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sabri Elshareef | 10-24-05, 03:53 PM |
Re: رواية حارة النصاري جديرة بالقراءة | Sabri Elshareef | 10-26-05, 09:39 AM |
|
|
|