ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشعرية "

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-17-2024, 01:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-04-2004, 11:59 AM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع (Re: nassar elhaj)

    ورقة الناقد السعودي : محمد العباس :

    اليومي والميتا- لغوي
    بين أبناء وآباء القصيدة العربية

    محمد العباس
    (السعودية)


    استنادا الى مقولة فلوبير " ما يعذب حياتك ، يعذب أيضا أسلوبك في الكتابة " يقرر أدونيس في ثلاثيته ( القاهرة التي علمتني ) أن معظم النصوص التي تكتب اليوم احتفاء بالراهن، العادي، اليومي تفتقر الى مثل ذلك " العذاب " بما يعني تبنيه الصريح لموقف ( فكري/جمالي ) مضاد من راهنية وعادية وعرضية النصوص الجديدة، في محاولة كما يبدو لمفهمة متوالية ( اليومي ) واختباره بوصاية أبوية إزاء ( الميتا- لغوي ) كما تجدد أيدلوجيا العمود الشعري انبعاثاتها بصيغ مختلفة، فالكاتب الذي لا نرى في كتابته عذابا - برأيه - إنما يقول ما يقول بشكل إعلامي إخباري، ولا يكون كاتبا إنما مجرد ناقل أو راو، حتى ليبدو كأنما ليس وراء تلك النصوص " شخص " وهي القائمة أصلا، وفقا لادعاء أصحابها على "الشخصي " وعلى نوازع الشخص.

    وبالنظر إلى انتفاء " العذاب " بالمعنى الذي أراده أدونيس، لا يجد في النصوص مسافة بين الشيء والكلمة، حيث تصبح اللغة " كسولة " مسترخية تفتقر إلى " اللهب " وإلى "العصب " بمعنى أنها قصيدة نيئة، مستعجلة، وغير خاضعة لتقنية " التحكيك الحولي " بالمفهوم النقدي/الذوقي العربي القديم، ولا تقف وراءها ذات مرضوضة بالعذاب، فهي بلا فعل تزميني، لأنها ناتجة عن ذوات مسترخية تشبه رخاوة واقعها، إذ لا يهمها سوى تأسيس خرافة أو أسطورة جديدة عن مخترعاتها النصية المغايرة.

    هذا التفريغ التبخيسي للنصوص الجديدة من عذابات مرتكبيها يشبه إلى حد كبير هجائية هارولد بلوم للشعر الأمريكي الحديث تحت عنوان عريض سمّاه " المرض الفرنسي " حيث تتحول نزوات وحماقات وخطايا " الأنا " في صيغتها اليومية إلى نص شعري، إذ لا يخفي حساسيته من الأثر التدميري للشعر الفرنسي. وهو ذات الاحتجاج الذي أعلنه ت. س. اليوت من منظور طبقي، وأخلاقي إلى حد ما، ضد الفن أو الشعر المتأتي من الطبقات الشعبية، لدرجة أنه ظل مراوغا إزاء شعرية والت وايتمان، ليؤكد على ضرورة وجود " طبقة عليا " كضمان لنقل واستمرار الثقافة الراقية، وكذلك جان كوهين الذي أبدى تململه من مسمى افتقار " قصيدة النثر " للدلالة الصوتية مقترحا مسمى " القصيدة الدلالية " بما يعني انحياز الآباء إلى المكرّس ذوقيا من النخبوي والطليعي والطبقي، وبالتالي الارتهان إلى " المعذّب " بمعناه الكلاسيكي، كما يتبدى ذلك في التأكيد الجازم على مقولة أورنو بأن " ليس ثمة شعر بعد أو شفيتز " حيث أعيد إنتاج ذات المقولة ونفس الكلام عن " العذاب " بعد الحادي عشر من سبتمبر، بالنظر إلى هول الحدث، رغم أن الشعر شهد في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص انتعاشا لافتا، فقد كان موقع شعر ينشر بشكل يومي ولأكثر من عام ما يقارب المائتي نص، بما يعني تحول الشعر إلى ملكة عامة قوامها اليومي والراهن، حيث لا يمكن للشاعر أن يدخل في علاقة بريئة مع اللغة، إذ واشجها نيتشة بطبقية قيم الخير والشر.

    بهذا التورط في حسية المعاش يتجاوز الشعر الحديث مقومات النفي والاستلاب كما رسختها الأطر الكلاسيكية والرومانسية ويدعو بتعبير رولان بارت لتدمير " علاقات اللغة ويرجع الإنشاء إلى محطات الكلام " فمنذ رامبو، الذي أصر بوعي الرائي على أن نكون حديثين تماما، صار الشعر أقرب إلى الخبرات اللغوية واللالغوية المعاشة، وهو ذات المتكأ الحداثي الذي أعلنه رسّام الحياة الحديثة بودلير تأكيدا للراهني بمعناه الواسع والعميق عندما ترنم بنشيد الحداثة " أحب زمني " لتتولد عذاباته، أو نموذجه الكتابي الغامض الباهر، كما يسميه، من معايشة المدن ومن علاقات متشابكة لا تحصى، كما كاتب صديقه أرسين هوساي، ليسلخ عنه مفهوم النظام الأعلى بمادة الحياة الخالصة، وكما تتوفر وتعاش في المرئي والملموس.

    من هنا يمكن التماس بتلك المقاربة البرانية لمفهوم اليومي والهامشي، والتي تمارس جلد المفردات والسياقات على مسلخ النقد وفق قبليات ذوقية، بما يعني أن الشعراء الكبار، بتصور محمد عضيمة " مرضى بما أنتجوه، ولا يستطيعون تجاوزه أو تجاوز أنفسهم ليروا شيئا آخر لدى غيرهم من الأجيال الجديدة " فتلك التأملات الأبوية لا تشير إلى معنى جمالي لمفردة " العذاب " بقدر ما تنحاز بها إلى المكرّس من المفاهيم اللا منصفة لقصيدة النثر لتحبسها في ذائقة الآباء الطاعنين في تقاعدهم الشعري، سواء العمودييين أو التفعيليين أو حتى النثريين، كما حاولها أحمد عبدالمعطي حجازي، أو كما راهن عز الدين المناصرة على اختبارها بمعيارية فرز جنساني عندما اعتبرها قصيدة " خنثى " . وكذلك عندما تفنن عبدالله الغذامي في تعويقها بمشروطية ذوقية قرائية.

    وكلام أدونيس الذي يبدو في ظاهره تحليلا منطقيا ومنصفا لماهية الشعر لا يختلف عن تلك المشروطيات الجمالية التعقيمية، فهو يكرس الوصاية الأبوية المرتهنة أصلا إلى ذهنية أو ذائقة تفر من مستوجبات الحاضر إلى مرجعيات الماضي وقدسياته، وإلى يوتوبيا المستقبل وتهويماته، رهانا على قارئ مستدعى من عتاقة " الما كان " أو آت ربما من نبوئية " ما سيكون " وهو ما يعرف ضمن الدرس الألسني بانفصال الدال عن المدلول، واغتراب الذات عن موضوعها، وبالتالي إنحجاب حقيقة الذات والمعنى في وجود مزور، أو لا وجود أصلا، يذهب ضحيته إبداعيا الجانب الأهم من الوعي الجمالي، الذي يتأسس فوق الإنسان وليس من أجله، بما يعني التضارب مع ما بشر به بودلير من شعر قابل لكل المعاني، أي ذلك النوع الأدبي بوصفه المعجز نثريا، المرن " المتقطع بما يكفي ليتماثل مع انبعاثات النفس الغنائية، وتموجات أحلام اليقظة، وانتفاضات الوعي " المنتج بوعي وحساسية كائن يكتب آنه وذاته.

    وبالتأكيد توحي هذه الخلاصة الشعرية بارتكاس أبوي من أحد الرواد المبشرين بما سموه " قصيدة الملاعين " كما تبدت في ارتباكات أدونيس إزاء قصيدة النثر، وانقلابه ولو بشكل ضمني، ليس على الأقنومة الجمالية بمعناها الشكلي وحسب، بل في عمق مضامينها ومعانيها، بما يعني شعريا عطالة الذائقة العابرة للأجيال، أو انفضاحها بمعنى أدق، حيث انعدام القدرة عند الآباء على تجاوز شبه-الوجود إلى الوجود ذاته بفذلكات لغوية أو بيانية، أو ما يعتبره محمد عضيمة في تحليله لظاهرة " الشعر الحديث واغتيال الحاضر " نتيجة طبيعية لسطوة الثقافة ذات الطبيعة الميتافيزيقية، خصوصا في جانب تثبيتها للرؤى الميتافيزيقية للكون وللإنسان مع العلم أنها طرحت نفسها وبقوة كنقيض لهذه الرؤى، وذلك هو ما اعتبره رولان بارت توريطا للغة مع من اختزلوها كبضاعة كاسدة، بناء على إثم مؤسسة الأدب التي تحاول أن تحيل كل شيء إلى ركام ثابت، بتواطؤ طبقي، وعلى ذلك طالب في " الكتابة في درجة الصفر " بكتابة من العدم يتعالى فيها الفكر على ديكور الكلمات لتجتاز كل حيل الترسيخ.

    وتشير تلك التململات من الآباء أيضا إلى عودة سلفية شعرية إحيائية لما تهدم من أيدلوجيا " العمود " أو ربما بميل جديد لدى أدونيس تحديدا إلى النص القيامي اللاهب، المؤسس على نبرة شعورية حادة، القائم على مقولة تين بأن الألم هو أم الشعر، خصوصا عند تلمس الحسرة التي يبديها على " زحزحة التخوم الراسخة التي أرساها فن التأمل الشعري بصرا وبصيرة " وعند تأمل لا شعور الخطاب الذي يعتمده في الحديث عن متعلقات الرعب الجمالي الذي تبثه قصيدة النثر في صيغتها الإنقطاعية عما أرساه الآباء حيث ( معظم - الإدعاء - أصحابها ) وكأنه يحاول التملص من تبعاتها، أو نفي مريديها، بل انه يذهب الى تجريدها من النزعة الإنسانية، أو الحس البشري، فهي كتابة - برأيه - لا ترى من الحياة أي شيء، وعليه فهو هنا لا ينفي عنها الحس الفني وحسب بل حتى المقترحات الأخلاقية والاجتماعية.

    كذلك يمكن تلمس بعض ظلال من الشك الأدونيسي عند إلحاق هذه النتيجة التعميمية بجملة من الآراء والأفكار التي بات يعلنها مؤخرا، ويدعو فيها - تأكيدا لعاداته التأصيلية - إلى خصوصية عربية تنكتب بموجبها قصيدة النثر العربية، وإلى إعادة الاعتبار للعين الخفية أو العين الثالثة، كاستعارة لإذن جاك دريدا الثالثة، المقترنة بنوع من النفس النبوئي، وفق " جوهرانية " لا يكف عن ترديدها بإطلاقية مجردة تتقاطع مع متوالية مفاهيم الآخر والهوية والأصالة، فالتقدم في تقنية الغرب - برأيه - ليست ضمانا لعلو فنه، مع خشية، تشبه سلطة حراس الأدب، على الشعر من أن يجد نفسه في فضاء ضيق محدود، ومن أن تؤدي " النزعة الراهنية التفصيلية الى سجن المتعة الجمالية في قفص الإدراك الحسي العادي المباشر الذي لا شأن له في الإدراك الجمالي ".

    والقراءة المتجاوزة للإرتباك الجمالي الذي طالما أبداه أدونيس إزاء قصيدة النثر طوال مسيرته الشعرية والتنظيرية، رغم كونه أحد المبشرين بها تتطلب - مفهوميا - نسيان كل ما قاله بهذا الشأن، انطلاقا من مفهومه المرتبك والمتبدل للحداثة بوجه عام، فالعمود في نظره لم يكن مجرد نظام وزني، بتحليل عباس بيضون . انه رؤية ولكن أي رؤية، ما دام مصطلح العمود يداوم على غموضه، ويبدو الى اليوم مضرب تكهنات وتفاسير، أغلبها أعمى عن نفسه وبحت لفظي، بما يعني أن يكون الشعر ميدانا مفتوحا لحرب دائمة، لا يستنسب فيها الأحفاد إلى سلالة الأجداد ليتحقق ذلك الفعل التأصيلي باشتراطاته التوارثية التاريخية والقومية والفنية، عند اختبار النص الجديد على مزدوجة ( الشكل/المضمون ) كمحك معياري، كما يختصر ذلك التجادل الإبداعي قاسم حداد بتهديم جمالي لشكل ومضامين النسق بقوله " سيد شكل الذي لا شكل له ".

    هكذا يمكن التعاطي مع ما تشي به تلك الملاحظات التي تبدو في ظاهرها عقلانية، فتلك الإحتفائية بالقديم في حلته التأصيلية تحيل إلى احتجاج فني مشروع عند أدونيس على احتكار " العرضي " للحقيقة الشعرية بشكل لافت، والى خشية من تعاظم سلطة العرضي شعريا، فالراهن اليومي، حسب تعبيره، ليست إلا وجها أو جزءا من الحقيقة. أما " الراهنية " فهي نوع من النقص: نقص الرؤية، ونقص الحقيقة، ونقص التعبير. وعلى ذلك العوز التكويني في الراهن يدعو لفهم ربطي يحيل ذلك الراهن الى الماضي ( التاريخ ) فهو نتاج الماقبل، بمعنى حقن العرضي بالرؤيوي والتأصيلي، وبالتالي فهو فرصة لقراءة على بعدين: ما يجيء من جهة حدوثه، وما يجيء من جهة صيرورته، يعني أن التفصيلي كأثر للعرضي أو الهامشي، لا يمكن أن يفهم، أو يعبر عنه بشكل صحيح إلا منظورا إليه بوصفه زمانا ومكانا، بما يؤكد الإقرار بحقيقة ظلت غائبة، مفادها أن قصيدة النثر واقعة ثقافية أكثر من كونها ارتدادة عروضية، أو استكمالية لما قبلها.

    وبهذا يغدو المقترح أو السجال الأدونيسي دعوة لمفهمة العرضي وتصعيده كركيزة شعرية، ولكن وفق مشروطية غائمة، فهو ليس ضد " النقلة الكتابية " من عالم ( الناس - الأفكار ) الى عالم ( الأشياء - الحياة اليومية ) حسب تعبيره، لكنه يشرّط تلك النقلة فنيا على " جدة الرؤية للعالم وللحياة واللغة، وعلى مدى شعرية الكتابة، فهذا هو الأساس لا النقلة الشعرية ذاتها، وهي مقترحات أشبه بالعناوين التنظيرية العابرة، التي تسهم في تعويم عناصر الإشكالية لمدة أطول، وبهذا يعود الجدل إلى نقطة الصفر، حيث النص الغارق في الميتالغة، المغسولة مفرداته من طراوتها الوجودية، قبالة النص المباشر المحتفي بالهامشي والعرضي، الذي لا يزعم احتكار الحقيقة الشعرية، بقدر ما يحاذي التخوم الراسخة لفن التأمل الشعري بمقترحات واستقطابات جمالية مغايرة تحايث - فنيا ووجوديا - اللحظة والكائن المنتج لها، وهذه بالنسبة لرولان بارت هي أكثر لحظات التاريخ جلاء، فهو اختيار قبل أي شيء، وبالتالي فالكتابة هنا مشتقة من حركة دلالية صادرة عن ذات حاضرة لتلامس التاريخ، بما هو المعادل للوجود، بشكل محسوس.

    اليومي إذا، ليس مسألة فنية طارئة على الشعرية العربية، ولا ينبغي النظر إليه، كما يحاول الآباء على أنه عصب نص " الآخر " فهو بكل تمثلاته ديالكتيك شعري وثيق الصلة بالزمن، وعليه لا بد من الالتفات الى أن اليومي والعرضي والهامشي مراودات إنسانية لا تخلو أي تجربة شعرية من إلحاحها، وما الشكل الشعري الأحدث إلا محصلة منطقية ( فنية وشعورية ) لمكابدات إنسانية طويلة لتقليص المسافة بين الشيء والكلمة وليس العكس، أي المطابقة بين الدال والمدلول، وبين الذات والموضوع، حسب التصور الهيجلي، أو لما يعرف جماليا بتثقيف الحواس.

    وهذا التحول الفني لا يحدث في الشعر وحسب بل في جملة الخطابات الجمالية التي تسير بمحاذاته، وباتجاه اللامعنى، وفقا لنبوءة تودروف أو تحليلاته، حيث جمالية النفايات بمعناها الشمولي بما هي المعادل للعرضي والهامشي واليومي، أو ما عرف تحت عنوان " الفن الفقير " وحيث يمكن الربط هنا ليس بين العمق التاريخي بالراهن وحسب إنما بالتجريب التعبيري أيضا، أي لا حيادية الشكل، وحيث الأفق الموحد، المؤسس على صلة خفية فاعلة بين اليومي والكوني، كما يتلمسها دولوز ، استنادا الى حاجة اليومي الى صلة عليا بشيء ما موحد، فاليومي بشكل ما من الأشكال هو خلاصة وجودية كونية، وهذا هو ما ترجحه سوزان برنارد كمهمة شعرية لإعادة تركيب العالم بالعادي من الكلمات والحقائق اليومية والمبتذل من الأشياء، فعلى الشعر - بتصورها - أن يتدفق كرؤيا، وليس من البهرجة اللغوية والبيانية الفائضة.

    ويبدو أن الشعرية العربية ممثلة في الآباء لم تتجاوز انبساطية المفهوم الشعري إلا بمزيد من الحيل الشكلانية، حيث الإصرار على أن يتولد النص من أعلى، أي من الميتا-لغوي بما هو الجامع النصي والذهني للرؤيا والأسطورة والفكرنة والأيدلوجيا، فبالتأكيد هنالك حاجة للتفريق بين الفن المخلوق في الفرح والفن المخلوق في العناء والعذاب، وهو أمر مطلوب بتصور هربرت ماركوز، في " الإنسان ذو البعد الواحد " ولكنه من الناحية السيكولوجية ألزم من حيث التمييز بين الصحة والعصاب، لتبيان الحد الذي يفصل الواقع الفني عن الواقع الاجتماعي، على اعتبار أن القطيعة مع الواقع الاجتماعي والمخالفة العقلانية أو السحرية سمة أساسية في الفن مهما يكن ايجابيا، بمعنى " أن الفن سواء كان طقسيا أم لم يكن ينطوي على عقلانية النفي ، فهو في مواقفه القصوى الرفض الأكبر، الاحتجاج على ما هو كائن، والأساليب التي يجعل بها الإنسان يظهر ويغني ويتكلم، والتي يجعل بها الأشياء ترن، هي أنماط من الرفض، من المقاطعة، من إعادة الخلق لوجودها الواقعي، ولكن هذه الأشكال من النفي تدفع الغرامة المترتبة عليها للمجتمع المعادي المرتبطة به، فعالم الفن المخلوق من قبل أشكال النفي تلك، المفصول عن عالم العمل الذي يعيد فيه المجتمع نفسه وبؤسه، يظل على الرغم من كل حقيقته امتيازا ووهما".

    إذا، فالآباء كما يبدو، أقرب الى فوقية مفهوم الثقافة الرفيعة المتأتية من رفعة الطبقة أصلا، حسب الاشتراط الجمالي الإليوتي، حيث التموضع في خط المواجهة ضد كل فعل لدقرطة وتشعيب الثقافة والفن، برأي ماركوز، أي الانحياز الى الثقافة التي ترعى استلاب الفن في طقوسية وأسلوب الصالون والحفل الموسيقي والأوبرا والمسرح التي توحي ببعد آخر للواقع، بما تحمله من خصائص العيد، لتتعالى على التجربة اليومية، رغم أن التقدم في شتى مناحي الحياة في سبيله إلى إلغاء هذه المسافة الجوهرية القائمة بين الفنون وبين نظام ما هو يومي، وتبديد كل ما يوحي بتلك المسافة.

    أما بداية الانفصال فيميل محمد عضيمة الى تحقيبها عربيا بما بعد القصيدة الجاهلية، أي عند اللحظة التي بدأ فيها الإسلام يحتل الجانب الأكبر من حياة العربي، عبر القرآن كأفق تعبيري عن العلاقة بالكون، وهو نفس المفصل والمنطلق الذي ينحى إليه أدونيس في كتابه " الكتابة والنص القرآني " وذات المنعطف الذي يدعو سعدي يوسف للعودة الى ما قبله، أي إلى الصفر حيث بكرية القصيدة الجاهلية، المكان الذي انتهت فيه " ثقافة التجربة الحسية، أو الثقافة الحسية " وتم الطلاق بين المعنى والكلمة، ليسبح ذلك الجاهلي المأخوذ بالتجربة أولا وليس بالمفهوم في المجرد، نتيجة إنفقاد الوجود والحضور، حيث أراد الشاعر العربي أن يستحوذ على سلطة شبيهة بسلطة النص القرآني في بنيته ورؤاه، وغيبيته،كنص غير زمني، وغير خاضع للتاريخ، ولا لمرجعية الذاكرة.

    يتأكد هذا المنحى التشخيصي أيضا عند أحمد ديبو في ( حدس الصورة، حدس المعنى ) عندما قاربه في الإنتماء البدائي للشاعر الجاهلي إلى القبيلة/النسب وفي " إذعانه المطلق للوجدان الجمعي، حيث عاش ذلك الجاهلي الأول هذا المأزق الوجودي، فهو يغلب الإرادة القبلية والانسحاق في كل ما هو جمعي/موضوعي بالقياس إلى فرديته، وأمام هذا الهوى العنيف كانت تجربة الشاعر الجاهلي ولحقبة طويلة ميدانا للإنفعال العقلي المحض، فهي تجربة تبدأ من عالم القيم وتنتهي فيه، وتاليا ما يمكن أن يطلق عليه حدس المعنى، وهذا ما جعل القصيدة الجاهلية وحتى العصور الإسلامية تحافظ على بنيتها الفنية، فبنوع كهذا من السلطة، تم تفكيك كل أسئلة العقل، لترتد عنها وتذوب، وتجعل منها، إذا ما أثارها الشاعر شيئا يسمى البدعة، وكل بدعة ضلالة والضلالة في النار، ولعل ما ساعد هذا الجمود الذي أصاب القصيدة الجاهلية هو تكبيل الشاعر باعتباره منشدا، إذ يتوسل إيقاع الكلمات ليبعث المتعة في النفوس، وفي العصور الإسلامية رسخ البيانيون هذه النظرة بغية الفصل بين اللغة والفكر".


    وهكذا صارت الحياة في مكان آخر، أي في المستعار والميتافيزيقي المتجاوز للواقع، حيث أخذ الكائن من خيلولته الفردية، ومن عواطفه وجسديته أيضا، فذلك الجاهلي الذي كان، من منظور عضيمة، محور الكلام والكون والوجود، قبل أن يصير عبدا لكل تلك المتواليات، انتهى بانتهاء عصر الأفراد وبداية عصر الجماعة، وبنهاية زمن القبائل المتعددة وبداية عصر القبيلة الواحدة، وبانغلاق زمن المغامرات والتجارب لحساب المغامرة الواحدة والتجربة الواحدة، وبالتالي انتهاء زمن النصوص وبداية زمن النص، ولم يعد معبرا عن " تجربة معيوشة بالحواس أو جزءا من الوجود " بل ما عاد الكلام الشعري معنيا بالإنسان بقدر ما أبدى انهماما بالمفهومات المجردة.

    هنا تم اغتيال الحاضر، فالكلمة ما عادت تقود الى حياة متحركة، إنما إلى الغيب والحنين، إلى عالم مثالي، بمعنى إعلان الغياب والارتماء في المجاهيل، والحدوس الميتافيزيقية، خيانة لشروط الإبداع كما تتمثل في المرئي والحاضر والملموس، والتزاما بالنص المصقول لغويا، والمغترب موضوعيا، الذاهب إلى تكريس حس الاصطفائية والنبوءة عبر دلالة لا إنسانية، تبتني مدركات النص الجمالية والذهنية في الفراغ لا في مدارات المعاش، وهو المعنى الذي يؤكده هربرت ماركوز بشأن استلابية الفن والأدب، قبل أن يمتلك المجتمع إمكانية التصالح والانسجام " حيث كانا يحميان التناقض ويمحضانه قوته، فقد كانا قوة عقلانية وعرفانية، بحيث يكشفان عن بعد للإنسان والطبيعة يقمعه الواقع ويردعه، وكانت حقيقتهما تكمن في الوهم الذي يوحيان به، في إرادتهما المصرة على خلق عالم علّق إرهاب الحياة وأقصاه عنه وسيطر عليه لأنه عرفه ".

    وقد كان ذلك الغياب الصريح يزداد صراحة وسطوة كلما أرادت الكتابة العربية - إبداعا وتنظيرا - أن تتعالق بالنص الموحي ، وتؤسس توازناتها الإبداعية على مدى الصلة بالجمالية القرآنية، تماما مثلما بدت لفظة " البيان " عند الجاحظ كمفهوم مركزي أقرب الى تأسيس جوار لغوي بطابع معياري وتقييمي، شديد الارتباط بالنفحة القرآنية، وبالتالي صارت حركة الحداثة الشعرية حينها لا تنتج " الآن " المتعلق بها، بقدر ما تستند إلى ذاكرة مثقلة بالموروثات، وبالأفق الديني على وجه الخصوص الذي كان الأفق الشعري يطارده ليماهيه في مطلقاته وشموليته وتجريداته، ليتطابق النص الشعري في النهاية، حسب عضيمة، بالنص الديني " ويصير الواحد صدى الآخر، ويصبحان قيمة لا ترتبط بمكان أو بزمان ولا يمسهما التغيير " وهو ما تبدى بشكل صريح عندما تدلت الأسطورة على صدر القصيدة، بتعبير خيري منصور، ولم تكن ذائبة في أنساقها حد الغياب، لتصبح خارج الشعر أو مجرد مشجب لغوي.

    هكذا ينفضح الترقيع الحداثي. ومرة أخرى يكون الإدعاء بالإطلاقية والمعيارية واللازمنية مبررا للانفصال، فالفعل الشعري بانسحابه عن مرأنة العالم، والتعويل الإعتباطي على اجتراح قيم جمالية ومعرفية مطلقة ومتحولة، أو عابرة للعصور والأزمنة هو المسبب الأهم للقطيعة القائمة على " لغة أصولية ذهنية متطرفة في تجريدها للأشياء والعالم " مبعثها في الأساس هو الثقافة الميتافيزيقية، كما تمثلت في تيار الحداثة ، ومجلة " شعر " على وجه الخصوص، التي لم تكن كخبرة جمالية ترى العالم إلا بعين واحدة، ولا تسمح للفرد باكتساب خبرة معاشة، بقدر ما تلقنه ذهنيا، وفقهيا، ومدرسيا بالفكر الميتافيزيقي الذي لم يكن بدوره قادرا " على أن يحب شيئا أو أن يتعايش معه إلا إذا ابتلعه تماما وجرده عن ذاته وهويته بالقوة ".

    وقد تاهت تجربة الحداثة العربية باختلاف تمظهراتها في محاولة اعتباطية لمماهاة الأسماء الكبرى القادمة من بعيد، أي من الماضي كالمتنبي والنواسي والنفري، أو من جغرافيا شعورية ومعرفية مغايرة كمالارميه وبودلير ورامبو، بمعنى أنها أرادت الدفاع عن مبرراتها من موقع الماضي " الموروث " نسبا، بما في ذلك التوظيف الماضوي للأسطورة، ومن رغبة في الإنتماء الى الجوهراني والانسياق في امتداداته، لتتأكد حقيقة أو مفارقة على درجة من الأهمية عند عضيمة وهي " ان الخطاب العربي المعاصر حول الشعر هو خطاب سياسي - ديني أو ديني سياسي مقلوب فالشاعر العربي لا يفكر شعريا إلا بمقدار ما يفكر سياسيا أو دينيا، أو لنقل التفكير الديني عنده يسبق وبالتالي يقود التفكير الشعري والفني ".

    إذا، هنالك تصفيح أبوي فج بين الموروث وتمظهرات نهاية القرن، أو ملاصقة قسرية ومدبرة لعوالم متباينة بدعوى الحداثة، فمفهوم الحداثة ذاتها لا يمكن بحال ان يكون فوق الزمن والتاريخ و أن يجرد عن " آنيته الزمكانية " لأن ذلك سيقود إلى اعتبار أقدم النصوص أكثر جدة وحداثة من أي نص يأتي بعده بقرون، وهي المحاولة الفاقعة التي حاولها محي الدين اللاذقاني في " آباء الحداثة العربية " لإثبات لازمنية الحداثة، وأرادها أدونيس أيضا في كتابه " الصوفية والسريالية " مثلا ليؤسس جانبا من مدركاته لقصيدة النثر عليها، وهذا يعني أن رواد الحداثة العربية لم يتزحزحوا عن قناعاتهم " الميتافيزيقية " إنما أرادوا التأكيد عليها بتجاهل ما يقال ضد الحداثة الغربية وإعادة تلك الحداثة وفق معطياتها وشروطها الغربية حتى في لحظة انهدامها.

    وهكذا لم يتوفر في حداثتنا حسب عضيمه " نص شعري معاصر يحقق استقلاله الذاتي، ولا توجد قصيدة واحدة تؤكد فراغها أو قطيعتها مع الأصل ". وذلك هو ما سماه بارت " الكتابة البيضاء " وتتبع حيثيات ظهورها ككتابة برجوازية ضمن تاريخ الكلاسيكية الفرنسية واضمحلالها نتيجة أفول البرجوازية التقليدية، وهو المطلوب عربيا لتأسيس تعددية النوع الكتابي بحيث يبتكر هذا اللون لغته وتكون مشروعه، فالكتابة كحيز للحرية، برأيه، تحمل حقيقة مزدوجة فهي من جهة أولى تنشأ عن المجابهة بين الكاتب ومجتمعه، ومن جهة ثانية تنشأ من غائية اجتماعية ترمي إلى المنابع الصناعية لإبداعه.

    وهذا هو المدخل لمفهمة اليومي في الشعر الحديث، وضمن شعرية الموجات الحاضرة في مشهد نهاية القرن الماضي وبداية الحالي، أي كحدث جمالي وثيق الصلة بظاهرة جمالية أكبر، أو بنسق قيمي أعلى، فللهامشي دلالاته أيضا، واللغة مهما بدت بسيطة في مركباتها التعبيرية تظل جزءا من شكل الحضور الإنساني، إن لم تكن هي الوعي نفسه حسب المفهوم الهايدجري للكينونة اللغوية، وبالتالي فان التعبير الشعري الذي يجعل من مهماته توحيد الكلام داخل النص الشعري بمقابله في الحياة صيغة أكثر قابلية للتعاطي، حيث مقابلة مألوفات الواقع بمألوفات النص، وحيث لا أقنعة ولا وسائط، إنما فاعلية " الأنا " الخالصة وراهنيتها المحتضنة في كثافة اللحظة ودلالاتها، المراهنة على زحزحة عناد الذاكرة بنص له سمة القارة المتمادية في تعرجاتها وتضاريسها الجمالية، بمعنى أن ينفتح النص على كل المؤثرات ليستدمجها دون أي اشتراطات.

    ذلك يعني أن يكون الشعر وسيطا دلاليا، أو إشارة وثيقة الصلة بالأفق الثقافي، بتصور جمال الدين بن الشيخ في " الشعرية العربية " الذي يؤكد على ضرورة التماس بقوانين إنتاجه للوقوف على القيود والشروط الاجتماعية المتولدة عن واقع معيش، والتي تشكل حقلا شعريا، يبعث على قصدية الإبداع، الأمر الذي يعني إعلاء المنحى السوسيولوجي بمعناه الأشمل توليدا واستهلاكا في مهمة إنتاج الحداثة الشعرية، فالعرضي بهذا المعنى ليس حكرا على قصيدة النثر، إذ أن تاريخ القصيدة العربية يحتشد بمراودات شعرية تميل إلى الإعلاء الوظيفي من شأن الهامشي منذ القصيدة الجاهلية، التي احتفت ببعر الآرام ، لولا اعتراضها بالشعرية الميتافيزيقية، وبتهويمات النفي في الرومانتيكية.

    يتأكد ذلك الاحتفاء في شعر الصعاليك، وفي كثافة حضور العرضي مثلا في شعر نزار قباني حيث الجوارب، ومعجون الحلاقة، ولفافة التبغ، كما يحضر كانعطافة جمالية في مرحلة " الأليتة " التي اعتمدها صلاح عبدالصبور مثلا مماهاة لاليوت في شعرنة اليومي والعرضي والهامشي ومألوفات الحياة، المفارقة للحساسية الجمالية، والصادمة لاعتيادات الذوق، بمعنى استواء المفردة في السوسيولوجي ثم التحامها بالنص، لا تعويق النص بالبيانية الفائضة، وهذا يعني أن النص في شكله الأحدث يتأسس بالناس وليس بالشخصي أو النبوئي، كما يميل أدونيس، فهو أقرب إلى الحاجات والمشافهة والتخاطب الشعوري بين بشر لا بين نخب فوق-بشرية ، وهي سمة قوة لليومي، لا تسمح للشاعر بأن يتقدم على الشعر أو أن يكون فوق النص، بل العكس.

    بهذا يمكن أن تنتج القصيدة النثرية نصا يكون مرجع نفسه، وسبب أو مبرر وجوده، لا مجرد إحالة الى نسب فني، فباللغة الأقرب إلى تلقائية الكلام يمكن إلغاء الفضاء الميتافيزيقي الذي تاهت فيه الشعرية العربية وحاجات الإنسان العربي، وذلك بتقليص المسافة بين الذات الإبداعية/الإنسانية كدال وبين مدلول العبارة الشعرية بما هي مكان أو موضوع شعري، أي أن تتعاطى " الأنا " الشعرية لحظتها وتنتج " آنها " بما هو حاصل وحادث، وأن تنكتب كما تحدث، لا أن ترتكس إلى تخثرات الماضي، أو تشخص إلى لا مرئيات المستقبل، بنبؤات ادعائية، فالواقع شرط فني أجمل، وأخصب، بل وأقدر على بث نداءات جمالية أبعد من الإفاضات البلاغية المتمادية في استعارة اللغة .

    وبوساعات الإيقاع، ولا محدودية آفاقه، المستمدة أصلا من حراك الإنسان اليومي، ورحابة العرضي، يمكن الاستعاضة عن ضيق الأوزان ونمطيتها، بحثا عن بعد دلالي للقافية، لا عن رنين صوتي تنحصر مهمته في النظم، وفرز الجنس الشعري عن النثري، فالشعرية الأحدث تحتمل، بل تتيح إمكانيات قصوى لاستثمار مقومات تبدو شكلية فيما هي مادية في أصلها التكويني كالفراغات، والشقوق، والسكتات، وعلامات الترقيم، بالإضافة الى عوامل الإبطاء، والإسراع، والنبر من أجل إيقاع يحاكي لا نهائية الأثر المعاش صوتيا ودلاليا، فمهمة الشاعر، بتصور ميشيل دلفيل حسب دراسته " قصيدة النثر وأيدلوجيا النوع " إعادة توليد الغنى الإيقاعي، البديعي والأسلوبي، الذي غالبا، ما يصاحب اللغة الشعرية، عبر وسيط ليس سوي النثر ".

    وبالتأكيد ثمة كائن خلف هذا النص، وهنالك أوجاع أيضا، ولكنها لا تشبه عذابات بروميثيوس، ولا مكابدات سيزيف، التي كانت حاضرة شعريا كأقنعة أو كحاثات ما فوق إنسانة، بمعنى أن عذاب هذا النص، المتأتي من واقع كوني/بشري وليس من الحقائق أو المعاني المطلقة، وهو لا يستجلب من الأسطوري، أو ما فوق البشري، إنما يمليه ويحدد الواقع منسوباته، فهذا الذي يصطلح على تسميته بالهامشي والعرضي هو شعر الإنسان المهدد في إنسانيته بالاستلاب المديني. إنه شعر اللحظة الحية، شعر الوقائع، شعر الكائن الذي لا يرفع الشعارات الاجتماعية والأيدلوجية فرارا من مأزقه الوجودي، لئلا يتوج بلقب الدجال حسب ويستان أودن، بل المختنق بآهة اغتراب حادة، وبالتالي فإن اليومي هو المقترح الجمالي لقصيدة النثر وليس الشعار الذي تحتكر به حقيقة الشعر، أو هكذا يفترض.

    بموجب ذلك التداني من المعاش، يمكن التجادل بشعر أشبه بما يحدث وتقوله الحياة، كما يؤطره ميشيل بوا، على اعتبار أن الشاعر محكوم بنظام ثقافي هو امتداد لواقعه الطبيعي، حيث يمكن ملاحظة جملة من المؤشرات في قصيدة الأبناء، المنعتقة من أسر نسق الثقافة العلوي بمعناه الأبوي، فالقصيدة اليوم ، وبما هي نص، ملكة يكتبها الجميع بمشاعية متمادية، ويقترفها كائن هامشي نزق، أي لا ينتجها شاعر بالمعنى الأدبي أو الثقافي، ربما لأنها أقرب إلى اللغة منها إلى الأدب، وبالتالي فهي ملكية مشاعة للناس، بتصور رولان بارت، فلم يعد الفن بوجه عام نظاما مفروضا من الأعلى، وهذا يعني التعبير الحي عن الروح الشعبية، والانحياز لجماهيرية العدد وتكراراته التنميطية، كرمز للمديني ولرحابة الديمقراطي، بما هو خيار شعري أشبه بالحتمية انطلاقا من المعاش، خصوصا أنها تنكتب في ظل انحسار واضح للنظم الشمولية والأيدلوجيات والقوميات وكل متوالية الفكر التحرري بشعاراته وعناوينه الصاخبة.

    وعليه فإن الأصوات الجديدة تحاول الفرار من مرجعيات " الآخر " وتبتعد بقصدية عن إلحاحية التأصيل الصوفي العرفاني والميتا-لغوي لتكون مرجع نفسها بما هي قدر الفرد، حيث انهدام زمن الكليات المغلقة وبداية الفردانيات المنفتحة، بممارسة أقصى طاقة لحرية التعبير، فهي من الوجهة الحسية، قصيدة تنكتب داخل الجسد بما هو امتداد عضوي للنص، بحيث تبدو الذات عرضة للتنصيص بوله فرداني، على عكس قصيدة الآباء التي تمارس شيئا من سلخ " الأنا " عن منطوقها، فأدونيس الذي ظل يصرخ " لم يعد إلا الجنون " ولم يجرؤ على ارتكابه، بقدر ما تمأسس وانزاح عن شعاراته، وكأنه يعيش بشكل متزن ومحسوب على هامش مشروعه الشعري، فيما يشي بانفصال فكري وحياتي بينه كشاعر وبين وجوده الأنطوقي، أو لأن الميتا-لغوي كما أومأت إليه الشعرية العربية وبشرت به، مكان مستحيل للإقامة، بما يعني أن المغايرة لم تكن سوى عنوان لفظي، قوامها معجم غير قابل للتحقق داخل النص الشعري بل في هامشه تنظيرا.

    وبقدر ما تقترب من اليومي تفر القصيدة الأحدث من الميتا-لغوي بكل تداعياته الأسطورية والميتافيزيقية والحدوسية، فلا يمكن لإبن الحداثة الجديدة، بتصور محمد عضيمة " أن يعنى إلا بما عاشه وجرّبه دون تهويم أو تذهين أثناء الكتابة " أما قصيدته فهي وإن حملت الكثير من رواسب القصيدة الأم شكلا ومضمونا، وتكاد عند الكثيرين أن تتحول إلى " عمودية نثرية " إلا أنها تحاول أن تكون لسان الحياة الرافض لاختزالها في شعار كالذي رفعه أنسي الحاج لقصيدة الملاعين حين أكد أن " في كل قصيدة نثر تلتقي دفعة فوضوية هدامة وقوة تنظيم هندسي " لكنه عاش ما يخالفها، فهي مكان يعاش وليس مجرد فسحة نصية، وعلى ذلك تحاول ألا تكون مؤسساتية بقد ما تتبدى كميليشيات بعد أن صودرت قصيدة التفعيلة وصارت محبوسة في المنبرية والمؤسساتية.

    في هذا المكن بالتحديد يكمن سر تصادمها بالتابو الديني والسياسي، حيث تتصعد " الأنا الأيكولوجية " بمعناها السياسي والإجتماعي والنفسي، وليس بالمعنى الروسوي كمثاقفة دلالية وبيولوجية للطبيعة، أي بما هي حاجة إنسانية للتحقق الذاتي، وإعلاء كل دلالات الطيف الاجتماعي المهمل، بالإضافة إلى المهمش من الحالات والشخوص والأمكنة، وبالمعنى العصري للأيكولوجيا كحركة تحررية تقوم على خلائط وأبعاض فكرية وشعورية، بما هي اقتران حتمي بكل ما هو عرضي وهامشي، وكما يتبدى بخصوصيته في الأصوات الأنثوية مثلا، المتماهية بالموجة الثالثة من النسوية التي تقوم على إدانة كل ما هو ذكوري وأبوي وسلطوي وتراتبي كسبب لتدمير مزدوجة ( المرأة/الطبيعة ) وإرساء نطاق حيوي يقوم على مصادقة الطبيعة وعناصرها ماديا وإيقاعيا أيضا، لإبطال كل صيغ التوتاليتارية بمقترح اللامركزية أو التنوع المضاد للنموذج الخطي كعلامة عولمية صريحة، بحيث يبدو الشعري وكأنه المعادل أو الرديف للحقوقي.

    ذلك هو ما يسمح ببروز نص أقرب إلى مفهوم " النص البصمة " الذي يسمح بتدفق الكلام من داخل الجسد بحرية، فيما يبدو صيغة من صيغ " البارانويا " حيث تبالغ الذات في أنويتها، أو تبدي شيئا من الانفلات الايروسي وهو في واقع الأمر مجرد صورة مضادة لحس الاضطهاد، وتعبير بالجنس المصعد نصيا عن الاحتجاج على الاستلاب بطاقة تدميرية صريحة، فهذا النص النابت في بيئة الحروب والخيبات يتأسس بمفارقات مربكة داخل واقع سريالي، أي انطلاقا من الواقعي وعودة إليه باللغة وليس العكس، أي من الجمالي أو النظري بما هو تحليق لغوي، فعجائبية هذا الامتلاء الوجودي هي التي ترفع كل التناقضات وأيضا تناقضات الذات والموضوع، الوعي واللاوعي، الأنا والهو، بواسطة الأنا المنفصلة المستقلة، كما يحلل هربرت بيكر، تلك الأنا المطلقة بما هي أساس النظرة الى العالم.

    هنالك واقع فوضوي متفجر يتفجر على إثره التعبير اللغوي، بنص مجنون، مرتبك، مشوش، انكفائي، ومبعثر يتأتى من جنون اللحظة وفوضاها، تقترفه كائنات لم تعد مأخوذة بأسطورة الشعراء ككائنات فوق-بشرية، فهي متخففة من نبرة الرائي والعراف والرسولي، ومتكئة على نبرة خفيضة مردها هشاشة عاطفية، ومرغوبية ضائعة أو مفقودة، كما يحلل بول ريكور، وكما ترد مثلا في بيانات الغارة الشعرية " قولوا للعالم أنكم لستم أنبياء ولا سحرة .. بل حفنة أناس بمزاجات رائقة ". ولذلك تتحشد في زمر وعصابات تحت مسمى الجماعات أو حتى في شكل موجات، لتعلن من خلال نصها موت الآباء، أو هذا ما يتبدى في مراودات نصيه، حيث تخففت القصيدة من الميتا-لغوي كعنوان لسطوة الآباء، ودخلت نثرية الشكل والتعبير من خلال نثرية العالم وفوضاه، كما تعلنه أصوات لا تخفي تدلهها بالأنا، حيث تناغمها البنيوي بتيار دفق الشعور.

    هكذا يمكن ملاحظة الكيفية التي يتم فيها استخدام النص كأداة لإعادة توليد " الأنا " ولإنتاج الخبرة الذاتية، وبروح أقرب إلى ضجيج البيانات، حيث يبدو النص وكأنه صرخة أو دعوة للتمرد، حيث تصبح اللغة الشعرية منذورة لتوظيف أدوات أسلوبية أكثر عنفا كما يتمثلها النثر،كما في نصوص أو نداءات الغارة الشعرية في المغرب التي تبدأ بعبارة " أيها الشعراء " " تعودوا من وقت لآخر أن تأخذوا قصائدكم إلى صالون الحلاقة عوضا عن مبنى الجريدة " أو كما يحرضهم محمد عضيمة في الطريق إلى الشعر الجديد " ما أراه يا أصدقاء هو تنفلشوا أكثر، وألا تخضعوا للقياسات الواردة في السياق الشعري.ما أراه هو أن تلبسوا قمصانكم بالمقلوب وأن تكتبوا نصوصكم بالمقلوب ".

    التمرد على الميتا-لغوي إذا هو ما يجعل النصوص الجديدة تبدو مغمسة في التجربة الحسية، فلا مناص من أن يقف الشاعر الحديث وجها لوجه أمام تجربته، حيث الهاوية الأفقية كما تخيلها باسكال، أو هذا ما تحتمه قصيدة النثر تحديدا، حيث يعيش المرء حبه وحقده، بتعبير ماركوز، في تحليله للأدب الجديد المنتج من ذوات جديدة ومختلفة، أي أن يعيش حقيقته، بما هي متوالية من " معاني الهزيمة والاستسلام والموت، وجرائم المجتمع، والجحيم الذي بناه الإنسان للإنسان، بحيث تصبح داخل العمل الأدبي أو الفني قوى كونية لا تقاوم، فالتوتر بين الراهن والممكن يتجلى، وقد تحولت صورته في صراع لا حل له ولا يمكن التفكير في إيجاد توفيق له إلا عن طريق شكل العمل الأدبي أو الفني أي عن طريق الجمال كوعد بالسعادة، فبفضل شكل هذا العمل تكتسب الظروف الآنية بعدا جديدا يبدو فيه الواقع المعطى كما هو فيقول الحقيقة عندئذ عن نفسه، وتكف لغته عن أن تكون لغة الخيبة والجهل والخنوع ".

    إذا، فالخيال بتصوره " يدعو الوقائع بأسمائها فينهار ملكوتها، وهو يبلل أركان التجربة اليومية ويبين أنها زائفة ومشوهة" وذلك هو ما يفسر الدراما الداخلية في النصوص، وانصرافها عن رنين الميلودية الفارغة، فهي نصوص تتمرد على القيم المكتهلة والشائخة لأيدلوجيا العمود، بشعر تهكمي يعلي من شأن المفارقات ويتحرك بطاقة الغضب، وعليه تتفانى القصيدة الحديثة في إسقاط تقنيات القناع التاريخي والتموزي والديني والتجريدي، الذي ميز قصيدة الآباء بقصيدة سافرة لفظا ومعنى، وتتأتى في شكل ومضة أو خطفة أو توقيعات، لتعاند الملحمي فيما تتماهى موضوعيا إيقاعيا بخفة المعاش، فهي أقرب إلى الهامشي واليومي من أسطوريات العصر كما رسم تفاصيلها رولان بارت ممثلة في مادونا والبيتزا والكوكاكولا، وليس في الميتا-لغوي اللا ملموس واللا معاش من السيزيفية والبرومثيوسية والايكاروسية.

    هذا ما تحاوله كائنات الشعر العربي الأحدث إذ لا تبدي أسفا على أقنومة الشكل، بل تتجاوزه إلى معنى أحدث يموضعها حركيا على خط الزمن، بحضور قوامه الغريزة والرغبات بما هي أداة لشطب المسافة بين الأنا وكل ما هو خارجها، بمعنى مماهاة الأنا الشعرية بحاضنها الخارجي، وبسوداوية أو نقدية راديكالية تقوم على سيادة مبدأ اللذة مقابل التابو، لتتحقق حداثة الذات ربما، كاستجابة لحداثة الحياة، بحيث تغدو الكتابة الشعرية حدثا ثقافيا شموليا، لا إشكالية عروضية، فهذا النص القائم على التجاوز، ومخالفة قالبية السائد الفني، الهاجس بحساسية تعبير حداثية، هو رافل، ومتورط أيضا بحداثة الحياة، بل معني بذلك الأفق الإنساني بعلاقة تبادل طردية، اذ لا يمكن سلخ باطن نسيجه عن مبرراته وصيروراته النفسية والاجتماعية.

    وبالرغم من كل ما يعتور هذا النص من تعجل ونمطية وتكرارية وافتعال وتقليد وسطحية وتصنع وغموض مدبر، يظل هذا النص هو مبرر الذات للحضور وليس مكانا للغياب، بما يعني أنه نص صحو وانتباه وليس نص سكرة أو أخدوعات رومانسية، نتيجة تصميمه الباطني ليكون كثيف المجاز والعبثية، وربما لأنه نص عصي على التجنيس ويخاطب بصر وبصيرة المتلقي ولا يكتفي بإغواء مسامعه، وبالتالي فهو نص إيحائي ودلالي وليس نص أفكار أو موضوعات، فهو لا يعتني بالمعاني بقدر ما يقترب من الحياة باللغة، وليس بالميتا- لغوي، وعليه تتأتى عباراته بمنسوباتها اللفظية والصوتية والدلالية دون تصعيد ولا تزويق بياني، فهو مزاج الكائن الذي لا ينعطف بالأقنومة الجمالية عن بناها التقليدية واعتياداتها الذوقية ليغايرها وحسب، بل ليحدث تماسه بمدركاتها الذهنية، ويقترب بها أكثر من مادة الحياة فينتج النص راهنه.









                  

العنوان الكاتب Date
ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشعرية " nassar elhaj05-04-04, 11:03 AM
  Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع nassar elhaj05-04-04, 11:35 AM
    Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع nassar elhaj05-04-04, 11:49 AM
      Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع nassar elhaj05-04-04, 11:59 AM
    Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع جورج بنيوتي05-04-04, 12:10 PM
  Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع الجندرية05-04-04, 12:21 PM
    Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع nassar elhaj05-05-04, 08:50 PM
      Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع فتحي البحيري05-06-04, 11:06 AM
  Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع الجندرية05-10-04, 09:29 AM
    Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع إيمان أحمد05-14-04, 00:41 AM
      Re: ملتقى الشعراء الشباب العرب بصنعاء " التسعينيون وآفاق التجربة الشع فتحي البحيري05-14-04, 06:04 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de