جلس تحت شجرة ظليلة وارفة إنسدلت أغصانها اللدن بلونها الأخضر الفاقع علي ساقها الملفوفة كما ينسدل ثوب عروس علي جسدها ليلة الزفاف .. لماذا لا يكون فستان الزفاف أخضر ؟ أن اللون الأخضر من ألوان الفرح !!. كانت الشجرة تطل علي وادي ينحدر انحدارا خفيفاً نحو الأسفل في مدرجات عريضة انبسط عليها العشب مختلفة ألوانه بين أخضر فاقع وأخضر غامق ، وبدت الأشجار هنا وهناك وقد لبست ثوبا قشيباً كأنها تحتفل بمقدم فصل الخريف .. تناثرت زهيرات علي العشب كناثر نجيمات في ليل ريف حالك ، وبدت السماء ملبدة بالسحب تشاطر الزرع اختلاف ألوانه ، فهذه سحب بيضاء ناصعة وتلك داكنة تميل إلي السواد وقد حجبت ضوء الشمس تماما وانطلق النسيم بارداً لطيفاً معربداً يداعب الزرع فتخال الزرع في تموجه كصبية صغار يندفعون بصخب خلف كرة صغيرة .. أخذ في جلسته تلك يراقب أغنامه وهي ترعي فقد انتهت أيام الصف الغايظة وبدأت أيام الخريف اللطيفة ، توشحت الأرض عشباً أخضر وامتلأت البرك المياه الوفيرة فتوفر بذلك الغذاء الجيد لأغنامه .. أمسك بفرع شجرة جاف لم تستطع أمه الصمود حتى موسم الخريف فماتت واقفة ، ولم يستطع هو التشبث بالحياة أكثر فسقط علي الأرض ..سبحان الله كل شي يسقط علي الأرض عند الموت إلا الأشجار فأنها تموت واقفة حتى يأتي الإنسان ويبدأ في تقطيع أوصالها جزءاً جزءا وهي أيضاً واقفة ..أهو الشموخ !!؟ أمسك بذلك الفرع اليابس وأخذ يرسم به خطوطاً علي الأرض الرطبة ثم يعكس تلك الخطوط بدون هدف معين كما تنعكس الحيرة علي وجهه أحياناً ندما تستعصي عليه بعض الأمور في فهمها.. نظر إلي أغنامه .. رآها سعيدة ، أخرج مزماره وعزف لحناً شجياً ..لماذا يرتبط الراعي دوماً بالحنين لشئ ما ؟!. عصفور سعيد أطلق نغماً يشابه نغم مزماره ..هناك دوماً تشابه للأشياء في البيئة الواحدة . نظر إلي السماء فرأي السحب تجرى مسرعة ، تذكر تسابق صغار أغنامه عندما تشبع وترتوي ، في البادية يسمون السحب المسرعة " بالهرع" قارن بين هذه الكلمة وما يسمعه في نشرات الأخبار " وقد هرعت فرق الإنقاذ لمكان الحادث " لا يكاد يمر يوم دون حادثة ..ماذا جرى للناس ؟! لماذا لا يأتون إلي البادية تربية الأغنام والعيش في سلام؟..!! المذياع لا يفارقه كم هو شغوف بالأخبار يتابع أخبار العالم وهو في باديته تلك فهو لا يحب المدن .ذهب مرة واحدة للمدينة وذلك لشراء الراديو وعندما اشتراه قال للبائع " بالله أضبط الموجة علي إذاعة لندن" . لا يعرف ال FM , ولا يهمه " COM" المهم هو وضوح الإذاعة ، كان الراديو رفيق وحدته ، عرف بما يدور في كثير من بلدان العالم ، عرف المشاهير والزعماء والرؤساء ، أحب بعضهم كما يحب أغنامه وكره بعضهم كما يكره الذئب الذي يناوش أغنامه بين الفينة والأخرى ، سمع بثقب الأوزون وما سيتسبب فيه هذا الثقب من ضرر ، كان عندما يسمع خبراً عن هذا الأوزون يتحسس عصاه التي يهش بها علي غنمه ويتساءل : هل يضر الأوزون الأغنام أيضا ؟!..داعبته نسمه باردة ممزوجة برائحة أغصان النال المبتلة بمياه الأمطار ..وضع نعليه خلفه ثم وضع عليهما العمامة ثم وضع رأسه فوقها وأغفى..
القصة أعلاه فازت بجائزة اذاعة لندن ..بقي ان نعرف ان كاتبها القاص الشاب السوداني الهادي محمد أحمد .. وهي بعنوان الراعي .. اعجبتني القصة لبساطة فكرتها وما تحويه من حكم بليغة ..شخصيا حركت في داخلي التساؤل بأن لماذا نعقد حياتنا ..بالماديات الصرفة.. والتفكير المضني والحياة في المدن التي تربط العقول وتحصرها في المصالح واللهث خلف الدنيا الغير منتهي ..وملذاتها التي تجرفنا جرفا نحو تعذيب حياتنا بالتفاصيل المعقدة ..ليتنا " ليتني" كنت مثل هذا الراعي الآن لا تفكير لي سوى غنمي استمتع بهذه الطبيعة الخلابة وارتوي من فيضها ..وحين اشعر بالتعب او النعاس ..اتوسد نعلي او قل يدي " تكفي " وأنام قريرة العين بكل هناء ..حلم ..سهل المنال فكيف السبيل إلي الرجوع ..للأصول؟!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست