خرج . ما فّكر في شيّ حتّى بلوغه شجرة الحراز ، على الطريق العريض المودي إلى الخور ، قُبيل خروجه المتأنق لمح زنبوراَ يخور بغتةَ ، ويدور في فضاء الغرفة الضيقة .. كان هو يضع اللمسات الأخيرة لإكمال أناقته ، يناظر قمة الجبل الكالحة في الجزء الأيسر من المرآة الكبيرة المتشققة ، المتكئة على الجدار المتداعي . رؤية الجبل تزيده إصراراَ على أناقته ..! يمسد شاربه الكث ، يضغط بخفة على بعض خصلات شعرة المتمردة ، يحشو بنطا له بأسفل قميصه الكابي ، وبرفق يجذب جزءَ يسيراَ منه إلى أعلى ، ليجعله يتدلى قليلاَ ، ليستر رتوق حزامه العتيق ..
بُعيد تجاوزه الحرازة الوحيدة بالمدينة ، هدير الخور حرك بركة وجومه الآسنة ، مغريا لنداءاته البعيدة الغامقة . خطر له أن ينساب إلية .. فالآمر لا يحتاج كما بدأ له .. من قوة فيضانه ، إلى دراسة احتمالات النجاح والفشل .. أندهش للفكرة .. وسار أليه منحدراَ ، رأى أمواجه تعلو تعلوا وتهبط ، وإذا ذاك أشاح عنه إذ دهمه خوف مباغت !! فكر في العودة .. رنا ببصرة بعيداَ ، متجاوزاَ غابات الأكواخ التعيسة آلتي نبتت علي يمين الطريق ... حدق في الجبل ملياَ ، صار لا يتحاشى النظر أليه كما كان حين تناسل الرغبة في أعماقه شاته الدفين ، رغبته في الخلاص الأبدي . ، التفت بكامل جسده المنهك ، لاحظ وقوفه المبعثر مشكلاَ خطا مستقيما يصل بينه وبين الحرازة والجبل ، عزاء اضطرابه إلى الطاري الجديد الذي خطر له ، الخور ..آه كيف لم يشمله تخطيطه المحموم ، القانط ؟!! رغم قربه الشديد إلى نفسه ، من الناس والكلاب الآدمية الضالة ، والحمير التي لا تنفك تنهق ، وتتضاجع خلف غرفته ، غض بصره إذ رأى غرابين يهبطان على سطح غرفته وينعقان . إنسربت إليه أغصان الحرازة الجرداء رجت داخله المهترئه ووخزته في القلب .. تذكر تنك الوسيلتين اللتين استبعدهما ، لكون احتمالات فشلهما ظلتا تحاصرانه حينا من القهر. بشكل عفوي تحسست يده عروق رقبته المترهلة ، ثم انزلقت إلى بطنه الضامرة .. أحشاءه الممزقة كان من الممكن رتقها سيما في بلد لا يحب مكابر يه سوى الحرب ، سار إلى الخور ساهماَ في الطريق إليه رأى قطة تأكل صغارها وصبايَا يمتشقن الطبول كانت إحداهن دميمة حد التفسخ.
جلس على صخرة تعود الجلوس عليها . ظهرت شمس من فرجة فيِّ الغيم ، ثم اختفت . تعالى الهدير تخالطا مع الإيقاعات الصاخبة وأ نينه الخافت .. كن في رقصهن يدقون الارض بعنف ويهتفن . الصبايا جلسن علي ركبهن.. .. يضربن الطبول.. ويغنين .. وكان هو يرنو إلى الأمواج المتدافعة ، وتتقاطر عليه الذكريات من مخابئها الداكنة .. الوجوه الحميمة التي كانت قهقهاتهم تملأ ذاك الفراغ اللعين ، بالغبطه .. وأناس سكنوا ذاكرته بإلحاح .. ماياكوفبسكي ، آبو ذكرى حاوي .. عرض عليه طفل عادي ما جمعه من ( ولت زلام ) * .. لاحت في ذاكرته طفولته الزاهية ، ثم غابت .. حاول استردادها ..أوغلت في الغياب.. غنت البنت الدميمة .. أحس صوتها نشازا ، وسبها عاليا ارتد صوته في داخله واهناَ .. حاول الغناء .. خرج صوته كالفحيح .. خشي أن ينخفض منسوب المياه فيسهل اصطياده . تمنى لوكان سمكة .. اشتعلت الإيقاعات .. ماجت الخصور الأعطاف ضجت الأرداف ، وتكثفت الغيوم اختار نقطة العبور ،هناك خلف تلك الجزيرة المخضرة ، عند انحراف الخور الانحراف الشديد يساعده حتماَ .. أشجار السنط الضخمة المتشابكة سوف تغطيه من الأنظار أحس بسائل حامض يصعد إلى لسانه ، بلعه .. تقيأ شيئاَ هلاميا .. هم بالانطلاق صوب جسده بيد أن خطوته تلطخت بالصراخ الذي اندلق بغتة ممزقاَ الضجيج حوله .. هرعوا ينقذون الطفل .. وقف مشدوهاَ وجلس وإذ رآهم ينتشلونه سقط رأسه بين ركبتيه . رفعه . كان ثقيلاَ من أثر الضجيج الذي تحول في سمعه إلى طنين كثيف .. شاهد على الضفة قبالته طفلتين تغازلان الرذاذ فوق دبابة مهشمة . فحص ما تقيؤه تحت قدميه ، وجده زنبوراَ .!! خلفة الحرازة تذرف آخر وريقاتها الجافة . نظر إلى هندامه تيقن من اكتمال أناقته .. وخطا بثبات فاقع نحو الجبل. . . --------------------------------------
* عبد القادر حكيم : كاتب وقاص أر تري تربى وعاش في السودان
##ولت زلام – بلغة اتجري نوع من الحشرات ، تظهر في الوجود عندما تتهيأ لها ظروف مناخية ملائمة في موسم الأمطار ولا تعيش عادة أكثر من ثلاثة أيام ، تموت بعدها ، مخلفة يرقتها .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة