|
|
 خواطر زائر عابر و ... لجعفر عباس
|
خواطر زائر عابر و ... مسافر
الشئ الوحيد الذي تطور بشكل لافت للانتباه خلال الـ «15» سنة التي غبتها عن السودان، هو صناعة الاثاث .. اثاث متقن وجميل ومعمِّر «الميم الثانية مكسورة ومشددة منعاً للالتباس، و... لوكربي» .. لو صدرناه لعاد علينا بالشئ الفلاني، ولأزاح من الاسواق العربية الاثاث الكتبلاص المستورد من ايطاليا واسبانيا، والذي يبهرك باناقته ورونقه، ثم تستخدمه وتكتشف انه مصنوع من بسكويت كوكو «هذا البسكويت يعود الى حقبة حلاوة كريكاب وقمصان اسندكو» .. وفي كل بيت دخلته وجدت مصنوعات خشبية سودانية رائعة البهاء، يستخدمها في غالب الاحيان اناس ذوو مظهر بائس .. وهذه من علامات شيوع النزعات الاستهلاكية التفاخرية، البوبارية الشوفونية «وليس الشوفينية» .. واذكر انني مررت بطفرة اقتصادية هائلة فور دخولي الحياة العملية واشتريت دولاباً في احد بابيه مرآة طويلة، والتقطت صوراً تذكارية مع الدولاب وارسلت نسخاً منها الى الاهل في بدين وكوستي، ليعرفوا ان ابو الجعافر «ما ساهل» .. ومن آيات متانة الاثاث السوداني ان غرفة النوم الفاخرة التي اشتريتها عند زواجي في سبتمبر من عام الفيل الثاني، ما زالت في كامل لياقتها وخضعت فقط لجراحة تجميلية شكلية، ولكن زوجتي لم تحفظ العُشرة وألقت بغرفة النوم تلك في المخزن لانها لا تليق بـ «مغترب» وسأجعلها من نصيب ولدي الاكبر في التركة ـ بعد عمر طويل ان شاء الله «اسأل الله ان يجعل عمري مثل عمر قادة الاحزاب السياسية عندنا .. عيني باردة».
والملاحظة الثانية هي ان بناتنا صرن في منتهى الاناقة والشياكة، النساء والفتيات اللواتي اختلس النظر اليهن من وراء ظهر زوجتي اكثر اناقة من نساء المهاجر، ولكنهن اكثر شحوباً من نساء المهاجر اللواتي لا تفارق الواحدة منهن السرير قبل العاشرة صباحاً .. وفي منطقة الخليج تتصل بفلانة هاتفياً فيأتيك الرد بواحد من ثلاث صيغ : نائمة .. في الحمام .. بتتكلم في التلفون التاني .. ومن ثم فبينما المرأة المقيمة في السودان رشيقة «رغم انفها» فان السودانية المقيمة في المهجر، شحمانة بسبب عدم الحركة، ولا تفكر في الرجيم، إلا بعد ان تزوغ عين الزوج، وتحس بانه يفكر في زوجة من الموديلات الجديدة، وتكمن المشكلة في ان المرأة عموماً تنفق على التخلص من الشحوم اضعاف ما انفقته على تخزينها، فقراصنة صناعة الادوية يتفننون في انتاج مختلف انواع التبن وتعليبها بشكل جذاب، وتسويقها بزعم انها «زيرو كالوري» أي خالية من السعرات الحرارية، فتتهافت النساء على شرائها، رغم ان الويكة «زيرو كالوري» وتحتوى على نفس القيمة الغذائية للكرتون المبشور.
وفي الخليج ظللت طوال عشرين سنة «اشيل حال» الشباب المستهتر بأرواح العباد بسياراتهم التي يمارسون بها فنون المراوغة في الشوارع، ولكن ما رأيته في شوارع العاصمة المثلثة خلال الايام القليلة الماضية اثبت لي ان المجال الوحيد الذي نتفوق فيه على دول الخليج هو مجال الفوضى في حركة المرور، وقد طار نصف اجازتي وانا محبوس داخل السيارات في انتظار فجوات في الاوزون المروري كي اتقدم بواقع خمس بوصات في الساعة، وقلبي على رجال حركة المرور وهم يستنشقون عبير عوادم مئات الآلاف من السيارات التي يتصرف سائقوها وكأنهم جكسا في زمانه داخل خط 18 « السبعينات كانت هناك موضة فساتين نسائية اسمها جكسا في خط ستة، لانها كانت في فصيلة ما قلَّ ودلَّ»، ورغم ان اهلي حذروني من سيارات «امجاد» .. خاصة كرسي الشهيد المجاور للسائق، إلا انني افضل الاستشهاد فيها على ركوب سيارات التاكسي الصفراء التي يقال انها كانت ضمن جيش ابرهة وتعرضت للقصف بحجارة من سجيل .. وما يؤكد صحة تلك المقولة هو ان نفس تلك السيارات البائسة بالوانها الكئيبة توجد في مكة المكرمة دون سائر مدن السعودية!!.
ولفت نظري ايضاً ان الكهرباء لم تنقطع طوال الايام التسعة التي قضيتها في الخرطوم وهذا ما لم اعهده في المدينة منذ العهد الاغبر لحُجة الاشتراكية والاسلام جعفر نميري، وقد اسعدني انتظام خدمات الكهرباء لانه يعني ان الحاجة الى سد كجبار انتفت، فقيام هذا السد ــ لا قدر الله ــ يعني اغراق منطقة جنوب النوبة .. واذا كان اغراق شمال النوبة ادى الى نقل اهلها الى خشم القربة فان اغراق النوبة الجنوبية سيؤدي الى نقل اهلها الى «مؤخرة القربة» ولو فشل خشم القربة في توفير العيش الكريم لمن لجأوا اليه على مدى اكثر من اربعين سنة، فلك ان تتخيل حال ومآل من سيتم حشرهم في مؤخرتها!! اما عن خدمات المياه، فحدث بكل حرج.. عيب يا جماعة ان يأتيكم ضيف غاب عنكم «15» سنة، ثم ترغمونه على ان يستحم بالجردل!! وعندما يود غسل يده، يفتح الحنفية فتقول له بالمصرى: اشخر لك!! هذه عبارة قبيحة وسوقية، وتصبح اكثر قبحاً عندما تقال لضيف.. وتلجأ الى الجيركان لغسل يديك، وتكتشف ان «90%» من الجيركانات في السودان تم جلبها من تورا بورا لأنها تعاني من عاهات واعاقات لا تنجم إلا عن قصف جوي بربري!! وفي بعض البيوت تتوجه الى الحنفية فيصيح أحد أفراد البيت: لحظة.. نفتح السحّاب!! عندما سمعت هذه العبارة لأول مرة، كشرت عن أنيابي للدفاع عن شرفي، لأن «سحَّاب» في منطقة الخليج تعني «سوستة».. وقلت لنفسي: ما معقول أظل أعانى في منطقة الخليج من البوس على الخدود، ثم الجأ الى وطني كي اكتشف ان الأمور وصلت درجة فتح السحَّاب!! ويا ما كتبت في صحف الخليج مناشداً أهل المنطقة ان يكفوا عن بوسي لأن هذا الشيء عندنا «عيب»، وانحاز الى جانبي الشاعر السعودى الكبير الدكتور غازي القصيبي وكتب يقول: «ان جعفر عباس لا يبوس ولا ينباس»، ولكن مفيش فايدة، فما ان التقى بصديق خليجي وأمد له يدى كي يكتفي بمصافحتي حتى يصيح: مشتاقين يا أبوالجعافر.. هات بوسة!! أكاد انفجر في وجهه: هل تحسبني ليلى علوي؟ وأسلم أمرى لله وأسلم خدي لتلاليشه ليصفعني عليه بأربع بوسات متتالية بينما «يكش» جسمي كله.. لانني وبرغم قضائى ربع قرن في الخليج لم استطع الاعتياد على تبادل «القداديم» كأسلوب للتحية!!
الراي العام
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست