كنت نبهت في كلمة سبقت ألا نقبل جزافاً قائمة الوزارات كما ورثناها من حكومات سلفت. فقلت مثلاً إننا لن نحتاج إلى وزارة الإعلام من فوق مبدأ سياسي هو عدم تعريض المواطن لأي إعلام حكومي أثخنننا تجهيلاً وابتذالاً. واقترحت، بجانب فتح المبادرة الإعلامية الخاصة، أن تؤول مؤسسة الإعلام الحاضرة من تلفزيون وإذاعة إلى هيئة مستقلة على غرار هيئة الإذاعة البريطانية كما اقترحنا من بعد ثورة أكتوبر 1964. وأهم من ذلك أننا لسنا نحتاج إلى وزارة للثقافة. ورصدت تجربتنا في بداية نشأة مثل هذه الوزارة في دولة النميري في كلمة لي في 1976. كشفت فيها اختطاف الدولة للثقافة بالإغراق في مهرجانات (ثقافية سنوية) مهرجانات مهرجانات حللنا طبيعتها العامة فيما مضى كرؤوس جسور تمدها الحكومة إلى ساحة الإبداع. فكل من في الحكومة يريد أن يشغل نفسه أو يوطدها بشيء فاقع ذي ضجيج. وكلها ضوضاء لا تعمر للثقافة بيتاً ولا للكاتب براحاً. وأخذنا على الحكومة حرصها اللزق الزائف والوقتي بالمبدعين فيما يسمى التكريم. وكان في أحد وجوهه رشوة "شخصية" غير مجزية للمبدع حيث لا يحيط بإبداعه أو بكامل شروط حياته وإنتاجه، ولا يضيف جديداً لعملية الإبداع بعامة. وكتبت عن الأمر نفسه مكرراً على عهد حكم الإنقاذ. وكان أكثر ما استرعى نقدي هو قيام المجلس القومي لرعاية الفنون والآداب كذراع من الدولة في نحو 1971. فناصبناه العداء في منظمة أبادماك للكتاب والفنانين التقدميين (1969). فقد رأيناه مجرد وحي مصري ناصري لم يمر بمصفاة فكرنا وتجربتنا الثقافية. فقد أرادت الدولة من المجلس (ووزارة الثقافة بعده) أن يضخ النهضة الثقافية في البلاد. ولم يحدث ذلك برغم جهود أفضل رموزنا الثقافية الذين عملوا في أجهزة الدولة الثقافية مثل الدكتور محمد عبد الحي وأبو ذكرى وغيرهم. وأذكر أننا كتبنا في أبادماك عرضحالاً لمجلس قيادة "ثورة" مايو نعترض على قيام ذلك المجلس بوظائفه المعلنة في القيام بالبعث الثقافي أصالة عن نفسه. وقلنا إن الدور الأصح للمجلس ان يكون "بنكاً للثقافة" مستقلاً تودع فيه الدولة ميزانيتها للنفرة الثقافية ويستنبط هو بدوره موارد أخرى بذكاء. ويتلقى المجلس مشروعات ثقافية من أفراد وجماعات في منافسة مرتبة للحصول على تمويل للمشروع. فيعرض المجلس هذه المشروعات على محكمين لتقويم قيمتها الإبداعية بالنظر إلى سلامة العرض ومعقولية ميزانيتها. ومتى قرر المجلس الفائزين على ضوء قول المحكمين انصرف إلى التمويل وجدولة تقارير الأداء والإنجاز. وكفى. فليس من شغل المجلس أن يصدر سلسلة كتب أو مجلات مثلاً. فمهمته تقتصر على تمويل مشروعات لسلسلة كتب أو مجلات مما يتقدم به صحافيون ومبدعون. والفكرة مستوحاة من نموذج "المؤسسة foundation " الأمريكية العامة (مؤسسة الإنسانيات) والخاصة (مؤسسة فورد) لمختلف ضروب الإبداع. هذه أفكار أردت بها ألا نستسلم قبولا لهيكل ومسميات مجلس وزراء الثورة بغير تفكيكها منعاً لتجريب المجرب في الفشل. فمتى أخذنا هذه الوزارات على علاتها حجبت عنا إمكانات ثقافية تنتظر ثورة في هيكل الدولة لتنفجر. وأفضل ما سمعته عن مثل هذه الثورة ما جاء عن المرحوم عمر حاج موسى وزير الإرشاد القومي (الإعلام) بحكومة نميري مرة. جاءه من قال له إن وزارتك بحاجة إلى تغيير كبير بل ثورة. فقال له عمر: "تعرف يا فلان. إنت خلي الوزارة دي في حالها. وأمش سويليك واحدة جديدة لنج". كان عمر قد علم إلا فائدة ترتجي من الوزارة التي هو على رأسها.
العنوان
الكاتب
Date
ولسنا بحاجة إلى وزارة للثقافة أيضاً بقلم عبد الله علي إبراهيم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة