استأذن الأساتذة عوض محمد الحسن وحيدر أحمد خير الله وصلاح شعيب في مؤاخذتهم على تعليقهم السلبي على ما أذاعه الشيخ عبد لحي يوسف من منبر مسجده من موضوعات عرضها على حسن أحمد البشير حين اجتمع بوفد من علماء الدين بقصر الضيافة قبل أيام. فقد بدا لي أنهم ركزوا على خلفيات عرفوها عن الشيخ أو ملابسات الزيارة دون موضوعها. علاوة على وضعهم لتكاليف على عاتقه متى أراد أن يخدم الثورة الحادثة، ومتى أراد ان يقفز من سفينة الإنقاذ الغارقة كما اتفق لبعضهم. أبدا بتصحيح ما ذكره صلاح شعيب من أن الشيخ من طائفة أنصار السنة الذين يحرمون الخروج على الحاكم. وهذا بخلاف المعلوم عنه. بل يشقى الشيخ منذ زمن لقوله بخلاف ذلك بيد طائفة من أنصار السنة على رأسها الشيخ محمد مصطفى عبد القادر الذي سلقه بألسنة حداد لتجويزه الخروج على الحاكم، ونفاه عن أهل السنة والجماعة، ودمغه بأنه من الخوارج والمعتزلة. وكنت كتبت عن الشيخ، الذي نفى نسبته لأنصار السنة، بحثاً قبل عقد ونيف نظرت في كتابه "الاستبداد السياسي في ضوء القرآن والسنة" (2006) ووجدته لا يذعن للحُكم الباطل ولا يحميه من غضبة الناس بقوله: "من حكم الناس عن طريق الغلبة والقهر بقوة عسكرية أو غيرها مهملاً الشورى، معرضاً عن رغبات الناس، مستعملاً القمع والخداع، فهو مستبد أولاً وآخراً، ولو سمى نظامه إسلامياً فما غير في الأمر شئياً، إذ العبرة بالأصول والمعاني، لا الألفاظ والمباني" (311:2006). أما حيدر وعوض فحاكما الشيخ سياسياً بما يعرفان هما عن مطلوب السياسة التي قد لا تتفق لعالم ديني. وهذا خرق لمبدأ التنوع والاختصاص. فقال حيدر عنه إنه كان بوقاً للنظام وموضوعاته مجرد بطولة متأخرة لقافز يائس من السفينة. وسأله عوض أن يصدع بالحق ويدين "الدم المراق" بصوت جهير لا متخفياً وراء الفعل المبني للمجهول. من جهة ملابسات اللقاء احتج عوض عليه لاجتماعه بالبشير في حديقة قصر الضيافة حول مائدة ذكر طيباتها لا في قاعة أكثر رصانة لمناقشة الوضع الحرج في البلاد. وسأل عن منطق اجتماع البشير بالعلماء الدينية لا علماء آخرين موحياً بأن الشيخ وصحبه هم من يصغي للبشير ويطيعون. وراوح كلاهما، حيدر وعوض، عند تنديد الشيخ في موضوعاته في لقائه بالبشير بإراقة الدماء بينما الدم يراق في التظاهرات. فقال عوض "كيف سمحت نفوس علماء السودان لهم بازدراد البطيخ المغموس في دم الضحايا الطازج". واستنكر حيدر أن يقول الشيخ بحرمة الدماء وتشييع ضحايا الثورة على قدم وساق. فإن إن أراد الشيخ نصرة الثورة، في قول حيدر، وجب عليه أن يقود وقفة احتجاجية على استباحة الأرواح. لا غلاط أن حيدر وعوض أثقلا على الشيخ بشاغلهما ووسائط أدائه مما تواضعنا عليه في حقل السياسة المدنية. وغاب عنهما أمران. أولهما أن لعالم الدين شاغلاً في السياسة ووسائط في أدائها لا قبل لنا بها في الحياة المدنية. فللشيخ مثل عبد الحي منبر من يوم الجمعة كل أسبوع ذو حرم لا يطاله مثلي. وأذكر كلمة رصينة للمرحوم والدي في خطر مثل هذا المنبر. قال لي يوماً وقد قبل في نفسه شيوعيتي: "يا ابني وأنت ابني وأعرف أنك ما قمت في أمر الًشيوعية مغرضاً أو محتاجاً. ولكن لماذا لا تجد منبراً في مسجد تذيع عقيدتك من فوقه، وتحسن عرضها للناس، وترى مدى قبولهم لها". من جهة أخرى ف"النصيحة" في أصل أعراف العالم والحاكم وإجراءاتها بالكتابة للحاكم أو المشافهة بعض تدريب العالم الديني راقتنا أم لم ترقنا. وأقول عن تجربة أن الجهر بالرأي في وجه الحاكم من اشق الأمور. ورأيت يوماً من تلجلج رأيهم بوجه المرحوم محي الدين صابر وهو يزور توصيات اللجنة الوزارية لإصلاح جامعة الخرطوم (1970). وبالنتيجة كلف حيدر وعوض الشيخ بما لا يحسنه بدلاً من سؤاله إحسان ما بيده من أدوات لخدمة التغيير. إذا قرأت موضوعات شيخ عبد الحي السبعة بغير استباق لها بمقاصد من خارجها لوجدتها وطنت للتغيير المنشود بمصطلحها ومرجعيتها. فدعت إلى الدعامة العظمى التي لا تكون السياسة بدونها وهي حرمة إراقة الدماء. فالقتل من اجل السياسة، في قول أحدهم، قتل للسياسة. وألزم الشيخ الدولة في موضوعاته بإقامة العدل فليس فينا من يبت طاويا ومن يبيت متخوما. ونصح البشير بكف اليد عن المال العام ولا يكون "دُولة بين طائفة منهم". وسمعت لأول مرة "دُولة" تنطق هكذا لا "دَولة". واتصل ذلك بوجوب محاسبة المسؤولين من شقوا على الناس وضيقوا معاشهم. ونصح أيضاً أن تقلع الحكومة عن استفزاز مشاعر الناس ول"يقولوا حسناً" لا بالهُجر من القول. وشرّع الشيخ للتغيير بقوله إن الدين أبقى من الأشخاص فإن تعارضت مصلحة الدين مع الأفراد يذهب الأشخاص ويبقى الدين. وهذا هو الحق في الثورة لا أكل ولا شرب. لا أعرف دولة معاصرة بنيت على غير ما جاء في موضوعات الشيخ. وهي موضوعات استنبطها من الخبرة السياسية والتاريخية والروحية المؤكدة لغالب السودانيين وهو الإسلام. لقد تنادى نفر منا لمثل هذه المعاني بخبرة الغرب من مثل الديمقراطية والاشتراكية والثورة وحقوق الإنسان وتهافت كثير منها بيد عمرو لا أيدينا لأننا كنا عالة عليها لا فضل لنا في صناعتها الأولى. وأذكر قول المرحوم حسن الترابي لي يوماً :"بوسع المسلم العادي أن يسائل حكامه بما يعرف من دينه من مثل قوله لهم كان سيدنا عمر يعمل كذا أو قال سيدنا علي كذا. وهذه المساءلة غير متاحة له مع حاكم اشتراكي مثلاً. فما عرّفه بكاوتسكي وماركس وتروتسكي وهلمجرا. يمنحه الإسلام الفصاحة بينما تفحمه المذاهب الوافدة". وددت لو استصحب زملائي موضوعات الشيخ التي صدع بها في اجتماع البشير مع علماء الدين بغير تنكيد. وربما كان سبب تنكيدهم عليها صدورها من الدين الذي يريدون له الحياد في بناء الدولة. ولكن توقعهم هذه السلبية في مأزق فكري: فقد ظلوا ينفون الإنقاذ عن الإسلام في معنى أنهم يعرفون إسلاماً غير إسلامها أرحب وأعدل وأرشق. ولا تجدهم بحثوا عن هذا الإسلام الآخر باستقلال، ولا قبلوا بما يقترحه غيرهم له. متى ردننا المعاني الغربية في الحكم التي اتفقت لمثلي نفسها إلى أصولها وجدناها خرجت من الدين وعليه. وسأنظر في كلمة أخرى إلى خروج فكرة الحكومة الحديثة في الغرب من الدين وعليه بيد الفيلسوفين الإنجليزيين توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك (1632-1704). وكان أول ما سمعت بهما في 1956 من أستاذ أخ للمرحوم حسن عباس صبحي ضاع أول اسمه عليّ. كان مغرماً بهما وكان حديث التخرج في الجامعة. رحمه الله.
العنوان
الكاتب
Date
الشيخ عبد الحي يوسف: ليس فينا من يبت طاويا ومن يبيت متخوما بقلم عبد الله علي إبراهيم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة