انتهيتُ بالأمس إلى ضرورة إيلاء الأولوية القصوى لإصلاح البيئة الاقتصادية والسياسية في البلاد تمهيداً للإصلاح الشامل في المجالات الأخرى، وذلك لن يتأتى إلا بإقامة الحكم الراشد الذي يُنهي سطوة مراكز القوى المستقوِية بالسلطة للخروج على القانون بل وعلى الدستور من خلال تجنيب المال العام واكتنازه عبر استثمارات الشركات الحكومية المتجاوزة لقوانين ونظم الدولة ولوائحها الأمر الذي أشاع مناخاً ملائماً للفساد فاستشرى وطغى واستنزف كثيراً من موارد الدولة على حساب القطاعات والوزارات الخدمية التي باتت تُعاني من الفقر والمسغبة بلا وجيع يرفق بها أو يحن، كما أنه أسهم بشكل كبير في تعويق القطاع الخاص الذي ضيّقت الحكومةُ عليه الخناق، وسدَّت الطريق أمام انطلاقه بدلاً من تشجيعه ودعمه.
إصلاح البيئة لانطلاق الاقتصاد من خلال إنفاذ شعار ولاية المالية على المال العام يحتاج إلى قرارات سياسية جريئة وشجاعة لا يملك أن يتخذها إلا رئيس الجمهورية، وذلك لا يتأتّى إلا من خلال إخضاع الجميع بما فيهم مراكز القوى لسلطان القانون بكل ما يتطلّبه ذلك من قضاء على الشركات الحكومية، وذلك من شأنه أن يُهيّئ المناخ لإصلاح الاقتصاد بما يساوي بين الجميع دون تغوّل جهة على الأخرى أو على القوانين السارية.
لقد رأينا ما حدث في ماليزيا في الأسبوع الأول من تولّي مهاتير محمد رئاسة الحكومة، وكيف قضى على الفساد بضربة واحدة، وتمكّن من استرداد مليارات الدولارات إلى خزانة الدولة، ورأينا المُعجزة الرواندية التي أحالت ذلك البلد المنكوب إلى إحدى جنان الله في أرضه جرّاء إعمال مبادئ الشفافية والنزاهة والحكم الراشد الذي ضيّق الخناق على الفساد والمُفسدين وأخضع الجميع لسلطان القانون.
لا مفر أمام الرئيس ورئيس الوزراء، وقد بلغ السيل الزبى والروح الحلقوم إلا رفع شعار الإنقاذ من جديد، ولكن بصورة جادّة تختلف عن تلك التي أصبحت مسخرة ومحل تندُّر الجميع بمن فيهم أصحاب الجلد والرأس من رجالات الحزب الحاكم الذين باتوا يستحون من الشعارات القديمة بعد أن مُرِّغ أنفها في التراب!
بعد تهيئة المناخ أو مع استصحاب ذلك الهدف، على الرئيس أن يرفع شعار خفض الإنفاق الحكومي بصورة جادة تُستخدم فيها سكين القطع والبتر، فالأوضاع الاستثنائية التي يرزح السودان تحت لهيبها تتطلّب معالجات استثنائية.
ضحكتُ والألم يعتصرني حين اطّلعت على الهجمة المُضرية التي طالت وزارة الخارجية دون غيرها، فتذكّرتُ البصيرة أم حمد التي قطعت رقبة الثور لكي تُخرِج رأسه من الجرّة وكأن مشكلتنا الكبرى تكمن في الصرف على وزارة الخارجية!
لن أطالب اليوم بإلغاء ما ظللتُ أعتبره إحدى أكبر خطايا الإنقاذ وأعني به الحُكم الفيدرالي الذي أنهك اقتصاد البلاد ومزّق وحدتها الوطنية، وأوهن هويّتها وأحالها إلى كيانات قِبلية متشاكِسة، فذلك يقتضي تعديلاً دستورياً يصعُب تحقيقه في الوقت الحاضر، ولكن على الأقل نحتاج إلى المواءمة بين الحكم الفيدرالي المترهّل الحالي وبين النظام القديم الذي ابتدعه دهاقنة الإدارة البريطانيين أيام الاستعمار الذي قسّم السودان الحالي إلى ستة أقاليم، وذلك من خلال تقليل عدد الولايات بحيث لا تتجاوز عشر فقط وخفض المحليات بحيث لا يزيد عددها في كل ولاية عن سبع أسوة بالخرطوم التي يبلغ عدد سكانها حوالي ربع سكان السودان، وإذا كان عدد سكان بعض محليات ولاية الخرطوم يزيد عن عدد سكان بعض الولايات فذلك ما ينبغي أن يدفعنا إلى التقليل من عدد المحليات في كل ولاية.
معلوم أن كثرة الولايات والمحليات أدت إلى زيادة الموازنة العامة للدولة، فكم هي عدد السيارات التي تستخدمها الولايات والمحليات والمبالغ المُنفَقة لتوفيرها وللصرف على الوقود ناهيك عن موازنة المركز، وكم يُصرف على المجالس التشريعية الولائية؟!
أما الصرف الحكومي على مستوى المركز من خلال الوزراء الاتحاديين ووزراء الدولة فحدِّث ولا حرج، وذلك ناشئ عن أزمتنا السياسية وما استدعته من محاصصات الحوار الوطني والتي أنتجت أكبر مجلس وزراء على مستوى العالم أجمع وربما أكبر برلمان اتحادي على مستوى الكرة الأرضية!
لا يقتصر الصرف الحكومي على المرتبات والمخصصات بما فيها العربات والوقود والأسفار، إنما يشمل كماليات كثيرة يمكن أن يوقَف استيرادها مع استثناء معينات الإنتاج الزراعي والصناعي خاصة.
في المقال القادم أتعرّض بإذن الله لسلع الصادر التي عجزنا جراء عدم الحسم والعزم عن إصلاح شأنها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة