كان النوبة السودانيون في جاهليتهم، التي أنقذهم الإسلام منها، يتاجرون بالرقيق.وقد كان الأفارقة عموما يمارسون هذه التجارة البغيضة. فقد كانوا يصطادون بعضهم البعض أثناء الغارات والحروب غير المتكافئة، ويقهرون من يلقون القبض عليه ويشرونه بثمن بخس في السوق المحلي، أو في سوق الساحل، أو لدى وكلاء السفن الأجنبية في الداخل. وهذا جانب معروف غير منكور من جوانب تاريخ تجارة الرق المؤسية، وهو تاريخ طويل استفحل أمره في العصر الحديث؛ عصر الامبريالية الغربية، عندما أصبحت هذه التجارة وباء هدد القارة الإفريقية كلها. وقد وقفت خلال دراستي لتاريخ تجارة الرقيق في أمريكا على أن هنالك رقيق أبيض اجتلب إلى أمريكا من شمال القارة الإفريقية؛ فتجارة الرق قد هددت إذن القارة كلها، ولم تكن قاصرة على سودان القارة دون بيضانها. ولا أقول هذا تخفيفا من وزر قومنا النوبة السودانيين إذ كانوا جاهليين، وإنما تقريرا لذلك الوزر وتأكيدا له. وقد ثبت من نصوص التاريخ أن أهلنا النوبة هم الذين بادروا في غضون مفاوضاتهم مع المسلمين إلى اقتراح مقايضة ما يشترونه من المسلمين من قمح وعدس بعدد من الرقيق مما ملكت أيمانهم. ولم يطلب المسلمون من النوبة ابتداء أن يقدموا لهم رقيقا مقابل السلع التي يجلبونها. ومن جانبهم لم يقترح النوبة أن يقدموا هذا العدد من الرقيق من بني جلدتهم، أو من أبنائهم كما يريد البعض أن يفهم من النص الذي جاء بهذا الصدد في معاهدة البُقط. وإلا فإن النص صريح جدا حين يقول:" وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستون رأسا تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم". أي من الرقيق المتاح بيعه وشراؤه في أسواق بلادكم، أو الرقيق الذي تتجارون فيه. وعموما فقد كانت تجارة الرق رغم شناعتها شيئا شبه عادي في الزمان الغابر. غير أن الحظ كان يسعد من يقع من الرقيق في يد المسلمين دون غيرهم، لأنه يعامل حينئذ كإنسان لا كحيوان ولا كآلة. ومن يطالع كتاب (السياسة) الشهير لأرسطو يقف على الحجج (المنطقية!) الكثيرة التي قدمها هذا الفيلسوف لضرورة معاملة الرقيق كآلات لا كحيوانات ولا كبشر! وهكذا عومل الرقيق من قبل سائر الأمم خلا أمتنا الإسلامية العظيمة. فقد حضَّ الدين الإسلامي على حسن معاملة الرقيق كما حثَّ على عتقهم. وكان يمكن للرقيق إذا وقع في يد مسلمة أن يحرر نفسه بشرائط قانونية معلومة. ومن نسل الرقيق الذي جاء من بلاد النوبة سطع سيدنا الإمام يزيد بن حبيب رضي الله تعالى عنه كوكبا لامعا من كواكب الحضارة الإسلامية الماجدة. فمن هو هذا سيدنا يزيد بن حبيب؟! أصل هذا الرجل من مدينة دنقلا، وقد تفتقت مواهبه في ظل الحضارة الإسلامية بمصر، ولم يغضَّ من شأنه أنه كان من أصل رقيق. وقد صار بجده وجهده وتقواه من أبرز علماء التابعين؛ أي الجيل التابع لجيل الصحابة رضوان الله عليهم. وقد روى عنه إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري (162) حديثا في صحيحه. وقال عنه الإمام الليث بن سعد: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا. والإمام الليث هو الذي قال فيه الإمام الشافعي: إن الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وفـي رواية ضيعَّه قومه فهم لم يدونوا مذهبه. أي أن تلميذا من تلاميذ يزيد كان أعلم من سيدنا مالك رضي الله عنه! وقد نقل الفقيه المعاصر الشيخ محمد الأمين القرشي، من أهالي الحلاوين، قول الكندي الذي مفاده إن سيدنا يزيد بن حبيب كان أول من نشر العلم بمصر فـي قضايا الحلال والحرام، وفي مسائل الفقه، حين كان المصريون يحصرون حديثهم فـي الفتن والترغيب. وبسبب من كفاياته العلمية أصبح سيدنا يزيد ثالث ثلاثة جعل عمر بن عبد العزيز الفتيا إليـهم بمصر؛ رجلان من الموالي، ورجل من العرب. فأما العربي فجعفر بن ربيعة، وأما الـموليان فيزيد بن حبيب، وعبد الله بن أبي جعفر. فكأن العرب أنكروا ذلك، فقال عمر بن عبد العزيز: ما ذنبي إذا كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون! وعن يزيد بن حبيب كتب قاضي الشرع محمد الأمين القرشي كتابا بعنوان (الفتح الرباني في أحاديث يزيد السوداني). فهذه بعض قبسات مضيئة زاهرة من تاريخ حضارتنا العربية الإسلامية الشريفة فلا تزايدوا علينا أيها الشعوبيون المعقدون الحانقون من أمثال النور حمد وغيره من حثالات الحداثيين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة