|
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) (Re: هشام آدم)
|
___________
- 2 -
في شتاء عام 1983 كان أبو السيك مهجّساً بتزويج أخته إيمان، التي بدأت ملامحها الأنثوية في الاكتمال إلى حد أغرى شباب الحي بالتغزّل بها علانيةً، كلما مرّت عبر ميدان دقنة ذهاباً أو إياباً. كانت إيمان وقتها بدأت، كلبوة نفساء، تدافع بكل ضراوة عن حقها في إكمال دراستها أمام إصرار أخيها الذي وضع لها شرط الزواج قبل فكرة إكمال الدراسة. ما أوقعها في حيرة من أمرها، فهي لم تكن ترغب بالزواج، في حين أن رفض فكرة الزواج تلك كانت تعتبر كفكرة الإلحاد التي أتهم بها الشيوعيون ذلك الوقت. ورغم أن إيمان ليست عدوانية بطبعها إلاّ أن أبو السيك لم يستطع أن يرغمها على الزواج بالإكراه. وربما كان سبب إصرار إيمان على دخول الجامعة، هو رغبتها القديمة في الوصول إلى الحد اليقيني الذي كان عليه إيهاب محمود. فقد كانت لديها قناعات راسخة بأن الجامعة هي من تمنح هذه اليقينية والمنظار المقعّر. ولم يجد أبو السيك غير الريّس يشتكي له مما يختلج في صدره جراء عناد أخته التي تصغره بخمسة أعوام، وترفض الخطّاب الواحد تلو الآخر، بشغفٍ غير مسبوق للتعليم ولم يكن معترف به في العائلة. كانت موافقة أبو السيك على ذلك تعني أن يرسلها إلى الخرطوم وحدها - وهو ما كان يرفضه بشكل قاطع وغير قابل للنقاش - أو أن ينتقل معها إلى هناك، حيث تكون أمام مرآه ومسمعه. عندها وجد الريّس نافذة مشرعة، أو ربما مشتركة تفتح الجرحين على إطلالة واحدة "الهجرة".
"تعليم البنات قلّة أدب، وكلام فارغ ما ليهو داعي" هذه هي الجملة التي كان يرددها أبو السيك دائماً كلّما فاتحه الريّس في موضوع إيمان، "ما في النهاية مصيرها لي بيت راجلا، لازمتو شنو وجع الراس؟" كان الريّس يحاول أن يوّفق بين حلمه، ورغبة إيمان في إكمال دراستها، ليس لحرصه على مستقبل إيمان الأكاديمي قطعاً، بل لأنه ظنّ أن مارد حلمه القديم بدأ يستجيب له أخيراً، كان يؤمن بأن وجود أبو السيك معه يساعده كثيراً في اجتياز مستنقع الاغتراب، وعندها فقط عرف الريّس أنّ الوحشة والغربة هما ما كان يخشاه، وما كانا يحولان دون جدّيته في تلك الخطوة. عرف أنه لو تمكّن من إقناع أبو السيك فسوف يحقق ذلك الحلم الذي ظلّ يراوده على مدار ثلاثة أشهر. لم يكن الريّس قد حدد بعد في أي مهنة قد يعمل هناك، ولكنه كان يشعر بشيء غامض يدفعه إلى الخروج من بورتسودان، كأنّ أرواح أسلافه المدفونة في مكانٍ ما تدعوه ليلاً. وربما تملّكه إحساس قوي بأنه المقصود بنبوءة شيخ الطريقة البرهانية العتيقة التي ما زال يتذكرها عندما خاطب عبد السلام محجوب الكاشفي بطريقته المنهجية: "سيكون من ذريتك شخص ذا شأن"، وتملّكه هذا الإحساس بعد أن شُفيَ من فاجعة موت أخيه مكي بأربعة أشهر. وربما ظلّت هذه النبوءة مختبئة في مكانٍ ما إلى أن بدأت تخرج مع رغبته الجامحة في الهجرة. كان الريّس يعتقد أن ثروةً ما، أو قدراً سخياً ينتظره في مكان آخر، وأنه على بوابات بورتسودان سوف يلتقي بملائكة ذوي أجنحة بيضاء تدله على الطرق التي يتوجب عليه أن يسلك:
* ياخي مالو لو كمّلت قراياتها .. مش أخير من قعادها في البيت؟ - قراية شنو إنتا كمان، يعني نتبهدل أنحنا عشان حضرتها دايرة تقرا جامعة؟ وهو في منو في العِيلة ولا بنات الحِلّة قرن جامعة لمّن هي دايرة تقرا؟ ما ياهونديل بنات الحلّة كلّهن قاعدات في بيوتهن، زايدة عنّهن في شنو يعني؟ دلع وقلّة أدب فارغة. * مش يمكن في الخرتوم الله يكتب ليك رزق أوسع من هنا ؟ - ومش ممكن لأ ؟؟ * ياخي ما تبقى متشائم كده .. إنتا قول خير بس - المسألة ما تشاؤم بس الليلة أنا لو ما لاقي شغل هنا معليش، لاكين أخلي شغلي وأمشي ورا راس الغبيانة دي ولاّ كيف يعني؟ دي شورتك يا الريّس؟ * والله يا أبو السيك، أنا غرضي ننزل الخرتوم، ونفتّش شغل هناك. حسي عليك الله عاجبك الفقر اللي أنحنا فوقو ده؟ - وفي الخرتوم داير تشتغل مقاول يعني ولا مدير بنك؟ وبعدين كان ما عاجبك الشغل في المينا سيبو وشوف في مكان تاني، في سلبونا، في ديم نور في الهدا في سواكن في أي مكان تاني .. هو قالوا ليك ما في شغل إلاّ في الخرتوم؟
كانت مهمّة الريّس في إقناع أبو السيك تبدو صعبة للغاية، لا سيما وأنّه لم يكن مقتنعاً بالحجج التي يسوقها له. ولم يستطع أن يخبر صديقه بأنه يرغب في الخروج من بورتسودان تلبيةً لنداءات قوى عليا خفية. فقد خشي أن يصفه بالجنون أو بالخبل، خاصة وهو يعلم موقفه من عالم ما وراء الطبيعة. وما كان يجعل مهمة الريّس بالغة الصعوبة هو عدم اقتناع فتحيّة شبانة (والدة أبو السيك) بجدوى مواصلة ابنتها في الدراسة، سيّما وأن جاراتها بدأنّ يسألنها - في أحاديث القيلولة - عن سبب بقاء ابنتها من غير زواج حتى هذه السن رغم جمالها وانتهائها من الثانوية العامة. الأمر الذي كان يضعها أمامهن في حرجٍ لا مخرج منه إلاّ القول بأنها لم تجد من يناسبها. وفي مشاجراتها الدائمة مع ابنتها كانت فتحية تردد: "ده الكلام البسمعو بي أضاني .. الله أعلم بيقولوا من وراي شنو؟"
فتحية شبانة المنحدرة من أصول أرستقراطية منقرضة، لم يتبق لها من برتوكولات الطبقات البرجوازية غير تشذيب الكلام، والتأنق فيه، بينما أصابها الاختلاط بعوالم ما دون خط الفقر بجرم تعليم الفتيات، والاهتمام البالغ بكلام الناس، ومؤخراً نظراتهم التي كانت تلاحقها فيما يتعلق بموضوع ابنتها الوحيدة إيمان. في حين يجلس إبراهيم الصاوي الذي على أعتاب الخَرَف، على كرسيّه العتيق وهو يعدّ الخرزات الملوّنة في علبة ماكنتوش منزوعة الغطاء تستخدمها فتحية لحفظ أدوات ولوازم الخياطة. كانت تشعر بأن نساء الحي لا يجتمعن في منزل إحداهن وقت القيلولة إلاّ ليتناولن موضوع رفض ابنة فتحية للزواج، وكانت تضع سيناريوهات افتراضية لتلك الجلسات النسائية الوهمية. متقمصةً شخصية المرأة اللحوحة، سيئة الظن فيذهب خيالها إلى احتمالية أن تكون الفتاة على علاقة غير شرعية بأحدهم الأمر الذي يجعلها في انتظار أن يتجاسر ويتقدم للزواج منها، قبل أن يفتضح أمرها مع شابٍ آخر. وكانت فتحية في نهاية كل سيناريو تخيّلي يجنّ جنونها، وتنطلق إلى ابنتها لتعيد فتح الموضوع مرّة أخرى. لم يكن لإبراهيم الصاوي، الذي بالكاد يفرّق بين شكل أبنائه من وراء زجاج نظارةٍ بالغة السُمك معلّقة على رقبته بسلسلة سوداء، يملك أمام جبروت فتحية إلاّ أن يصمت مغمغماً بكلمات أقرب للهذيان. وهو ما جعل الجميع يتجاهلون وجوده تماماً، فلم يكن أحدهم ليأخذ مشورته في أمرٍ ما، أو حتى يوجّه إليه سؤالاً أو ينتظر منه إجابة. وكان تواجده على كرسيّه العتيق في فرندة الدار مجرد شكليات بيزنطية لا أكثر ولا أقل، حتى أنّ عدوى اللامبالاة به انتقلت إلى الجيران وزوّار المنزل. في إحدى نوبات هذيانه الدراماتيكية صرخ بصوته الشبيه بغمغمة عالية مرتجفة:
* فتحية بنت شبانة المصرية بتتكلم صاح .. طول عمرها بتتكلم صاح .. حتىً لمن فلّقت أخوها بالفازه وسيّح دم، ما في زول قال ليها عينيك في راسك، قالوا هوّا الغلطان ولسانو طويل .. بت الباشا، باشا .. والناس كُلّها وراها ماشا
ولأنّ لا أحد غير فتحية يستطيع فكّ طلاسم غمغمات إبراهيم الصاوي التي تشبه الشيفرات الماسونية، فقد شعرتْ بامتعاضٍ شديد واكتفتْ بمدّ كفّها مفتوحة الأصابع في وجهه. وموقف الصاوي لا يغيّر من الأمر شيئاً، كيفما اتفق.
.
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 09:18 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 09:23 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 09:55 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 10:48 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:03 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:12 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:20 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:24 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | غادة عبدالعزيز خالد | 07-23-06, 11:25 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:45 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:54 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 12:03 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 12:08 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 12:11 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | معتز تروتسكى | 07-23-06, 12:10 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | غادة عبدالعزيز خالد | 07-24-06, 01:40 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 06:11 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | معتز تروتسكى | 07-24-06, 06:55 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 11:32 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | يوسف الولى | 07-24-06, 12:18 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | نادية عثمان | 07-24-06, 12:23 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 01:17 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 02:01 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | معتز تروتسكى | 07-24-06, 02:48 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-25-06, 10:42 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | ناصر جبريل | 07-25-06, 11:32 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-25-06, 12:30 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-25-06, 02:21 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-26-06, 10:44 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-27-06, 07:18 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-01-06, 12:36 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-01-06, 01:04 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-02-06, 10:54 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-02-06, 11:24 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-02-06, 11:37 AM |
|
|
|