|
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) (Re: هشام آدم)
|
_________ في تمام الساعة الواحدة والنصف تتوقف الرافعات، ويندر أن ترى شخصاً خارج الغالبونات، الجميع يتوقفون لتناول وجبة الغداء، يفرشون سجاداتهم البائسة، ويجلسون في حلقات أشبه بحلقات الذكر في خلوة متطرفة بلا أسوار. وبينما تغرق أصوات الآليات، تطفو على أرصفة الميناء ضحكات العمّال والصيّادين. ومن الجهة المقابلة يتقدّم علي أب شلّوفة إلى حيث يتجمهر صيّادو الوزارة، متوكئاً على عكّازيه المنتهيين بمعدن. وكّان وقعهما على أرضية الميناء الخرسانية الملتهبة وقع سنابك خيلٍ عربية أصيلة. تبسّم الصيّادون وهم ينظرون إليه قادماً بابتسامته المعهودة: "ما تقولوا اتفضّل ولاّ أي حاجة ياخ!!" ومن المؤكّد أن تهدّل شفّته السفلى المصابة بالحُمرة بعد اهتراء الخط اللحمي الصغير بفعل التمباك كان السبب في تسميته بأب شلّوفة. كان الريّس عندها يحاول فتح علبة الساردين التي كانت توزّع مجاناً للعاملين في الميناء، بينما وقف البعض منادين على سرور المساعد الطبي ليشاركهم وجبة الغداء وهو ما زال متكئاً على كرسيّه بذات الطريقة التقليدية، فيرفع يديه لهم في امتنان، فالواقع أن طبيب الميناء ومساعده لهما وجبة خاصة.
تحت كل غالبونة يجلس نفر من الناس موزّعين بأرقامهم وألوانهم المميزة، وكأنهم كرات بلياردو جيّدة التنسيق. يتناول الجميع وجبتهم وسط أحاديث وضحكات وسخريات البعض من البعض الآخر، بينما يجلس العم صابر تحت مظلّة شمسية واضعاً سلّة طعامه على فخذية. يتناول غدائه بأناة وهو يقلّب ناظريه بين العمّال وبين البحر. كان العم صابر كثيراً ما يرمي بنظرات عميقة إلى البحر، وكأنه ينتظر قدوم سفينة تحمل على متنها سنوات عمره التي انفرطت منه كما تنفرط الذرات في ساعة رملية. إضافة إلى الصيادين والعمّال والنمل السارق، كانت جيوش من قطط الميناء الجائعة توزّع نفسها على الغالبونات في انتظار أن يرمي لها أحدهم بقطعة خبزٍ مغمّسة بإيدام، أو ساردين. وبينما تجلس بعضهن في منتهى الأدب، تتعارك بعضهن في مكانٍ آخر على لقمة تعيسة من أحدهم. ما تراه من فوضى للوهلة الأولى في الميناء هو إنّما نمط حياتي من الرتابة بحيث يستحيل تخمين تغيّره على المدى القريب. فوضى اعتاد عليها الجميع بمن فيهم العم صابر الذي تتجمع حوله فقط عشر قطط لِما تعرفنّ عنه من كرمٍ جم، فهو قليل الأكل، سخي العطاء. وسخاء العم صابر مع القطط هو ما أغراها باحتمال قساوة العيش في الميناء. وهذا الجو العائلي الذي يلف الجميع رغم الفقر والتعب، هو ما كان يجعل الريّس يتساهل كثيراً في البدء بمشروع الهجرة إلى الوسط. وكثيراً ما كان الريّس ينفرد بالعم صابر شارحاً له خططه المستقبلية، ووقوعه بين حلمٍ يراوده منذ وقتٍ غير بعيد، وحياة ألفها، ويصعب عليه أن يتركها. وكانت ميرامار إحدى الأسباب المستحدثة التي جعلته يعدل عن قراره رغم إلحاح هذه الرغبة عليه كوسوسة شيطانية لا تفتأ تراوده كلّ ليلة. "اللحظة المناسبة لا تتخيّر المكان" هذا ما كان يقوله العم صابر للريّس كلما حدّثه في موضوع الهجرة. وكان يقول له دائماً بأن لا وطن يُذكر، فالوطن هو حيث بيتكَ وزوجتكَ وأمك حتى وإن كان في أرضٍ لا زرع فيها ولا إنس. ولأن العم صابر عاش في بورتسودان طيلة سنواته عمره التي تناهز الستين دون أن تكون موطنه، فلا أحد يعرف من أي جهة جاء، رغم أنّ لهجته توحي بأنه قادم من جنوب كردفان. وعرفه الجميع بأنه قليل الكلام، دائم الحركة، ذو ملامح حيادية في جميع حالاته. وكان راغباً عن الزواج، محباً لحياة العزوبية. قال البعض أنه ربما كان عنّيناً أو به عِلّة، إلاّ أن الجميع يتفقون على أنه دمث الأخلاق طيب المعشر. وكان دائماً يقول: "أينما ذهبت ستكون هنالك أرض تحتك وسماء فوقك!" جلس علي أب شلّوفة، على إحدى الصناديق الخشبية، بعد أن أسكن عكّازيه إلى جواره، وهو يقول:
* عليّ الطلاق الريّس ده داير يعرّس - الكومندة كان عرّس، الريّس ده ما ممكن يعرّس، ده زول بتاع عرس عليك الله؟! * شنو يا الريّس صحي بتفكّر تعرّس؟
كان الريّس يكتفي بابتسامات هازلة كلّما سمع هذا الكلام. أحسّ أنّ عليه أن يقوم بشيء آخر يسمح له بتوفير مالٍ أكثر، ويضمن له ألا يبتعد عن رفقة الميناء في ذات الوقت. كان كمن يحاول أن يرسم دائرة بمسطرة. فهو لا يجيد صنعة أو حرفة أخرى غير الصيّد، كما أنه لا يعشق شيئاً آخر – خلا أمّه - بقدر ما يعشق البحر، وأصوات النوارس، وأرضية الميناء الخرسانية. يحس أن قلبه واقع - كسمكة سيئة الحظ - في شباكه التي يرقّعها بيديه كل يوم. عندما يفكّر الريّس في هذا الأمر، يشعر بشيءٍ ما يشدّه إلى الأسفل أو إلى الوراء. بورتسودان تمسك بتلابيب البورتسودانيين، وتشدهم إليها كما تفعل بكرة الخيط بالخيط. كان يشعر بابتسامات الوجوه الكالحة التي من حوله وكأنها صفعة تُذكّره بأنه أفضل حالاً من كل هؤلاء: عبد الماجد طه الذي يسكن في بيتٍ من الجالوص بغرفتين وحوش صغير تقاسمه زوجته وأطفاله التسعة ضنك الحياة، يخبأ من صندوق أسماكه، الذي للبيع الرخيص، سمكة للأفواه العشرة المفتوحة. مرزوق عجوة الذي يعول، غير زوجته وأبناءه الثلاثة، أخوته الإناث. وبعد عمله في الميناء يذهب إلى السوق المركزي ليبيع العجوة وقمر الدين والقونقليز في المواسم الرمضانية، معتصم المرضي الذي ابتلاه الله بأخٍ مختل عقلياً وأختٍ مصابة بسرطان الدم وأربعة أخوة غيرهما، ولم يكن يشتكي إلاّ لله في صلوات الجمعة، عندما يكتشفه الريّس وهو يبكي في دعاءه بعد الصلاة، مبارك أب ساقين الذي أرسل زوجته وأبنائه منذ أكثر من سنة إلى أهلها في ضواحي بورتسودان لعدم قدرته على توفير سكنٍ لهم بعد أن طرده صاحب البيت بأمر المحكمة بسبب عجزه عن سداد إيجار المنزل المتراكم منذ أكثر من سنتين. كان الريّس بحاجة إلى نبوءة كنبوءة نوستراداموس[6] تنتشله من ملوحة أرض بورتسودان، وتنقله بطريقةٍ ما ورفاقه والبحر وطيور النورس إلى مكانٍ آخر، حيث لا يشعر فيها بأنه مرهون إلى عدد الوريقات النقدية المبتلة بعرقه في جيب قميصه. لم يكن الريّس يحلم بأن يكون غنياً، فقط كان يريد أن يكون أفضل حالاً، حتى هو لم يكن يعرف شكلاً واضحاً لما يريده. كان كل ما يحلم به هو أن تكون لديه أموال كثيرة لا تشعره بالخوف والعوز مع حلول منتصف الشهر.
_____________ [6] نوستراداموس: متنبأ مشهور، في رواية (مائة عام من العزلة) لغبرييال ماركيز هو الذي تنبأ لقرية ماكوندو أن تصبح مدينة زجاجية، كما تنبأ بانقراض عائلة بوينديا
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 09:18 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 09:23 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 09:55 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 10:48 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:03 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:12 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:20 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:24 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | غادة عبدالعزيز خالد | 07-23-06, 11:25 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:45 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 11:54 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 12:03 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 12:08 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-23-06, 12:11 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | معتز تروتسكى | 07-23-06, 12:10 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | غادة عبدالعزيز خالد | 07-24-06, 01:40 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 06:11 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | معتز تروتسكى | 07-24-06, 06:55 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 11:32 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | يوسف الولى | 07-24-06, 12:18 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | نادية عثمان | 07-24-06, 12:23 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 01:17 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-24-06, 02:01 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | معتز تروتسكى | 07-24-06, 02:48 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-25-06, 10:42 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | ناصر جبريل | 07-25-06, 11:32 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-25-06, 12:30 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-25-06, 02:21 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-26-06, 10:44 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 07-27-06, 07:18 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-01-06, 12:36 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-01-06, 01:04 PM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-02-06, 10:54 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-02-06, 11:24 AM |
Re: ميرامار (رواية تحت الطبع) | هشام آدم | 08-02-06, 11:37 AM |
|
|
|