من الدويم. مأساة كيريا وكتوشه

الأخت أسماء الأمين
أشكرك كثير الشكر على اهتمامك بأخبار الدويم، وأشكرك على طيب المداخلة. وقد ذكرتني بأمر هام وهو التوثيق لأشعار الطيب ماما، وأتمنى أن تكون أول أعمالي القادمة ، إن شاء الله. وأعرف أين يمكنني أن أتحرى مصادرها.
العم الرائع الطيب ماما، غير وارد في سيرة كيريا، ولكنه ورد في كتابتي عن السوق في مواضع أخرى لم تنشر على الشبكة. وذكره غير وارد لأن خالك الطيب أحمد طه البكري، جاء إلى الدويم في منتصف الستينات، وكيريا توفي قبل قدومه إلى الدويم بخمسة أعوام. ولكنه على التحقيق زار السيد بشير محمد أحمد الأمين منير، مدير المبيعات بشركة (باتا العالمية) ، قبل ذلك التاريخ. ثم قدم للعمل معه في المعرض الذي يقع بين استوديو الشواف ومغلق حسن محمد علي.
رغم أن الطيب لم يكن من الدويم أصلا، إلا أنه اندمج سريعا بين الناس، وساعده على ذلك أخلاق طيبة حببته إلى الناس، وأمانة جعلت الناس يثقون فيه. وأعانه السيد الكريم الخلوق بشير منير، فهو رجل قل أن تجد مثله في حسن الخلق ونقاء السيرة وقوة الشخصية. وصار كل منهما علما من الأعلام لا يجهله أحد من مواطني الدويم.
كان الطيب متزنا، عاقلا ،كريما وشديد الذكاء. فكون علاقته سريعا بأصدقائه. ومن أصدقائه المقربين في السوق، حسن دوكة ، السماني عرمان، فاروق سلمان محمود، الأستاذ عبد الله البشرى، بشرى إبراهيم علي يوسف، وعبد الله كريشنقا و محمد تالتكس وبله بليل و... ومعظمهم من المدرسين والمثقفين والشعراء. كان الطيب شاعرا لا يشق له غبار، وكان الشاعر الفذ فاروق سلمان يثني على أعماله، وبينهم سجالات طيبة ، بالفصحى والعامية. وكان زينة المجالس إذا جلس، فهو يحفظ أشعار الدوبيت وأشعار الهنباتة ؛ فأهم ما يميزه قوة ذاكرته.
ظل الطيب يعمل بشركة باتا ، فألحق به أصدقاؤه لقب (الطيب باتا)، كما لحق بقريبه بشير محمد أحمد الأمين منير من قبل. وفي شركة باتا تجلت عبقريته التجارية، فبلغ مبلغا وظيفيا طيبا في الشركة، حتى صار مديرا للمشتريات .
وبمناسبة اللقب ذلك، فإن من أغرب الأشياء في الدويم كثرة الألقاب ، مما دعاني لتأليف كتابي (قاموس الألقاب في الدويم). ومن ملاحظاتي الغريبة أن أي شخص مسمى بالطيب لحقه لقب. واذكر على سبيل المثال، الطيب ماريقا ، الطيب فته، الطيب قلق، الطيب با تا فا، الطيب الشكينيبة، الطيب بلدنا، الطيب الصفيراية، الطيب عنكوليبه، الطيب عجبنا، الطيب عوض ريد، الطيب صاجات، الطيب مريسه، الطيب لوج و...
ساعد الطيب اعتداله في أن يجمع مبلغا طيبا من المال استأجر به متجرا ومارس فيه نوعا من العمل، كان فتحا عليه وعلى مدينة الدويم. وسمى محله بمحلات الطيب ماما، فمسح اللقب القديم، بذكاء نادر، وصار أهل الدويم لا يعرفونه إلا بذاك الاسم (الطيب ماما).
يقع دكان الطيب في الشمال الشرقي لسوق الدويم الكبير. وهو غرب مسجد الدويم العتيق، جنوب غرب منزل بشير الشريف المشهور (بالسرايا)، لعلوه وارتفعاعه الشاهق وكبر مساحته. وهو جنوب منزل العم إدريس هباني. وموقعه المميز ، المطل على شارع ( نادي الصبيان)، الذي كان قمة في النشاط والحيوية، جعله قبلة لكثير من الزبائن، خاصة النساء اللائي يقدمن من حي التخديرة، أم قرشين، حلة السباعاب ، حلة العبابدة وأم تكيلات. فلا مناص للقادم من المرور بالدكان. كما أن المسجد الكبير كان على بعد مائتي متر من المتجر، والمسجد يؤمه من أهل الدويم خلق كثير، إضافة إلى الوافدين إلى الدويم عبر (البنطون) وهم خلق لا يحصون. وكان قريبا من مركز الشرطة وسوق اللحم والخضار وهو على مرمى من سوق السمك و الحبوب ولا سيما السمسم وسوق النسوان ، وكلها على نفس امتداد الشارع الطولي، بجوار النيل.
أما أهم عامل جعل المحل مزدهرا، فهو تفرد المحل بنوع من البضائع لا توجد في سواه. كان العم الطيب قد جعل من متجره آية من الجمال بتشكيله ببضائع مختلفة ترد من (بور سعيد) إلى السودان، فقد كان أكثر اعتماده على تجار (الشنطة). جمع المحل بين الملابس والعطور وأدوات الزينة. وكان نظيفا ، تضيئه ثريات (انجليزية) بجانب (النيون). كان بالمحل صبي يساعد العم اسمه الزبير ولا زال بالدويم ويسكن الحي العاشر، و عمل شرطيا في بداية الثمانينات وعمره آنذاك عشرون عاما. والزبير لا زال يذكر التاجر بكل خير. عمل بنفس المحل تاجر شاب آخر اسمه عثمان وتوفي مقتولا في عام 1983 م.
كانت هنالك لافتتة صغيرة حوالي القدم المربع. وكتب على هذه اللافتة السوداء ، بلون أبيض ، بخط الرقعة الجميل، محلات الطيب ماما، وكانت ممهورة بخط الفنان والخطاط (خلف الله نديم). ظلت هذه اللافتة معلقة إلى نهاية الثمانينات ، إذ أن المحل قد هجر تماما بعد سفر الطيب ماما من الدويم.
هذا المحل كان ذا أهمية بالغة ، وأشهر أيامه هي ما قبل الأعياد، بالليل خاصة. يغص ذلك الشارع والشارع الموازي له بالنساء والأطفال وهم يشترون ملابس العيد. ففي المقابل للمحل، محل العم عوض دوكة الذي كان يجمع بين الحلويات ، الملابس والعطور. ويليه دكان العم (شيخ الطريقة) وهو محل هام جدا عبارة عن صيدلية (شعبية) ، تباع فيها الأدوية المكونة من الأعشاب ، يليه معرض العم المهندس حسين عبد العزيز، فهو يصنع البلاط والأساطين الأسمنتية. ثم يليه متجر العم السماني عرمان تاجر الذهب المشهور. وهو مقصد الناس أيضا في الأعياد. ويقابل محل العم عوض دوكا أهم مَعْـلـَمٍ في ذلك الزمان وهو مقر شركة باتا العالمية. ولعلاقة الطيب ماما بالشركة ، أثر طيب في ازدهار تجارته، فهو لا يغفل منتجات باتا في متجره ومن بعدها لاركو، كما أنه اكتسب خبرة طيبة في مجال الأحذية.
في منتصف السبعينات غادر الطيب أحمد طه البكري مدينة الدويم وانقطعت أخباره، ربما كان ذلك عام 1976 مـ. ولا زال الناس يذكرونه في الدويم بكل خير، فقد كان سفيرا فاعلا لفداسي الحليماب ومثالا لرجل مكافح شريف. ولا زلنا نذكر من يقيم معه يطلب العلم بالدويم، أخانا الكريم محمد حسن خضر، له التحية ولزوجه أم أحمد، وسلام على الطيب ماما وعلى السيد بشير محمد أحمد الأمين ،الذي علمت سر العلاقة فيما بعد بالحاجة زينب بنت البكري وتحية خاصة للأخ عبد القادر، وأقول له إن مثل بشير يجب أن يُعتز به. وسلام على بنت المنى بنت البكري، وسلام على كل آل فداسي.
ذكرت الأسماء كلها ، في معرض كلامي، أحياء وأمواتا، فأجملت، فألف رحمة على من مات منهم ومغفرة ، وبركة على الأحياء منهم.
وتحية خاصة لك أختي أسماء.
أشكرك على إطرائك للنص، واشكر لك مدحك للأستاذ محمد حسن خضر، وفي قراطيسه عن أنساب آل فداسي الغنى كل الغنى عن غيره.
بل عاجز عن الشكر.
و آخر ما أقوله:
" الطيب ماما رجل والرجال قليل"
و بشير محمد أحمد الأمين منير، زين الرجال، ولا فخر، فهو فداسي المحتد.
وعن محمد الحسن خضر، كتاب يمشي على رجلين.( ود بيت الفروة ، الألفية والإبريق).
و ... ســـــــــــلام فداسي ذلك العشق الحالم.