الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية

نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب الزميل فتحي البحيري فى رحمه الله
وداعاً فتحي البحيري
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-28-2024, 01:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-12-2005, 11:30 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    السرد في الرواية العربية المعاصرة




    3. التمثيل السردي وتنازع الرواة



    تقدم رواية " امرأة القارورة "(15) لـ" سليم مطر كامل " خطة شديدة التعقيد والتنوع للسرد الكثيف، وقوام تلك الخطة هو التدافع الشديد بين الرواة من أجل الاستئثار بالسرد للإفصاح عن جملة من المواقف الفكرية فيما يخص الماضي والحاضر على حد سواء 0 وفيما ينبغي أن تنبثق حكاية " امرأة القارورة" من خلال السرد بيسر وسلاسة ، فإنها تشتبك مع الرواة في نوع من التنازع ، فالرواة منهمكون في وصف وضعياتهم الشخصية ومنظوراتهم وعلاقاتهم بامرأة القارورة وحكايتها ، الأمر الذي جعلهم يقدّمون ذواتهم وانطباعاتهم ورؤاهم بصورة استثنائية ، وبمقدار ما يمنح كل ذلك هذه الرواية خاصية فنية مهمة ، فانه يؤجّل ظهور الحكاية في نوع من التشويق الذي يسهم السرد في تنظيمه والتلاعب به ، قبل أن يعلن عن تفاصيلها تدريجياً من خلال علاقة الرواة بها في سياق ثقافي مختلف 0 وهو أسلوب في البناء السردي يتيح مجالا واسعا لأن تتجلّى الحكاية من خضم سلسلة الرؤى التي تتمركز حول نقطة ما ، فتكون نتيجتها تشكيل الحكاية التي هي رواية مجموعة من الشخصيات تتضافر عناصرها الفنية معا من أجل بلورة حكاية يمكن إدراجها ضمن نسيج متعدد المرجعيات بمكوناته التاريخية والأسطورية والسحرية، وهذا سهّل التراسل الشفاف بين المستويات الرمزية والواقعية للنص إلى درجة تحرّرت فيها الشخصيات من قيود الحركة التقليدية ، بما جعل التاريخ نفسه مادة سردية تمّ إلى تشكيلها حسب مقتضيات الأحداث . وهي إلى ذلك حكاية تخترق سكون الزمن ، فتعاصر سيل الأحداث المتدفّق الذي ينبع منذ ما يقارب خمـسة آلاف سنة هو عُمر امرأة القارورة 0 فالزمان بوصفه إطاراً للحدث ، يتقدّم ويتراجع ويتلوّى ويتكسّر في تساوق مع الاتجاهات المتشعّبة التي تأخذها الوقائع والأفعال المشكّلة لمادة الحدث السردية.

    إن تداخل مستويات السرد يؤدي إلى حركتين متعارضتين : حركة أولى تريد اختزال السرد الذي يحتكره الرواة لصالح الإعلان عن وضعياتهم الفكرية والنفسية ، والإفصاح عن حكاية امرأة القارورة دون إبطاء 0 وحركة ثانية مضادة تتواطأ مع الرغبات الدفينة للرواة ، وهي تُرجئ إظهار الحكاية ، فيستغل الرواة الفرصة للإعلان عن أنفسهم وحكاياتهم 0 وسنجد أن هذه اللعبة السردية ، إنما هي لعبة بلاغية متكاملة غايتها الإبلاغ عن الحكاية بطرق غير مألوفة0 والواقع ، فان حكاية امرأة القارورة باعتبارها اللّب المكوّن للرواية تتنازعها ثلاثة مستويات سردية ، تتصل بثلاثة رواة : يؤدي الأول وظيفة التقديم والاستهلال دون أن تربطه سردياً رابطة مباشرة بالحكاية ، ويؤدي الثاني وظيفة تنظيم الحكاية والمشاركة فيها من خلال علاقته المباشرة بامرأة القارورة " هاجر " و بـ " آدم " . وهذا الراوي يهيمن برؤاه ومواقفه وسلطاته المطلقة على النص ، ويؤدي الثالث ، وهو ضمير غائب ، دور الوسيط الذي من خلال سرده ينبثق صوت " هاجر" وهو صوت لا يكتسب استقلاله الشخصي ، إنما يقترن دائماً بذلك الراوي الوسيط الذي يتقنّع بضمير الغائب في نمط من السرد الموضوعي غير المباشر على نقيض السرد الذاتي المباشر الذي يتصل بالراويين الأول والثاني .

    تبدو ، أول وهلة ، علاقة الراوي الأول بحكاية امرأة القارورة علاقة واهية ، وهي كذلك من ناحية سردية ، اذا أُخذت بالاعتبار درجة الصلة بين ذلك الراوي والحكاية ، فالعلاقة السردية المباشرة ضعيفة ، ولايحصل تماسٌ يبنهما إلاّ بشكل عابر ، يُراد منه الايحاء بطبيعة تلك الحكاية ، بيد أنّ تلك العلاقة تبدو على غاية من الأهمية اذا نُظر اليها من زاوية أخرى ، وهي تنزيل الحكاية في موقعها السردي ، وضبط حدودها ، والتوطئة لها ، ووصف الخلفية التي تعطيها قيمة في سياق السرد 0 وما أن ينتهي الراوي الأول من وظائفه هذه إلاّ يتوارى ، ولكن ذلك يحدث ّ بعد ان يروي هو حكايته الخاصة به ؛ حكاية التمزّق بين الإكراه للالتحاق بحرب لا يؤمن بها إنما يُدفع اليها مُكرها ، ومحاولاته السبع للفرار منها ، في إصرار عجيب لا يعرف الضعف والتهاون ، وبين الشوق الدفين الذي يتملّكه منذ صباه لـ" أوروبا " 0 ورفض الحالة الأولى (الحرب) والاستغراق في الثانية (أوربا) أمران مرتبطان في ذهنه , ارتباط نتيجة بسبب ، يقول: "طيلة سبعة أعوام لم أكن أدرك من الوجود غير أهوال الحرب ، وذلك الشوق الدفين للهروب نحو حلم تملّكني منذ صباي " أوربا ". مامضى يوم إلاّ وكنت ارسم من عذابات الحرب لوحة لأوربا , كإلهٍ تعس يصنع من أطيان كوارثه مخلوقاً سامياً قادراً على منح اللذة لخالقه . من شبقي المكبوت نحتُّ جسد أوربا ، ومن تجارب حبّي الفاشلة صنعت قلبها ، ومن حاجتي إلى الراحة والأمان رسمت ملامحها الخضراء ، ومن توقي الى العدالة ، والانعتاق خيّطت لها ثوباً أبيض فضفاضاً يرفرف كأجنحة فراشة ويضمني بين ثناياه كما تضمني أم في عباءتها السوداء . أوربا صارت مخلّصي المنتظر وأرضي الموعودة . حتى عذاباتها كنت أراها أكثر استساغة من أمثالها في بلادي "(16) 0 مايلاحظ هنا أن التمثيل السردي ينتج عالمين متناقضين: عالم الشرق حيث ينتمي الراوي،وعالم الغرب حيث يتمنّى ، والرؤية السردية لهذا الرواي لاتعرف الحياد 0 إنها تركّب صورة مكروهة وممقوته للمكان الذي انبثق منه ( الشرق) ، وتركّب صورة احتفائية ورغبوية واستيهامية للمكان الذي ينشده( الغرب) ، إنها ثنائية الخفض والإعلاء، التبخيس والتبجيل، الكامنة في وعينا المعاصر وفي ثقافتنا0 وسوف تطّرد هذه الرؤية نفسها عند الراوي الثاني ، كما سنرى . على أن الموضوع الذي هو مدار عنايتنا هنا هو علاقة الرواي بالحكاية ، فقبل أن تتشكّل أطرافها يعلن الراوي عن عدم وجود علاقة له بها 0إن المصادفة وحدها هي التي جعلته يعرفها ، ولذا فان مسؤوليته عنها تتصل بالمساعدة في نشرها فقط 0 والدفع باتجاه فصم العلاقة بين الراوي الذي يتقّنع بقناع المؤلف والحكاية ، إنما هو لعبة سردية شائعة في الرواية العالمية والعربية ، تمثلها غالباً الصيغة المتداولة الآتية : إن المؤلف عثر على حكاية مجهولة ، وإن دوره سينتهي بنشرها وهو لايتحمّل أية مسؤولية عمّا ورد فيها 0 وهذه الصيغة بذاتها هي أكثر المداخل شيوعاً الى السرد الكثيف (أشهر وأقرب الأمثلة رواية "اسم الوردة" لـ"أُمبيرتو إيكو") ، اذ انها تبرمج الاطار العام لبناء النص السردي على نحو يحتّم ظهور ذلك السرد ، بتشعباته وتفاصيله الكثيرة 0 وقد أخذت بها هذه الرواية تماماً ، وبالغت في ذلك ، فخصّص فصل كامل ، هو ( فصل ابتدائي ) ليس فقط للبرهنة على عدم وجود صلة بين الراوي الأول والحكاية ، إنما لعرض الحكاية الشخصية لذلك الراوي ، فالمبالغة في نفي هذا النوع من العلاقة إنما هي مبالغة في تأكيدها ، يقول الراوي : " قبل الولوج في عالم هذهِ الحكاية الغرائبية مع ( امرأة القارورة ) العجيبة يهمني أن أعلمكم منذ الآن اني لست مسؤولاً عنها ، ولم أشارك في أي من أحداثها ، وخيالي بريء منها . في الحقيقة اني أُجبرت على نشرها من باب الواجب لاأكثر ، منذ أن عثرت على هذهِ الحكاية بطريق المصادفة قبل أسابيع ، وانا متردد في احراقها أو رميها في البحيرة (= بحيرة جنيف) ، وقد فشلت جميع جهودي لاكتشاف شخصية كاتبها الحقيقي ، إني انشرها ولم أحاول أن أغيّر في سطورها أية كلمة، تركت المخطوطة كما سلمتني إياها سيدة الحانة "(17)0 وسوف يستثمر الراوي هذهِ الفرصة للبحث في الظروف التي جعلت الحكاية تصل إليه 0 وذلك مجرّد مسوّغ يُستغل كغطاء لعرض حكايته الشخصية التي تستأثر بالأهمية الاستثنائية 0 فالرواي ، مستعينا بالسرد الكثيف كوسيط تمثيلي ، يتبطنّ شخصية المؤلف للإعلان عن مواقف آيديولوجية وثقافية ، والتصريح بآراء مزدوجة الإنتماء تتصل بالعالم الرمزي للنص من جانب وبالمحضن التاريخي له من جانب آخر، وكما رأينا في تركيب صورة تعارضية للشرق والغرب من قبل في رواية " النخّاس" ،فإن الصورة ذاتها ترتسم في "امرأة القارورة" لكنها مقلوبة الدلالة0 فالراوي يمضي في وصف حالة الإستياء والتبرّم التي دُفع اليها، وهي حالة المشاركة في حرب لاتعنيه. وهذه الحالة بذاتها ستكون محفّزا حيويا بالنسبة له للبحث عن نوع من الحرية التي يحلم بها، ولهذا تتعاقب محاولات فراره من الحرب سعيا لإشباع تلك الحاجة التي بمقدار ما هي رغبة ، فانها موقف من العالم الذي يعيش فيه، وهجاء له، فالشرق طارد والغرب جاذب0 وفي اصرار يناظر اصرار بطل رواية " الفراشة" يفلح الراوي في الوصول الى " جنيف" ليجد أن حكاية امرأة القارورة في انتظاره ، حكاية الشرق السرية المعمّدة بالألم ، وبتسهيل نشرها يختفي 0 لكن القضية الأكثر أهمية في سياق السرد هي أنه توارى بسبب نجاحه في رهان لايمكن أن يفشل فيه أمثاله، لقد انتزع مكانا رفيعا لحكايته الشخصية، ولايمكن لأحد أن يمر عليه ، دون ان تلفت أنظاره تلك الحكاية لأنها البوابة التي من خلالها يدلف إلى الحكاية الأم 0

    بعد أن يتوارى الراوي الأول الذي يعتبر المدشّن الرئيس للحكاية والمُمهد لها يظهر آخر يلتصق بظاهرها قبل أن يتماهى معها ، ويصبح جزءا منها 0وإلى هذا الراوي تُعزى كل السمات الفنية للعالم التخيّلي-السردي الذي يحتضن حكاية امرأة القارورة ، ومع أنه يماثل الراوي الأول في اختيار الغرب مكانا للحياة استنادا إلى جملة أسباب دفعته إلى ذلك ،وانه يعيش بوصفه فردا باحثا عن اللذة في مختلف أشكالها إلاّ أن درجة حضوره في السرد تفوق درجة حضور الأول، ورؤيته أكثر وضوحا ، وحياته أكثر تنوعا،وهو بلغة إيروتيكية – فنطازية مشبعة بالإيحاءات الرمزية يقوم بتشكيل العالم التخيّلي للنص، ويموضع امرأة القارورة فيه سواء في جذورها وامتداداتها التاريخية الرافدينية أو في حاضرها الآن 0 فتتدرّج علاقته بالحكاية من كونه في البداية مجرد راو إلى أن يستأثر بمكانته بوصفه شخصية لها موقعها ودورها في الحكاية0 مع ملاحظة التكتّم على الاسم ، وينتهي الأمر به ليكون مشاركا للشخصيتين الأساسيتين " هاجر "و"آدم"في حياتهما ومصيرهما. وكما كنا قد رأينا ذلك في حالة الراوي الأول ، فان هذا الراوي ، وبإصرار أكثر حدة وبطريقة أفضل ، ينجح في إيجاد درجة عالية من التناغم بين حكايته وحكاية" آدم" و" حكاية" هاجر"0 وعلى هذا فان حضوره في النص يظل قائما لملازمته الشخصيتين المذكورتين،وخلال ذلك يمارس ضروبا من الأفعال ، ويتفّوه بسلسلة لانهائية من الأقوال التي تكشف منظوره الشبقي الذي يجعله منغمسا في عالم اللذة إلى أقصى درجة ممكنة 0إنه باحث دائم عن المتعة ، يتصيّدها ويقتفي آثارها حيثما تكون ،ولا يتردد في التصريح بأنها جوهر وجوده ومدخله إلى الحياة والعالم ، وقد اختار الغرب ليتمكن من الاقتراب إليها 0إنه يتجدد بمقدار استغراقه الجذري في المتعة الجسدية، يقول" ليس في حياتي غير الرسم والحب، وفي كلتا الحالتين المرأة هي الغاية والموضوع. كنت صياداً والليل هو نهري ، كنت لا أتعب ولا أملّ، وفي صبر الصيادين تكمن قوتي. أرمي صنّارتي في نهر الليل مرات ومرات دون كلل حتى الفجر، مرة تخرج لي علبة صدئة ،ومرة ضفدعة ، ومرة غصن شجرة ، ومرة سمكة فاطسة ، حتى تصيد تلك البُنيّة الهائجة التي تظلّ تَلْبُط بين يدي لأشويها وتشويني على نيران شهواتنا حتى الصباح"0 ويكتسب هذا المنظور أهمية خاصة لأنه سيعيد إنتاج كل الأشياء طبقا لمقتضياته ، وفي مقدمة ذلك " هاجر" امرأة القارورة ، فمهما تعدّدت أوجه تأويلها ،وتنوعت أبعادها الرمزية ، فهي آلهة للذة الجسدية، والراوي لا يراها إلا باعتبارها وريثة تجربة في اللذة يزيد عمرها على خمسة آلاف عام ، لذة بلاد الرافدين الجارفة والعريقة 0 وحتى "آدم" المتقشّف جسدياً ، ينتهي بتوجيه مزدوج من اليقظة التي توقدها امرأة القارورة في كيانه ، ومنظور الراوي الذي يلح على البعد الايروتيكي للحياة ، إلى شخصية مخالفة لمعايير التزهّد الجنسي الذي كان عليه من قبل .

    وهكذا فان منظور الراوي الذي ينظّم مسارات السرد ، ويُسقط عليها شلالات من الإيحاءات الجنسية ، ويفلح في إضفاء شبكة دلالية معقّدة ترشح باللذة في تضاعيف النص 0 بانتهاء الاعتصام الجنسي لـ" آدم " فان ينابيع اللذة تتفجر في كل مكان 0 على أن كل هذا لا يلغي بعد شخصية الراوي من ناحية الخلفيات والتكّون ، لكنه يقصيه إلى الوراء ، ويدفع إلى الأمام بشبقيّته ؛ فالنهم بالجسد وتفاصيله يستأثر بالعناية الأساسية 0 وبما أن حكاية امرأة القارورة تتجلّى عبر منظوره ، وتتدفّق من خلال رؤيته، فإن ذلك الراوي يُشغل أولا بنفسه قبل أن تمر من خلاله تلك الحكاية ، وفي كل مرة يعيد ترتيب وضعيته بما يجعل حضوره باهرا ومشعاً وأخّاذا ، فيعلن عن نفسه في مطالع الفصول الأربعة التي يتكّون منها النص ، مستخدماً صيغة المخاطبة مع مروي له يُدغم بالمتلقي / القارئ 0
    إن الأمر الذي يستثير الملاحظة ، هو: فضول الراوي في الإعلان المتواصل عن نفسه 0 فهو يؤكد ، أنه البوابة الوحيدة التي من خلالها يمكن المرور إلى حكاية امرأة القارورة 0 ومن هذهِ الناحية فان سرده يتضمن كثافة هائلة تجعله حاضراً بطريقة لافتة للنظر في كل ثنايا النص 0 ومن الجدير بالذكر هنا أن سعيه في ألاّ يكون مجرد وسيط تعبر عليه الحكاية ، جعله في الصفحتين الأخيرتين يندمج تماماً في عالم الحكاية ، فاستبدل بصيغة الإفراد التي كان يستعملها طوال الرواية، صيغة الجمع ، وبوساطة ضمير الجمع للمتكلمين ختم الرواية في مشهد معبّر عن نجاحه في أن يكون عنصراً من الصعب الاستغناء عنه إلى جانب " هاجر "و " آدم " في حكاية امرأة القارورة0 والجنين الذي تحمله في الأصل " مارلين " ، لا ينفلت من رحمها ، إنما -كما يقول الراوي- " ينبجس من دوامتنا ويطفو مع قارورته فوق الماء ويزحف على الشاطئ باتجاه حقول وبساتين وينابيع نيران أزلية " .وبإزالة الحجب السردية الكثيفة التي تلفّ حكاية امرأة القارورة ، قصدتُ بذلك مستويات السرد التي تمثلها منظورات الراوي الأول والثاني ، تتجلّى الحكاية الباهرة المشعّة: حكاية التحولات المستمرة ، والعلاقات الغريبة، وتحديداً حكاية " هاجر " رمز الترحال والهجرة الأبدية ، والأسطورة الأنثوية العائمة فوق التواريخ والأوطان ، والحلم الذي يسعى كل الذكور إلى نيله0 ومع أن السرد يبدأ يُفصح عن الحكاية ، وتخفّ كثافته ، وتشتدّ شفافيته ، إلاّ أن صوت "هاجر " مازال يمر خلل وسيط سردي ثالث ، إنه يتدخل ويعيد صياغة ما ينبغي أن يكون صوت " هاجر " المباشر ، ويستبدل الضمائر ، ويغيّر الصيغ ، ويلخّص حيناً ، ويسترسل حيناً آخر ، ويحفر وينقّب ويعلّل ويصف ويؤوّل لكنه لا يحجب ولا يستبعد أحدا،وهو في الوقت الذي لا يختفي فيه تماما،فانه يتوارى ويتقشّف في الإعلان عن نفسه بطريقة ملفتة للنظر0 إنه ضمير ماكر لعوب، يجيد لعبته الذكورية ، فيعيد إنتاج حكاية امرأة القارورة طبقا لتصوراته الثقافية والجنسية كذكر خاضعا لفكرة التنميط الثقافي لذكورته ومسقطا التنميط ذاته عليها كأنثى، دون أن يأخذه الفضول في الإعلان عن نواياه الحقيقية 0 وستقترن الحكاية بهذا المستوى من السرد إلى النهاية ، لأنها عبارة عن التشكيل الخطابي الذي يكوّنه صوتان متداخلان: صوت " هاجر " وصوت ذلك الضمير الغائب المجهول الذي من خلاله يمر إلينا صوتها.فكل أنثى بحاجة إلى وسيط ضمن ثقافة مشبعة بقيم الذكورة! ! !0

    تندرج حكاية امرأة القارورة في نظام دائم التحوّل ، وبذرة التحوّل التي توجّه كل شيء ، وتكون سبباً له ، هي " هاجر " المتحوّلة من كائن فانٍ ، إلى كائن خالد ، ثم إلى كائن فانٍ مرة أخرى 0 وهذا التحوّل المركزي ستمتد آثاره إلى فضاء الأحداث والشخصيات وإلى السرد نفسه، وعلى هذا فان نظام العلاقات المتحوّل هو أشدّ ما يثير الاهتمام في النص ،إذ ليس ثمة وضعيات ثابتة ، بل هنالك صيرورة دائمة ، وهو الذي يغلّب البحث في العلاقات على البحث في الوضعيات 0 والحقيقة فانه بسبب نظام التحولات الذي يهيمن في رواية " امرأة القارورة " ينتهي كل شيء إلى غير ما بدأ به ، حتى الوضعيات الابتدائية التي يمهّد لها السرد ، سرعان ما تلتحق بنظام التحولات الشامل في النص 0 فالرواة و " آدم " ومن ثم الأفعال والفضاءات ، تستجيب لمبدأ التحوّل في شخصية " هاجر " التي كانت سلسلة متواصلة الحلقات من التحوّل المستمر ؛ من كونها امرأة عاشت في " أور "بعد الطوفان ، إلى حبها الجارف للشاب " تموزي" ثم زواجها منه ، والإغراء بالخلود لتكون حبيبة وعشيقة دائمة ، وانتهاءً بفك طلسم الخلود عنها بعد خمسة آلاف سنة 0 وخلال ذلك تتجلى من خلال أصنام " أنانا ـ عشتار " ، فتثير الغيرة في نفس " كيجال" آلهة العالم السفلي ،وبمقتل" تموزي" يغتصبها ملك غريب ، يتضح إنه ابنها ، واعتباراً من هذه المرحلة تصبح "هاجر " أمّا وعشيقة مستباحة لمائة وخمسين من الأبناء والأحفاد الذين يتوالون عليها في نهمٍ شبقي هو ومزيج من العشق والاغتصاب 0 وحين تنتهي إلى الحفيد الأخير " آدم " تتدخّل جملة ظروف تفضي إلى إزالة الخلود عنها،والعيش بوصفها امرأة معرّضة للفناء شأنها في ذلك شأن جميع البشر 0 وفيما يقوم بتخليدها شيخ بسيماء نبي ، يقوم شبيه له ـ ربما نفسه ـ بتخلصها من الخلود 0 وبين هاتين اللحظتين يفترع عذريتها المتجددة رجال تناسلوا منها : طغاة، ورسل ، وأدعياء ، وسحرة ، وملوك ، وأنبياء ، ومطاردون ، وضحايا 0 في مقدمتهم " تموزي " ، وبينهم إبراهيم وموسى وفرعون وخاتمهم " آدم " 0وكل هذا يحُدث تحولاً في جملة العناصر الفنية المكوّنة للنص ، فالشخصيات تغيّر انتماءاتها فتهجر بلادها وتلجأ إلى بلاد أخرى ، وذلك يؤدي إلى تغيير كامل في الفضاءات السردية ، وتغيير كامل في نسق الأفكار التي ترددها الشخصيات بحسب الفضاءات التي تظهر فيها . إن السرد ذاته يتحوّل من كونه سرداً مغرقاً في كثافتهِ إلى سرد أقل كثافة ، ثم أخيراً إلى سرد هو مزيج من الكثافة والشفافية . وفي التفاته معبّرة عن نظام التحول الدائم يقفل النص سرديا بمشهد هو ذروة التحولات ، وبه ينفتح أفق آخر للتحولات الدلالية 0 ففيما يرجّح أن " هاجر " قد اقتيدت أسيرة ورهينة إلى البلاد التي ولدت فيها، يُحدث فناؤها تحولاً في مصائر الشخصيات الأخرى : الراوي ، و" آدم "، و" مارلين " 0 فالسائل الذي عبّأه الشـيخ من سيناء في القارورة وحلّ محل " هاجر" مُزج بالنبيذ الأحمر ، وبالارتواء منه فاض الخلود على تلك الشخصيات 0 وفيما كانوا فانين و" هاجر " خالدة ، أصبحوا خالدين وهي فانية ، وفيما أفلحوا في تحقيق حلم الحرية الدائم كُبّلتْ هي بقيود البلاد التي ظهرت فيها . فتقاطعت المصائر في نوع من التحوّل الدائـم 0
    ينتهي النص حينما يكف السرد عن تجهيز المتلقي بمصائر أخرى للشخصيات ،وتنتهي الرواية ككتاب ، لكن التفكير في أمر صوغ الأحداث وتحولاتها الدائمة لاينتهي ، فكل نص يفجّر مشكلة لدى المتلقّي 0 وقد يكون النص الروائي نفسه اطاراً مناسبا للحديث عن تقنيات السرد وطرائق تركيب المادة التخيلية ، كما سيتكشّف لنا ذلك في الفقرة الآتية0

    4. التلقّي السردي وتشكيل العالم التخيّلي للنص0



    لا يكتفي "محمد برّادة " بتقديم المادة التخيلية ـ الحكائية لروايته " لعبة النسيان "( 1 إنما يهتم اهتماماً كبيراً بكيفية عرض تلك المادة ، بحيث يجعلها قضية مثيرة تستأثر بتحليل مفصّل ، ومتعدد المستويات 0 وإذا أردنا الدقة في الوصف فإن تلك الحكاية تذوب وسط النزاعات المتزايدة بين الرواة ، فكل يزاحم الآخر في انتزاع موقع ، يسمح له بإبداء رأي أو وجهة نظر فيها أو حولها 0 بعضهم يعلن عن رغباته وتطلّعاته تلك بكثير من الصراحة والتأكيد ، وبعضهم يمارس دوره في نوع من السرية دون الانهماك في الإعلان عن النفس ، وهم يتبادلون الأدوار ؛ مرة يكونون جزءاً من الحكاية بوصفهم شخصيات تنهض بمهمة المشاركة في وضع الأحداث ، ومرة يكونون رواة يشغلون بتقديم شخصيات أخرى ، ومرة ثالثة يكونون مجرد مادة للتحليل السردي الذي يشترك فيه " راوي الرواة " مع "المؤلف". وهذهِ الأدوار بما تحدثه من تغيير متواصل في المواقع والوظائف ، تجعل المادة الحكائية متمزقة لا يعاد تشكيلها إلا في ذهن المتلقّي0

    تتمرأى الحكاية في " لعبة النسيان " على خلفية شديدة التعقيد من التداخلات السردية التي تعنى بالرواة ومواقعهم في الحكاية ، ومع أننا سوف نستخدم مصطلح "حكاية " للإشارة إلى المادة المترشّحة عن شبكة التداخلات السردية المذكورة ، إلا أننا نتحرّز كثيراً ، فواقع الحال ، إن " الحكاية " في هذه الرواية لا تكاد تتركب أجزاؤها ، إلا وتتناثر،ثم تتحلّل في خضم الروايات المختلفة والمتداخلة للشخصيات والرواة على حدٍ سواء ، إلى درجة تصبح "الحكاية " مجرد ومضات من وقائع تتصل بحياة أُسرة من الأسر المغربية تغطّي مساحة زمنية تقارب نصف قرن من الزمان ، وتلك الحياة الأسرية تتشظّى إلى مشاهد لا رابط بينها ، لكنها تؤدي وظيفة كشف لحظات معينة من تاريخ الشخصيات ، بحيث تكون غايتها- إن كان لها غاية في سياق النص- تصوير النمو المتدرّج، لكن المتفكّك في الوقت نفسه لمصائر مجموعة من الشخصيات المكوّنة لأسرة "لاله الغالية ": أخوها " سيد الطيب " ثم أولادها " الطايع "و " الهادي " و " نجية " وجيل الأحفاد مثل " فتاح" و " عزيز " و " إدريس " و " نادية " 0 على أن الشخصيات التي تتصدّر الاهتمام هي : " الهادي "و " الطايع " وعلاقتهما بالأم " لاله الغالية " والخال " سيد الطيب " 0 ولا تتضافر الشخصيات فيما بينها ، داخل النص من أجل بلورة " حكاية" بالمعنى الشائع ، إنما تُلقى الأضواء على وقائع منتخبة من حياتها وتكوينها 0 فتلك الحياة إنما هي مادة يتلاعب بها الرواة بحسب علاقتهم بها ، ويقدمونها على وفق منظوراتهم لأهمية الأجزاء المكونة لها .

    لا يُعنى النص بالشخصيات وأفعالها ـ وهو ما يفترض أن يكون لب الحكاية كما هو معروف-إنما يحتفي بالكيفية التي يتم فيها عرض الشخصيات وأفعالها . ومن أجل ذلك يتضمن النص شخصية جديدة في الرواية العربية، هي شخصية"راوي الرواة" ، ولها وظيفة سردية تختلف عن وظائف الشخصيات الأخرى 0 إن وظيفتها هي القيام بتركيب المادة السردية داخل النص وتوزيعها على الرواة ، والتدخّل فيها ، ثم ترتيبها حسب المنظور الذي يحدد أهمية كل جزء من أجزائها . ولهذا فأن " أفعال " هذه الشخصية لا تندرج في الحكاية إنما تندرج في " متن " النص ، لان أفعالها " فنية " تضاف إلى مرحلة ما بعد إنجاز أفعال الشخصيات ، فهي التي تقوم بترتيب تلك الأفعال ، ومن هنا أشرنا إلى جدتها ،لأنها المسؤولة عن البناء السردي للنص 0 والحقيقة فان ملاحظاتها تشكّل بحد ذاتها أهم دراسة عن البناء السردي لرواية " لعبة النسيان" ولهذا فان اهتمامنا سيتركّز على شخصية " راوي الرواة " باعتبارها الوسيط بين " المؤلف " من جهة وشخصيات الرواية من جهة أخرى 0
    يؤكد " راوي الرواة " إن " المؤلف " أودع لديه مادة سردية هي مزيج مما عرف وتخيّل- يذكّر ذلك بما وقفنا عليه قبل قليل بخصوص مخطوط إمرأة القارورة- ، وقال له: " أريد أن تنظّم سرد هذهِ المادة الخام في تشخيص يستوعب الكلمات واللغات التي نسجت حكيها داخل مخيلتي، غير أنني وجدت أن جميع ما كتبته لا يرتقي إلى قوة الرجع المشع الغامر للحواس والنفس ، التجئ إليك, لأنني وأنا أعيد سرد ما عشته , وشاهدته , وتخيلته ،وحلمت به ، تبدو لي الأشياء والذكريات مختلفة مشوشة الصورة ، باهتة بالمقارنة مع ما اعتقد أنني عشته وعانيته " ( 19) 0 وبإيداع هذه المادة الخام لدى "راوي الرواة" يكون المؤلف قد وضعه في "مأزق" كما يقول- لاحظنا أن الراوي في "امرأة القارورة" يسارع إلى نشر المخطوط الذي عثر عليه، لكنه يحجم هنا ويتردد- فالمؤلف يؤكد أن المادة التي تركها لدى " راوي الرواة " تفتقر إلى " قوة الرجع المشع الغامر للحواس والنفس" ، وهي " باهتة مع ما اعتقد أنني عشته وعانيته " وبذلك فهو ينتظر من " راوي الرواة " أن يبثّ فيها الإحساس والتأثير ، أو ما يسميه " جيل دولوز" بـ" المؤثرات الانفعالية " (20) التي يرى أنها جوهر كل فن0

    واضح أن وظيفة "راوي الرواة " ستكون وظيفة سردية ذات طبيعة فنية ، تتصل من جانب بمفهوم الأدب السردي ،ومن جانب آخر ببناء المادة التي آلت إليه .وهو منذ البداية يتنّبه إلى ضرورة معالجة المادة التي تركها المؤلف ، مهما كانت خلفياتها ومرجعياتها ، معالجة فنية ، تأخذ بالاعتبار مناحي التأثير والإحساس التي ينبغي أن تتصف بها كل مادة أدبية 0 كان المؤلف قد ألقى بالمادة إليه ، أما هو فيقول " إنني حسمت الموضوع ـ دائماً يجب أن يكون هناك من يحسم ـ بأن المسافة القائمة دوماً بين المعيش والمتخيّل ، والمكتوب والمحكي ،تؤكد أن الأحداث والحياة بصفة عامة، تجري على أكثر من مستوى، متداخلة متشابكة.. مفهوم ؟ وإذن ، سيكون جهداً ضائعاً أن نعمد إلى إيهام القارئ بواقعية ما نحكيه . سأعطي الأولوية لرصد أصداء ما نحكيه في نفوسنا ، نحن الرواة ، من خلال ما تبقى من مخيلة الكاتب وذاكرته"(21) 0وما أن يلمس بأن المؤلف سوف يحتج على التدخّل الكبير الذي سيقوم به ، إلا ويقول " تحمّل وقاحتي ، أيها الكاتب ، إذا كنت استعمل طحينك لأعجن خبزة أدلل بها على نباهتي ؛ فأنا أريد أن اقنع القارئ بشطارتي وحسن اختياري في توجيه دفة السرد " (22) ويخلص إلى النتيجة المهمة الآتية مخاطباً المؤلف : " من حقي أن أتدخّل ، وألا اكتفي بتنسيق الخيوط والأسلاك من وراء ستار ؛ قد يزعجك ذلك لكنني أرجوك أن تعتبره تكملة للعبة تضعك أمام عناصر لم تتخيلها أو آثرت السكوت عنها" (23). إنه يبحث عن دور مساو لدور المؤلف نفسه ، بل ويقترح عليه أشياء جديدة ؛ منها مثلاً تسمية بعض فصول الرواية 0 ومادمنا قد وقفنا على العلاقة بين" راوي الرواة" و " المؤلف " فلابد أن نمضي إلى النهاية هادفين إلى فحص الطبيعة المتوترة بينهما ،بسبب اختلاف التصورات حول عناصر السرد ، وطرائق معالجتها0 فما أن يحتدم الخلاف بينهما إلا ويعلن " راوي الرواة " بأن العلاقة بينه و المؤلف قد ساءت إلى حد القطيعة وينبغي "التخلي عن التعاون والتنسيق ولولا وسطاء الخير ، لكان الذي يتحدّث إليكم مباشرة الآن ، هو المؤلف ، مواجهاً معضلات السرد والترتيب وتوزيع الكلام ، والحقيقة إنني لم اقبل استئناف مهمتي إلا بعد موافقته على أن احكي للقارئ بعضاً من خلافاتنا " ( 24) . وتدور تلك الخلافات حول طبيعة التصوّر الذي ينبغي أن يقدّم في الرواية لمفهوم الزمن ، ففيما يريد " راوي الرواة " أن يقدم تصورا فنياً للزمن يوافق النسيج السردي ـ التخيّلي للنص ، يريد المؤلف تقديم مفهوم تاريخي لذلك الزمن ، وحول هذا الموضوع يدور مضمون الخلاف ،ويتجاوزه إلى البحث في كثير من الظواهر الاجتماعية خارج النص حيث التعليق على أحداث ووقائع تاريخية 0

    يسوّغ " راوي الرواة " تدخلاته الكثيرة استناداً إلى أهمية دوره ، ذلك انه يعرف الرواة الآخرين ، ويعرف ما يتفوهون به ، ويستطيع مناقشتهم فيه ، وهو يقوم بتفسير الأفعال وبيان طبيعتها وأسبابها ، ويقارن الأوضاع والحالات ، ويكمل الأجزاء الناقصة ،ويملأ الفراغات التي تركها المؤلف ، ويزيل الغموض والالتباس ، ويدمج أقوال المؤلف بأقوال الشخصيات بأقوال الرواة ، ونظرا إلى انه المسؤول عن اللعبة السردية فانه يعتبر نفسه عنصر توازن يتكئ عليه المؤلف، ويعتمد عليه في صوغ المادة صوغاً مناسباً 0 ولا يتردد في التأكيد على أنه قد يستخدم من قبل المؤلف ليمارس دور الرقيب ، وهو دور يلقيه عليه المؤلف تهرباً من المواجهة ، فالمؤلف يريد تمويه الحقائق من خلاله ، وهو يتوجس من كل ذلك لكنه يفتخر بأن معرفته أكبر من معرفة الرواة الآخرين ، لأنه مطّلع على الخلفيّات والتفاصيل ، وله حق التدخّل ، وزحزحة كل ما حكاه الآخرون ، ويرى أن له رتبة كبيرة وصفة سامية ، فهو المتحكّم بعناصر البنية السردية ، وله حق تغيير الوضعيات ، وتضخيم الأدوار , وإذا اقتضى الأمر ، ووجد نفسه مهملاً ، فانه قادر على إفشاء أسرار المؤلف وتشويه الصور التي أرادها لشخصياته 0 إنه يهدد باستمرار بفضح ما سكت عنه المؤلف والرواة ، ويريد أن يُعترف له بدور رئيس لا ينافسه فيه أحد ،لأنه صاحب اللمسة الأخيرة على النص الذي وضعه المؤلف بين يديه , وله أن يحتجّ ويرفض ويمتنع ويختلف مع المؤلف، وله أن يقدّم تأملاته وتحليلاته لكل الروايات التي تقدم بها الرواة الآخرون 0 إنه بالنتيجة عليم بكل شيء ، فضولي ، له قدرة على تعقّب الأخطاء ، وتتّبع النواقص ، ودوره يرتّب عليه مسؤولية الإحاطة بكل شيء ، والإلمام بالتفاصيل جميعها فهو " سيد "الرواة ، تعبر أصواتهم ورؤاهم وتصوراتهم وأفكارهم وانطباعاتهم إلى المتلقّي من خلاله ، لأنه الوسيط بين المستويين الواقعي والتخيلي للنص 0

    تمارس شخصية "الهادي " أدوارا عدة ، بعضها يكشفه النص ، وبعضها يفضحه " راوي الرواة " ، ويلزمنا التريث عند هذه الشخصية كونها الشخصية الرئيسة في الرواية . ومع أن شخصيات أخرى تحتل موقعاً مهماً في العالم التخيلي للرواية كـ" الطائع " و " سيد الطيب " و " لاله الغالية " و " نجية " لكن شخصية "الهادي" تعد ذات موقع استثنائي لأن منظورها بما فيه من تصورات وتحليلات وانطباعات وتأويلات يهيمن على العالم التخيلي للنص، وتكاد تنحسر المنظورات الأخرى بازائه 0 ويمكن حصر أدوار هذه الشخصية بما يأتي : فمن ناحية أولى يعتبر " الهادي" قناع " المؤلف: في النص، فثمة تواطؤ بينهما بحيث يحتجب الثاني خلف الأول وينطقه ، وهذا التواطؤ يفضحه " راوي الرواة " حينما يستشعر " أن بين الهادي والكاتب أشياء كثيرة " 0 ومن ذلك التكوين الذهني لـ" الهادي " ، والأيديولوجيا التي يتبناها،وإسقاط نمط من التحليل على الظواهر التي يعاصرها 0 إن" راوي الرواة" يترصّد هذا التماهي بين هاتين الشخصيتين ، غير أن الأمر الذي لابد أن يأخذ حقه من الاهتمام ، هو: إن " الهادي " يظهر بمظهر مقارب لمظهر المؤلف ، إنه يستدعي الأحداث ، كما حصل في قضية موت الأم ، ويصف طفولته حيث التكّون الأول " اكتب ويتلعثم القلم بين أصابعي . زادي من الكلمات لا يفي ، كنت بدأت بقراءة قصص كامل الكيلاني ، ولعبة اختزان اللغة الجميلة " المعبرة " تستهويني ؛ والتركيب بين الكلمات والعلامات أخذ طريقه .. فأنا احمل ما التقطته الذاكرة أثناء القراءة الجماعية لصفحات من ألف ليلة وليلة " (25) ، ويواصل في تضاعيف النص الكشف عن تكوّنه الثقافي ، فهو بحسب تعبير الطايع " صنبور الأسئلة والهواجس والتخمينات " وهو " مفتون بالجسد واللذة " وقد وضع " الدين بين قوسين " , وهو الذي يقدم نقداً قاسياً للأوضاع الاجتماعية وما آلت إليه الأمور في نهاية الرواية ، وهو الذي يعمق المصائر المتقاطعة للشخصيات ، وبخاصة شخصيته هو، وشخصية " الطائع" . هو إذ ينتهي إلى الشك المطلق ، وينادي بأيديولوجيا يسارية ـ علمانية من خلال صحيفته التي تبشر بذلك، و"الطائع " الذي إثر سلسلة انكسارات ينتهي إلى الاستغراق في حلم " بناء مجتمع إسلامي تبعث فيه حضارتنا التليدة الأصيلة "(26) . ومن ناحية ثانية فإن " الهادي" يعتبر أهم الرواة بعد " راوي الرواة " وكثير من أجزاء النص تروى على لسانه في نوع من السرد المباشر الذي يتضمن استقصاءات كثيرة حول أوضاعه وأوضاع الشخصيات الأخرى 0 ويلاحظ على سردهِ أنه مملوء بالتحليل والاستنطاق والوصف ، وكل هذا جعله يسهم في تركيب صورة خاصة للشخصيات الأخرى ، ويشترك بفاعلية في بناء العالم التخيّلي للنص . ومن هذا الجانب فإن كونه قناعاً لـ" المؤلف " جعله يتمتع بحرية كبيرة في إضفاء رؤية تاريخية ـ نقدية على كل ما يراه ، وينهض سرده على نوع من التعارض مع سرد آخر ، ففيما تُعزى " الإضاءات "إلى غيره من الرواة مثل : نساء الدار ، والخالة كنزة ، وراوي الرواة ، الذين يقدمون إضاءاتهم ، فان كل ما يرويه ـ باستثناءات قليلة ـ يأتي تحت عنوان " تعتيم " . فالتعارض الدلالي بين " الإضاءة " و " التعتيم " لا يفهم إلا على اعتبار الغايات والمقاصد الكامنة وراء تلك الروايات 0 ويلاحظ أن تركيز الروايات الأخرى ينصب على الأبعاد الخارجية للشخصيات ، فيما اهتمام " الهادي " يتجه إلى الأبعاد الداخلية لها . وأخيراً ـ وهي الناحية الثالثة ـ فإن " الهادي " يعتبر أحد المراكز المهمة في الرواية لأنه شخصية تتفاعل ـ تأثيرا وتأثراً ـ مع الشخصيات الأخرى ، فدورها يجتذب إليه الشخصيات ، فتندرج في علاقات متنوعة وكثيرة مع الآخرين ، وكل ذلك أضفى على هذهِ الشخصية أهمية بارزة . وما يلاحظ أن هذا التنوع في الوظائف قد اسهم في إقصاء الحكاية إلى الوراء ، ذلك أن الانشغال بالعلاقات السردية ، وكيفيات تركيب الصور للآخرين وللذات ، والانهماك بالتعبير عن أفكار خاصة ، وانتخاب وقائع لها صلة مباشرة بشخصية " الهادي" بما يجعل تلك الوقائع تؤدي وظيفة تخدم فيها تلك الشخصية , فضلاً عن منظومة الأحكام والتصورات التي تشمل عالم الرواية بأجمعه 0

    إن جميع ما ورد ذكره كان يؤدي إلى نتيجة ذات وجهين : الوجه الأول وضع شخصية " الهادي " بوصفه قناعاً للمؤلف وراوية وشخصية رئيسة تحت مجهر مكبر يثير اهتمام الآخرين به ، والوجه الثاني يتم فيه استبعاد الشخصيات الأخرى ، والتقليل من أهميتها كفواعل في البينة السردية ، وسلبها حق الإعلان عن نفسها بدرجة مساوية لدرجة الاهتمام بشخصية "الهادي"، وهذا التغييب النسبي سيؤدي لا محالة إلى إضعاف الحكاية والتقليل من أهمية مكوناتها ، ذلك أن ثمة طبقتين كثيفتين من السرد تحيطان بها ، وهما على التوالي : طبقة خاصة بـ" راوي الرواة " وطبقة خاصة بـ" الهادي " . فإذا تم اختراق هاتين الطبقتين ، تظهر إلى العيان الملامح العامة لـ" الحكاية " . إننا نعيد التأكيد على أنها مجرد ملامح أذابتها الأغطية السردية الكثيفة المحيطة بها ، وجعلتها تتناثر بوصفها شذرات ونبذا على السنة بعض الشخصيات ، لأن العناية اتجهت إلى المستويات السردية وليس إلى الأفعال والوقائع والأحداث المترشحة عنها . وإذا تأملنا ما ترسب عن كل ذلك وجدناه : استذكارات تقود الشخصيات إلى مراحل زمنية سابقة ، أو استحضارات تقوم بها الشخصيات الآن من أجل جلب ذكرى ماضية إلى زمنها الحالي . وخلال ذلك تتركب مجموعة غير متجانسة من الوقائع القصيرة غير المتضافر من أجل إدراجها في سياق أكبر لتصبح حكاية محورية تتمركز حولها الشخصيات ، من ذلك ما يرويه " سي إبراهيم " بالمحكية المغربية ـ وهو مقطع بالغ الجودة والدلالة (27) ـ عن نفسه وعمله ، أو " إضاءات " النسوة ، أو حتى ما يقدمه " راوي الرواة " عن زواج " عزيز" من خلال نمط من السرد السينمائي ( = التصويري ) الذي يقدم مشاهد متنقلة بحواراتها وشخصياتها وأفعالها ، في ضرب من التمثيل السردي الهادف إلى كشف تعدد الاهتمامات وتباينها في مجتمع الرواية ، وهو مشهد يتوّج الرحلة الصعبة والمعقّدة للشخصيات التي قُدّمت من قبل متناثرة ، بما يبّين التمزق العميق في نسيج ذلك المجتمع الذي وإن كان يوجد في فضاء واحد ، إلا أن انتماءاته الثقافية والطبقية تحول دون وحدته 0 فالتنوع هنا لا يمارس على أنه سبيل للاختلاف ، إنما يفضي إلى التقاطع والتمزق والتعارض . وفي لفته ختامية ، يحاول " الهادي " وهو يصف اعتقال " فتاح " ابن أخيه " الطايع" - لأنه اتهم بممارسة سياسة محظورة توافق إلى حد ما منظور " الهادي " الفكري ولكنها لا تنطبق مع أفعاله - أن يفضح كل تلك التناقضات ، مستعيناً بلهجة نقدية ساخطة ، وكأنه يريد تأكيد دوره ، فـ" فتاح " استمرار لحاضر " الهادي " من ناحية فكرية ، وقطعية لحاضر " الطايع " من ناحية دينية ، وبذلك ينغلق النص على هذه الإشارة الموحية 0

    5. الخاتمة



    كشف لنا البحث أن الرواية العربية المعاصرة ،وبخاصة تلك التجارب التي خرجت على النسق التقليدي ، قد استفادت من تقنيات السرد الحديثة،وفي مقدمتها: السرد الكثيف الذي لا يكتفي بإنتاج الحكاية، إنما يُشغل بكيفيات تشكيلها وعرضها0 الأمر الذي يطرح في داخل النصوص مشكلة الرواة ومواقعهم ورؤاهم 0 ولهذه القضية أهمية استثنائية في مجال الدراسات السردية،لأن الرواية العربية انتقلت من التمثيل السردي التقليدي الشفاف حيث ينصبّ التركيز على الحكاية بوصفها لُب ّالنص إلى التمثيل السردي الكثيف الذي يُدرج الحكاية بوصفها مجرد عنصر فني في سياق شبكة متداخلة ومتضافرة من العناصر، وبذلك يتيح مجالا كافيا لبيان الكيفية التي ينتج السردُ بها العالم المتخيّل،ويمكِّن المتلقّي من معرفة طرائق تناوب الرواة في عرض مواقفهم،ودورهم في تركيب الأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية- المكانية0 وهذا يجعل من الرواية نوعا سرديا متصلا ، على أشد ما يكون الاتصال بالعالم والتاريخ والبشر وكل المرجعيات الثقافية الأساسية في عصرها 0فالرواية في نهاية المطاف ظاهرة أدبية –ثقافية0

    v v v




    الهوامش



    1. إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب ( بيروت ، دار الآداب، 1997)ص58

    2. جيرار جنيت وآخرون، نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ترجمة ناجي مصطفى( الدار
    البيضاء، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، 1989) ص89و100

    3.عبدالله إبراهيم، التلقّي والسياقات الثقافية (بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة،2000)ص14

    4.صلاح الدين بوجاه، النخّاس ( تونس ، دار الجنوب للنشر، د.ت)

    5. م.ن ولمتابعة هذه الظاهرة ، نحيل على الصفحات الآتية: 142،141،139،134،106 ،101،
    98، 97،73،65،58،43،21وغيرها.

    6.م.ن.ص7

    7.م.ن.ص143

    8.م.ن.ص148

    9.م.ن.ص46

    10.م.ن.ص19-20

    11.م.ن.ص32

    12. تتركّب صورة " غابريلو كافينالي" من خلال رؤية "لولا" في الصفحات 34-37

    13.م.ن.ص34

    14. الثقافة والإمبريالية ص66

    15.سليم مطر كامل، امرأة القارورة ( لندن، دار رياض الريس للكتب والنشر،د.ت)

    16.م.ن.ص 8-9

    17.م.ن.ص7

    18. محمد برادة، لعبة النسيان( الرباط ، دار الأمان،1987)

    19.م.ن.ص54-55

    20. جيل دولوز وفيليكس غيتاري، ما هي الفلسفة،ترجمة مطاع صفدي ( بيروت ، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي،1997)ص184

    21.لعبة النسيان ص55

    22.م.ن.ص55

    23.م.ن.ص57

    24.م.ن.ص130

    25.م.ن.ص14

    26.م.ن.ص79

    27.م.ن.ص57-64

    (*) من البحوث التي نشرناها في هذا الموضوع:
    1.الرواية العربية والسرد الكثيف: تجربة مؤنس الرزاز أنموذجا، مجلة علامات في النقد،جدة،ع27/1998

    2. التمثيل السردي في روايات الكوني، مجلة علامات في النقد،جدة،ع32/1999

    3. الوجوه والمرايا: تبادل الأدوار السردية في رواية" البحث عن وليد مسعود"لـ"جبرا إبراهيم جبرا" مجلة الحياة الثقافية، تونس،ع108/1999

    4.موسم الهجرة إلى الشمال: السرد،الهوية، العنف،مجلة الجسرة الثقافية،الدوحة،ع3/1999

    5. السرد الكثيف في الرواية العربية:تجربة أمين معلوف أنموذجا، مجلة البحرين الثقافية، المنامة، ع24/2000.
                  

العنوان الكاتب Date
الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 05:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 06:04 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-08-05, 08:25 AM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nassar elhaj05-09-05, 05:25 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-09-05, 08:41 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-09-05, 01:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 06:32 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 09:38 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-10-05, 03:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 04:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 05:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-10-05, 07:59 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Tumadir05-10-05, 08:13 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 10:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 01:09 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:01 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:14 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:30 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:32 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:37 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-14-05, 07:29 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-15-05, 07:12 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-19-05, 03:35 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de