الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 02:29 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-12-2005, 11:28 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية (Re: Sabri Elshareef)

    السرد في الرواية العربية المعاصرة




    1. مدخل



    يعتبر السرد وسيلة جبارة في نسج وإعادة تكييف الأحداث الواقعية والمتخيلة وتوزيعها في ثنايا النص الروائي، وتمثيل المرجعيات الثقافية،والتعبير عن الرؤى والمواقف الرمزية0 ولم تعد الرواية رهينة التوثيق التقليدي ، فقد تشقّقت من الأساس التجربة التقليدية التي واكبت نشأة الرواية وتطورها،وذلك يعود إلى تحول جذري في منظور الروائيين للعالم الفني الذي يشكّلونه في نصوصهم،ونشوء حساسية تضع نفسها في تعارض مع القيم الفنية التي أفرزها المسار التقليدي للرواية0 أصبحت الرواية إلى جانب وظائفها التخيّليّة والتمثيلية والإيحائية (أداة بحث) بها يمكن استكشاف العالم والتاريخ والإنسان0 لم تعد نصا خاملا يحتاج إلى تنشيط دائم، لقد انطوت على قدرة خاصة حينما وضعت نفسها في خضم التوتّر الثقافي العام،فأصبح العالم بأجمعه موضوعها،بل إنها في كثير من نماذجها قد أصبحت هي موضوعا لنفسها0 ولعل أحد أكثر الموضوعات المثيرة للجدل في أوساط المتخصصين بالدراسات السردية هو: الكيفية التي تتشكّل بها المادة السردية،وطرائق تركيبها،وأساليب السرد، ثم الرؤى والمنظورات التي من خلاها تنبثق كل عناصر البناء الفني،وأخيرا الإحالات التمثيلية للنصوص على مرجعيات من خلال درجات متعددة من مستويات التأويل0 وكل ذلك على غاية من الأهمية0 فالإنسان عن طريق السرد ( التاريخي والديني والسياسي والثقافي ،وأخيراً الأدبي) يشكّل صورة عن نفسه ومجتمعه وتاريخه وقيمه وموقعه ، وعن الآخر وكل ما يتصل به0 إن السرد هو الوسيلة التي يستعين بها الجميع دون استثناء في التعبير عن أنفسهم وعن غيرهم0وكما يورد"إدوارد سعيد"فالأمم ذاتها تتشكّل من"سرديات ومرويات"(1 )0

    نرغب في هذا البحث أن نقف على جانب من ذلك،وبخاصة ما له صلة بالممارسة التي يلجأ إليها الروائي وهو يصوغ رؤيته لعالمه وتاريخه وتطلعاته ورغباته صوغا رمزيا بوساطة السرد، لنبيّن كيف أن السرد له القدرة على التورط الجريء في أشد القضايا إثارة وحساسية ،وكل ذلك يتم على خلفية من البراءة الخادعة التي توهمنا أن الموضوع هو مجرد (رواية)0

    إن التحليل الذي سنقوم به لمجموعة من النصوص الروائية الجديدة سيكشف لنا أن الرواية هي أكبر بكثير من أن تسجن نفسها في مستوى تقني ذي أبعاد محددة0 إنها أكثر الأنواع قدرة على التشظّي في أشكالها وأساليبها وموضوعاتها ودلالاتها، وفي كونها قادرة على تفجير سيل مما سكتت عنه الفنون الأخرى0 لقد تمكنت الرواية من تخطّى حبسة التقليد التي لازمت طفولتها وتجاوزت ذلك إلى نوع لا يطرح نفسه كجملة من النصوص الشفافة التي تعرض لمجموعة من الأحداث التي تشكل حكاية،إنما شغلت بذاتها والعالم الذي تقوم بتمثيله0 أصبحت الرواية أكثر ميلا للانشغال بنفسها وبدرجة لا تقل عن انشغالها بتمثيل العالم0 ويكون السرد الروائي شفافا إذا اختفى السرد وتوارى إلى أقصى حد لصالح الحكاية فتعرض الأحداث نفسها دون أن يشعر المتلقّي بوجود الوسيط السردي، أما حين يشير الراوي كثيرا إلى نفسه بوصفة منتجا للإحداث ومبتكرا للحكاية ، فأن ثمة مسافة تفصل المتلقّي عن العالم الفني الذي يصطنعه السرد فلا يقع اندماج بين المتلقّي والأحداث، ويتمزق الإيهام بواقعية الحكاية،وينشط المتلقّي في المشاركة بإنتاج ذلك العالم المتخيّل0 وفي هذا الأسلوب من السرد يتدخّل الراوي متحدِّثا عن نفسه ودوره ولا يتردد في إبداء شتى الملاحظات حول مهمته السردية ،وذلك هو السرد الكثيف0 وكان سيمور جاتمان قد اصطلح على الضرب الأول بـ( Covert) واصطلح على الثاني بـ(Overt)0 وهذا الموضوع كان أيضا مثار عناية كل من كرستيان إنجلي وجان ايرمان(2)0

    ظهر السرد الكثيف نتيجة للتشقق الذي يشهده السرد التقليدي في الرواية العربية ، والسعي إلى رفع مكانة الاهتمام بكيفيات تركيب المادة الحكائية إلى مستوى يناظر الاهتمام بماهية تلك المادة ، إن لم يتقدم عليها ، وهو ما يلاحظ في نماذج روائية جعلت من السرد الكثيف الذي يطوّق الحكاية ويتغلب عليها وسيلة أساسية من وسائل تشكيل النصوص الروائية0

    لقد اعتاد السرد التقليدي على نوع من الاحتفاء بالحكاية ، وتوقير خصوصيتها ، ومدارة تسلسلها المنطقي الذي يأخذ في الاعتبار التدرج المتتابع وصولاً إلى نهاية تنحل فيها الأزمة ، ويعاد التوازن المفقود ، ويلزمنا التأكيد هنا على أن ذلك السرد قد تولّد وتحددت وظائفه داخل منظومة خاصة من التراسل والتلقّي ،منظومة لها شروطها الثقافية التي فرضت ذائقة تتقبّل ذلك السرد وتتبّناه ، بوصفه وسيلة تعبير تمثيلية عن جملة التصورات والرؤى السائدة ، وكلما تغيّرت الشروط الثقافية استجدّت أنماط من السرد الذي لا يولي اهتماماً بالحكاية حسب ، إنما يولي اهتماماً بنفسه أيضا ، وأحيانا يتغلّب الاهتمام بالسرد على ما سواه من أشياء أخرى 0 يتمركز السرد حول ذاته ، ويصبح داخل النص الروائي موضوعا لنفسه ،فيقوم الرواة بتحليل مستويات السرد ، وطرائق تركيب الحكاية ، ومنظورات الرواة ، والعلاقة بين المادة الواقعية والمادة التخيلية، وأثر النص في المتلقّي ، والصراع الناشب بين الرواة أنفسهم للاستئثار بالاهتمام ، وانتزاع الاعتراف من المتلقّين بأهمية أدوارهم ووظائفهم 0

    كانت الرواية العربية قد أفرزت هذة التقنيات السردية 0 كنوع من التمرد الضمني على النسق التقليدي الذي مثلته تجربة "نجيب محفوظ"-وغيره من الروائيين العرب- التي حافظت في أبرز نماذجها،وبخاصة في المرحلة الواقعية،على ذلك النسق0فقد كانت رواية " نجيب محفوظ "تعنى بحكاية لاتنفصل عن السرد الذي يقوم بتشكيلها،ولاتترك مسافة فاصلة بين الأحداث والوسيلة السردية، ويتوارى الرواة،ويتعمق الوهم بواقعية الحكاية، فيجد المتلقّي نفسه جزءا منها0فيما تنزع الرواية العربية ( الجديدة) في أبرز نماذجها إلى الإفادة من تقنيات السرد الكثيف ، تلك التقنيات التي أشرنا من قبل إلى أنها تنجز وظيفة مزدوجة ، فهي من جهة تلقي الضوء على كيفية انتاج السرد نفسه بما في ذلك وضعية الراوي وموقعه ودوره، وهي من جهة أخرى تعرض تمثيلا سرديا مغايرا لما كان السرد التقليدي يقدمه عن العالم 0فعالمها مهشّم ، متكسّر، مفكّك، تسوده الفوضى ، ويفتقر إلى القيم الوعظية المو########، بل إنه عالم معاد تمثيله طبقا لرؤية رفضية واحتجاجية وهذا الأمر هو الذي يجعل ذلك العالم ممزقا وغير محكوم بنظام0والواقع فما يغيب عنه ليس النظام بإطلاق ، إنما النظام التقليدي الذي أشاعته الرواية التقليدية: رواية ديكنز، وبلزاك، وتولستوي ، قبل أن تعصف بذلك السرد عاصفة التحديث التي أعلنها جويس وبروست وفولكنر وفرجينيا وولف وغيرهم0 وتمثل تجارب : سليم البستاني ،وجورجي زيدان ،نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم،ومحمد عبدالحليم عبدالله ، ويحى حقي ، وغائب طعمه فرمان، وحنا مينه ،وعبد الكريم غلاّب- على سبيل المثال- النموذج الدال على ذلك، فيما يمكن اعتبار جبرا ابراهيم جبرا،والطيب صالح، والمسعدي، وفؤاد التكرلي، وعبد الرحمن منيف ، وصنع الله ابراهيم،وإميل حبيبي، ومؤنس الرزاز، وعبد الخالق الركابي،وبهاء طاهر،وابراهيم الكوني ،والطاهر وطار، وغادة السمان،واحلام مستغانمي،ولطفية الدليمي ،ونوال السعداوي ،وعشرات غيرهم النماذج معبرة عن حركة التجديد السردي بدرجة أو بأخرى0 إن النموذج الأول ظهر في حاضنة ثقافية مشبعة بالقيم المطلقة الصواب، والتي تستند الى نسق منسجم من العلاقات الأجتماعية مع العالم، فيما تشكّل النموذج الثاني وسط عالم شبه متحلّل، يفتقر الى القيم الكلية،وقد ضربه الشك في صميمه، وأقام علاقة نسبية مع العالم ، علاقة نقدية- رفضية توجهها في بعض الأحيان موجهات آيديولوجية لاتوقّر شيئا ،ولاتقدّس قيما،ولاتتعبّد في محراب فكرة0 إلى ذلك فالنموذج الأول هو نتاج تجربة ثقافية محدودة المشارب ولم تُثر فيها أسئلة الشك الكبرى، فيما تشعبّت وتنوعت المصادر الثقافية للنموذج الثاني، وعاشت على الحدود الملتبسة بين عصرين وثقافتين ورؤيتين؛ قصدتُ العالم الممزّق على نفسه، المنشطر ، والمتشقق بين الإرادات والقوى والتطلعات المتعارضة0 وليس من السهل أهمال أثر ذلك في صوغ ذائقة الروائي وموقفه ومنظوره وتقنيات السرد التي يستعين بها0فالرواية في نهاية المطاف ظاهرة ثقافية- أدبية متّصلة بالعالم عبرالتمثيل السردي ،ومنفصلة عنه بالتعبير الذاتي عن المؤلف كمنتج للنص وخالق للعوالم المتخيلة فيه0 بعبارة أخرى تربض الرواية على التخوم الفاصلة بين الفرد والعالم،وتتحرك ذهابا وإيابا بينهما0ولم تعد تقبل مهمة تصوير العالم ومحاكاة خريطته البشرية والتاريخية كما هو، إنما صارت مهمتها إعادة إنتاجه وترتيبه وتمثيل القيم الثقافية فيه على وفق سلسلة من أنساق البناء السردي والأسلوبي التي تنكبّت للأنساق المو########0
    إن الرصد النقدي – التحليلي لواقع الرواية العربية المعاصرة لايمكن له أن يغفل الموجهات الثقافية التي أدت إلى بروز ضروب السرد الكثيف ،وعلاقته بالتمثيل السردي الجديد، بل انه ملزم أن يأخذ باعتباره كل ذلك0 إن تحليل نصوص السرد صار بحاجة ماسة إلى رؤية نقدية تستنطق في الوقت نفسه السياقات الثقافية0 فالتراسل بين النصوص والمرجعيات يتم على وفق ضروب كثيرة ومعقدة من من التواصل والتفاعل، فليس المرجعيات وحدها التي تصوغ الخصائص النوعية للنصوص، بل تقاليد النصوص تؤثر في المرجعيات ، ويظل التفاعل مطّردا وسط منظومة اتصالية شاملة تسهّل أمر التراسل بينهما، بما يحافظ على الأبنية المتناظرة لكل من المرجعيات والنصوص، وغالبا ماتدفع المرجعيات والنصوص على حد سواء بتقاليد خاصة، هي في حقيقتها أنساق وأبنية تترتّب في أطرها العلاقات والأفكار السائدة، وخصائص النصوص وأساليبها وموضوعاتها، وهي انساق وأبنية سرعان ما تتصلّب وترتفع إلى مستوى تجريدي يهيمن على الظواهر الإجتماعية والأدبية فيحصل انفصال بين هذه النماذج التجريدية من الأنساق ودينامية الأفعال الإجتماعية والأدبية فتضيق هذه بتلك، فتقع الأزمة السردية الحقيقية في صلب النوع ، قبل أن يعاد تشكيل العلاقات على فق نسق جديد (3)0 وهذا هو الذي يفسر لنا انهيار النموذج التقليدي وظهور النموذج الجديد0 ومن بين مايلزم على النقد الروائي أن يأخذه بجدية كاملة : عدم الأطمئنان الكلي لكفاءة نموذج تحليلي سردي ثابت ، فالنماذج محكومة بتحوّل دائم، بفعل دينامية العلاقة بين النصوص والمرجعيات،وكل نموذج قار هو نموذج متأزّم في طريقه للإنهيار، لأنه لم يعد قادرا على استيعاب مظاهر التجدد الضمنية الداخلية في النسق السردي،وهو من بعد عاجز عن تفسير تحولات النوع وخصائصه 0 والمدونة السردية التي انتخبناها لتحليل هذه الظاهرة الجديدة في الرواية العربية، وكشف وظائفها، تتكون من ثلاث روايات،لكنّ هذا البحث يندرج في سياق تحليل موسع لهذه الظاهرة سبق لنا ان تتبعنا أبعاداً أخرى لها في عدد من البحوث(*)واكتفينا هنا بالوقوف على مظاهر جديدة0

    2.التداخل النصي وتشكيل المادة الحكائية0



    يمكن اعتبار رواية " النخاس(4) لـ"صلاح الدين بوجاه" إحدى النماذج المتميزة التي يتشكل بناؤها العام من التناوب المستمر بين سرد يأخذ طابع (التأليف) ويؤدي وظيفته ،وسرد يأخذ طابع ( الرواية) ويؤدي وظيفتها التخيليّة الإيهامية0 وفي كثير من الأحيان تتداخل مستويات التأليف بمستويات الرواية، فتتشكّل ( كتلة سردية) شديدة التماسك في عناصرها وبنائها0 وهذه المزاوجة التي يقوم بها الكاتب ، مرةً بوصفه مؤلفا للنص ،ومرةً بوصفه راوية للأحداث، تجري دمجا بين دورين منفصلين لهما وظائفهما:دور المؤلف كمنشئ للنص،ودوره السردي كراوية لأحداثه،و غالبا ما تغيب الحدود بين هاتين الوظيفتين داخل "النخاس"، وهو أمر يضفي – في رأينا- ميزة خاصة.فهي نص سردي يتحوّل إلى نسيج من التداخلات اللانهائية لشذرات ونبذ من نصوص كثيرة لها خصائص قائمة بذاتها، لكن إطار السرد في الرواية يفلح في إعادة إنتاجها كمكونات سردية 0ففي الإهداء الذي يتصدّر الكتاب يوجّه المؤلف ثناءً إلى الشخصية الرئيسة في الرواية" تاج الدين فرحات"، مؤكدا رغبته في إهداء الرواية إليه،واصفا إياه بأنه" ذلك الرجل الذي انبثق بين أناملي يسعى، فكاد يرعبني حضوره"0وهذا تصريح يضع المتلقّي أمام تأكيد مؤدّاه الإعلان عن المنافسة بين المؤلف وشخصية روايته 0وسنلاحظ فيما بعد كيف يتداخلان ببعضهما ! وكيف يكون " تاج الدين فرحات " قناعا لـ"صلاح الدين بوجاه!
    في نهاية الرواية تظهر خاتمة بعنوان " أطراف الكتاب " يقوم فيها المؤلف بدور الراوية،فيقول مشيرا بوضوح قضية الاندماج بين الدورين اللذين أشرنا إليهما " تمّ الفصل الأخير من رواية " النخّاس" لتاج الدين فرحات الكاتب المتلصّص ، الذي تخلّى عن جائزة داورت زمنا،وغنجت وتثنّت دون وقوع". ومن الواضح أن رواية " النخّاس " هنا تُنسب إلى "تاج الدين فرحات " وليس إلى "صلاح الدين بوجاه "0 ومن أجل تعميق الوهم القائم على المفارقة ترد قائمة روايات "صلاح الدين بوجاه" التي نشرها قبل "النخاس" ومخطوطاته منسوبة إلى " تاج الدين فرحات"0و هذا يحدث تبادلا وتداخلا في الأدوار بين المؤلف الحقيقي للنص والشخصية الأساسية فيه 0أن هذا المظهر الفني يجعل العالم التخيّلي المنبثق من تضاعيف السرد يتأرجح بالنسبة للمتلقّي بين مستويين متناوبين: واقعي ووهمي0 وهي لعبة سردية تحرّر الرواية من القيد التخيّلي الصرف وتكسر الوهم به ، حينما تدفع الواقع إلى أفق التخيّل مرة،وتقوم في مرة ثانية بإضفاء بعد واقعي على المكونات التخيلية0 والمناقلة للمادة السردية بين المؤلف والشخصية تحرر بناء النص وأبعاده الدلالية من القيود المو######## للنوع الروائي ، فبها تستبدل نمطا حرّاً من العلاقات السردية تمكّن الشخصية من الحديث عن مؤلفها، والمؤلف من الحديث المباشر عن شخصية روايته دون التباس أو خوف من الانزلاق إلى ما هو بعيد عن عالم الرواية نفسها.

    تكشف هذه الرواية بلا مواربة كيف يتقنّع "صلاح الدين بوجاه" بشخصية "تاج الدين فرحات "،وكيف يتمرأى" تاج الدين" في مرايا "صلاح الدين"0فكل منهما يتوارى خلف الآخر،وتقنّع به،ويجد صورته في مرآته0 وليس التداخل بين المؤلف والراوية في الأدوار والوظائف هو المظهر الوحيد المميز في رواية " النخّاس" ، إنما التداخل بين النصوص بأنواعها ومصادرها ولغاتها المتعدِّدة، فبعض تلك النصوص توجّه انتباه المتلقّي إلى خصائص فنية ، كما هو الأمر في النص الذي يتصدّر الرواية ،وهو منتزع من " الفهرست"لـ"ابن النديم"0وتتأكد أهميته وتأثيره في الرواية حينما يحاول "تاج الدين" تصنيف مخطوطات ترد الإشارة إليها داخل الرواية،فيصطلح عليها" فهارس" مثل: " الفهرس الأول "و " الفهرس الكشّاف"0وما يشاع حول نسبة الثاني إليه، وسرقة الأول من " لورا"0 وبعض تلك النصوص يؤدي وظيفة تعميق قدرة التخيّل وإشباع والوهم عند المتلقّي ، كما هو الأمر بالنسبة لنص مقتبس من كتاب " الإشارات والتنبيهات " لـ "ابن سينا"،وهو نص يتردّد في مفتتح الكتاب وفي خاتمته0 على أن هذه النصوص المعرفية التي تخترق الرواية وتمارس ضغطا على المتلقّي بهدف كسر الوهم الذي يخلقه السرد تهون بازاء نصوص كثيرة أخرى تتخلّل الرواية ، وتعمّق أحاسيس " تاج الدين فرحات" الذي يُدرج في سياق لغته لغاتٍٍ أخرى :الأشعار بالمحكية التونسية والقصائد الفرنسية لرامبو وبودلير وزولا، ومقاطع من الأشعار الإيطالية،ومقاطع سردية لجمال الغيطاني، فضلا عن قصائد عربية مقتبسة من التراث الأدبي ، وكل هذا يأتي جنبا إلى جنب مع نصوص لغوية لابن منظور وابن سينا وغيرهم, وهو كثير جدا(5)0وفي غالب الأحيان لا تعكّر هذه النصوص سياق السرد،ولاتقطّع تسلسل الأحداث ، إنما تُدمج في الإطار العام للنص ، بهدف إغناء الحالة لنفسية للشخصيات ؛فـ"تاج الدين فرحات " الذي يؤدي دور كاتب روائي يوظف تلك النصوص في مواقع تضفي بعداً نفسياً عميقا على الشخصيات ،كما انه يستعين بها للكشف عن تطلّعاته وأحلامه ورغباته،وهي تضيء في بعض الأحيان جانبا من توتراته النفسية0 ومن ذلك محاولته التماهي مع شخصية الشاعر الفرنسي " رامبو" ومحاولة محاكاته ، على اعتبار أنه مثل سلفه رحّالة وكاتب0 ومعروف أن "رامبو" توغّل بعيدا في مجاهل أفريقيا ،وعاد بساق واحدة محمولا على أكتاف العبيد0 فأشعار"رامبو" تضيء وجه المماثلة بين الاثنين،وهذا الضرب من توظيف النصوص يمكن الاصطلاح عليه بـ" التناص الصريح"0 وإلى جواره نوع يمكن الاصطلاح عليه بـ "التناص الخفي" ويمثله بغزارة كبيرة اتصال أسلوب السرد ، ولغة النص بنسق التأليف السردي العربي في ابرز أنواعه كالمقامات والخرافات والسير والأخبار وأدب الرحلات وكتب الفهارس وغير ذلك0

    يصف "تاج الدين فرحات " نفسه بأنه " نخّاس "0والإعلان عن هذه الصفة يستأثر بالاهتمام طوال صفحات الرواية 0وعلى هامش ما يقتبس عن "لسان العرب" يضع " تاج الدين" تعريفا لـ"النخاسة" في هذا العصر،وهي:" الرغبة في ولوج حياة الآخرين والتلصّص عليهم وكشف بواطنهم"0 أما "النخّاس"،فهو: الإنسان المتلوّن الذي يزدوج فيه الظاهر والباطن،والجهر والسر،والخفاء والعلن0 وبعبارته هو:"الرحّالة صاحب السفر الذي لا يستقر على حال، يركب البحر ،ويداور العناصر، ويراوغ الظلمة،ويغوي عرائس البحر،ويهادن القراصنة... حتى ينشب مخالب خياله في الناس والأشياء جميعا"(6)0ومن الواضح أن هذا التعريف مشتق من الدور الذي يقوم به" تاج الدين"كونه محكوما برغبة الاكتشاف والبحث والقلق وعدم الاستقرار والفضول. فالمحفّز السردي في النص هو تداخل الرغبة الذاتية بولع الاكتشاف0 فـ"تاج الدين " يقع منذ البداية ضحية إغواء الجائزة الإيطالية،ويتضاعف حلمه بالحصول عليها،فيغادر بلاده مبحراً على ظهر السفينة" الكابو-بلا ّ" ناحية إيطاليا راغباً في نيل الجائزة، لكنّ فضوله المدمّر في اكتشاف الآخرين وهتك أسرارهم ، والتعرّف سرّا إلى أخص خصوصياتهم ، يفضي به إلى نهاية مختلفة تماما لكل ما كان يرغب فيه0 فلا ينال مبتغاه ، وهو الجائزة/ الحلم 0 وتتعرّض السفينة لعطب يؤدي بها إلى فقدان اتجاه الرحلة ، فتظلّ " تدور حول نفسها، تكاد لا تبرح مكانها...كأنما عُلّقت بين سماء وأرض، تدور حول نفسها مثل لبوه جريحة أهلكت السباع جراءها،وهدم السيل بيتها،ولسع البرد وجهها"(7)0

    تبدو النهاية المأساوية للشخصيات ،وكأنها متصلة بالوباء الذي حمله معه "تاج الدين" إلى السفينة:وباء التلصّص،وكشف الأسرار،وهتك الحُجب، والتوغل بعيداً في عالم الرغبات الممنوعة والمقموعة0وبدل أن تأخذ الأحداث والمصائر الاتجاه الذي ينبغي أن تكون عليه يُحدث وجود" تاج الدين" في المركب الإيطالي خللا في توازن الأشياء، فيؤول كل شيء إلى غير ما كان ينتظر أن يكون: القبطان "غابريلّو كافنيالي" السيد المطاع والمغامر الأفّاق يُلقي بنفسه في اليم وتهرب الشخصيات الأخرى أو تتوارى مختفية في أماكن مجهولة. السفينة التي وُصفت دائما بأنها" المدينة العائمة العجيبة" تتعرّض لعطب مدمّر،وتفقد اتجاهها،ويتعذّر عليها مواصلة الإبحار في مياه المتوسط، بل يتأكد ضياعها ،ويُستباح كل شيء فيها. وحده "تاج الدين" الذي كان يراود جائزة،ويمنّي نفسه بالحصول عليها، يفلت من هذا المصير المهلك، فتُنسج حوله أسطورة اختفاء متميزة0إذ يشاع انه " رُفع من الكابوبلاّ في غروب اليوم الثالث،وان جماعة من أصحاب السّبل قد شاهدوه أسفل جبل المقطّم ، يحمل محفظة مخطوطاته على ظهره يكاد ينوء بحملها" (0لكن شائعة أخرى تؤكد انه لم يُرفع إنما شُبّه للآخرين ذلك. وهكذا فكأن الرغبة المقترنة بحب الاكتشاف لا تؤدّي فقط إلى الحؤول دون أن يحقق " تاج الدين " مبتغاه،إنما تقود إلى تغيير مصائر كل الشخصيات التي التقاها على ظهر المركب0 فاختلال التوازن الذي طرأ على نظام الأحداث، بسبب ظهور "تاج الدين" يظل مستمرا،ولا يعاد التوازن أبدا 0فالنهايات المأساوية للشخصيات والسفينة تعبير عن بقاء ذلك الاختلال قائما بسب الحافز السردي الذي أشرنا إليه،والذي نؤكده مرة أخرى: الرغبة المرضيّة في التلصّص على الآخرين واكتشافهم والتوغل في معرفة خفاياهم0 على أن البعد الدلالي لهذا المحفّز لا يكتسب قيمته الدلالية إلا من خلال التفاعل مع عنصرين فنيين آخرين ، هما :الشخصيات والمكان. والحق ان الشخصيات التي تظهر في الرحلة البحرية، لاينقصها التوتّر والإضطراب،سواء أكان القبطان "غابريلّو كافينالي" الذي جاء من خلفيّة هي مزيج من المقامرة والشعوذة وممارسة السحر،أم ابنته "لورا" المتهتّكة، أم جرجس القبطي وعمله في تهريب الآثار ،أم عبدون الجزائري تاجر العطور،أم الأمير أبو عبدالله القرطبي، أم القوادة شريفة الزواغي،أم لولا الراقصة،وغيرها. وهي جميعا شخصيات لها انتماءات ثقافية وعرقية مختلفة، لكن تجمعها الرغبة المتأجّجة في إحياء حفلات الليل الماجنة0 وهنا يدخل المكان الذي يحتضن الشخصيات وأفعالها،والمكان هو السفينة " الكابو-بلاّ"، إنه مكان مضطرب يعجّ بالدسائس والمغامرات الغامضة والعلاقات الخطيرة، ويعجّ بالاضطرب لأن أمواج البحر تتقاذفه في رحلة قلقة تقع في نهاية الخريف ومقدم الشتاء حيث اصطخاب الموج وسط الظلمة ، والريح التي تعصف بكل شيء0ومن الواضح أن السرد يحقق تناغما فريداً بين الإضطراب والقلق اللذين يلازمان الشخصيات والسفينة في بحر هائج0فالمكان هو الملاذ هنا0 إنه يشحن الشخصيات بقلق مضاعف إلى درجة تصبح فيها رهينة البحر بكل عنفوانه0 وبخاصة بعد أن تحيط جموع القرش والدلفين والحيتان السفينة في رقصة مجنونة،فـ"ترتطم بالمركب في كرّ وفرّ، تقبل لتُدبر من جديد قبل أن تدور حول ذاتها وترسل صراخها الحاد في الفضاء المتخثّر، أما طيور النوء فأسراب شرسة تلمّ بالحفل ثم تفلت في مثل مروق اللولب، فتكاد تعصف برؤوس المتراصّين لصق السياج المعدني البارد"(9)0ولعلّ تفاعل عناصر السرد هذه جميعها من أحداث وشخصيات وخلفيّات مكانية وزمانية قد عُبّر عنها بلغة مكثّفة،مختزلة، قصيرة الجمل، تتميز بالاحكام أكثر من الأوصاف،ويشيع فيها أسلوب العطف الذي يراكم جزئيات من الوقائع بعضها فوق بعض ليتشكّل منها متن الرواية،فكأن التعبير اللغوي هو نفسه كان صدى لذلك العالم المضطرب. وهذه الإشارة تُلزمنا القول: إن اللغة المكثّفة القطعيّة التي تتجنّب صيغ الإطناب والإسترسال ،وبها تستبدل الإيجاز ، وأحيانا المباشرة، باعتمادها على معرفة الأشياء وتقريرها، أكثر من الإيحاء بها، جعلت الرواية حقلاً لممارسة شتّى أنواع التجريب، سواء أكان تجريبا أسلوبيا كما يمثله الانتقاء اللغوي للألفاظ الكتابية المتحدّرة من ذخيرة أساليب النثر العربي القديم أم تجريبا شكليا كما يتجلّى من خلال توظيف طرائق تاليف الفهارس وكتب الرحلات والسرود التاريخية والجغرافية التي برزت في الكتابة النثرية العربية خلال العصر الوسيط0ودمج كل ذلك بأساليب الرواية الحديثة وأبنيتها، أتاح الخروج على نسق السرد التقليدي الشائع في الرواية ،وعدم الانصياع للبناء المتتابع الذي يعتبر أحد أكثر الابنية انتشارا في الكتابة الروائية العربية،وقد حل بدل ذلك سياق سردي مغاير اتصف بكثرة تقنيات الإسترجاع والإستحضار،وحالات القطع، والعودة الى الوراء، وإدراج حكايات ثانوية في سياق الحدث الرئيس، وأحيانا ادراج فقرات كاملة لاتسهم في عملية تنمية الحدث، إنما تغني الحالة النفسية للشخصيات0ومن الصعب فنيا تجاهل أهمية كل هذا أو إنكاره.

    لا يخضع بناء الرواية لنسق متسلسل باستثناء الإطار العام للحدث ،وهو الذي يصوّر الأيام الثلاثة التي تستغرقها الرحلة في البحر، قبل انفراط عقد الوقائع المكوّنة للحدث، وضلال المركب، واختفاء الشخصيات 0فتداخل الوقائع فيما بينهما ،وفّر إمكانية لإضاءة خلفيّات الشخصيات وتواريخها الذاتية ، وكشف عن منظوراها السر دية ، وحدّد زوايا نظرها ومواقعها وعلاقتها بالنسبة للعناصر الأخرى في النص 0 ولعبت مستويات السرد المتعددة دوراً بالغ الأهمية في تنظيم البناء العام للرواية 0 وعلى العموم ، هنالك ثلاثة مستويات متراكبة ، تنبثق من ثلاث رؤى تحتكر السيطرة على العالم الفني في هذا النص ، وتتدخّل في تشكيله : المستوى الأول يتصل براو خارجي عليم ،وضليع في معرفته الشاملة بكل شيء ، تُنظّم رؤيته الموضوعية غير المباشرة كل العناصر السردية ، بما فيها الشخصيات والأفعال والخلفيات الزمنية والمكانية 0 ومن عمق هذا المستوى الأول تظهر رؤية الكاتب " تاج الدين " التي تمثل المستوى الثاني ، وهي رؤية ذاتية مباشرة تمثّل درجة مشاركة هذهِِ الشخصية بالأحداث ، وتعبر عن رؤيتها لعالمها ولعوالم الشخصيات الأخرى ، وتحدد الموقف الفكري لـ" تاج الدين" وترسم تاريخه الشخصي ، وتصوغ أحكامه وأفعاله بوصفه نخّاساً بالمعنى الذي يظهر في النص 0 ومن وسط هذين المستوين السردين تتفتح رؤى سردية أخرى تتصل بشخصيات ثانوية وتضيء عالم هذهِ الشخصيات أو عوالم الشخصيات الأخرى ، كما يظهر ذلك فيما ترويه " لولا " البربرية عن نفسها وأسرتها وعن نشأة "غابريلو " وتربيته الذاتية ، وفيما يرويه "جرجس " القبطي عن الأمير أبى عبد الله ، وفيما يرويه كل من " عبدون "الجزائري و " جرجس " عن " لورا "وهي تغوي الآخرين ، وتدعوهم إلى رحلة زوارق شراعية ليلية في البحـر 0 والمستوى الأخير بكل تنوعانه يخدم الإشارات والأفعال الصغيرة التي تغذّي الحدث بدلالته العامة 0 على أن هذهِ المستويات السردية الثلاثة المقترنة بالرؤى التي ذكرناها ، والتي تتدخّل في كل التفاصيل ، سواء أكانت حصلت في الماضي أم حصلت في وقت الرحلة البحرية ، هي التي عمّقت البعد الدلالي للنص ، ودفعت بذلك البعد من مستواه الظاهري المباشر إلى دلالته الرمزية غير المباشرة .

    يتشكّل البعد الدلالي للرواية من جملة من العناصر، في مقدمتها: تفاعل الشخصيات والأحداث في فضاء محدد، ثم الحدث و هو الرحلة غير المكتملة لكاتب يطمح في نيل جائزة أدبية، والنظام الدلالي يقبع تحت هذا السطح، ويحتاج إلى تعويم يتصل بقضية مهمة ، قصدتُ قضية "الأنا"و"الآخر" 0وهي إحدى الإشكاليات الأكثر تعقيداً وإثارة في عصرنا 0وما أن نزيح جانبا المظهر المباشر والخدّاع الذي يغلّف ظاهر الحدث إلا وتتكشّف القضية كاملة، وهي لبّ النظام الدلالي للنص0 وقد جاء تمثيلها سرديا بالتصريح مرة وبالتلميح مرات.فالرحلة القلقة للمركب في بحر هائج متنازع حول انتمائه الثقافي، وعلى ظهره خليط من الشخصيات المتحدّرة من أصول ثقافية وعرقية ودينية مختلفة،وتمارس مهنا متعددة،وتشتبك في صراعات متعددة المستويات ، لايمكن بالنسبة لنا اعتبارها إلا رحلة رمزية ضمن بنية ثقافية مُشبعة بكثير من المعاني المتّصلة بقضية الأنا/ الآخر. وقبل أن نمضي في بحث هذا الموضوع يحسن بنا أن نورد هذه الفقرة الدالة التي تصوّر موقف " تاج الدين فرحات" ممّا يراه،وهي إلى ذلك تكشف جانبا من رؤيته لعصره وبلده ،وتفجّر القضية التي أشرنا إليها:" كان قد جاب البلاد طولا وعرضا،فعرف الطرق الكبرى والدروب المتربة الخفيّة ، رأى الناس والأشجار والعشب والمطر والوهم،وفهم أن هذه البقعة من الأرض تغيّر ثوبها وتولد نيرانها في مهد رمادها القديم. نهاية هذه الألف الثانية عجيبة ،فالمصانع قليل دخانها،وباهت لونها، والأزمات جمّة هائلة،لكنّ الأمر قد بلغ الأوج ،أو يكاد، فالعيون أكثر ثباتا وقد وتّرها التحدي ! أفريقيا هنالك في الجنوب ، وأوربا قريبة مُولّدة طاغية،والتاريخ والحضارة، بخيرهما وشرّهما حاضران ، مادة أولى طيّعة أو صلبة، حسب الفصول والأوقات، مادة أولى للحضارة والأمل والإخفاق والموت والحياة داخل حقل صغير، حقل من الوهم والخير والشر اسمه تونس (10)0 ولمثل هذه الإشارة مرادفات كثيرة ترد على لسان " تاج الدين" أو تُفهم في سياق السرد على أنها تمثّل وجهة نظره 0فانتماؤه الثقافي مزيج اشتركت فيه أطراف عدّة،ووعيه الذاتي ،وهويته متعددة الأبعاد وقد تشكّلت من مصادر ومرجعيات كثيرة،وخصوصيته الثقافية المتكوّنة من كل تلك العناصر لا توظّف من أجل تخطّي التعارضات بينه والقبطان " غابريلو كافينالي" لأن " تاج الدين " يريد أن يكون المحور المركزي لكل شيء0 وهذه الإشارة تؤكد أن الشبكة الدلالية للنص يتنازعها قطبان رمزيان :الأول "تاج الدين" التونسي العربي الأفريقي،والثاني "غ.كافينالي" الإيطالي الأوربي الغربي 0 وهذان القطبان الدلاليان يجذبان الشخصيات الأخرى حولهما تبعا لهوية كل منهما الثقافية 0وعملية الاستقطاب هذه لها أهمية بالغة لأنها تحد نوع الانتماء الثقافي ودرجته،ولها نتيجة أبلغ من ذلك ،لأنها تكشف مأزق الشخصيات ذات الانتماء المزدوج التي تظهر مشوّهة الهوية، إلى درجة لم تستقرّ بعد أسماؤها الشخصية على شكل محدد0 لقد ضربها التهجين في الصميم ،ولم تفلح في تشكيل وضعية خاصة بها،وعاشت وهم النقص الدائم ،ولم تدرك بعد أن الوهم الحقيقي هو وهم الهوية الكاملة.

    يظهر "تاج الدين" بوصفه قطبا دلاليا يمثل "الأنا" بالمعنى الثقافي،ويظهر "غ.كافينالي" باعتباره يمثل"الآخر"0 وبينهما تتردد انتماءات الآخرين،ومن اصطراعهما المعلن أو الضمني يتولّد المعنى الرمزي العام للنص. ولكن ما الكيفية التي يظهر بها كل منهما؟ وما دلالة ذلك؟ وما أهميته؟

    تنبثق شخصية"تاج الدين" وهي مكتملة ،فكل تجاربها تبلورت قبل بدء الحدث، حدث الرحلة،ويمكن وصف هذه الشخصية بأنها منقّاة،ومنتخبة ومصاغة على درجة عالية من الخصوصية والتميّز، إذ يشار إلى أنها مثقفة ولها تطلّعات،و"تاج الدين" روائي ،وباحث عن الحقيقة،ومحكوم برغبة جوانيّة لهتك الأسرار،وفضح ما تنطوي عليه من خبايا،تلقّى تربية ذاتية في مكان محدد(= القيروان ،وهي في الوقت نفسه مسقط رأس المؤلف ) واكتسب تجاربه الذهنية المتنوعة في هذا المكان، وباستثناء الفضول والتلصّص فان المتلقّي يتقّبل "تاج الدين" بوصفه شخصية إيجابية،ولعل المقطع الآتي يوضح كيف نُسج هذا الجانب من الشخصية" كان إحساسه بالكتب إحساسا عنيفا ، حيث يخترق أريجها الحاد أنفه فيملأ ذهنه حيرة وشوقا ورغبة في النفاذ، لذلك لبث حبّ المعرفة بالنسبة إليه مروقا شبقا من المتاح إلى الممكن . ثم أضحت الكتابة بعد ذلك بديلا مباشراً لنهم التقبّل"(11) 0أما شخصية "غابريلو" فتركّب لها منذ البدء صورة مشوّهة، ففضلا عن خلفياته التشرّدية كونه نشأ في ظروف الحرب العالمية إثر مقتل أبيه في انفجار،فان حياته الباريسية تٌقدَّم على أنها سلسلة من الأعمال الشائنة0 فقد التحق بمعهد " خاص يؤمّه البحارة والأفّاكون للحصول على وثائق مشبوهة" وتلقّى بعد ذلك" فنون العرافة والسحر الأسود،والدموي الأحمر، والأبيض الترابي، ومتعدد الألوان الشيطاني! وقد أمضى شطراً من حياته في كوخ قديم في أقاصي جبال البيرني الإسبانية ، فامتزجت لديه المعتقدات الشرقية بالتراث الشاماني الغلوازي 0 أضحى من أعلام العرّافين والمشعوذين المراودين في أحياء باريس القديمة" وتنسب إليه وصفة "عجائن الفتنة" وهو خليط من المخدّر الممزوج بالدم البشري، فكان بعد تجربة طويلة من التمرّس بالاحتيال والشعوذة" يجيد الانقضاض على فريسته نظير أحد طيور"الساف المروّضة"0 وبعد سنين من هذه الأعمال البشعة وأمثالها يلتحق بمدرسة بحرية تمنح " وثائق مشبوهة" ،وبطرق غامضة ومشبوهة يقود مركبا مالطيا،وذلك قبل أن يتفاجأ به بحارة" الكابو-بلاّ" هاتفا وسطهم" أنا القائد... صاحب الأمر والنهي منذ هذه اللحظة"0 ولا يلبث أن يكون مركبه ملاذا للمجرمين والمهربين ،والمكان المفضّل لمداهمة رجال الشرطة(12)0وينتهي به الأمر منتحرا في خضّم البحر المتوسط بعد أن تغلّب عليه "تاج الدين" في لعبة شطرنج،اللعبة الرمزية العريقة للقوة0

    هاتان الصورتان الخاصتان بالشخصيتين الرئيستين في رواية " النخّاس"، يصار كثيرا إلى التخفيف من درجة التعارض بينهما، لكن الصراع الداخلي المحتدم في كل منهما يقود إلى مواجهة دائمة تؤدي إلى منازلة رمزية تمثّل ذروه ذلك الصراع0 وقد كان كل منهما " يتوجّس خيفة من الآخر". ورسمُ صورة تفضيلية لـ"تاج الدين" وصورة مشوّهة لـ" غابريلو" يرجع إلى الآثار العميقة للثقافة السائدة التي تتخلّل آليات التمثيل السردي،فتختزل"الأنا"و"الآخر" إلى أنماط ثابتة تقوم إما على إقصاء صفات معينة أو الاستحواذ على أخرى0 هذا فضلا عن شُحن الغلواء التي تتسرب لتحيط بـ"غابريلو" وتنتج له صورة لاشك أنها اكراهية0 فالرؤية السردية تتدخّل في إسقاط السمات المستكرهة عليه ، وتضعه خصما " شريرا" للشخصية الإيجابية المضادة0 وفيما تتشكّل شخصية"تاج الدين" بوساطة رؤية سردية موضوعية يقوم بها راوٍ عليم، أو رؤية ذاتية خاصة به باعتباره راوية وبطلا وبؤرة للحدث في العالم المتخيّل الذي يكوّنه السرد فان شخصية "غابريلو" تتشكّل على العكس من جملة من الرؤى التي تصدر عن شخصيات لا تربطها علاقة سوية به ، مثل الراقصة" لولا"وهي شخصية ثانوية ، على خلاف معه ، وتُقدِّم روايتَها عنه وهي في أحضان "تاج الدين" الذي لاذ بها " ينشد رائحة شعرها وأذنيها وطعم ريقها ومرارة إبطيها الفائحين عطرا ودفئا لطيفا رائقا"(14)0 وطبقا لأهمية التراتب في الرؤية السردية التي تحددها درجة حضور الراوي فإن " تاج الدين" بُنِيَ من رؤية كلية وشاملة، فيما بُنِيَ "غابريلو" من رؤية سردية جزئية وثانوية، وفيما مُنِح الأول هيمنة مطلقة في سياق السرد، اُختزِل الثاني إلى نمط جاهز لكي يؤدّي فقط وظيفة التعارض الدلالي0 وفي الوقت الذي أُضفيت فيه سمات عقلية وروحية وفكرية وثقافية على" تاج الدين" انفرد خصمه بالشعوذة والفسوق والشُبهة وسوء السيرة،وفيما كُثِّف حضور الأول، تقلّص حضور الثاني0 وفي كل هذا يستجيب التمثيل السردي لموجِّهات ثقافية خارجية تُنظّم آلية عمل السرد0 والجدير ذكره في هذا المقام أن "إدوارد سعيد" كان قد أكد على أن الروائيين منبثقون إلى حدٍ من تاريخ مجتمعاتهم ، وهم يشكّلون ذلك التاريخ ويتشكّلون به،ويتصلون بتجاربهم الاجتماعية بدرجات متفاوتة ، وأن الثقافة وكل أشكال التعبير الجمالي تشتق من التجربة التاريخية لتلك المجتمعات (14)0 لم تتنكّب الرواية العربية عن هذه المهمة ، ففي كثير من نماذجها مثّلتْ سرديا العلاقة بين الأنا والآخر0

    تتصل بكل من "تاج الدين "و " غابريلو " شخصيات أخرى , ولكن النسق الدلالي للنص ، يُسقط بعض المعاني الخاصة على الوظائف والأدوار التي تؤديها تلك الشخصيات 0 وبين فئة الشخصيات التي تغذّي القطب الدلالي الذي تمثله شخصية " تاج الدين " وتلك التي تغدّي القطب الدلالي الذي يمثله " غابريلو " ثمة شخصيات " وسيطة " ، مهجنّة . تعيش أزمة متوترة من الانتماء تجاه هذا القطب أو ذاك ، وأقصد تحديداً ، شخصية " جرجس القبطي " الذي يتذبذب حضوره ووضعه إلى درجة لا يستقر فيه حتى البناء الصرفي لاسمه الشخصي : جرجس ، جرجير , غرغير ، قرقير , وشخصية " لولا" البربرية التي لا دور لها إلا إطفاء الشهوات : ليلى ، ليليا ، ليليان ، لؤلؤة ، لولا . وربط هاتين الشخصيتين بخلفيات عرقية ودينية ، فضلاٍ عن العلاقات الغامضة والمثيرة بشخصيات تنتمي إلى " الآخر " ، كما في حالة " لولا " وعلاقتها بـ" غابريلو " و "جرجس " وعلاقته بمهرب الآثار اليوناني العجوز ، توحي بأن الثقافة السائدة مازالت تمارس تأثيرا جارفا في سطوته فيما يخص تقويم الانتماءات الثقافية للأقليات وسـط فضاء ثقافة العموم0 فهذه الشخصيات متصلة بعلاقات سرية ومشبوهة بـ" الآخر " وهي من جهة ثانية "دونية " ، لم تستكمل أوصافها وأدوارها ، وتعيش هواجس التردّد والخوف ، ولم تُدرج بعد ضمن وضعية ثابتة ، بما في ذلك حق التسمية الشخصية ، إذ تُعرف بخلفياتها وانتماءاتها الذاتية ، ومازالت تعيش مأزق عدم الاستقرار وفي مقدمة ذلك هوية الاسم .

    تؤدي هذه التعارضات الدلالية إلى نهاية يدفع الجميع ثمنها،ألا وهي ضياع السفينة" الكابو-بلا" في بحر هائج شرس 0 فالتعلّق بوهم الانتماء الخالص،والصفاء المطلق ،والخصوصية الضيقة لا يقود إلى الحوار والتفاعل، إنما إلى السجال وثم التناقض0 ومن المؤكد أن المؤلف قد صنع للشخصيات في روايته عالما يمور بالقلق والحركة والاختيارات الصعبة،ورمى بها فيه،ولهذا فالسفينة لن تصل إلى أي شاطئ ، فادّعاء التناقض والتعلّق به سيؤدي لا محالة إلى تقويض كل شئ0 ويظهر أن "تاج الدين" نفسه ،مع وعيه الجزئي بهذه القضية، قد أسهم في تعميقها ،فهو لم ينجح في تفريغ شُحن الغلواء ، وكان يقرّ بثنائية تقوم على التفاضل "أفريقيا هنالك في الجنوب"و"أوربا قريبة مولّدة وطاغية" 0والى أفريقيا النائية يُنسب التاريخ ، وإلى أوربا القريبة تنسب الحضارة ، وكأن " تونس " تنتمي إلى عالم وتتطلّع إلى آخر 0وبمعنى من المعاني فالتاريخ انتماء إلى الماضي،والحضارة انتماء إلى الحاضر.وبينهما تتأسس منطقة شاسعة لا يوجد فيها سوى الحيرة ، الحيرة التي تقود إلى الهلاك 0فإشكالية الانتماء الثقافي أعقد من تُحلّ برمز،لكن السرد ينجح تماما في تمثيلها0 وفي نهاية المطاف لا يصل أحد من ركّاب السفينة إلى مقصده ، فالتوتّر في قضية الانتماء يقود إلى نتيجة واحدة هي دائما الفناء0 وهذا الالتباس مع الآخر الذي تدفعه موجهات ثقافية ،كما اقتربنا إليه في رواية " النخّاس" له نظائر كثيرة في الرواية العربية منذ " علم الدين"لـ" علي مبارك" و"حديث عيسى بن هشام"لـ"المويلحي"و" عصفور من الشرق"لـ"توفيق الحكيم" و"قنديل أم هاشم"لـ"يحى حقي" وصولا إلى" الحي اللاتيني"لـ"سهيل إدريس"و"موسم الهجرة إلى الشمال"لـ" الطيب صالح"و"بالأمس حلمت بك" لـ"بهاء طاهر ،وغير ذلك كثير جدا0 ولكن الأمر الذي نريد أن نتوسّع فيه هنا هو كيف يقوم التمثيل السردي ذي الكثافة العالية بإنتاج الذات في صراعها مع نفسها ومع الآخر ضمن تاريخ ثقافي واحد؟وكيف تنشطر الذات بين تصورين ورؤيتين في إطار ثقافة واحدة؟ذلك ما نحاول الاقتراب إليه في الفقرة الآتية0


                  

العنوان الكاتب Date
الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 05:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-07-05, 06:04 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-08-05, 08:25 AM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nassar elhaj05-09-05, 05:25 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-09-05, 08:41 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-09-05, 01:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 06:32 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-09-05, 09:38 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية nada ali05-10-05, 03:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 04:58 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-10-05, 05:03 PM
    Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية عبد الحميد البرنس05-10-05, 07:59 PM
      Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Tumadir05-10-05, 08:13 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 10:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-11-05, 01:09 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:01 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:14 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:28 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:30 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:32 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:35 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-12-05, 11:37 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-14-05, 07:29 AM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-15-05, 07:12 PM
  Re: الحقيقة الابداعية للتجربة الروائية Sabri Elshareef05-19-05, 03:35 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de