|
شوقي بدري: الخاتم وخزى الانقاذ! المحيّر أن تسرق حكومة أو دولة جثمان شخص !
|
العقود الستة التى عشتها على ظهر هذا الكوكب تخللتها بعض الأحزان أغلبها فقد قريب أو حبيب أو رفيق أو زميل درب . ونحن فى مدرسة بيت الأمانة الأولية اختطف الموت زميلنا كامل من أولاد حى الرباطاب . كان سريعا فى الجرى ولعب الكرة وحتى فى كلامه . ولكن سرعة اللورى الذى دهسه كانت أسرع من سرعته . وأتت جدته آمنة الحمرا ومسحت ما تبقى من مخه من حديد اللورى .
وفى 1963 أتى صديقى كريل ( النقّاش ) من القيقر لتحية أهله فى العباسية وفريق تقلى وترجع جذورهم الى جبال النوبة , واسمه محمد فضل تيّه. وفى الطريق الى القيقر مات فى الباخرة المحلى . كريل كان يعرف أنه سيموت . فلقد كان ظهره العريض القوى مليئا برصاص رش ( خرطوش ) . فعندما كان يهز فى سيرة فى القيقر كان ابن التاجر القبطى سويرس يطلق الرصاص . ولأنه كان مخمورا فلقد قطعت القذيفة يد الأخ المسّاح واستقر قدر كبيرمنها فى ظهر كريل , وعاش بضعة سنين ثم انتقل الى ربه وهو فى العشرين من عمره , تاركا لى ذكرى عطرة . فلقد كان خير صديق ضمّتنا العباسية وأمدرمان فى فترة بداية الشباب .
قبل مدة قصيرة سمعت خبر موت الفنان التشكيلى حسين شريف الذى صمّم غلاف كتابى حكاوى أمدرمان . ثم كان خبر موت دكتور أمين النور الذى جلس معى فى نفس الفصل الدراسى فى الأحفاد الثانوية فتألمت وبكيت عليهم وعلى نفسى بسبب غربتنا وتشتنا وتشردنا .
وأتانى خبر وفاة ( عابدين ) كما كنا نعرفه فى فترة الطفولة , وكما تناديه والدته نفيسة وشقيقه النور وكنا جيرانا فى حى الملازمين . ثم انتقلنا للسكن فى منزلهم عندما غادر العم محمد أحمد عبدالقادر أمدرمان ليكون ناظرا لمدرسة خور طقت الثانوية . ولم ألتقى بعابدين منذ فترة الطفولة . وتفاديت مقابلته فى أيام حكم نميرى لأنه كان يمثل السلطة . ونحن والدكتاتوريات لا نلتقى . وكنت أمنّى نفسى بمقابلته لنعيد ذكرى الطفولة , وها هو قد ذهب ويؤلمنى ذهابه فهو جزء من طفولتى .
هؤلاء الناس عرفتهم وتداخلت معهم وكانوا جزءا من حياتى . ولكن لم أقابل الخاتم . وبالرغم من هذا لم يحدث فى حياتى أن أحسست بأثر خبر موت مثل خبر وفاة الخاتم عدلان . ولأول مرة فى حياتى أحس وكأنما رفسنى فرس لوقع الخبر . وكدت أن أمد يدى وأمسك ذلك الأثر وأهزه وأتطلع فى عينيه . وربما لأننى كنت مقتنعا بأننى سأقابل الخاتم وأحاوره وأجادله . وربما لأننى كنت أحس أنه حتى الموت لا يقدر على أمثال الخاتم .
لم أكن أحسب أننى يمكن أن أتألم لموت انسان لم أقابله بهذه الطريقة . والخاتم كان دائما قريبا منى . كان قريبا لشقيقى الشنقيطى . وكما ذكر هو فى ردّه على بعض بوستاتى انه يعرف أهلى كثيرا . فلقد سكن وسطهم أيام اختفائه . كما كان( فردة) صلاح العالم . وآل العالم سكنوا فى شارع البوستة على بعد خطوات من منازلنا . وكنت أسمع أخبار الخاتم من الكثيرين . وسعدت وأمتلأت فخرا عندما عرفت أن البروفيسور الانجليزى الذى أشرف على شهادة الدكتوراة قد ذهل لالمام الخاتم بالفلسفة والمنطق والتاريخ وسعة ادراكه ومعرفته .
ولكن الشيىء المحيّر أن تسرق حكومة أو دولة جثمان شخص أو مواطن وتحرم الآلاف من تكريمه بالطريقة التى يرونها لائقة . فالخاتم قبل كل شيىء شخصية عامة , ولا أفهم كيف يجد أى انسان الشجاعة أو المقدرة أن يدافع عن هذه الحكومة .
الدولة من المفروض أن تحمى المواطن , وتسهل أمور معيشته من مأكل ومشرب وتعليم وعلاج . هذه الحكومة منذ أن أطلت بوجهها الكريه عملت العكس . لقد ملؤوا السجون والمعتقلات حتى كادوا أن يجعلوا المعتقلات وردّيات . وأتوا ببشر فقط لتشابه الاسم . وذهبوا للقبض على مواطنين بلست قديمة ليكتشفوا أن المواطن قد قضى نحبه منذ زمن .
اذا لم تكن هذه الحكومة بشعة . لماذا يختفى كرام المواطنين ؟ لماذا يسجن الشرفاء ويترك اللصوص لكى ينهبوا ويتبخطروا فى الشوارع ؟ . لقد ملؤوا السجون بمواطنين لا دخل لهم بالسياسة فقط لأن عندهم وكالات من شركات أجنبية مجزية . ولهذا قلت فى موضوع نشر فى بداية الانقاذ ( الحكومة دى مركب على الله , لا مقداف ولا دفّة . تجبد العيشة وتخلّى البروسة ) .
ألاستاذ مكى عبدالقادر بعوده الرفيع وعقله وقلبه الكبير . لماذا مات مختفيا فى بلده وهو رجل شريف , لم يجرم ولم يسرق ؟ . وهنالك الآلاف . وحتى اذا وجد أى انسان تبريرا لفعل الحكومة الآن بخصوص جثمان الخاتم , كيف يمكن أن يدافع أى انسان عاقل عن اقتحام الأمن مأتم آل زاهر سرور السادات . ويشيرون الى جثمان أنور زاهر الذى مات مختفيا ويقولون ( وده كان وين ؟ ) بدون أى احترام لحرمة الميت . وشعور أسرة من أعظم الأسر السودانية أخرجت أعظم الرجال والنساء للسودان . رب هذه الأسرة كان أول من دعا للجهاد . وقاد الجنود السودانيين فى معارك فلطسين , وأدخل الذعر والخوف فى قلوب الأعداء . وخلق أسطورة الجندى السودانى الذى لا يخاف و لا يخشى الموت .
ولقد جرح العم زاهر سرور وأسر . وكان ممثل اسرائيل يتطرق لاشتطات السودانيين فى القتال ويذكر العم زاهر بالاسم . وهذه الأسرة قدمت الدكتورة خالدة زاهر أول طبيبة سودانية . والكثير من المناضلات والمناضلين , أحدهم الكاتب الأستاذ هلال زاهر , والأخ أمير زاهر الموجود الآن فى أمريكا .
أنور رحمة الله عليه كان لطيفا رقيقا مؤدبا يمتاز بصبر الأنبياء . وكان صهره عبدالخالق محجوب وقيادة الحزب الشيوعى يوكلون اليه المهام التى تحتاج الى صبر وطول بال وتقبل الآخر . لأنه لا يهاتر ولا يسىء حتى اذا أسيىء اليه .
ويحكى فى سجن كوبر أن أحد السجناء الأميين أعيى الجميع وصنّف بأنه لا يمكن تعليمه . فقرر أنه لن يستطيع تعليمه الا أنور . وبعد شهور من الاجتهاد طلب أنور بصبره المعروف من السجين أن يدخل كلمة غرد فى جملة . فقال السجين( غرد الثعلب) . فألقى أنور الطبشيرة , فقال الجميع ( الغلب أنور ده ما حيتعلم ) .
أنور على ما أذكر من مواليد 1930 . وكان زميلا لابن عمتى الطيب ميرغنى شكّاك فى مدارس الأحفاد الأولية . وهذا يعنى أنه عند وفاته كان فى الستين . رجل كامل الأخلاق ليس بشاب متهور أو نزق . هل كان يمارس الاختفاء فى وطنه كلعــبة ( استقماءة ) طويلة المدى ؟ . لقد سجن وأهين وطورد بدون جرم . من الذى سيدفع الفاتورة ؟ .
رجال بهذه المواصفات لماذا يجبروا أن يموتوا بعيدا عن أحبائهم وأهلهم وذويهم وأبنائهم وأحفادهم ؟ . لماذ يموت أنور فى أجزخانة منصور اسحق ؟ . ولماذا يحرم من العلاج والعناية والرعاية والحب والود ؟ . أمثال أنور كان من الواجب أن تقام لهم التماثيل .
وستكون هنالك فى يوم من الأيام شوارع ومؤسسات وقاعات ومدراس ومكتبات تحمل أسماء هؤلاء الرجال رضيت الانقاذ أم أبت . ولهذا نقول بملىء فمنا نحن ضد الانقاذ , ونحن مع قرارات مجلس الأمن , لأن هؤلاء البشر أشرار . التحية .
شـــوقى
source http://www.sudaniyat.net/forum/viewtopic.php?t=1340
|
|
|
|
|
|