|
حمى الرواية - مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني .. هاشم ميرغني
|
حمي الرواية
مقاربة أولى للمشهد الروائي السوداني
بقلم : د. هاشم ميرغني
فجأة انتابت حمى الرواية الجميع: الشعراء الذين لم يكتبوا حرفاً في النثر، العشاق الذين انتظروا على ارصفة الصبر قرونا وهم يضبطون ساعات معاصمهم، البحارة الاشداء الذين لم يروا سوى صورتهم في المياه، موظفي الخدمة المدنية الذين افنوا زهرة شبابهم ولم يتبق في ايديهم سوى حبر الحنين، المهاجرين الممروضين بنوستالجيا العظام، المطاليق، طلاب الثانويات المداهمين برعب الحب الأول.....
لا بصيص رغبة في المبالغة، ولكن هذا هو الحال: الاصدقاء جميعاً يكتبون الرواية.
ايضا لا وصاية على قلم احد في خدشه الاعمى لبراءة البياض، ولكن اية كتابة لا تضيف جديداً، لا تنزاح عن السائد وما تمت كتابته آلاف المرات لا تلبث ان تؤول الى هناك: قبو النسيان.
قبل عقود طويلة، قبل اكثر من سبعين عاماً، في 22 اكتوبر 1934 كتب معاوية محمد نور ذلك الحاضر الغائب «1909 ـ 1941م» مقاله العلامة «اصدقائي الشعراء هذا لا يجدي»، وفيه تحدث عن الشعراء ـ الشعراء الذين يعود كل منهم من رحلته الشعرية» وحقيبة وعيه ملأى بالاحاسيس المختلفة، ملأى بالثعابين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه اشد فترات الحرب تمزيقاً للاجسام والارواح، وبالذهول الذي يسمو الى طبقات السماء، وبالسحر الذي يري «القمر في امسية حب اشبه ببالون يلعب به الاطفال»، ثم كانت مطالبته الحازمة للشاعر: «نطلب منه اذا لم يكن لديه ما يؤلم ويحير، ويسعد ويشقي، ان يريحنا ففي الحياة من التفاهات اليومية ما يجعلها عسيرة الاحتمال فليس بنا ثمة حاجة ان نقرأها في عالم الحبر والورق».
ويبدو اننا بعد هذه العقود الطويلة مضطرين ان نذكر كتاب الرواية في السودان بهذه الاسطر المضيئة لمعاوية محمد نور، فمنذ بداية التسعينيات انهمر سيل من الروايات السودانية عبر دور النشر التي انفتح بابها واسعاً دون اي معايير نقدية.
لقد انجلت اشكالية النشر التي كانت قائمة حتى سنوات قليلة مضت عن اشكالية اخطر: عدم امتلاك دور النشر الحالية ـ التي قذفت في وجوهنا بعشرات الكتب في غفلة من الزمن لأهلية النشر، اعني عدم امتلاكها لهيئات تحرير رصينة تجيز النصوص، وافتقارها لاية استراتيجية نشر واضحة المعالم، او لاية حساسية ادبية للنصوص المنشورة، بل لاية مراجعة لهذه النصوص المنشورة ولو في جانب اخطائها اللغوية الساذجة المريعة، فاذا اضفنا الى ذلك خضوع بعض دور النشر لا يديولوجية الهلام السلطوي التي تسعى الى تمريرها عبر كل المنافذ وفتح باب النشر للمحاسيب، والمؤلفة قلوبهم، فيمكن ان نرى بوضوح ساطع صورة مشهد النشر السوداني، والدأب الذي يمكن ان يمارسه الجهل النشط في تمرير نصوص ضعيفة وترويجها، بل ورفعها لصدارة المشهد.. وهكذا فاذا كنا نقول إن الادب السوداني يتكون مما لم يتم نشره بعد، فيمكن القول الآن ـ حتى بعد اتساع مجال النشر ـ انه لايزال يتكون مما لم يتم نشره بعد، لان ما نشر ـ في غالبه ـ لا يرتقي عاليا للقناديل التي لا تشبه سوى بصمة دمنا.
لماذا استباحة الرواية اذاً؟
لماذا الرواية تحديداً؟
لسهولتها الخادعة؟ لأنها ترضي نزعتنا العميقة للمشافهة والتي تتسع لها الرواية باندياحها اللا محدود وتوهم افتقارها للتكثيف والاختزال؟
للأثر الطاغي الذي مارسته في وعينا ولا وعينا شهرة الطيب صالح العريضة؟
أم لاسباب دلالية: اتساعها لخيبة الأمل التي تغلفنا جميعاً، رسائل الحب التي لم تنشر، وارتباكات الحب التي صادرها الواقع؟
ما المغري في الرواية الى هذا الحد؟
فراراً من القصة القصيرة التي تفضح كاتبها فورا فهي اما جيدة او رديئة؟ سهولة تمريرها في ظل الهرجلة الثقافية التي تغلفنا منذ سنوات؟ اتساعها لتهويمات الشعر المجانية ووهم السيولة والاندياح (العاطفي) وهي سمات أضحت شبه ملازمة للكتابة؟ ندرة الارث الروائي السوداني مما يغري بالتجريب في ارض شبه خالية؟ سهولة دس السيرة الذاتية في ثنايا السرد بحيث يصعب الفصل بين الواقعي والتخييلي؟.
لماذا استباحة الرواية تحديداً؟
لضعف الضمير النقدي غير القادر على ترصد الاخطاء والتشوهات؟ بسبب باب النشر الذي انفتح واسعاً بلا معايير نقدية؟ بسبب الهلام الاعلامي القادر على رفع نصوص ضعيفة لذرى عالية لم يحلم بها اصحابها، والسكوت عن نصوص مغايرة لم يستطع ان يدرجها في منظومته التقليدية، أم هكذا ببساطة: لان البعض أعجبه ان يكون كاتبا روائيا في هذا الوطن المحزون؟
هذه هي صورة المشهد: روايات تنشر، وحوارات لا تنتهي مع اصحابها، واعمدة صحفية لا يجف حبرها، ومقالات (نقدية!) هنا، وهناك، ثم ما يلبث الأمر ان يتكشف عن فقاعات تأخذ مجراها نحو مصب العابر الذي لا يثبت في ذاكرة أحد حتى صاحبه.
وفي غبار هذا المشهد يضيع الحديث الحصيف الدقيق عن اشكاليات الرواية السودانية.
تلك الاشكالات التي يمكن ان نجملها فيما يلي مستضيئين في بعض ذلك ببعض الاشارات المكثفة التي وردت في تقريري لجنة التحكيم لجائزة رفيعة للرواية هي (جائزة الطيب صالح للابداع الروائى) اللذين نشرا بصحيفة «الاضواء» في اكتوبر من العام الماضي 2004م وقبل الماضي 2003 مضيفين إليها العديد من الاشكاليات عبر متابعة متأنية وصبورة للمشهد الروائى:
ü افتقار العديد من الروايات الى نعمة التكثيف والاقتصاد اللغوي، والاغراق في التفصيل القادم عبر تراث ضخم من المشافهة لم نحسن استثماره في الكتابة.
ü تأثر بعض الاعمال برواسب التيار الرومانسي الغارب بكل ميراثه الروائي في تضخيم ذات الراوي وتزييف العالم عبر تل من التنهدات.
ü تأتي العديد من الاعمال اجترارا لقراءات اكثر من كونها نتاجاً لذات مبدعة وحساسة ، اي ان هذه الاعمال نتاج تأثر ظاهري غير متجذر باعمال هبت علينا رياحها من هناك، وتكفلت رغبة التقليد عبر لغة ـ لم تخلو من نعمة الركاكة ـ بتسويد براءة البياض، ترى هل يمكن توصيف حالهم هكذا: لقد قبضوا قبضة من اثر قراءاتهم المرتبكة في الرواية العالمية فأخرجوا للناس «عجلا جسدا له خوار».. اذا استعرنا توصيفا للبروفيسور عبدالله الطيب ـ باستلهامه للآية الكريمة ـ في سياق حديثه عن اخذ الشريف الرضي من ابي الطيب المتنبي (انظر التماسة عزاء: 18.
ü الضعف الواضح في تمثل تقنيات السرد الروائى، وعدم تشرب منجزاته التطبيقية والنظرية على الصعيدين المحلي والعالمي، على المستوى النظري فيبدو وكأن الروائي يسبح بعيداً عن الارث النقدي الضخم الذي شاده نقاد امثال: تودوروف وكريستيفا ولوكاتش ولوسيان غولدمان وسعيد يقطين وصبري حافظ وعبد الملك مرتاض ورجاء نعمة ويمني العيد وسيزا قاسم وعبد المحسن بدر، وعبدالله ابراهيم ومحمد عزام والسريحي.. الخ..، ولذا تبدو الروايات السودانية وكأنها تبدأ من درجة الصفر محرومة من ثمار هذا الحقل السردي بكل عطاياه البهيجة.
ü اشكالية اللغة التي لا يعي اصحابها ان اللغة الفقيرة تنتج نصا فقيرا بالضرورة، وان اللغة المتعثرة بوحل اخطائها اللغوية والنحوية والاملائية تنتج نصا متعثرا بالضرورة اذ لا تنفصل اللغة عن الدلالة التي تحملها في قلبها.
لقد نفض اللغويون والنقاد والادباء ايديهم من تقرير حقيقة ارتباط اللغة بالدلالة ، وبرهن دي سوسير عبر بحث لغوي شاق انه لا يمكن فصل الكلمة عن الدلالة الا اذا استطعنا ان نفصل صفحتي الورقة عن بعضهما، واقر بول فاليري ان الادب لا يمكن ان يكون الا توسيعاً لبعض خصائص اللغة واستعمالا لها، وكتب جورج اورويل في روايته «1984 انه بقدر ما يقل رصيد الانسان من مفردات اللغة يزداد عجزه عن التفكير، او عن التعبير عن الفكرة في ذهنه».
ويقول د. محمد عبدالمطلب في كتابه القيم «البلاغة والاسلوبية» ان كل تغير في تركيب الجملة انما يرجع الى المعنى ومتطلباته، وادنى تغيير في التركيب النحوي للجملة يؤدى إلى معان ثانية تتأتي من صيغة التركيب وطبيعته، فموضوع النحو ليس قاصرا على دائرة الخطأ والصواب بل يمتد الى دائرة النسق والتركيب، وقد وجد عبد القاهر الجرجاني الامكانات النحوية قائمة في تركيب الجملة وبنيتها الداخلية فقاده ذلك الى فكرة قوية الصلة بالامكانات النحوية وهي فكرة النظم، ويخلص عبد المطلب الى ان تركيب الصيغ والعبارات شديد الالتحام بعملية الابداع فلو نظرنا للغرض او المعنى دون النظر الى العلاقات النحوية من حيث فعاليتها فاننا نبتعد عن الادراك الحقيقي لعملية الابداع... فالنحو ليس عنصراً هامشيا او جانبيا ركنيا في العملية الابداعية بل هو لحمة هذه العملية وسداها في الشعر والنثر، والنحو بامكاناته الواسعة هو الذي يقدم للمبدع احتمالات الاوضاع الكلامية التي ترتبط بعضها ببعض في وحدة من المعاني والافكار التي تتمثل في الذهن.
فلماذا يبدو الخطاب الروائى في السودان ـ اذا استثنينا نماذجه المضيئة ـ لماذا يبدو وكأن الكاتب لا يمتلك غير تلك اللغة الفقيرة الشائعة في الاتصال اليومي، والمستهلكة على نطاق عريض عبر الصحافة والاذاعة ووسائط الاعلام المختلفة، وما الذي يقذف به بعيداً عن كثافة اللغة وغناها الذي يمكن ان يحتضن العالم؟ ولماذا تبدو اللغة عبر خطابنا الروائي السوداني وكأنها تعاني تعسراً حاداً في ولادتها؟
من اشكاليات الخطاب الروائي السوداني يمكن ان نرصد ايضاً:
ü تهافت الدلالة الكلية لبعض الاعمال وغياب الرؤية الكاملة التي يمكن ان تمنح العمل عالمه الكامل الموازي لعالم الواقع في غناه واتساعه.
ü ضعف القدرة على استبطال الواقع وتعقيداته وكشف جبل الجليد العائم تحته، واقتناص الجوهري والسرمدي والباطني والمستتر الثاوي عميقا هناك كلؤلؤة والاكتفاء بمضامين الواقع القريبة والمتداولة، بمجاز عابر: لقد نقلوا لنا حجارة المنجم، وترابه، ونحاسه بدلا من النزول عميقا الى هناك: عروق الذهب. ü ضعف المغامرة التجريبية التي تنحو صوب التجريبي والمغاير والمختطف والاكتفاء بالنسج على نول الجاهز والمتداول.
(نواصل الاسبوع القادم)
نقلا عن جريدة الرأي العام السودانية http://www.rayaam.net/art/art5.htm
|
|
|
|
|
|
|
|
|