مع الوصول الى لوس انجليس، اتصلتُ بصديقي مصطفى. تحدث اليّ بحرقة لم اعهدها من رفيق طفولتي في مدينة صيدا اللبنانية. يتحدّر مصطفى من اسرة صيداوية متواضعة الحال. بعد الدراسة التمهيدية، دخل معهداً تقنياً. عمل في تصليح الادوات الالكترونية في سنيّ مراهقته. تابع الدراسة الثانوية في مدرسة ليلية. نجح. بعدها سافر الى الخليج. جمع القرش على القرش، للدراسة في اميركا. كان له ما صمم عليه. درس في جامعة لويزيانا. عمل كثيراً اثناء دراسته الالكترونيات في تلك الجامعة. تخرج. تقلّبَ في مهن كثيرة قبل ان يصل الى احدى الشركات الكبرى في الالكترونيات في لوس انجليس. بدأ الحظ يبتسم له. صار مديراً للمبيعات الاقليمية في شرق آسيا ووسطها. يقضي وقته متنقلاً بين اميركا وسنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ. حظي بالمزيد من الحظ مع دخول اميركا زمن ثورة المعلوماتية، وخصوصاً ايام الرئيس بيل كلينتون. لم يهتم مصطفى ابداً لا بالحصول على جنسية اميركيـة ولا بالانتماء الى بلاد العم سام.
مليون دولار
انصبّ كل اهتمامه على جمع اكبر كَمّ ممكن من المال للعودة الى صيدا، وانتشال العائلة من عيشها المتواضع. شرعت اسهم شركات الكومبيوتر والتقنيات العالية بالصعود الصاروخي. وضع مصطفى كل البيض في سلة اسهم سوق «نازداك» الذي تُكَوِّنه شركات المعلوماتية. وصلت ثروته الى مليون دولار: ذلك الحلم الذي يدغدغ المخيلات. لم ينفق على نفسه ولا ملذاته، وهو عازف عنها اصلاً. لكنه ذاق طعم المليون. ها هو يحجز غرفاً فاخرة في رحلاته، ويتذوق اشهى المأكولات. لكن مهلاً مهلاً. لا يجب صرف المال. المهمة الاولى والوحيدة تتمثل في العودة بالمليون الى صيدا. لم يتزوج. لم ينفق على عشيقة او محظية. عندما فاقت ثروته المليون، اشترى ثلاث حقائب ضخمة. لقد بدأت رحلة العودة. آن لعوليس ان يهجر الاسفار للعودة الى اتيكا موطنه وعشقه. ملأ الحقيبة الاولى. صارت سنوات النفي والمهجر والوحدة على شفير الانتهاء. في منتصف الحقيبة الثانية، سقطت اسهم سوق النازداك سقوطاً مدوياً ذات صبيحة من شهر نيسان (ابريل) 2000. لا بأس. قرأ الجرائد بتمعن. تحدث مع كل من معه في الشركة. اكد الجميع له ان الازمة عابرة. استمر في اعداد الحقيبة الثانية. لم تعد صيدا حلماً بعيداً، حتى مع عثرة النازداك. في منتصف الحقيبة الثالثة الاخيرة قبل العودة - الحلم، دخلت تلك الطائرات في الابراج ذات صباح خريفي من ايلول (سبتمبر) 2001. هل نكمل الحكاية؟ بقي مصطفى سنة كاملة بانتظار ما لم يأت ابداً. قرر البدء بإفراغ الحقائب. ثم تَرَدّد. لاشهر طويلة، لم يفلح في عَدّها، ظل يلبس ويعيد ثيابه الى الحقائب التي لا تُقفل ولا... تَفرغ. «لم ابع الاسهم... لم يعد من فارق بين بيعها والاحتفاظ بها». ما الذي ستفعله يا مصطفى؟ «سأبقى في عملي. سأبقى في الغرفة الضيقة ذات المطبخ الصغير التي اعيش فيها. ومن يدري»؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة